وكان هذا الفعل من المقدمات التي مهدت للثورة على عثمان. ومعنى أن الأمير يتكاتف مع صديقه النصراني في حزمة واحدة. أن ثقافة اللهو قد بلغت مبلغها.
وإذا كان الناس قد شهدوا في أيام عثمان أميرهم يشرب خمرا ويستمع إلى المغنيات. فإنهم في نهايات العصر الأموي شهدوا خليفة لهم يشرب الخمر ويتغنى بها ويستمع إلى المغنيات. ويبعث في طلبهن من أقصى الأقاليم الإسلامية. بل يزيد على ذلك إستهانة بالدين واستهتارا به. وتحللا من القيم الأخلاقية وإفراطا في المجون والتهتك والخلاعة. وهو الوليد بن يزيد. الني يصفه صاحب مروج الذهب. بأنه (صاحب شراب ولهو وطرب وسماع للغناء وهو أول من حمل المغنين من البلدان إليه. وجالس الملهين وأظهر الشرب والملاهي والعزف. وغلبت عليه شهوة الغناء في أيامه على الخاص والعام) (53) ويقول الدكتور يوسف خليفة: ومعنى هذا أننا أمام ظاهرة اجتماعية شديدة الخطر. لم يسبق للمجتمع الإسلامي أن شهد مثلها. فلأول مرة في تاريخ هذا المجتمع. نجد أنفسنا أمام خليفة ماجن متهتك خليع. نسي أنه (أمير المؤمنين)! وأنه (إمام المسلمين!) فاندفع في حياة لاهية مستهترة حتى أطلق عليه لقب (مروان الخليع) والناس على دين ملوكهم. وفعلا اندفع كثير من الناس يقلدون خليفتهم. دون أن يجدوا في ذلك حرجا عليهم أو يخشوا تنفيذ الحدود فيهم. وإذا كان الوليد بن عقبة قد نفذ فيه الحد أيام عثمان عندما ثار الناس. فإن الخليفة الوليد بن يزيد. لم يجد أحدا ينفذه فيه. لأنه هو نفسه صاحب الحق الشرعي في تنفيذ الحدود. ولم يكن من المعقول. أن ينفذ الحد في نفسه. ولم يكن من المعقول أيضا أن ينفذه في غيره (54) ولكنه على أي حال فقه الرأي.، وهكذا بدأت الحلقة بأمير وانتهت بخليفة. وإذا كان الشعراء قد بدأوا عالم اللهو على استحياء في عالم القص والوضع والرأي. فإن حركتهم بعد ذلك 1 / 333 - 336، الطبري: 1 / 5 / 2843، العقد الفريد: 34816.
____________
(53) مروج الذهب 2 / 146، 149، الطبري: 2 / 3 / 1740 وما بعدها، (181، 1812، الأغاني: 7 / 1 - 83.
(54) حياة الشعر في الكوفة 205.
وعلى أكتاف هؤلاء ظهر شعر المجون الذي زرع ثقافة ظلت تعبر من جيل إلى جيل وتعمل من أجل تكاتف دائرة الرجس مع دائرة النجس.
يقول الدكتور يوسف خليفة. كان ظهور الوليد بن عقبة وصاحبه النصراني في هذا الوقت المبكر. بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. إرهاصا لموجة اللهو التي كانت في طريقها إلى ديار المسلمين لتغمرها شيئا فشيئا. ولعل أهم شاعر أخذت تغمره هذه الموجة المبكرة هو (الأقيشر الأسدي) وهو أحد المعمرين يرجح صاحب الأغاني أنه ولد في الجاهلية. وقد طال به العمر حتى أدرك خلافة عبد الملك بن مروان ومات فيها (55).
وإذا كان الحديث عن الخمر قد ظهر على استحياء في شعر الوليد بن عقبة حيث قال وهو في طريقه إلى عثمان:
وهو بذلك يحصر المتعة في ألوان ثلاث هي. الرحلة والشراب والسماع. فإذا كان ذكر الخمر قد ظهر هنا على استحياء فإن (الأقيشر) لم يتورع عن التصريح بشربها في خلاعة واستهتار غير مألوفين في هذا الوقت المبكر من حياة المجتمع الإسلامي. والظاهرة التي تلفت النظر في خمريات (الأقيشر) هي استهتاره بالإسلام واستخفافه، بشعائره (56) أما لماذا اختار هذا الشاعر الإسلام هدفا ليرشق فيه نباله. فإن هذا يرجع إلى الدائرة التي كان يعيش فيها. فالأقيشر كان يتخير ندماءه من أبناء البطارقة النصارى (57) وفي شعره قال:
____________
(55) الأغاني 11 / 251، 257، 258.
(56) حياة الشعر 596.
(57) الأغاني: 11 / 253، 254، 257، 259، 560، 263.
فإن (حنين الحيري) وكان معاصرا للأقيشر. قد قام بتوسيع، هذه الدائرة.
وخاصة إنه كان يجمع بين الشعر والغناء. وحنين الحيري كان يتخير لشعره الأوزان الخفيفة القصيرة والسريعة الانتشار. وكان يتجنب الأوزان الطويلة الضخمة ليكون شعره صالحا للتحين والغناء. وهذا الاتجاه الموسيقي ازداد اتجاه الشعراء خلفه. وبخاصة شعراء اللهو. حتى أصبح بدعا فنيا بينهم. وسمة من السمات المميزة لفنهم (59) وحنين في عالم بني أمية صاغ منهجه بوضوح يقول الدكتور يوسف خليفة: عندما بدأ في نشر رسالته اللاهية التي زينها للناس. بدأ وكأنه يقول لهم: هذه هي حياتي فهل تحبون أمثالها. إنه نداء غير مباشر إلى حياة تقوم على المتعة المتحررة. وما من شك في أن هذا النداء وأمثاله كان يؤثر في نفوس الكثير من الشباب. ويخلب ألبابهم ويلفت أنظارهم إلى أن الحياة تشيع فيها البهجة والمتعة. وتسيل الخمر بين أيدي الندامى في ظلال الطبيعة. وفعلا استجاب كثير من الشباب إلى هذا النداء الساحر. الذي يوقعه مغنيهم على قيثارته. ومضوا يغرقون همومهم في هذه الحياة الصاخبة المعربدة. لعل رنين كؤوسها وصخب سكارها ينسيهم أنين الجرحى وعويل الثكالى - في العهد الأموي - ومضى التيار في ترفعه ورياح المجتمع الجديد تدفعه. والناس من حوله يغرقون أنفسهم وفنهم فيه (60).
لم يكن هذا يحدث في بقعة واحدة من خيمة بني أمية. إنما كان يحدث في بقاع شتى. يقول صاحب حياة الشعر: فالأديرة كانت مقصدا لطلاب الخمر من المسلمين. ويتاح لهم فيها حظ كبير من الحرية والشراب واللهو مع من
____________
(58) حياة الشعر: 597 الشعر في الأغاني: 11 / 268، 269.
(59) حياة الشعر: 599.
(60) حياة الشعر: 598. ()
ووصفوا مواكب النصارى في طريقهم إليها. وما كان يجري فيها من ألوان العبث (61). ولما كانت الأديرة تشرف على الثقافة الجديدة التي تجعل من الإسلام إسما ومن القرآن رسما بل لينتهي الأمر معها في عصر من العصور أن يخجل المسلم من الانتساب إلى الإسلام. كان لا بد لتجار المتع أن يطفحوا بألسنتهم كل ما عندهم في هذا الوقت المبكر. ولهذا فتحت الأديرة أبوابها للقصاصين والشعراء. يقول صاحب حياة الشعر. كان من بين هؤلاء الشعراء جماعة يلازمون هذه الأديرة وكثر شعرهم فيها. ولعل أشهرهم شاعران: الثرواني وبكر بن خارجة. ويذكر الرواة أن الثرواني كان له صديقا من رهبان دير الحريق بالحيرة. يوفر له جميع ألوان العبث ليفرغ الثرواني ما في جوفه من الشعر الذي يشيع فيه الجو النصراني. وقد بالغ الثرواني ووصل التطرف في شعره إلى درجة الرغبة في مشاركة النصارى أعيادهم وصلواتهم وعقائدهم بل إلى الدعوة إليها.
ولا يبالي أن يفتضح أمره بين المسلمين. بل إنه يدعو إلى تعظيم أحبار النصارى ورهبانهم وصلبانهم التي يبدي إعجابه بها. وينادي بأن يكون مستقره في داخل البيع مع الرهبان والقساوسة. ثم يعلنها جريئة متطرفة: أنه لا يقول هذا عبثا.
وإنما هوجاء فيه. أنه ليس كأولئك الخلفاء المنافقين الذين يصطنعون الخلاعة اصطناعا لينالوا من ورائها الشهرة. وهو يريد أن يكون أصحاب الخلاعة على حظ من الشجاعة المعنوية. فإما أن يؤمنوا في نفوسهم بما يفعلونه. وإما أن يتركوا سبيل العبث والخلاعة. ويلزموا سبيل التقوى والصلاح. فيحافظوا على الصلوات وشهود الجمعة وملازمة المساجد. أما هذا النفاق الديني فشئ لا يحبه ولا يرضاه لا لنفسه ولا لهم. ومن شعره في هذا:
____________
(61) حياة الشعر: 633.
وانطلق هذا الشاعر وأمثاله في الكوفة والبصرة والحيرة والشام وغير ذلك من البلاد يدعون في أشعارهم إلى شرب الخمر في جو نصراني خالص. عندما تقرع النواقيس في الأديرة. وعندما يأخذ القساوسة والشمامسة في تراتيلهم الدينية على أنغام (الأرغن) الناعمة الحالمة (63) وكثرت جماعات المجون وعصابات السوء. ودوت معزوفات ضخمة. اشترك فيها مجموعات هائلة من العزاف.
وعلى الجسر الذي يصل الشاطئين الأموي والعباسي. أخذت جماعات من المجان والخلعاء تمر فوقه. مخلفة وراءها الفضيلة التي صرعت على مذابح اللهو والمجون والخلاعة. لتستقبل على الشاطئ الآخر الرذيلة وقد تجردت من ثيابها جميعا. وبسطت ذراعيها إلى أقصاهما. لتضم إلى أحضانها هؤلاء الوافدين من طلابها. وتبلغ الغواية مداها. ويتساقط الشباب تساقط الفراش المتهافت على النار. وكلما اشتدت ظلمة الهاوية زاد عدد المتخبطين فيها. وفي أعماقها السحيقة مضت جماعات من الشعراء تضرب على غير هدى. وقد ألف اللهو بينهم. وربط المجون بين أسبابهم. كلهم فاسق. وكلهم خليع. وكلهم سكير.. وهذه المدرسة اللاهية. هي التي أرست قواعد غزل النساء وغزل الغلمان. وكلا اللونين لم يكونا تعبيرا عن عاطفة روحية. وإنما كان تعبيرا عن لذة حسية. فالغزل في هذه المدرسة. لم يكن حديث العاطفة وإنما كان حديث الغريزة. ولم يكن نجوى الروح وإنما كان نداء الجسد. وعلى بناء هذه المدرسة كثرت طائفة الجواري والمغنيات في المجتمع الإسلامي. وعلى أكتاف هذه المدرسة انتشرت الزندقة ودقت أوتادها. وراج شعر الأديرة (64).
____________
(62) حياة الشعر: 633 - 634.
(63) حياة الشعر: 633.
(64) حياة الشعر: 5 0 6 - 6 0 6.
فلقد روى البخاري عن الزهري أنه قال: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي. فقلت: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة. وهذه الصلاة قد ضيعت (65) إن أنس لا يعرف حوله أي مظهر من المظاهر التي كانت على حياة رسول الله. إلا الصلاة. وهذه الصلاة قد ضيعت. وما ضاعت الصلاة في نهاية الطريق إلا عندما ضاع الحكم في أول الطريق وهذا هو الدليل. أخرج أحمد والطبراني والحاكم وصححه عن أبي أمامة الباهلي أن رسول الله (ص) قال: (لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة. فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها. أولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة)(66).
ثانيا: العواصف:
1 - قتل عثمان:
في عهد عثمان بحث ولاة البيت الأموي عن الذهب والمتعة في كل مكان.
وفي نهاية عهد عثمان تعرضت الدولة لانتفاضتين سببهما واحد. ظلم الولاة.
الانتفاضة الأولى: مرت بهدوء ولكنها ألقت بظلالها على الثانية.
____________
(65) البخاري: 13 / 1.
(66) الخصائص الكبرى / السيوطي: 265 / 2.
أولا. لم يكن في السياسة ما يشجع للدفاع عنها. وهذه السياسة قام بتعريتها أبو ذر الغفاري حين فضح معاوية في الشام وعندما رده معاوية إلى عثمان قام الأخير بنفيه إلى الربذة. وهذا الحدث ثابت في كتب التواريخ والسير وغيرها.
ثانيا: إن السيدة عائشة أدلت بدلوها في الأحداث وأصدرت فتوى مبكرة في قتل عثمان وقالت: (اقتلوا نعثلا فقد كفر).
ثالثا. كان هناك من الولاة من يهمه انقلاب الأوضاع طمعا في التهام قطعة من أرض الأمة. فعمرو بن العاص على سبيل المثال يذكر. ابن سعد بأسانيده. أن عثمان لما عزله عن مصر قدم إلى المدينة فجعل يطعن على عثمان فبلغ عثمان.
فزجره فخرج إلى أرض فلسطين فأقام بها (67): فهذه العوامل. أي السياسة الخطأ وشحن ابن العاص لأهل المدينة. وفتوى السيدة عائشة كل هذه عوامل تبرر هذا السكون الذي يرفع راية السلبية وأكبر رأس في الدولة محاصر، ويضاف إلى هذا معاوية. لقد روي أنه كان بالمدينة في أوائل الأحداث وعلم أن هناك خطورة على عثمان ومع ذلك لم نرى على امتداد الأحداث أن معاوية جاء بجيش جرار للدفاع عن رأس الأمويين. حتى أمراء الأجناد في المدينة وما حولها لم تر لجيادهم غبار. فإن دل هذا على شئ فإنما يدل على اتفاق يقضي بالتضحية بثمرة لامتلاك بستان فيه كثير من الثمر. فالأمراء من بني أمية والذهب في أيديهم وسحق القوى المعارضة مضمون. وعن مثل هذه الأنماط البشرية يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. " كان في بني إسرائيل جدي في غنم كثيرة ترضعه أمه. فانفلت فرضع الغنم كلها. ثم لم يشبع. فبلغ ذلك نبيهم. فقال: إن هذا
____________
(67) الإصابة: 61 / 6.
إن عدم حركة بني أمية أثناء الحصار وعدم محاكمة قتلة عثمان بعد أن تولى معاوية خلافة المسلمين التي تاجر على أول أعتابها بقميص عثمان. هي من معالم الفئة الباغية التي لا ينكرها أحد. لقد كان السكون يدب في أرجاء المدينة. ولم يكن في بيت عثمان للدفاع عنه سوى قلة من الرجال من بينهم الحسن والحسين. جاؤوا لعلمهم بما سيحدث وفقا لأخبار الرسول بما سيجري بعده. ففي الحديث عن يزيد ابن مريم عن أبيه قال. (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم حدثنا ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة " (69) وعن حذيفة قال:
" قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما فلم يدع شيئا إلا ذكره إلى أن تقوم الساعة. عقله من عقله ونسيه من نسيه) فالحسنين كانت دائرة الذهن عندهم تراقب الأحداث. فجاؤوا ليقيموا الحجة بأنهم ليسوا طرفا في طبخ الفتنة. ولأن الفتنة واقعة لا محالة لأنها ثمرة لطريق طويل. وقف الحسن والحسين في مربع المقتول وليس القاتل. والوقوف في مربع المقتول ليس شهادة للمقتول. وإنما لأن مربع القاتل في دائرته أصابع خفية ستحكم وعندما تحكم ستذيق أمة محمد الذل ألوانا. وعن علي بن أبي طالب أنه قال عن صناع الفتن: (ما من ثلاثمائة تخرج إلا ولو شئت سميت سائقها وناعقها إلى يوم القيامة " (70) فحركت الأحداث عند أمير المؤمنين وأولاده معروفة لأن الرسول أخبر بأسماء رؤوس الهدم على امتداد التاريخ فعن حذيفة أنه قال: " والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوا.
والله ما ترك رسول الله من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعدا. إلا وقد سماه لنا. باسمه وسم أبيه واسم قبيلته " (71). فحركة الإمام علي والحسنين حركة على بصيرة بالأحداث. لذا وقفوا في مربع المقتول ليقيموا
____________
(68) رواه الطبراني (كنز العمال: 368 / 3).
(69) رواه البغوي وابن عساكر (كنز العمال: 426 / 12).
(70) رواه الحاكم وأقره الذهبي (كنز 472 / 4).
(71) رواه أبو داوود: حديث رقم 4222.
وبقراءة سريعة لأحداث الانتفاضة الأولى التي مهدت للثانية. نجد سببها الوليد بن عقبة والي عثمان على الكوفة. ولقد ذكرنا من قبل قصته مع النصارى والشعر والخمر. والوليد عندما خرجت رائحته. ذهب وفد من الكوفة إلى عثمان ليشكون إليه الوليد. وتقدم منهم رجلان إلى عثمان وقالا كما ورد في الأغاني:
إنا جئناك في أمر ونحن مخرجوه إليك من أعناقنا. وقد قلنا أنك لا تقبله. قال:
وما هو؟ قالا: رأينا الوليد وهو سكران من خمر شربها. وهذا خاتمه أخذناه وهو لا يعقل وفي رواية المسعودي: وأخرجا خاتمه فدفعاه إليه. فرزأهما ودفع في صدورهما وقال: تنحيا عني. وفي رواية البلاذري: وقد يقال: إن عثمان ضرب بعض الشهود أسواطا. فأتوا عليا فشكوا إليه. فأتى عثمان وقال. عطلت الحدود وضربت قوما شهود على أخيك فقلبت الحكم. وأخرج البلاذري: فأتى الشهود عائشة. فأخبروها بما جرى بينهم وبين عثمان. وأن عثمان زبرهم. فنادت عائشة: إن عثمان أبطل الحدود وتوعد الشهود.
وأخرج صاحب الأغاني. أن عثمان قال -: أما يجد مراق أهل العراق وفساقهم ملجأ إلا بيت عائشة. فسمعت فرفعت نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقالت: تركت سنة رسول الله صاحب هذا النعل. فتسامع الناس فجاؤوا حتى ملأوا المسجد فمن قائل. أحسنت. ومن قائل: ما للنساء ولهذا؟
حتى تحاصبوا وتضاربوا بالنعال. وأخرج البلاذري. وكان ذلك أول قتال بين المسلمين بعد النبي. ومرت هذه الانتفاضة بسلام بعد أن أقيم الحد على الوليد بن عقبة. فأما الانتفاضة الثانية فكان سببها أخو عثمان أيضا ولكن من الرضاعة. عبد الله بن أبي السرح وكان النبي قد أهدر دمه يوم الفتح ولكنه اختبأ عند عثمان والقصة ذكرناها من قبل. ومن أسبابها أيضا مروان وهو ابن عم عثمان ومروان طرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أباه ولعنه وذكرنا هذا من قبل.
والخلاصة يقول فيها صاحب الإصابة: كان سبب قتل عثمان. أن أمراء الأمصار. كانوا من أقاربه. كان بالشام كلها معاوية وبالبصرة سعيد بن العاص وبمصر عبد الله بن أبي السرح وبخراسان عبد الله بن عامر. وكان من حج من
وكتب لهم كتابا بتولية محمد بن أبي بكر. فرضوا بذلك. فلما كانوا في أثناء الطريق. رأوا راكبا على راحلة. فاستخبروه فأخبرهم أنه من عند عثمان باستقرار ابن أبي السرح. ومعاقبة جماعة من أعيانهم. فأخذوا الكتاب ورجعوا وواجهوه به. فحلف أنه ما كتب. فقالوا سلمنا كاتبك. فخشي عليه من القتل. وكان كاتبه مروان بن الحكم وهو ابن عمه. فغضبوا. وحاصروه في داره (72).
وروى ابن أعثم (73). أن أم المؤمنين عائشة لما رأت اتفاق الناس على قتل عثمان قالت له: أي عثمان خصصت بيت مال المسلمين، لنفسك. وأطلقت أيدي بني أمية على أموال المسلمين. ووليتهم البلاد وتركت أمة محمد في ضيق وعسر. قطع الله عنك بركات السماء وحرمك خيرات الأرض. ولولا أنك تصلي الخمس لنحروك كما تنحر الإبل. فقرأ عليها عثمان:! ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين " (74) وبعد. أن فرغ عثمان كانت الفتوى. أخرج الطبري وابن أعثم وابن الأثير وغيرهم. أن أم المؤمنين قالت: (اقتلوا نعثلا فقد كفر) (75) وانتشرت الكلمة على الأفواه. وخرجت السيدة عائشة قاصدة مكة. ولم ينام بنو أمية على أعتاب دار عثمان. ولم يبدو في الأفق غبار سرية من سرايا أمراء بني أمية الذين فتحوا البلدان ومصروا الأمصار.
تبشر بفك الحصار المضروب على أكبر رأس في الدولة.
والخلاصة: قتل عثمان!
2 - أضواء على يوم الجمل:
بعد دفن عثمان. تهافت الصحابة الكبار على علي بن أبي طالب. يطلبون
____________
(72) الإصابة: 4 / 223 - 224.
(73) تاريخ ابن أعثم: 155.
(74) سورة التحريم، الآية: 10.
(75) الطبري: 477 / 4، ابن الأثير: 87 / 3، ابن أعثم: 115.
" لا يلبث الجور بعدي إلا قليلا حتى يطلع. فكلما طلع من الجور شئ ذهب من العدل مثله حتى يولد في الجور من لا يعرف غيره. ثم يأتي الله تبارك وتعالى بالعدل فكلما جاء من العدل شئ. ذهب من الجور مثله حتى يولد في العدل من لا يعرف غيره " (76) باختصار كان أمير المؤمنين يقف في دائرة مملوءة بالغرباء.
وكان من أقواله في هذه الدائرة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم. " طلب الحق غربة " (77) لقد كان عليه أن يواجه الرؤوس ولكن القاعدة التي سيستند عليها في معظم الأحوال لم يسهر عليها ولم يربيها بنفسه. وأمام هذه الحقيقة عندما طالب الصحابة بمبايعته تردد في أول الأمر. ليس خوفا من الموقف. وإنما لعلمه أن تقدمه سيفتح بابا إلى الجنة وبابا إلى النار. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سئل: من يحمل رايتك يوم القيامة يا رسول الله؟ قال. " من يحسن من يحملها إلا من حملها في الدنيا علي بن أبي طالب) (78) لقد كان أمير المؤمنين يجد الطريق طويل وعليه يسقط الكثير وهذا ما كان يحزنه. لكنهم عندما أصروا على مبايعته قبلها ومما ذكره الطبري: فأتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل ولا بد للناس من إمام. ولا نجد اليوم أحق بهذا الأمر منك. لا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول الله. فقال. لا تفعلوا فإني أكون وزيرا خير من أن أكون أميرا. فقالوا لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك. قال: ففي المسجد فإن لا تكون خفيا ولا تكون إلا عن رضى المسلمين. وروي بسند آخر: (فجاء فصعد المنبر. فاجتمع الناس إليه.
____________
(76) رواه أحمد (الزوائد: 196 / 5).
(77) رواه ابن عساكر عن علي (كنز العمال: 239 / 1).
(78) رواه الطبراني (كنز العمال: 136 / 12).
رضيتم؟ قالوا: نعم. قال: اللهم إشهد عليهم ثم بايعهم على ذلك (79).
وروي أن طلحة والزبير كانا ضمن الذين بايعوا الإمام - على مشهد من الناس - وحينما هم أمير المؤمنين لمباشرة أعماله التي بدأها بتغيير الولاة. جرت الأحداث لتعميق كل هذا. فلقد خرجت عليه السيدة عائشة وانضم إليها طلحة والزبير بعد أن نكثا ببيعتهما ومما رواه الطبري: أن عائشة سألت عن الأحداث وهي في طريقها إلى المدينة عبد الله بن أم كلاب. فقال: قتلوا عثمان فمكثوا ثمانية. قالت. ثم صنعوا ماذا؟ قال: أخذها أهل المدينة بالإجماع. إجتمعوا على علي بن أبي طالب. فقالت: ردوني ردوني. فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قتل عثمان مظلوما. والله لأطلبن بدمه. فقال لها ابن أم كلاب: ولم؟
فوالله إن أول من أمال حرفه لأنت. ولقد كنت تقولين اقتلوا نعثلا فقد كفر.
قالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه. ولد لملت وقالوا. وقولي الأخير خير من قولي الأول فقال لها:
فانصرفت إلى مكة. فنزلت على باب المسجد. فقصدت الحجر فتسترت. واجتمع إليها الناس. فقالت: " يا أيها الناس إن عثمان قتل مظلوما.
والله لأنملة من عثمان خير من علي الدهر كله " (80) وعلى أثر هذا بدأت الحركة.
وهذه الحركة كانت الحجة قد أقيمت عليها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قبل. فقد روي أن الناس ذهبوا إلى حذيفة وقالوا: إن عثمان قد قتل فما تأمرنا؟
قال: آمركم أن تلزموا عمارا. قالوا: إن عمارا لا يفارق علي. قال: إن الحسد هو أهلك الجسد. وإنما ينفركم من عمار قربه من علي. فوالله لعلي أفضل من
____________
(79) الطبري: 5 / 152.
(85) الطبري 172 / 5، البلاذري:. 91 / 5.
ترجعون إلى أمركم الأول (83) والأمر الأول يقف علي بن أبي طالب في قلب دائرته. ويواصل النبي إقامة الحجة على حركة الأحداث فعن معاذة الغفارية قالت. كنت أخرج مع رسول الله في الأسفار أقوم على المرضى وأداوي الجرحى. فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت عائشة وعلي خارج من عندها. فسمعته يقول لعائشة: إن هذا أحب الرجال إلي وأكرمهم علي.
فاعرفي لي حقه واكرمي مثواه (84) وعن رافع مولى عائشة قال. كنت غلاما أخدمها إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها. وإنه قال: عادي الله من عادى عليا (85) وعن ابن عباس. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنسائه: ليت شعري. أيتكن صاحبة الجمل الأديب (أي الكثير الشعر) تخرج فتنبحها كلاب الحوأب. يقتل عن يمينها وعن يسارها قتلى كثير (86). وأحاديث نباح كلاب الحوأب أخرجها أحمد وأبو يعلى والبزار والحاكم والبيهقي وأبو نعيم. من هذا كله نعلم أن الحركة كلها تحت مظلة الحجة. فالدين دين الله وحركته حركة
____________
(81) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقاة (الزوائد: 243 / 7).
(82) فتح الباري: 85 / 13 وقال الهيثمي رجاله ثقاة (الزوائد: 236 / 7).
(83) رواه الطبراني (كنز العمال: 149 / 11).
(84) الإصابة: 183 / 8.
(85) الإصابة وقال ابن حجر رواه ابن منده وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه: 2 / 191.
(86) رواه البزار وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الزوائد: 234 / 3).
نبحت عليها الكلاب. فقالت: أي ماء هذا؟ قالوا: الحوأب (89). قالت. ما أظنني إلا راجعه فقال الزبير: لا. تقدمي فيراك الناس ويصلح الله ذات بينهم.
قالت: أظنني إلا راجعة. سمعت رسول الله يقول: كيف بإحداكن إذا نبحتها كلاب الحوأب (90) وذكر المسعودي أن الزبير قال لها: بالله ما هذا الحوأب! ولقد غلط فيه من أخبرك به. وكان طلحة في ساقة الناس فلحقها. فأقسم أن ذلك ليس بالحوأب. وشهد معها خمسون رجلا ممن كان معهم. فكان ذلك أول شهادة زور أقيمت في الإسلام (91).
وتقدمت عائشة تاركة وراءها نصيحة العديد ومنهم جارية بن قدامة السعدي قال: يا أم المؤمنين والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل عرضة للسلاح. إن كنت أتيتينا طائعة فارجعي من حيث جئت إلى منزلك. وإن كنت أتيتينا مكرهة فاستعيني بالناس في الرجوع (92) وقال لها زيد بن
____________
(87) نهج البلاغة.
(88) مروج الذهب: 390 / 2.
(89) الحوأب منزل بين البصرة ومكة.
(90) الخصائص الكبرى / السيوطي 232 / 2.
(91) مروج الذهب: 367 / 2، البداية والنهاية: 232 / 7.
(92) البداية والنهاية: 233 / 7.
وأبى أن يطيعها في ذلك وقال: رحم الله أم المؤمنين. أمرها الله أن تلزم بيتها وأمرنا أن نقاتل. فخرجت من منزلها وأمرتنا بلزوم بيوتنا التي هي أحق بذلك منا (93).
وعندما التقى الجمعان دنا عمار من موضع عائشة وقال: ماذا تدعين؟
قالت: الطلب بدم عثمان فقال: قاتل الله في هذا اليوم الباغي والطالب بغير الحق. ثم قال. أيها الناس إنكم لتعلمون أينا الممالئ في قتل عثمان (94) وما أن انتهى عمار. حتى جاء في اتجاه عائشة فوارس أربعة. فهتفت عائشة: فيهم رجل عرفته إن أبي طالب ورب الكعبة. سلوه ما يريد؟ فقال لها أمير المؤمنين:
أنشدك بالله الذي أنزل الكتاب مع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في بيتك أتعلمين أن رسول الله جعلني وصيا على أهله وفي أهله. قالت: اللهم نعم.
قال: فما لك؟ قالت أطلب بدم أمير المؤمنين عثمان. قال: أريني قتلة عثمان. ثم انصرف (95) وقال لطلحة والزبير: أني أراكما قد جمعتما خيلا ورجالا وعددا. فهل أعددتما عذرا يوم القيامة. فاتقيا الله. ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا (96) ثم قال لطلحة: نشدتك لله سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه؟ قال: نعم قال. فلم تقاتلني؟ قال: لم أذكر وانصرف إلى المعسكر (97) ثم قال للزبير: ألم تذكر قول النبي لك. إنك تقاتلني وأنت ظالم؟ فقال. اللهم نعم. ولو ذكرت ما سرت سيري هذا. والله لا أقاتلك (98) وكان علي قبل ذلك قد أقام الحجة في المسجد وقال للناس: أنشد الله من سمع رسول الله يقول يوم غدير خم من كنت مولاه فعلي مولاه أن يقوم فقام ثلاثون رجلا. وقالوا نشهد أننا قد
____________
(93) البداية: 234 / 7.
(94) مروج الذهب: 371 / 2.
(95) رواه الطبراني (كنز العمال: 238 / 7).
(96) البداية: 241 / 7.
(97) رواه الحاكم (المستدرك: 371 / 3).
(98) البداية والنهاية 241 / 7.
ولما سقط البعير على الأرض. انهزم أصحابه وحمل هودج عائشة لتعود إلى بيتها. وكان الهودج كالقنفذ من السهام. ونادى منادي على الناس. إنه لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح (102) ويقال أن أعين بن ضبعة اطلع في الهودج فقالت عائشة: إليك. لعنك الله. فقال: والله ما أرى إلا حميراء. فقالت هتك الله سترك (103). وعن أبي ثابت مولى أبي ذر قال كنت مع علي يوم الجمل فلما رأيت عائشة دخلني بعض ما يدخل الناس. فكشف الله عني ذلك عند صلاة الظهر. فقاتلت مع أمير المؤمنين. فلما فرغ ذهبت إلى المدينة. فأتيت أم سلمة. فقلت أني والله ما جئت أسأل طعاما ولا شرابا. ولكني مولى لأبي ذر.
فقالت: مرحبا. فقصصت عليها قصتي. فقالت: أين كنت حين طارت القلوب مطائرها؟ قلت: إلى حيث كشف الله ذلك عني عند زوال الشمس. قالت:
أحسنت. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض (104).
____________
(99) الطبري: 213 / 5.
(100) البداية والنهاية: 7 / 8.
(101) البداية والنهاية: 244، 266 / 7.
(102) البداية والنهاية: 245 / 7.
(103) البداية: 245 / 8.
(104) رواه الحاكم وأقره الذهبي (المستدرك: 124 / 3).
فقال له عليه السلام: أهوى أخيك معنا؟ قال: نعم قال: فقد شهدنا. ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء. سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان (105).
لقد كان لموقعة الجمل أسبابا كثيرة في دوائر كثيرة قد تكون دوائر الحسد وقد تكون دوائر الطمع في الكرسي وقد تكون الطمع في المال. وقد تكون لا هذا ولا ذاك. وتكون الموقعة ضمن المخطط العام لبني أمية للسيطرة على جميع خزائن المال في الدولة. وإشارة ذلك أن مروان ابن طريد رسول الله الحكم.
كان في معسكر عائشة ضد علي. لكن قلبه لم يكن مع عائشة. وكان يعمل أعمال الطابور الخامس داخل صفوف الجمل. روى البغوي بسند صحيح عن أبي سبرة. قال. لما كان يوم الجمل. نظر مروان إلى طلحة فقال: لا أطلب ثأري بعد اليوم. فنزع له بسهم فقتله وروي بسند صحيح عنه أنه قال: رأيت مروان بن الحكم حين رمى طلحة يومئذ بسهم. فوقع في عين ركبته. فما زال الدم يسبح إلى أن مات (106) وقتل مروان لطلحة مشهور وصرحت به جميع المصادر التي تعتني بهذه الأمور. فمروان كان عضوا أصيلا في حركة هدامة تصنع الحدث وتراقبه. وتستأصل في الأحداث كل من يمثل لهم عقبة من العقبات.
والدليل على أن حركة الهدم تراقب الأحداث. ما ذكره ابن كثير قال. قام عمر بن العامر في الناس فقال. إن صناديد الكوفة والبصرة قد تقاتلوا يوم الجمل. ولم يبق مع علي إلا شرذمة قليلة من الناس. وقد قتل الخليفة أمير المؤمنين عثمان.
فالله الله في حقكم أن تضيعوه (107). قال ذلك عندما هرول إلى معاوية وعقد معه صفقة. أن يساند معاوية في حربه ضد علي نظير أن يعطيه معاوية مصر طيلة حياته. وأخرج يعقوب بن سفيان بسند صحيح عن الزهري. لما بلغ معاوية غلبة
____________
(105) النهج الخطبة 12.
(106) الإصابة: 292 / 3.
(107) البداية: 255 / 7.
والخلاصة: لقد اعتبر الخلف أن معارك السلف كانت بين حق وحق وهذه المقولة قامت بتمييع أمور كثيرة. والقضية لم تكن أبدا محاكمة الموتى. وإنما هي النظر في خطوات الماضي التي تنطلق إلى الحاضر. فقد يكون الماضي فتنة وهذه الفتنة لا تصيب الذين ظلموا خاصة وإنما تتعداهم وتصل إلى عقول التمييع والتلجيم والتكميم وتنطلق بهم إلى الدجال. وما من فتنة صغيرة أو كبيرة منذ صنعت الدنيا إلا من أجل فتنة الدجال (109) قال تعالى: (! واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) " (110) لقد أمر الله المؤمنين بأن يتقوا فهل من الاتقاء أن يقال إن معارك الماضي كانت بين حق وحق؟ إن هذه الفتنة التي أمر الله باتقائها.
قال عنها ابن كثير: قال السدي نزلت في أهل بدر. فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا.. وقال مجاهد: هي أيضا لكم. وفي قول لابن عباس: أمر الله المؤمنين أن لا يقربوا المنكر بين ظهرانيهم فيعمهم بعذاب (111).
3 - أضواء على صفين وقتال الخوارج.
إذا جاز لنا أن نضع عنوانا لهذه الموقعة. فإننا نختار قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (" علي يعسوب المؤمنين. والمال يعسوب المنافقين) " (112) وعن علي أنه قال: (" أنا يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الفجار) (113) وقال مرة. والمال يعسوب الظلمة (114). كان مع علي في قتاله معاوية ثمانون بدريا
____________
(108) فتح الباري: 85 / 13.
(109) حديث مخرج سابقا.
(110) سورة الأنفال، الآية: 25.
(111) ابن كثير في التفسير: 299 / 2.
(112) يعسوب أي ملك المؤمنين. واليعسوب ملك النحل. رواه ابن عدي (كنز العمال: 14 / 11).
(113) رواه أبو نعيم (119 / 13 كنز العمال).
(114) أبو نعيم (كنز: 119 / 13).
(أبلغ عليا أني أقاتله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل. وقد بلغ في طاعتهم لمعاوية أنه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة يوم الأربعاء. ولقد أعاروه رؤوسهم عند القتال وحملوه عليها (116) والعمود الفقري لهذه المعركة كان عمار بن ياسر. فهو ميزان الحركة. من في صفه فهو على الحق ومن خالفه فهو من البغاة. وفيه قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (" من عادى عمار عاداه الله. ومن أبغض عمارا أبغضه الله، (117) وكان عمار مع علي. وقال النبي:
(إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق، (118) وقال: (" دوروا مع كتاب الله حيث دار) فقال الناس: يا رسول الله فإذا اختلف الناس. فمع من نكون؟
فقال. أنظروا الفئة التي فيها ابن سمية. فالزموها. فإنه يدور مع كتاب الله) " (119) وعلي يدور مع كتاب الله ويقاتل معاركة على تأويله. قال رسول الله:
(" أنا أقاتل على تنزيل القرآن وعلي يقاتل على تأويله) " (120).
وأهم العلامات التي وضعها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (" ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار) " (121) فإذا كانوا يدعونه إلى النار فكيف يكون قتال السلف حق ضد حق؟؟ وروي في بداية المعركة أن عمار خطب الناس فقال فيما ذكره الطبري: أيها الناس اقصدوا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يبتغون دم عثمان. ويزعمون أنه قتل مظلوما. والله ما قصدهم الأخذ بدمه. ولا الأخذ بثاره. ولكن القوم ذاقوا الدنيا. واستحلوها واستمرأوا
____________
(115) البداية: 255 / 7.
(116) مروج الذهب: 41 / 3.
(117) رواه أحمد وقال الهيثمي رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح (الفتح الرباني: 329 / 22).
(118) رواه الطبراني (كنز: 721 / 11).
(119) رواه الحاكم (كنز العمال: 168 / 11)، البداية 271 / 7.
(120) الإصابة: 22 / 1 وحديث قتال علي على التأويل أخرجها أحمد وابن حبان والحاكم وغيرهم.
(121) رواه أحمد والبخاري وابن عساكر وابن أبي شيبة (الفتح الرباني: 321 / 22، كنز العمال 724 / 11، البداية والنهاية: 269 / 7.
ليكونوا بذلك جبابرة ملوكا. وتلك مكيدة بلغوا بها ما ترون. ولولا ذلك ما تبعهم من الناس رجلان. ولكانوا أذل وأخس وأقل. ولكن قول الباطل له حلاوة في أسماع الغافلين. فسيروا إلى الله سيرا جميلا. واذكروا الله ذكرا كثيرا (122).
وقال: والذي نفسي بيده لقد قاتلت بهذه الراية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات وهذه الرابعة. والذي نفسي بيده لو ضربونا حتن يبلغوا بنا سعفات هجر. لعرفت أن مصلحنا على الحق وأنهم على الضلالة (123) وقال: من سره أن يكتنفه الحور العين فليتقدم بين الصفين محتسبا (124) وأنشد شعرا يقول فيه:
وكان علي عليه السلام قد خاطب معاوية مرات عديدة كي يدخل في الجماعة. ويكف عن تعبئة الناس للحرب ولكن معاوية رفض جميع المبادرات السلمية. ومارس هو وطابوره كل الأعمال لعرقلة مسيرة الاصلاح وعندما جاء القتال ذكر علماء التاريخ وغيرهم. أن عليا بارز في أيام صفين وقاتل وقتل خلفا حتى ذكر بعضهم أنه قتل خمسمائة. ونادى علي: ويحك يا معاوية. ابرز إلي ولا تفني العرب بيني وبينك. فقال عمرو بن العاص لمعاوية: اغتنمه فقال له معاوية: والله لقد علمت أن عليا لم يقهر قط. وإنما أردت قتلي لتصيب
____________
(122) البداية والنهاية: 292 / 7.
(123) رواه أحمد (البداية: 267 / 7).
(124) أخرجه ابن أبي شيبة (فخ الباري: 86 / 13).