الصفحة 63

4 - نظام الغلبة بالسيف لكل بر وفاجر، فالغالب تجب طاعته.

وقال: قال الإمام أحمد: السمع والطاعة للأئمة، وأمير المؤمنين البر والفاجر، ومن ولي الخلافة فاجتمع عليه الناس، ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف، وسمي (أمير المؤمنين).

والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة، البر والفاجر.

ثم قال أبو زهرة: لقد أجمع جمهور العلماء على أنه لا بد من إمام، يقيم الجمع، وينظم الجماعات، وينفذ الحدود، ويجمع الأموال من الأغنياء، ويردها على الفقراء، ويحمي الثغور، ويفصل بين الناس في الخصومات بالقضاة الذين يعينهم، ويوحد الكلمة، وينفذ أحكام الشرع، ويلم الشعث، ويجمع المتفرق، ويقيم المدينة الفاضلة التي حث الإسلام على إقامتها.

قال: وعلى هذا أجمع المسلمون.

ثانيا: المعتزلة:

ويتخلص رأيهم في ثلاث نقاط:

1 - إن الإمامة يستحقها كل من كان قائما بالكتاب والسنة.

2 - يتقدم القرشي على غيره، فإذا اجتمع قرشي ونبطي وهما قائمان بالكتاب والسنة قدم القرشي.

3 - لا تكون الإمامة إلا بإجماع الأمة واختيارها (1).

____________

(1) المقالات والفرق: 8 - 9.

الصفحة 64

ثالثا: الزيدية:

وهم على قسمين: فمنهم من قال: إن عليا (عليه السلام) هو الأفضل بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكن جاز للأمة أن تولي غيره، وإليهم ينسب القول بجواز تقديم المفضول على الأفضل.

ومنهم الجارودية: وعقيدتهم أن الإمامة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في علي (عليه السلام)، وبعده الحسن (عليه السلام)، ثم الحسين (عليه السلام) نصا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وبعد الحسين (عليه السلام) تكون شورى بين أبناء الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام، فإن قام أحد منهم بالإمامة وبايعه الناس فهو الإمام.

فالإمامة عندهم لا تخرج عن ذرية الحسن والحسين عليهما السلام (1).

رابعا: الإمامية الاثنا عشرية:

وملخص قولهم:

1 - أن الإمامة ليست قضية مصلحية تناط باختيار العامة، بل هي قضية أصولية، وهي ركن من الدين، لا تكون إلا بالتعيين، والنص من النبي.

2 - أن الإمام يجب أن يكون معصوما، منزها من الكبائر والصغائر.

3 - أن الإمامة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في علي (عليه السلام) ثم الحسن (عليه السلام)، ثم الحسين (عليه السلام)، ثم تسعة من ولد

____________

(1) أنظر: المقالات والفرق: 18، الفرق بين الفرق: 30 - 37.

الصفحة 65
الحسين معروفين بأسمائهم، وقد نص كل إمام على الإمام اللاحق له.

4 - أن الإمامة فيهم ولا تخرج منهم، ولا تصح لسواهم (1).

وبعد هذه الجولة بين آراء المذاهب الإسلامية في تعيين الإمام لنتوجه إلى القرآن الكريم والسنة المطهرة لنرى أي هذه الآراء أقرب إلى الحق.

____________

(1) أنظر: المقالات والفرق: 15 - 17، الملل والنحل: 131، 144.

الصفحة 66

الصفحة 67

الله تعالى يقول ورسوله يتحدث...

لقد تناول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر الإمامة في العديد من الأحاديث الشريفة - المقطوع بصحة إسنادها - تصريحا، أو إشارة وتلميحا، وقد جاء بعض هذه الأحاديث تابعا لنص قرآني منزل، مبينا له ومفسرا. وجاء البعض الآخر إرشادا منه صلى الله عليه وآله وسلم لأمته (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى) النجم: 3، 4.

ومن تلك النصوص:

1 - حديث الثقلين

وهو من أشهر الأحاديث الشريفة، ذلك الحديث الذي يلخص الأمانة الكبرى التي تركها رسولنا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في أعناقنا، من أجل حفظ هذا الدين، وحفظ هذه الأمة بحفظ دينها.

وهو، كما في صحيح مسلم (1): عن زيد بن أرقم، قال: قام فينا رسول

____________

(1) كتاب فضائل الصحابة 4: 1873 ح / 2408 بعدة طرق، ورواه عنه النووي في (رياض الصالحين)

=>


الصفحة 68
الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيبا بماء يدعى (خما) بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال:

" أما بعد ألا أيها الناس، إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم الثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به - فحث على كتاب الله ورغب فيه - وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي ".

وفي سنن الترمذي: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما " (1).

وبهذا النص أخرجه الحاكم في المستدرك (2)، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

وفي مسند أحمد: " إني تارك فيكم خليفتين، كتاب الله وأهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض جميعا " (3).

وقد ورد هذا الحديث في أغلب كتب السنن (4) وبطرق عديدة، يمتنع

____________

<=

: 141، 255.

(1) المصدر: الجزء الخامس - كتاب المناقب: 663 / 3788 وقبله / 3786.

(2) ج 3: 148.

(3) ج 5: 182، 189 و ج 3: 17، 14، وأخرجه في فضائل الصحابة 2: 603 / 1035.

(4) ومنها غير ما ذكرناه: الخصائص للنسائي: 21، السيرة الحلبية 3: 336، العقد الفريد 4: 126، مصابيح السنة 4: 185 / 4800 و 190 / 4816 والترجمة من تاريخ ابن عساكر 2: 36 / 536 و 46 / 547، ومجمع الزوائد 9: / 163 - 164، الجامع الصغير 1: 244 / 1608، الصواعق المحرقة باب 11 فصل 1: 149، الخصائص الكبرى للسيوطي 2: 466، تاريخ اليعقوبي 2: 112 وذخائر العقبى: 16 والدر المنثور - عند قوله تعالى (واعتصموا بحبل الله جميعا) 103 آل

=>


الصفحة 69
معها تسرب الشك إليه بأي شكل من الأشكال.

وقد يكون هذا النص النبوي الشريف لوحده كافيا في تعيين خلفاء الرسول، وأئمة المسلمين.

فانظر إلى عبارته بدقة تجده قد جعل الكتاب وأهل البيت متلازمين أبدا:

" لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ".

ثم انظر كيف توجه إليهما بلفظ واحد، ولم يفرق بينهما حتى في الخطاب، فقال: " فإنهما "، " لن يفترقا "، " حتى يردا "، فهو تلازم في التعبير والإشارة.

هذا بعد ما في صدر الحديث من كلام يفيد الالزام، ويؤكد وجوب الحرص عليه.

فهو إضافة إلى كونه أمر النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وتوجيهه، فهو أيضا يمثل خلاصة الدعوة النبوية، فإنه:

" يوشك أن يأتي رسول ربي، فأجيب "..

و " إني تارك فيكم الثقلين.. "، " خليفتين ".

" ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي.. ".

وهي أمانته في أمته: " فانظروا كيف تخلفوني فيهما " " أذكركم الله في أهل بيتي " ونحن عنها مسؤولون " أيها الناس، إني فرطكم، وأنتم واردي على الحوض، وإني سائلكم حين تردون علي عن الثقلين، فانظروا كيف تخلفوني فيهما (1) ".

وبعد هذا، فمن البديهي أن نقول: إنه متى أمكن لهذه الأمة، أو كائن

____________

<=

عمران 2: 285، والرازي أيضا 8: 163، وابن كثير في سورة الشورى 4: 122 وغيرهم كثير، والحديث متفق عليه.

(1) تاريخ اليعقوبي 2: 112، مصابيح السنة 4: 190 / 4816، والترجمة 2: 46 / 547.

الصفحة 70
من كان فيها، أن يكون حاكما على كتاب الله، وقائدا له، فقد جاز له أن يكون حاكما على أئمة أهل البيت، وإماما منصبا عليهم.

ولما كانت الأولى مستحيلة، فإن الثانية كذلك مستحيلة، وبنفس الدرجة بلا تفاوت، وبلا فارق، لأنهما " متلازمان " و " لن يفترقا ".

وأيضا، ففي عبارة: " لن يفترقا حتى يردا علي الحوض " (إشارة إلى أن كل ما ألم بأي من الثقلين - بعد الوجود المقدس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - قد أصاب الثقل الآخر أيضا، وأن هجر أي منهما هجر للآخر، حتى يرد هذان المهجوران الحوض على رسول الله).

نعم، هو الأمر هكذا ومما يؤيده رواية الطبراني، كما ينقلها ابن حجر فيقول: زاد الطبراني: " إني سألت ذلك لهما، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم " (1).

قال ابن حجر (2): وفي رواية: " كتاب الله وسنتي " (3).

قال: وهي المراد من الأحاديث المقتصرة على الكتاب، لأن السنة مبينة له، فأغنى ذكره عن ذكرها، والحاصل أن الحث وقع على التمسك بالكتاب وبالسنة وبالعلماء بهما من أهل البيت، ويستفاد من مجموع ذلك بقاء الأمور الثلاثة إلى قيام الساعة.

ثم اعلم أن لحديث التمسك بذلك طرقا كثيرة، وردت عن نيف وعشرين صحابيا...

____________

(1) الصواعق المحرقة: باب 11 فصل 1: 150، ورواها الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 164، والسيوطي في الدر المنثور 2: 285 - عند الآية (203) آل عمران.

(2) المصدر: 150 - 151.

(3) لم يأت الحديث في الصحاح بهذا اللفظ، وأنما اتفقوا جميعا على لفظ: " كتاب الله وعترتي أهل بيتي " وسيأتي الكلام فيه مفصلا.

الصفحة 71
إلى أن قال: وأخرج ابن سعد، والملا في سيرته: أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: " استوصوا، بأهل بيتي خيرا، فإني أخاصمكم عنهم غدا، ومن أكن خصمه أخصمه، ومن أخصمه دخل النار ".

ثم أضاف معلقا، بقوله: (تنبيه) سمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القرآن وعترته (ثقلين) لأن الثقل كل نفيس خطير مصون، وهذان كذلك، إذ كل منهما معدن للعلوم اللدنية والأسرار والحكم العلية، والأحكام الشرعية.

قال: ولذا حث صلى الله عليه وآله وسلم على الاقتداء والتمسك بهم، والتعلم منهم، وقال الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت ".

وقيل (والكلام له): سميا ثقلين لثقل وجوب رعاية حقوقهما، ثم الذين وقع الحث عليهم منهم إنما هم العارفون بكتاب الله وسنة رسوله، إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض، ويؤيده الخبر السابق: " ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم ".

قال: وتميزوا بذلك عن بقية العلماء لأن الله أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وشرفهم بالكرامات الباهرة، والمزايا المتكاثرة، وقد جاء في الخبر الذي في قريش: " وتعلموا منهم فإنهم أعلم منكم " فإذا ثبت هذا العموم لقريش، فأهل البيت أولى منهم بذلك، لأنهم امتازوا عنهم بخصوصيات لا يشاركهم فيها بقية قريش.

وفي أحاديث الحث على التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة، كما أن الكتاب العزيز كذلك.

- وهذه حقيقة بالغة الأهمية ينبغي حسن التمعن فيها، فهي مأخوذة من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ".

قال: ثم أحق من يتمسك به منهم إمامهم وعالمهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، لمزيد علمه و دقائق مستنبطاته، ومن ثم قال أبو بكر: علي عترة

الصفحة 72
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أي الذين حث على التمسك بهم، فخصه لما قلنا، وكذلك خصه صلى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم (1). انتهى.

وهل يستدعي هذا النص مزيدا من الإيضاح؟

فقد أمرنا نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أمرا جليا صريحا بالتمسك بسببين، وصفهما أنهما سببا النجاة وطريق الهداية " ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي " ثم هما " متلازمان " فلا يصح فصل أحدهما عن الآخر " وإنهما لن يفترقا " حتى يردا جميعا على رسول الله يوم القيامة.

ثم سماهما تسمية صريحة، فقال: " كتاب الله، وعترتي أهل بيتي ".

ثم قطع الطريق على المعتذرين فقال: " أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي " " وأني سائلكم حين تردون علي عن الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما ".

فهذا نص صريح في تعيين خلفاء الرسول من بعده.

وهذا نص متفق عليه، أجمع على روايته أصحاب السنن والفضائل كافة - سوى البخاري! - وذكره أيضا أصحاب السير والتفسير.

وأما الحديث بلفظ (كتاب الله وسنتي) فقد ورد في موطأ مالك عار من الإسناد (2)، وفي تاريخ الطبري بهذا الإسناد: أخبرنا ابن حميد، قال حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، قال: وساق الخبر في خطبة حجة الوداع إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: وتركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا: كتاب الله، وسنتي (3). وهذا الإسناد فيه:

____________

(1) هذه شهادة متقدمة، وسيأتي التفصيل في خطبة غدير خم لاحقا إن شاء الله.

(2) الموطأ - كتاب القدر / 3. ووصل إسناده ابن عبد البر وفيه كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده، وهو متروك ومن أركان الكذب ونسخته عن أبيه عن جده موضوعة. ميزان الاعتدال 3: 406 - 407.

(3) تاريخ الطبري 3: 169 - 170، وعنه تاريخ ابن خلدون 2: 480.

الصفحة 73
1 - سلمة: وهو سلمة بن الفضل الأبرش قاضي الري، روى عن محمد بن إسحاق وروى عنه محمد بن حميد.

قال فيه البخاري: عنده مناكير، وهنه علي - المديني - قال علي: ما خرجنا من الري حتى رمينا بحديثه، وقال النسائي: هو ضعيف، وقال أبو حاتم الرازي، لا يحتج بحديثه، ووصفه أبو زرعة، فقال: كذاب (1).

2 - ابن حميد: وهو محمد بن حميد الرازي، روى عن سلمة بن الفضل كتاب المغازي: قال يعقوب بن شيبة: محمد بن حميد كثير المناكير، وقال البخاري: في حديثه نظر وقال النسائي: ليس بثقة، وقال الجوزجاني: غير ثقة.

وقال الرازي: عندي عن ابن حميد خمسون ألفا، لا أحدث عنه بحرف.

وقال صالح بن محمد الأسدي: ما رأيت أحدا أجرأ على الله منه، كان يأخذ أحاديث الناس فيقلب بعضه على بعض. وقال أيضا: ما رأيت أحدا أحذق بالكذب من رجلين: سليمان الشاذكوتي، ومحمد بن حميد كان يحفظ حديثه كله.

وقال أبو علي النيسابوري: قلت لابن خزيمة: لو حدث الأستاذ عن محمد بن حميد، فإن أحمد قد أحسن الثناء عليه.

فقال: إنه لم يعرفه كما عرفناه، ولو عرفه ما أثنى عليه أصلا.

وقال أبو القاسم ابن أخي أبي زرعة: سألت أبا زرعة عن محمد بن حميد فأومأ بإصبعه إلى فمه، فقلت له: كان يكذب؟ فقال برأسه: نعم، فقلت: له: كان قد شاخ، لعله كان يعمل عليه، ويدلس عليه؟ فقال: لا - يا بني - كان يتعمد.

وقال أبو نعيم: سمعت أبا حاتم الرازي وعنده ابن خراش وجماعة من مشائخ أهل الري وحفاظهم، فذكروا ابن حميد، فأجمعوا على أنه ضعيف في الحديث جدا، وأنه يحدث بما لم يسمعه.

____________

(1) تهذيب التهذيب 4: 153 / الترجمة رقم 265.

الصفحة 74
وقال ابن خراش: حدثنا ابن حميد، وكان والله يكذب.

وقال أبو حاتم الرازي: هذا كذاب لا يحسن أن يكذب.

وسئل النسائي عنه، فقال: ليس بشئ. فقيل له: ألبتة؟ قال: نعم.

وقال في موضع آخر: محمد بن حميد كذاب (1).

وأخرجه الحاكم والبيهقي من طريقين (2): الأول فيه إسماعيل بن أبي أويس، وعكرمة. إسماعيل ضعيف مخلط يكذب (3)، وعكرمة هو الخارجي المعروف بكذبه على ابن عباس (4).

والثاني: فيه صالح بن موسى الطلحي، وهو ضعيف جدا كثير المناكير لا يكتب حديثه (5).

هذه خلاصة حال هذا الحديث! فقارن.

2 - حديث المنزلة

ذلك الحديث الذي لم يجادل فيه أحد، هو الآخر يكفي لوحده في معرفة الإمام والخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والذي يقول فيه حبيب الله صلى عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام:

____________

(1) تهذيب التهذيب 9: 129 - 131 / 180.

(2) المستدرك 1: 93، السنن الكبرى 10: 114.

(3) تهذيب التهذيب 1: 271.

(4) ميزان الاعتدال 3: 94.

(5) تهذيب التهذيب 4: 354.

الصفحة 75
" أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي ".

وهذا النص لا يكاد يخلو منه مصدر من مصادر الحديث، أو السيرة النبوية (1).

وأما هذه المنزلة - منزلة هارون من موسى - فإن القرآن الكريم هو الذي يتكفل تفسيرها، وإيضاح أبعادها، ولم يدع للناس فرصة تأويلها.

فقد حكى القرآن الكريم عن موسى عليه السلام دعاءه: (وأجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * أشدد به أزري * وأشركه في أمري) (2). وقال تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا) (3).

وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: (وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) (4).

فتلك هي منزلة هارون من موسى عليهما السلام، وهي بعينها منزلة علي من محمد - - صلى الله عليه وآله الكرام - إلا النبوة.

فعلي إذن: وزير خاتم النبيين، ومن أهله، وأخوه، وخليفته في قومه.

ولقد وردت كل واحدة من هذه الخصائص في نصوص أخرى مستقلة، إضافة إلى خصائص أخرى، قرأنا بعضها، وسنقرأ بعضا آخر فيما يأتي بإذنه تعالى.

____________

(1) صحيح البخاري 5: 89 / 202، مسلم 4: 1870 / 2404 في ستة طرق، والترمذي في كتاب المناقب 5 / 3730 وبعده، والحاكم في المستدرك 2: 337 - كتاب التفسير، وأحمد في المسند 1: 173، 175، 182، 184، 331، مصابيح السنة 4: 170 / 4762، جامع الأصول 9: 468 / 6477، وغيرهم أيضا، وكافة من تكلم في مناقبه عليه السلام.

(2) طه: 29 - 32.

(3) الفرقان: 35.

(4) الأعراف: 142.

الصفحة 76

3 - (أنت مني وأنا منك)

هذه الكلمة التي قالها رسول الله لعلي، ولم يقلها لأحد سواه، كجميع ما ذكرنا، وما سنذكر في هذا الكتاب من فضائله عليه السلام.

وقد جاءت هذه الكلمة في عدة مواضع، مفردة في بعضها (1)، وفي أخرى لها قصة وسبب (2)، وهي في الجميع تكشف عن منزلة أخرى لعلي عليه السلام، قد لا تظهر من النصوص المتقدمة.

ويماثلها في هذا الدور، النص الآتي..

4 - قوله صلى الله عليه وآله وسلم

" أما أنت يا علي، أنت صفيي وأميني " (3).

إذن فعلي - عليه السلام - هو:

أولا: من أهل رسول الله. ثانيا: أخو رسول الله.

ثالثا: من رسول الله. رابعا: نفس رسول الله.

خامسا: أمينه. سادسا: صفيه.

سابعا: وزيره. ثامنا: خليفته، فهل تكفي هذه الخصائص في تقدمه

____________

(1) صحيح البخاري - باب المناقب علي عليه السلام - 5: 87 و - كتاب الصلح - 4: 22، النسائي في الخصائص: 20، سنن الترمذي 5: 635 / 3716، مصابيح السنة 4: 172 / 4765 و 186 / 4801، مسند أحمد 1: 108، 115، وتاريخ الخلفاء للسيوطي: 134، وسائر كتب المناقب.

(2) سيأتي ذكرها في محلها.

(3) النسائي في الخصائص: 19 - 20.

الصفحة 77
عليه السلام على من سواه فقط، أم هي ترفعه عن حد القياس والمقارنة؟

5 - تبليغ سورة براءة

وقصة تبليغ سورة (براءة) هي أيضا من الأحداث التي تدل دلالة قاطعة على أن تولي أمور المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، محصور بعلي ابن أبي طالب عليه السلام. والقصة من الشهرة بمكان، إلا أننا نوردها هنا لتمام الفائدة، موجزة، كما رواها الإمام أحمد بن حنبل، إذ قال: حدثني وكيع، قال: قال إسرائيل: قال أبو إسحاق، عن زيد بن يثيع عن أبي بكر: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثه ببراءة إلى أهل مكة: " لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف في البيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ومن كان بينه وبين الرسول الله مدة فأجله إلى مدته، والله برئ من المشركين، ورسوله " قال: فسار بها ثلاثا، ثم قال النبي لعلي: " الحقه، فرد علي أبا بكر، وبلغها أنت ".

قال: ففعل، فبينا أبو بكر في بعض الطريق، إذا سمع رغاء ناقة الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القصوى، فخرج أبو بكر فزعا، فظن أنه رسول الله، فإذا هو علي، فدفع إليه كتاب الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأخذها منه، وسار، ورجع أبو بكر.

فلما قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكى، وقال: يا رسول، أحدث في شئ؟

قال: " لا ولكن أمرت أن لا يبلغها إلا أنا، أو رجل مني ".


الصفحة 78
وفي بعض الروايات: " لا يبلغ عني إلا أنا، أو رجل مني " (1).

فلننظر في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " أمرت " ألم يكن معلوما أنه صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق عن الهوى (إن هو إلا وحي يوحى)؟ فهل تراه أتى بهذه الكلمة " أمرت " إلا ليبعد ما قد يجول في صدور البعض! كما حصل يوم انتجاه، فقالوا: لقد طال نجواه مع ابن عمه! فرد عليهم - روحي فداه - بقوله العظيم: " ما انتجيته، ولكن الله انتجاه ".

ثم، أفلا يكون في هذه القصة بلاغا للناس؟ لقد جاءت لتعلمنا من أين نأخذ ديننا: " إلا أنا أو رجل مني ".

____________

(1) مسند أحمد 1: 3، 331 و 3: 212، 283 و 4، 164، 165 وفي كتاب فضائل الصحابة له أيضا 2:

562 / 946، سنن الترمذي 5: 636 / 3719، جامع الأصول من أحاديث الرسول 9: 475 / 6496، الترجمة من تاريخ ابن عساكر 2: 376 - 391، مجمع الزوائد 9: 119، تاريخ اليعقوبي 2:

76، الخصائص للنسائي: 20، الصواعق المحرقة: 122، الجامع الصغير 2: 177 / 5595، البداية والنهاية 7: 370، تفسير الطبري 10: 46، مناقب الخوارزمي: 106، وسائر أهل المناقب.

وأوردها جل المفسرين في أول سورة براءة، وحاولوا التلاعب فيها، والتأويل بخلاف ما ورد في السنن والتواريخ.

وجاء هذا الخبر أيضا في حديث ابن عباس الذي يحصي فيه عشر خصال لعلي عليه السلام، وفيه:

وبعث فلانا بسورة التوبة، فبعث عليا خلفه فأخذها منه، قال: " لا يذهب إلا رجل مني وأنا منه ".

وهذا الحديث رواه بطوله: أحمد في المسند 1: 331، الحاكم في المستدرك 3: 132 - 134، ابن حجر في الإصابة 4: 270، ابن عساكر في الترجمة 1: 202 / 249، النسائي في الخصائص: 8، ابن كثير في البداية والنهاية 7: 350، وأصحاب المناقب.

الصفحة 79

6 - حديث الدار - أو قصة الانذار -

بعد أن نزل قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) (1) دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني عبد المطلب، وبعد أن أطعمهم وسقاهم - في قصة يذكر تفصيلها أهل التواريخ - توجه إليهم قائلا:

" يا بني عبد المطلب، والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به، إني جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي، ووصيي، وخليفتي فيكم؟ ".

قال علي عليه السلام - والرواية عنه - فأحجم القوم عنها جميعا، وقلت - وأنا لأحدثهم سنا -: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه.

فأخذ برقبتي، ثم قال: " إن هذا أخي، ووصيي، وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا ".

قال: فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أ مرك أن تسمع لابنك وتطيع (2).

____________

(1) الشعراء: 214.

(2) تاريخ الطبري 2: 217، الكامل في التاريخ 2: 62 - 64، السيرة الحلبية 1: 461، معالم التنزيل للبغوي 4: 278، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13: 210، الترجمة من تاريخ ابن عساكر 1 : 100 / 137 و 138 و 139، شواهد التنزيل 1: 372 - 373 / 514 و 420 / 580، كنز العمال 13: 131 / 36469، والمنتخب من كنز العمال بهامش مسند أحمد 5: 41 - 42. وهو أيضا في حديث ابن عباس في ذكر الخصال العشر وقد تقدم ذكر مصادره في الحديث السابق.

الصفحة 80
وسوف أنقل لك هنا ما كتبه ابن كثير (1) ليصرف هذا النص الشريف عن مغزاه، لترى وكيف يتأولون!

فقد ذكر القصة بتفاصيلها - بقصد تكذيبها - إلى أن قال:

فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " أيكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي وكذا وكذا؟ ".

قال علي - عليه السلام -: فأحجم القوم جميعا، وقلت وإني لأحدثهم سنا، وأرمصهم عينا، وأعظمهم بطنا، وأحمشهم ساقا،: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه.

فأخذ برقبتي، فقال: " إن هذا أخي، وكذا وكذا، فاسمعوا له وأطيعوا "!

ثم قال: ذكروا به عبد الغفار بن القاسم أبو مريم، وهو كذاب شيعي، اتهمه علي بن المديني بوضع الحديث، وضعفه الباقون.

ثم يضيف - في الصحفة ذاتها - قائلا: ولكن روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه، عن الحسين بن عيسى بن ميسرة الحارثي، عن عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، وعن عبد الله بن الحارث، قال: قال علي: لما نزلت هذه الآية: (وأنذر عشيرتك الأقربين) (2) قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " اصنع لي شاة بصاع من طعام، وإناء لبن، وادع لي بني هاشم ".

فدعوتهم وإنهم يومئذ لأربعون غير رجل، أو أربعون ورجل - فذكر القصة إلى قوله - فبدرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلام، فقال:

" أيكم يقضي عني ديني، ويكون خليفتي في أهلي؟ ".

فسكتوا، وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله، وسكت أنا لسن

____________

(1) في كتاب البداية والنهاية 3: 38 - 39.

(2) الشعراء: 214.

الصفحة 81
العباس.

ثم قالها مرة أخرى، فسكت العباس فلما رأيت ذلك قلت: أنا، يا رسول الله.

قال: " أنت؟! ".

قال: وإني يومئذ لأسوأهم هيئة، وإني لأعمش العينين، ضخم البطن، خمش الساقين.

ثم قال صاحب المصدر: وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عباد ابن عبد الله الأسدي، وربيعة بن ناجذ عن علي نحو ما تقدم، أو كالشاهد عليه.

ثم قال: ومعنى قوله في هذا الحديث: " من يقضي عني ديني، ويكون خليفتي في أهلي " يعني إذا مات، وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم خشي إذا قام بإبلاغ الرسالة إلى مشركي العرب أن يقتلوه، فاستوثق من يقوم بعده بما يصلح أهله، ويقضي عنه، وقد أمنه الله من ذلك في قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك - إلى قوله - والله يعصمك من الناس) (1) انتهى.

فلنتناول هذا الكلام من جميع وجوهه لنعرف أين محله:

1 - فأما عبد الغفار بن القاسم أبو مريم الذي طعن عليه، فقد وصفه ابن حجر العسقلاني، فقال: كان ذا اعتناء بالعلم وبالرجال - قال - وقال شعبة:

لم أر أحفظ منه، وقال ابن عدي: سمعت ابن عقدة يثني على أبي مريم ويطريه وتجاوز الحد في مدحه حتى قال: لو ظهر على أبي مريم ما اجتمع الناس إلى شعبة.

أما تضعيفهم له فإنما جاء من وصفه بالتشيع، قال ابن حجر - في ترجمته ذاتها -: قال البخاري: عبد الغفار بن القاسم ليس بالقوي عندهم. حدثنا أحمد بن صالح حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا الحسين بن الحسن الفزاري،

____________

(1) المائدة: 67.

الصفحة 82
عن عبد الغفار بن القاسم، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال حدثني بريدة: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " علي مولى من كنت مولاه "!! (1) - فمن هنا جاء طعنهم عليه (2).

2 - وأما قوله: إن الحديث فيه عبد الغفار بن القاسم، فقد ورد الحديث من طرق أخرى ليس فيها عبد الغفار، كما في:

تاريخ ابن عساكر:

قال: أخبرنا أبو البركات عمر بن إبراهيم الزيدي العلوي بالكوفة، أنبأنا أبو الفرج محمد بن أحمد علان الشاهد، أنبأ محمد بن جعفر بن محمد ابن الحسين، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن القاسم بن زكريا المحاربي، أنبأنا عباد بن يعقوب، أنبأنا عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن المنهال ابن عمرو، عن عباد بن عبد الله - هو الأسدي الذي احتج بروايته - عن علي بن أبي طالب.

وفيه، قال: " أيكم يقضي ديني، ويكون خليفتي ووصيي من بعدي؟ " فسكت العباس - الحديث - فقلت: أنا يا رسول الله. فقال: " أنت يا علي، أنت يا علي " (3).

وكما في تاريخ الطبري:

حدثنا زكريا بن يحيى الضرير، قال: حدثنا عفان بن مسلم، قال: حدثنا

____________

(1) أنظر ترجمته في لسان الميزان 4: 42 / 123.

(2) وليس هذا حظه وحده، بل هو حظ كثير ممن هم مثله وسوف نتناول هذا الموضوع في فصل لاحق معززا بالشواهد والأدلة.

(3) ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق 1: 99 / 137.

الصفحة 83
أبو عوانة، عن عثمان بن المغيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجذ: أن رجلا قال لعلي عليه السلام: يا أمير المؤمنين، بم ورثت ابن عمك دون عمك؟

فقال علي: هاؤم - ثلاث مرات، حتى اشرأب الناس ونشروا آذانهم، ثم قال - جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - أو دعا رسول الله - بني عبد المطلب - الحديث - ثم قال رسول الله: " فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي " فقمت إليه وكنت أصغرهم فقال: " اجلس ".

ثم قال ثلاث مرات، كل ذلك أقوم إليه فيقول لي: " اجلس " حتى كان في الثالثة، فضرب بيده على يدي - قال - فبذلك ورثت ابن عمي دون عمي (1).

وكما في رواية الحاكم:

حدثني ابن فنجويه، حدثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله، حدثنا الحسن بن علي بن شبيب المعمري، قال حدثنا عباد بن يعقوب، عن علي بن هاشم، عن صباح بن يحيى المزني، عن زكريا بن ميسرة عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: لما نزلت (وانذر عشيرتك الأقربين).

.. الحديث (2).

فهل خفي هذا كله، وغيره عنه؟ كلا طبعا، إلا أنه لم يجد منفذا إليها، إلا ما صنعه بعضهم على أبي مريم، فتناوله وطعن فيه، وأوهم القارئ أن هذه الرواية محصورة في هذا الطريق!

3 - ثم أين تأويله الذي اتكأ عليه، من قوله تعالى: (وانذر عشيرتك

____________

(1) تاريخ الطبري 2: 219، ورواه بهذا الإسناد: النسائي في الخصائص: 18، وأحمد في المسند 1:

159 وغيرهم أيضا.

(2) شواهد التنزيل 1: 420 / 580.

الصفحة 84
الأقربين)؟

فهل كان أمر الله تعالى له بإنذار عشيرته أن يقضوا عنه دينه، ويحفظوا له عياله؟!

وهل يستدعي أمر كهذا كل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من دعوة أربعين رجلا ثلاث مرات، وإبلاغهم، أما كان يكفيه أن يستدعي من يثق به منهم ويطمئن إليه فيوصيه بعياله، وقضاء دينه؟

ثم متى نزل قوله تعالى: (والله يعصمك من الناس) أليس في سورة المائدة، في آخر ما نزل من القرآن، بينما كانت آية الانذار من أول ما نزل في العهد المكي؟!

أهكذا يدرس كلام الله المجيد، أم هي الأهواء تفعل بأهلها ما تريد!!

وإلا فماذا ينكرون من هذا، ليذهبوا إلى الصناعة والتأويل؟

أينكرون قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: " أنت أخي "؟

فهل آخى رسول الله بين نفسه وبين أحد من الناس غير علي؟

وهل قالها لأحد سواه: " أنت أخي في الدنيا والآخرة "؟ تلك حقيقة لم تخف على أحد من المسلمين في عصر من العصور.

أم أنكروا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " أنت خليفتي "؟

فمن أنكرها، أو قيدها هنا، فهو لا يستطيع شيئا من ذلك في نصوص كثيرة أخرى، تقدم بعضها، وسيأتي بعض آخر.

ومع هذا، فإن تقييدها هنا بخلافته في أهله، أمر غريب لا يرتجى حتى من البسطاء الذين يدركون جميعا أن دعوة النبي إنما ابتدأت في مكة التي تسكنها بطون قريش، وأن الأقربين إلى النبي من بين بطون قريش، والناس أجمعين هم بنو هاشم، وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا النص القرآني أن ينذرهم جهارا، ويبلغهم دعوته، فهم أولى بنصرته، وهو واضح.


الصفحة 85
أم أنهم استنكروا قوله: " ووصيي "؟

فإن لهذا الأمر من الشهرة ما لا يمكن لأحد إنكاره، أو تضعيف شأنه.

فلقد كان لقب (الوصي) واحدا من أشهر ألقاب الإمام علي في صدر الإسلام، ولشهرته فقد ثبت حتى في معاجم اللغة العربية، في تعريف كلمة:

(وصي).

ففي لسان العرب (1): وقيل لعلي عليه السلام وصي، ثم استشهد بقول كثير:

وصي النبي المصطفى وابن عمه * وفكاك أغلال وقاضي مغارم

وفي تاج العروس (2): والوصي كغني: لقب علي رضي الله عنه.

كما انتشر هذا اللقب لعلي عليه السلام في شعر المسلمين الأوائل من جيل الصحابة والتابعين، وقد أفرد ابن أبي الحديد لذلك فصلا، بعنوان: ما ورد في وصاية علي من الشعر. (3) قال فيه: ومما رويناه من الشعر المقول في صدر الإسلام، المتضمن كونه عليه السلام وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

- قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب:

ومنا علي ذاك صاحب خيبر * وصاحب بدر يوم سالت كتائبه

____________

(1) للعلامة ابن منظور، مادة - وصي - 15: 394.

(2) لمحمد مرتضى الزبيدي، مادة - وصي - أيضا 10: 392.

(3) شرح نهج البلاغة 1: 143.

الصفحة 86

وصي النبي المصطفى وابن عمه * فمن ذا يدانيه ومن ذا يقاربه!

- وقال عبد الرحمن بن الحنبل (1):

لعمري لقد بايعتم ذا حفيظة * على الدين معروف العفاف موفقا
عليا وصي المصطفى وابن عمه * وأول من صلى، أخا الدين والتقى

- وقال أبو الهيثم بن التيهان - وكان بدريا - وذكر أبياتا منها:

قل للزبير، وقل لطلحة: إننا * نحن الذين شعارنا الأنصار
إن الوصي إمامنا وولينا * برح الخفاء وباحت الأسرار

- وقال رجل من الأزد يوم الجمل:

هذا علي وهو الوصي * آخاه يوم النجوة النبي

____________

(1) صحابي استشهد بصفين رضوان الله عليه، وفي المصدر " عبد الرحمن بن جعيل " والصحيح ما أثبتناه عن أسد الغابة 3: 288، والإصابة 4: 155.

الصفحة 87

وقال هذا بعدي الولي * وعاه واع ونسي الشقي

- وخرج يوم الجمل من بني ضبة، شاب معلم من عسكر عائشة، وهو يقول:

نحن بنو ضبة أعداء علي * ذاك الذي يعرف قدما بالوصي
وفارس الخيل على عهد النبي * ما أنا عن فضل علي بالعمي

والفضل ما شهدت به الأعداء.

وقال زياد بن لبيد الأنصاري يوم الجمل، وكان من أصحاب علي عليه السلام:

كيف ترى الأنصار في يوم الكلب * إنا أناس لا نبالي من عطب
ولا نبالي بالوصي من غضب * وإنما الأنصار جد لا لعب
هذا علي وابن عبد المطلب * ننصره اليوم على من قد كذب
من يكسب البغي فبئسما اكتسب


الصفحة 88
وقال حجر بن عدي الكندي، وهو صحابي جليل:

يا ربنا سلم لنا عليا * سلم لنا المبارك المضيا
المؤمن الموحد التقيا * لا خطل الرأي ولا غويا
بل هاديا موفقا مهديا * واحفظه ربي واحفظ النبيا
فيه فقد كان له وليا * ثم ارتضاه بعده وصيا

- وقال خزيمة بن ثابت - ذو الشهادتين - وكان بدريا (في أبيات منها):

فادعها تستجب، فليس من الخز * رج والأوس - يا علي - جبان
يا وصي النبي قد أجلت الحر * ب الأعادي وسارت الأضعان

وقال خزيمة أيضا في يوم الجمل:

أعائش خلي عن علي وعيبه * بما فيه إنما أنت والده


الصفحة 89

وصي رسول الله من دون أهله * وأنت على ما كان من ذاك شاهده
وحسبك منه بعض ما تعلمينه * ويكفيك لو لم تعلمي غير واحده

- وقال زحر بن قيس الجعفي يوم الجمل أيضا:

أضربكم حتى تقروا لعلي * خير قريش كلها بعد النبي
من زانه الله وسماه الوصي * إن الولي حافظا ظهر الولي
كما الغوي تابع أمر الغوي

فهذه عشر وثائق تاريخية في جيل الصحابة، من بين أربع وعشرين وثيقة ذكرها في هذا الفصل، ثم قال: والأشعار التي تتضمن هذه اللفظة كثيرة جدا، ولكنا ذكرنا منها هاهنا بعض ما قيل في هذين الحزبين - أراد: الجمل وصفين -، فأما ما عداهما، فإنه يجل عن الحصر، ويعظم عن الإحصاء والعد، ولو لا خوف الملالة والإضجار، لذكرنا من ذلك ما يملأ أوراقا كثيرة. انتهى.

ولقد أتى بهذه الأشعار في معرض حديثه عن خطبة أمير المؤمنين عليه السلام، التي فيها:

" لا يقاس بآل محمد صلى الله وآله من هذه الأمة أحد، ولا يسوي بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا،