الصفحة 136
ثم أنكرها بقوله: وهذه الآية مدنية، والحديث يقتضي كونها مكية.

ثم قال: والصحيح أن هذه الآية مدنية، بل هي من أواخر ما نزل، والله أعلم.

ثم ذكر قصصا أخرى - ذكرها غيره أيضا - فقال: وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل منزلا، اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها، فأتاه أعرابي - في بعض تلك المنازل - فاخترط سيفه، ثم قال: من يمنعك مني؟

فقال: " الله عز وجل " فرعدت يد الأعرابي، وسقط السيف منه، وضرب برأسه الشجرة، حتى انتشر دماغه.

وفي رواية أخرى، أن هذا الأعرابي لما قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " الله يمنعني منك " وضع السيف.

قال: وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة ذات الرقاع انفرد عن الجيش، وجلس على رأس بئر، قد دلى رجليه، قال الحارث بن النجار: لأقتلن محمدا.

فقال له أصحابه: كيف تقتله؟

قال: أقول له اعطني سيفك، فإذا أعطانيه قتلته به.

قال: فأتاه، فقال: يا محمد، أعطني سيفك أشيمه. فأعطاه إياه، فرعدت يده، حتى سقط السيف من يده، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

" حال الله بينك وبين ما تريد ".

فأنزل الله: (والله يعصمك من الناس) (1).

أما في تفسير (روح البيان) (2) فقد جاء: أن هذه الآية أمان من الله

____________

(1) تفسير ابن كثير 2: 81.

(2) للشيخ إسماعيل حقي البروسوي، الجزء الثاني: 417.

الصفحة 137
للنبي عليه السلام كيلا يخاف، ولا يحذر، كما روي في الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما دخل المدينة، قال اليهود: يا محمد، إنا ذوو عدد وبأس، فإن لم ترجع قتلناك، وإن رجعت ذودناك (1)، وأكرمناك.

فكان عليه السلام يحرسه مائة من المهاجرين والأنصار، يبيتون عنده، ويخرجون معه، خوفا من اليهود.

فلما نزل قوله تعالى: (والله يعصمك من الناس) علم أن الله يحفظه من كيد اليهود وغيرهم، فقال للمهاجرين والأنصار: " انصرفوا إلى رحالكم، فإن الله قد عصمني من اليهود ".

والآن، نرجو أن نجد - من بين كل ما تقدم - جوابا لكل واحد من هذه الأسئلة:

1 - الرواية الأخيرة تشير إلى بداية العهد المدني، وبهذا تتفق مع ما روي عن أم المؤمنين عائشة، ولكن الذي جاء عنها، وفي كل الروايات التي أسندت إليها، أنه كان يحرسه رجل واحد، ورد في بعضها أنه سعد بن أبي وقاص، وفي بعضها غيره، أما روايتنا الأخيرة ففيها مائة من المهاجرين والأنصار، يبيتون عنده، ويخرجون معه! فأيها نختار؟

نعم ربما وجدنا مخرجا لهذا فنقول: إنه كان يحرسه مائة بادئ الأمر، فلما تزوج من السيدة عائشة استغنى عن تسع وتسعين منهم، واكتفى بحارس واحد!

ولكن حتى هذا لا تقبله الرواية الأخيرة، فهي تشير إلى بقائهم على حالهم من الحراسة حتى نزول الآية، بدليل قوله في آخرها: فلما نزلت الآية، قال للمهاجرين والأنصار: " انصرفوا إلى رحالكم " فهو حديث مع جماعة، وهم في حالة الحراسة، وإلا لماذا قال: " انصرفوا إلى رحالكم "؟

____________

(1) ذاده وأذاده: أعانه على الذياد - وهو الدفع والطرد. لسان العرب - ذود - 3: 167.

الصفحة 138
2 - الروايتان تفيدان أن الآية في المدينة، وهذا يناقض ما في الروايات الأخرى من أنها نزلت في المغازي.

هذا إذا تركنا قول من قال أنها نزلت في مكة، وأسقطنا الروايات التي تشير إليه.

3 - إذا كان يحرسه وهو في المدينة مائة رجل من المهاجرين والأنصار، أو قل رجل واحد، فأين ذهبوا عنه وهو بين الجيشين، في ساحة القتال؟

وهل يصح أن يختار القائد محل استراحته في (الأرض الحرام) بين جيشه والجيش المعادي، بحيث يكون ممكنا بكل تلك السهولة أن يتسلل إليه من يشتهي قتله، حتى يشهر السيف على رأسه، وهو نائم؟!

ثم لاحظ أن الرواية تقول: اختار له أصحابه ظلا يقيل فيه.

فهل يختار له أصحابه ظلا كهذا؟

وأي ظل هذا، وأي قيلولة؟ سل من رأى الحروب، أو سمع بها.

ثم إن كان هذا مما تقبله العقول، فأين غفلوا عن حراسته في مثل هذا المكان، وقد اعتادوا أن يحرسوه وهو في المدينة؟

4 - في أية غزوة كان ذلك؟ أكثر الروايات تقول: في بعض المغازي، ولا تعين واحدة منها، فهل نسي الرواة تلك الغزوة؟

وهل يرتضي ذلك أحدنا، مع غزوة كهذه، تحدث فيها تلك المعجزة المثيرة، ثم ينزل فيها قرآن يتلى، يزيدها ثباتا في الأذهان، ثم تلك الصورة المثيرة، والرجل يضرب برأسه الشجرة، حتى انتشر دماغه، كل هذا ينساه جميع من شهده، فلا يدري متى حصل؟

فإن جاز ذلك، فليس أقل أن يذكروا تلك الغزوة التي تركوا فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا حراسة حتى تسلل إليه من تسلل، وشهر السيف على رأسه الشريف!


الصفحة 139
وإن حصل ذلك، فأين أهل العلم بالقرآن، ونزوله، وناسخه، ومنسوخه، ومحكمه، ومتشابهه، ومكيه، ومدنيه؟

نعم إن هناك رواية واحدة تقول: إنها كانت غزوة ذات الرقاع. ولا تخلو هذه أيضا مما يثير الاستغراب، إذ يتسلل المشرك مجردا من السلاح إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يأمل بكل ثقة أن يأخذ منه سيفه بمجرد أن يقول له: اعطني سيفك أشيمه!

فهل كان الرجل مجنونا؟ لم تشر الرواية إلى شئ من ذلك!

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أذكى من ذلك وأكثر حذرا.

دع عنك كل هذا، ولنقل بأنها هي غزوة الرقاع، وإنما اختلفت الروايات في تفصيل الحادثة، وهذا جائز، فتعال معي إذن أخبرك بغزوة الرقاع متى وقعت.

وقعت هذه الغزوة في السنة الرابعة من الهجرة المباركة على مهاجرها المختار، وآله الأطهار أفضل صلاة وأتم سلام. وبالتحديد الدقيق، وقعت غزوة الرقاع في الشهر السابع والأربعين من الهجرة المباركة (1). أي إنه كان يفصلها عن وفاته صلى الله عليه وآله وسلم قرابة سبع سنين، فهل يتفق هذا مع قول ابن كثير في هذه الآية: بل هي من آخر ما نزل؟

علما أن قوله الأخير هذا هو الموافق لما هو مشهور جدا بين المسلمين من كون سورة المائدة هي آخر ما نزل من القرآن، ما خلا سورة النصر، وآية أو آيتين، سيأتي ذكرها إن شاء الله.

وبغض النظر عن هذا فهي لا تصمد أمام الأسئلة المتقدمة، وقد مرت روايات تنقضها أيضا.

____________

(1) راجع كتاب المغازي للواقدي 1: 395، والكامل لابن الأثير 2: 174، تاريخ الطبري 3: 39.

الصفحة 140
ذلك هو حجم الاضطراب والتناقض في تلك الروايات.

ولعله هو السبب الأساس وراء عدم اتفاقهم على شئ منها، بل عدم اعتماد أحدهم واحدة منها.

كما يعد ثاني سببين - أولهما: العلم بأن الآية من آخر ما نزل من القرآن - كانا وراء تعريج ابن كثير، والطبري، وآخرين على حجة الوداع، وخطبته صلى الله عليه وآله وسلم هناك، ومطابقتهم نص الآية مع ما جاء على لسانه الشريف في مواقفه هناك، بقوله: " هل بلغت، اللهم اشهد ".

لكنهم يقفون عند مجرد التعريج، دون أن يشير أحدهم إلى نزولها في هذا التاريخ.

هذا ولما نتعرض بعد لما أورده الرازي في هذا المقام، فقد ذكر عشرة وجوه في سبب نزول هذه الآية، من بينها بعض ما سبق الكلام فيه، ومنها ما ينفرد به وحده، وقد تناول البغوي في تفسيره (1) نصفها، وأعرض عن نصف، وتلك الوجوه هي بالترتيب كما يلي:

الأول: أنها نزلت في قصة الرجم والقصاص، على ما تقدم في قصة اليهود.

وقصة الرجم هذه قد تقدم كلامه فيها في نفس السورة (2)، وخلاصتها أن رجلا وامرأة زنيا، فأتى بهما قومهما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليحكم فيهما، ولو تتبعتها لا تجد فيها على الاطلاق ما يشير إلى احتمال نزول هذه الآية هناك، ولن تجد ما يشير إلى ما يمكن اعتباره مبررا لوجود مثل هذا الاحتمال!

ولم يرد في ذلك خبر يعتمد.

____________

(1) معالم التنزيل 2: 279.

(2) تفسير الرازي 11: 232 - 233.

الصفحة 141
فهو يسرد القصة سردا متسلسلا حتى ينتهي إلى قوله: فأمر بهما صلى الله عليه وآله وسلم فرجما عند باب مسجده. ولو تتبعت القصة في كل ما تجده من كتب التفسير لما وجدت إشارة واحدة إلى وجود صلة بين الآية موضوع البحث وبين تلك القصة. ولعل الرازي ذكرها لمجرد الإحصاء لا غير، ولعله ابتدعها.

الثاني: نزلت في عيب اليهود واستهزائهم... وقد تقدم الكلام في مثله.

الثالث: لما نزلت آية التخيير، هي قوله، (يا أيها النبي قل لأزواجك) فلم يعرضها عليهن خوفا من اختيارهن الدنيا، فنزلت.

الرابع: نزلت في أمر زيد وزينب بنت جحش.

نقول: وكلا القصتين - الثالثة والرابعة - قد نزلت فيها آيات مفصلة يتلوها المسلمون من قبل أن تنزل سورة المائدة.

الخامس: نزلت في الجهاد، فإن المنافقين كانوا يكرهونه، فكان يمسك أحيانا عن حثهم على الجهاد.

وهذا كلام مرسل تماما، ولم يذكره أحد ممن سبق الرازي، ولن تجد حتى في كتب السيرة المفصلة من جعل تقاعس المنافقين سببا في نزول هذه الآية.

السادس: لما نزل قوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا) (1) سكت الرسول عن عيب آلهتهم، فنزلت هذه الآية.

والصحيح أن أحدا لم يقل بنسخ آية الأنعام هذه بل اتفقوا على ضده، قال القرطبي: (قال العلماء: حكمها باق في هذه الأمة على كل حال).

وقال الشوكاني: (ذهب جمهور أهل العلم إلى أن هذه الآية محكمة ثابتة غير منسوخة) (2).

____________

(1) الأنعام: 108.

(2) تفسير القرطبي 7: 61، فتح القدير 2: 150.

الصفحة 142
السابع: نزلت في حقوق المسلمين، وذلك لأنه قال في حجة الوداع، لما بين الشرائع والمناسك: " هل بلغت " قالوا نعم قال عليه الصلاة والسلام:

" اللهم فاشهد ".

وهذا ليس أكثر من توفيق بين الألفاظ المشتركة التي وردت في الآية الكريمة والخطبة الشريفة، أما أن يكون التبليغ بتلك الأحكام الشرعية والمناسك سببا في نزول الآية فهو شئ آخر تماما، كما أنه لم يقل به أحد.

فلأي شئ يخفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم تبليغ مناسك الحج التي كان يعدهم بها حتى قبل صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة، وعند نزول قوله تعالى: (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤسكم ومقصرين لا تخافون) (1) كما هو معروف جدا؟

بل إن المسلمين جميعا كانوا يتلهفون بشدة إلى تلك المناسك وإلى الحج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

والأمر كذلك مع سائر الأحكام الشرعية، فمتى أخفى النبي شيئا من تلك الأحكام التي لم يبعث إلا لأجل إحياء البشرية بها، لكي ينزل إليه مثل هذا الإنذار!

نعم، أخفى النبي في نفسه الأمر في قضية زينب كما صرح القرآن بذلك، والسبب ظاهر جدا، وهو خشيته من تسرب الشك إلى بعضهم من أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد آثر نفسه، أو شئ من هذا القبيل.

وهذا أشبه شئ بقضية التبليغ بالولاية لعلي بن أبي طالب، فهو لا يأمن تسرب الشك لدى بعضهم بأنه قد آثر ابن عمه، وفضله عليهم، وربما أكثر من

____________

(1) الفتح: 27.

الصفحة 143
مجرد الشك عند أمر كهذا مما لم يكن مستبعدا أبدا، بل قد حصل تماما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأما في حياته فقد عصمه الله تعالى من كل كيد، أو تآمر، أو غيره.

الثامن: روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم نزل تحت شجرة في بعض أسفاره... وقد تقدم.

التاسع: كان يهاب قريشا، واليهود، والنصارى... وقد تقدم أيضا.

العاشر: نزلت الآية في فضل علي بن أبي طالب عليه السلام، ولما نزلت هذه الآية، أخذ بيده، وقال " من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه " فلقيه عمر رضي الله عنه، فقال: هنيئا لك يا بن أبي طالب، أصبحت مولاي، ومولى كل مؤمن ومؤمنة. وهو قول ابن عباس، والبراء بن عازب، ومحمد بن علي. انتهى.

وهكذا تأتي هذه الرواية وحدها مسندة من بين الوجوه العشرة.

وهكذا تبقى هي الرواية الوحيدة التي تحظى بكل نقاط القوة، ودواعي القبول، والتي أبرزها:

- 1 إسنادها: فهي الرواية المسندة، المتصلة الإسناد، في عدة طرق تنتهي إلى عدد كبير من الصحابة.

2 - صحة الإسناد: فرجالها ثقات، ورواياتهم معتمدة لدى سائر المسلمين.

3 - اتحادها الزماني والمكاني مع الآية.

4 - مطابقتها تماما لنص الآية الكريمة ودلالاتها.


الصفحة 144
5 - سلامتها تماما من كل ما وقعت فيه الروايات الأخرى من الاضطرابات والتناقضات.

هذا، وقد روي نزولها في أمر ولاية علي عليه السلام غير من ذكرنا كثير (1)، والحمد لله رب العالمين.

الآية الثانية:

قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (2).

قال الطبري:

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: يعني جل ثناؤه بقوله:

(اليوم أكملت لكم دينكم): اليوم أكملت - أيها المؤمنون - فرائضي عليكم، وحدودي، وأمري إياكم، ونهيي، وحلالي وحرامي، وتنزيلي من ذلك ما أنزلت منه في كتابي، وتبياني ما بينت لكم منه بوحيي على لسان رسولي، والأدلة التي نصبتها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم، فأتممت لكم جميع ذلك، فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم.

قالوا: وكان ذلك في يوم عرفة، عام حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع.

وقالوا: لم ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد هذه الآية شئ

____________

(1) أنظر: الملل والنحل للشهرستاني 1: 145، وهامش الفصل في الملل والنحل لابن حزم 1: 220، الترجمة عن ابن عساكر 2: 86 / 589، فرائد السمطين 1: 158، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: 42، والنور المشتعل: 86، ينابيع المودة: 120 و 249، هذا ما وقفنا عليه بأنفسنا، وقد ذكر لها مصادر أخرى لم يتيسر لنا الوقوف عليها.

(2) المائدة: 3.

الصفحة 145
من الفرائض، ولا تحليل شئ ولا تحريمه، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة (1).

انتهى الرأي الأول.

الظاهر في هذا الرأي أن أصحابه قد تبنوا أمرين:

الأمر الأول: أن الآية نزلت يوم عرفة من حجة الوداع. وقد أنشأوا هذا اعتمادا على ما جاء في الرواية عن عمر بن الخطاب، وقد جاءه يهودي، فقال له: لو نزلت هذه الآية فينا لجعلناها عيدا.

فقال: إني لأعلم أين نزلت، ومتى نزلت، نزلت يوم عرفة، والنبي يخطب، وهو يوم عيد.

والرواية الأخرى عن معاوية بن أبي سفيان، وقد كان يخطب على منبره، فنزع بهذا الآية: (اليوم أكملت لكم دينكم) وقال: إنها نزلت يوم عرفة، في حجة الوداع، والنبي يخطب.

وقد ذكر ابن كثير، وآخرون روايات أخرى نسبت إلى علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وسمرة بن جندب.

ولكن لا يصح الاحتجاج بشئ من هذه الروايات، لضعف إسنادها:

فأما رواية سمرة، فقد ردها ابن أبي بكر الهيثمي (2)، فقال: فيها عمر بن موسى بن وجيه، وهو ضعيف.

وأما المنسوبة إلى عبد الله بن عباس ففيها عمار مولى بني هاشم، وقد تكلم فيه البخاري، فبعد أن ذكر له حديثا عن ابن عباس، قال: لا يتابع عليه.

وقال فيه ابن حبان: كان يخطئ.

____________

(1) تفسير الطبري 6: 51.

(2) مجمع الزوائد 7: 13 - 14.

الصفحة 146
وكان شعبة يتكلم فيه (1).

وأما المنسوبة إلى علي بن أبي طالب عليه السلام ففيها أحمد بن كامل وقد لينه الدار قطني، وقال: كان متساهلا.

وقال حمزة، عن الدار قطني: كان متساهلا، ربما حدث من حفظه بما ليس في كتابه، وقد أهلكه العجب (2).

وأما الروايتان: الأولى والثانية، فلم أكلف نفسي عناء البحث والتحقيق فيهما، فلست أستبعد صدورهما منهما.

فلماذا لا يكون معاوية هو الأعلم بنزول هذه الآية خاصة، دون سواها!

ونظرة واحدة إلى قصة الخلافة تكفينا تماما جهد التحقيق في رواية كهذه.

هذا وقد رد الطبري نفسه كل ما تقدم من روايات بإثباته طرقا أخرى تخالفها، فقال: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه عن ربيع بن أنس، قال: نزلت سورة المائدة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسيرة في حجة الوداع، وهو راكب راحلته، فبركت به راحلته من ثقلها.

وروى مثله - أنها نزلت في المسيرة من حجة الوداع - الهيثمي (3) عن عبد الله بن عمر، وعن أسماء بنت يزيد (4).

ورواه السيوطي عن أسماء بنت عميس (5) أيضا (6).

____________

(1) تهذيب التهذيب 7: 404 / 656.

(2) لسان الميزان 1: 249.

(3) في مجمع الزوائد 7: 13.

(4) هي أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية أم سلمة، ويقال أم عامر، بايعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وشهدت اليرموك، وتسمى: خطيبة الأنصار. تهذيب التهذيب 12: 399 / 2727.

(5) أسماء بنت عميس الخثعمية، أخت ميمونة بنت الحارث لأمها، هاجرت إلى الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب، وقد كان عمر يرجع إليها في تعبير الرؤيا. المصدر والصفحة.

(6) الدر المنثور 3: 19.

الصفحة 147
وهذا كله يخالف الروايات المتقدمة عن عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان، تماما.

وسيأتي في المسند الصحيح ما ينقضه أيضا.

والأمر الثاني: - المستفاد من تلك الروايات التي اعتمدها أصحاب الرأي الأول، مفاده: أنه لم ينزل بعد هذه الآية شئ من الفرائض، ولا تحليل شئ، ولا تحريمه.

وممن أخذ به: الرازي، إذ قال جازما: لم ينزل بعدها شئ من الأحكام ألبتة ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة (1)...

وقد رد هذا القول غير واحد من أهل التفسير، لما ثبت من نزول آيات في الأحكام بعد نزول هذه الآية.

فقال الطبري: عن البراء بن عازب، أن آخر آية نزلت من القرآن:

(ويستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) (2).

وقال أبو حيان الأندلسي (3): قال الجمهور - كمال الدين - هو إظهاره، واستيعاب معظم فرائضه وتحليله، وتحريمه، قالوا: وقد نزل بعد هذه الآية قرآن كثير، كآيات الربا، وآيات الكلالة، وغير ذلك.

فإن قلت: لماذا نعتمد هذه الروايات، ولا نأخذ بقول من قال بعدم نزول شئ من الأحكام والفرائض بعد هذه الآية؟

أجابك الطبري، فقال:

ولا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

____________

(1) تفسير الرازي م 6. ج 11: 139.

(2) النساء: 176.

(3) في تفسير: البحر المحيط 3: 426.

الصفحة 148
إلى أن قبض، بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان تتابعا.

فإذا كان ذلك كذلك، وكان قوله: (ويستفتونك قل الله يفتيكم) آخرها نزولا، وكان ذلك من الأحكام والفرائض، كان معلوما أن معنى قوله:

(اليوم أكملت لكم دينكم) على خلاف الوجه الذي تأوله من تأوله. أعني كمال العبادات، والأحكام، والفرائض.

فإن قيل: فما جعل قول من قال: قد نزل بعد ذلك فرض، أولى من قول من قال: لم ينزل؟

قلنا: لأن الذي قال: لم ينزل مخبر أنه لا يعلم نزول فرض، والنفي لا يكون شهادة، والشهادة قول من قال نزل.

وغير جائز دفع خبر الصادق فيما أمكن أن يكون فيه صادقا. انتهى.

وهكذا تم نقض الرأي الأول، الذي أعرض عنه الكثير من أرباب التفسير، واتخذوا لأنفسهم مذاهب أخرى.

قال الطبري: وقال آخرون: معنى ذلك: اليوم أكملت لكم دينكم:

حجكم، فأفردتكم بالبلد الحرام تحجونه أنتم أيها المؤمنون دون المشركين، لا يخالطكم في حجكم مشرك.

وهكذا قبل هؤلاء أن يفسروا الدين بالحج، ولم يقبلوا بالرأي الأول.

ويبقى الرأي الأخير، الذي تعاضدت فيه الروايات الصحيحة الأسانيد، التي تصرح بنزول هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد المسير من حجة الوداع، وفي أثناء خطبة الغدير. وقد ثبت هذا من عدة طرق، رجالها ثقات، عن عدد كبير من الصحابة، منهم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وأبو سعيد الخدري، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، والمقداد بن الأسود، وأبو هريرة.


الصفحة 149
وفيها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم دعا الناس إلى غدير خم، وذلك يوم الخميس، ثم دعا الناس إلى علي بن أبي طالب، فأخذ بضبعه، فرفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطيه. ثم لم يتفرقا حتى نزلت هذه الآية:

(اليوم أكملت لكم دينكم) (1).

ولا يفوتنا أن نذكر ما أورده بعضهم على بعض هذه الروايات، ومجموع ذلك أمران:

الأول: حول إحدى الروايات عن أبي سعيد الخدري، فقالوا: فيها أبو هارون العبدي، وباقي رجالها ثقات.

والثاني: في إحدى الروايتين عن أبي هريرة، قالوا: فيها حبشون الخلال، وهو ضعيف.

وجواب ذلك:

1 - إن أبا هارون العبدي، التابعي الذي حدث عن أبي سعيد الخدري وابن عمر، لم يكن فيه من العيب لديهم سوى أنه حدث في فضائل علي عليه السلام، فوصفه بعضهم بالتشيع، ولهذا رد أحاديثه (2).

2 - إن حبشون ذكره سبط ابن الجوزي، فقال: حدث عنه الأزهري

____________

(1) أنظر ترجمة الإمام علي لابن عساكر 2: 75 / 577 - 580، تاريخ بغداد 8: 290، تاريخ اليعقوبي 2: 43، شواهد التنزيل - الحديث 210 - 215، المناقب لابن المغازلي: 19، وابن الجوزي: 29، والخوارزمي: 80، والنور المشتعل: 56، وفرائد السمطين 1: 315، مقتل الإمام الحسين للخوارزمي:

47، ينابيع المودة: 115، والسيوطي في الدر المنثور 3: 19، والإتقان 1: 75 في باب معرفة الحضري والسفري، أما حكمه في التصحيح والتضعيف فقد تقدم تحقيقنا فيه.

(2) أنظر ترجمته في تهذيب التهذيب 7: 412 / 670، فقد قال بعد أن استعرض أقوالهم المتشددة فيه، قال: وكان فيه تشيع، وأهل البصرة يفرطون فيمن تشيع بين أظهرهم لأنهم عثمانيون.

الصفحة 150
ولم يضعفه (1). وقد مر أن الذهبي ذكره، فقال صدوق (2) - كما وثقه الخطيب عند ترجمته له في تاريخ بغداد، ولم يذكر خلافا فيه.

3 - لو صدق قولهم فيه، فإن الرواية عن أبي هريرة قد وردت من طريق آخر، رجاله موثقون وليس فيهم حبشون (3).

10 - الولاية أيضا:

وهذه أيضا ولاية الأمر بكل ما يناسبها من عبارة: الإمامة، والسيادة، والإمرة، والقيادة.. جاءت صريحة متعاضدة في نصوص عديدة صحيحة، يشهد بعضها لبعض ويقويه، ومن ذلك:

أولا: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " علي أمير البررة، قاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله " (4).

فكل من أعددته من الأبرار فعلي أميره.

ثانيا: قال علي عليه السلام: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

" مرحبا بسيد المسلمين، وإمام المتقين " (5) فكل من عد في المتقين فعلي إمامه، وكل من دخل في الإسلام فعلي سيده.

____________

(1) تذكرة الخواص: 30.

(2) راجع ص: 96.

(3) كما في الحديث (210) من كتاب شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني.

(4) المستدرك على الصحيحين 3: 129 وصححه، الصواعق المحرقة: باب 9: 125، الترجمة من تاريخ ابن عساكر 2: 476 / 1004 و 1005 تفسير الرازي 12: 26، فضائل الصحابة 2: 678 / 1158 ، تذكرة الخواص: 15، الجامع الصغير للسيوطي 2: 177 / 5591، المناقب للخوارزمي: 111، فرائد السمطين 1: 157 / 119، كنز العمال 11 / 32909، ومنتخب الكنز 5: 30.

(5) تاريخ بن عساكر 2: 440 / 956، ابن أبي الحديد 9: 170، حلية الأولياء 1: 66، فرائد السمطين 1: 141 / 104، كنز العمال 11 / 33009 و 13 / 36527 والمنتخب منه 5: 55.

الصفحة 151
ثالثا: قال أنس بن مالك: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

" يا أنس أول من يدخل عليك من هذا الباب أمير المؤمنين، وقائد الغر المحجلين وخاتم الوصيين ".

قال أنس قلت: اللهم اجعله رجلا من الأنصار، وكتمته، إذ جاء علي فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من هذا، يا أنس؟ ".

فقلت: علي فقام مستبشرا، فاعتنقه، ثم جعل يمسح عرق وجهه بوجهه.

فقال علي عليه السلام: يا رسول الله لقد رأيتك صنعت شيئا ما صنعت بي من قبل؟

قال صلى الله عليه وآله وسلم: " وما يمنعني وأنت تؤدي عني، وتسمعهم صوتي، وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي؟ " (1).

رابعا: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " أوحي إلي في علي ثلاث: أنه سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين " (2).

أفوق هذه الفصاحة فصاحة؟

أم بعد هذا البيان بيان؟

أفلا يكفينا كلام الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بصريح العبارة - مرة بعد أخرى - لمعرفة طريق الهدى؟!

بأي شئ إذن سنهتدي؟

____________

(1) ابن أبي الحديد 9: 169، حلية الأولياء 1: 63، فرائد السمطين 1: 145 / 109.

(2) المستدرك 3: 138 وصححه، أسد الغابة 3: 116، الترجمة عن تاريخ دمشق 2: 257 / 779 - 782، مجمع الزوائد 9: 121، ذخائر العقبى: 70، فرائد السمطين 1: 143 / 107، المناقب للخوارزمي: 42 و 210 و 235، المناقب لابن المغازلي: 65 / 93 و 104 / 146 و 147، الرياض النضرة 3: 138.

الصفحة 152
فمتى صح لأحد أن ينصب نفسه سيدا على من عينه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيدا للمسلمين أجمعين؟

وكيف يجعل نفسه إماما على من اختاره الله ورسوله إماما للمتقين؟

أم كيف يضع نفسه قائدا على من اصطفاه الله ورسوله قائدا للغر المحجلين؟

أم متى كان للأمة بأجمعها أن تفعل شيئا من ذاك، فتقدم أحدها على رجل قدمته السماء؟!

أم إلى أين سيفر أصحاب التأويل وهم كلما ركبوا مسلكا طلع عليهم نص شريف - من قرآن أو سنة - فصدمهم في جباههم، فأعادهم على أعقابهم، وليس معهم حتى خفي حنين!

ثم لماذا هذا الفرار من النص الشريف، أليس اتباع النص الصحيح هو الدين؟

ثم لماذا كل هذا التشنج من مناقب علي بن أبي طالب، أليس هو (المدخل) إلى الإسلام كله؟

ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب؟ " (1). ألم يقل: " أنا دار الحكمة وعلي بابها " (2).

____________

(1) المستدرك 3: 126 و 127 وصححه، جامع الأصول 9: 473 / 6489 أسد الغابة 4: 22، البداية والنهاية 7: 372، ابن عساكر في الترجمة 2: 464 / 991 - 1002، تاريخ بغداد 11: 49 و 50 وأثبت صحته، الجامع الصغير للسيوطي 1: 415 / 2705، شواهد التنزيل 1: 334 / 459، تاريخ الخلفاء: 135، كنز العمال 11 / 32890 و 32979 و 13 / 36463، الصواعق المحرقة:

باب 9: 122، الرياض النضرة 3: 159، وجميع أصحاب المناقب.

ولقد ألف الحافظ أحمد بن محمد المغربي كتابا في هذا الحديث تتبع فيه أسانيده، وأثبت صحته، في بحث نادر في بابه وأسماه (فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي) وقد طبع هذا الكتاب بمصر.

(2) سنن الترمذي 5: 637 / 3723، مصابيح السنة 4: 174 / 4772، الجامع الصغير 1: 415 /

=>


الصفحة 153
أسئلة تنتظر الجواب...

11 - النجاة...

وأبو ذر الغفاري - الذي ما طلعت الشمس على رجل أصدق منه لهجة - آخذ بباب الكعبة، ينادي أيها الناس، من عرفني فأنا من عرفتم، ومن أنكرني فأنا أبو ذر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق " (1).

وقال ابن حجر (2): جاء من طرق عديدة، يقوي بعضها بعضا: " إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا ".

قال: وفي رواية مسلم: " ومن تخلف عنها غرق ".

وفي رواية: " هلك، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل، من دخله غفر له ".

وفي رواية غفر له الذنوب ".

قال: ووجه تشبيههم بالسفينة: أن من أحبهم، وعظمهم شكرا لنعمة مشرفهم صلى الله عليه وآله وسلم، وأخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات.

____________

<=

2704، ابن عساكر 2: 459 / 990، البداية والنهاية 7: 372، الصواعق المحرقة: باب 9:

122، حلية الأولياء 1: 64، الرياض النضرة 3: 159، وأصحاب المناقب.

(1) المستدرك 2: 343 وصححه على شرط مسلم، 3: 151، الخصائص الكبرى 2: 466، الجامع الصغير 2: 533، عيون الأخبار لابن قتيبة 1: 211، والمعارف: 146، روح المعاني 25: 32، تفسير ابن كثير 4: 123، تاريخ بغداد 12: 91، حلية الأولياء 4: 306، الصواعق المحرقة:

236، مجمع الزوائد 9: 168، ابن الأثير في النهاية 2: 298 وفيه " ومن تخلف عنها زخ في النار "، ابن أبي الحديد 1: 218، المقتل للخوارزمي 1: 104، ذخائر العقبى: 20، فرائد السمطين 2:

246 / 519، ابن المغازلي في المناقب: 132، كفاية الطالب: 378، وغيرها.

(2) في الصواعق المحرقة: باب 11 فصل 1. الآية السابعة: 152.

الصفحة 154
ومن تخلف عن ذلك، غرق في بحر كفر النعم، وهلك في مفاوز الطغيان.

ومر في خبر: أن من حفظ حرمة الإسلام، وحرمته صلى الله عليه وآله وسلم، وحرمة رحمه، حفظ الله دينه ودنياه، ومن لا، لم يحفظ الله دنياه ولا آخرته.

وورد: " يرد الحوض أهل بيتي ومن أحبهم من أمتي كهاتين السبابتين ".

ويشهد له خبر " المرء مع من أحب ".

وبباب حطة - أي وجه التشبيه به - أن الله تعالى جعل دخول ذلك الباب - الذي هو باب أريحاء أو بيت المقدس - مع التواضع والاستغفار سببا للمغفرة.

وجعل لهذه الأمة مودة أهل البيت سببا لها.

وقال تعالى: (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى).

وقال ثابت البناني: اهتدى إلى ولاية أهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم انتهى (1).

وإنما أراد سيد الفصحاء صلى الله عليه وآله وسلم من هذا التشبيه أن يرسم صورة حية عن حقيقة الدنيا، ورحلة الإنسان فيها إلى الآخرة، فمثل لها بذلك الطوفان المخيف الذي ثبتت له في أذهان المسلمين صورة مرعبة، وهم يقرأونه في القرآن الكريم مشهدا حيا.

ذلك الطوفان الذي أتى على كل شئ، فلم ينج منه إلا تلك السفينة ومن فيها: (وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم * وهي تجري بهم في موج كالجبال) (2).

وذلك هو مثل أهل البيت في خضم الأحداث، وازدحام الفتن، واختلاف

____________

(1) المصدر: 153.

(2) هود: 41 - 42.

الصفحة 155
الناس، واضطراب الأهواء في بحور متلاطمة، من تنافس الأفكار، والمسالك، والأهواء والعقائد، بحور لن تبقي على شئ، وسيبتلع كل شئ موجها، بل قل شررها! حتى لم ينج منها إلا تلك السفينة - سفينة أهل بيت المصطفى، سفينة نجاة هذه الأمة - ومن تعلق بها.

وذاك هو الذي يرجع إليهم عليهم السلام في أمور دينه، يأخذ عنهم الأصول، والفروع، والعقائد، وينهل من عذب كوثرهم المحمدي معالم الآداب والقيم، يحبهم، وينصرهم، ويواليهم، فهذا هو الذي أمن إذا فزع الناس، ونجا إذا هلكوا..

بينما كان مثل الذي لجأ إلى غيرهم في أمر دينه وعقيدته، كمثل الذي قال: (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) (1).

أليست هذه هي الصورة التي يرسمها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

أنظر إلى ما يزيدها بيانا في الحديث الآخر.

12 - الأمان..

قال صلى الله عليه وآله وسلم: " النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا، فصاروا حزب إبليس " (2).

____________

(1) هود: 43.

(2) المستدرك 3: 149 وصححه، الخصائص الكبرى 2: 466، فضائل الصحابة 2: 671 / 1145، الصواعق المحرقة: 152 - 153، 236، ذخائر العقبى: 17، فرائد السمطين 1: 45 / 11 و 252 / 521 - 522، كنز العمال 12 ح / 34155 و 34188 والمنتخب منه بهامش مسند أحمد 5: 92، الجامع الصغير 2: 680 / 9313.

الصفحة 156
قال ابن حجر: قال بعضهم: يحتمل أن المراد بأهل البيت - الذين هم أمان - علماؤهم، لأنهم الذين يهتدي بهم كالنجوم والذين إذا فقدوا جاء أهل الأرض من الآيات ما يوعدون (1)...

ومهما قالوا، فإن حبيب الله قد قال: " فإذا خالفتهم قبيلة من العرب، اختلفوا، فصاروا حزب إبليس "!

أليس في شئ من هذا دليل على ولايتهم عليهم السلام!!

ثم انظر إلى ذلك التاريخ الطويل بصحبة هذا النص الشريف، لترى:

من من أئمة أهل البيت قد اقتدوا به، واتبعوه؟

بل أي منهم الذي لم يخالفوه؟

بل من الذي لم يؤذوه؟

(ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين).

* * *

____________

(1) الصواعق المحرقة: 152.

الصفحة 157

أصحاب الحق يتكلمون...
مقاطع من نهج البلاغة...

نهج البلاغة:

هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضي (1) رحمه الله من كلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، جمع متفرقه، وسماه بهذا الاسم.

وهو كتاب لم يترك غرضا من أغراض الكلام إلا أصابه، ولم يدع للفكر ممرا إلا جابه. فقد تعرض للمدح، وللعذل الأدبي، وللترغيب في الفضائل، وللتنفير من الرذائل، وللمحاورات السياسية، والمخاصمات الجدلية، ولبيان

____________

(1) هو الشريف أبو الحسن محمد بن الطاهر أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وأمه فاطمة بنت الحسين بن الحسن الناصر صاحب الديلم بن علي بن الحسن ابن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، وكانت ولادته سنة 359 هـ‍ واشتغل بالعلم ففاق في الفقه والفرائض، وبذ أهل زمانه في العلم والأدب. له نظم في الذروة حتى قيل: هو أشعر الطالبيين، تولى نقابة نقباء الطالبيين بعد أبيه سنة 388 هـ‍ وضم إليه النظر في المظالم والحج بالناس، وله كتاب (معاني القرآن) ممتع يدل على سعة علمه، توفي سنة 406.

أنظر: تاريخ بغداد 2: 246، وسير أعلام النبلاء 17: 285.

الصفحة 158
حقوق الراعي على الرعية، وحقوق الرعية على الراعي..

وأتى على الكلام في أصول المدنية، وقواعد العدالة، وفي النصائح الشخصية، والمواعظ العمومية...

وعلى الجملة، فلا يطلب طالب طلبة إلا ويرى فيه أفضلها، ولا تخالج فكرة رغبة إلا وجد فيه أكملها (1).

وقد تناوله أكثر من خمسين عالما من مشاهير عصورهم (2)، تحقيقا وتفسيرا، فما ازدادوا به إلا إعجابا وإجلالا، ولا أخفوا تصاغرهم عنده، لما يجدون من عجيب الكلام، وبديع النسق والانتظام، ولا ارتاب أحدهم في نسبة شئ منه إلى أمير المؤمنين عليه السلام. ولو كان، لأشار إليه بعضهم، وخاصة ممن لا ينسب إلى الإعتقاد بتفضيل الإمام علي عليه السلام على سائر الصحابة، وهم كثير.

نعم، أشار الدكتور صبحي الصالح إلى ارتياب بعض النقاد عند النصوص التي وردت في وصف بعض المخلوقات خاصة، ثم أشار إلى بطلان هذا بما توصل إليه بعد التحقيق، فقال، وقد اشتمل كلامه على أوصاف عجيبة لبعض المخلوقات حملت روعتها ودقة تصويرها بعض النقاد على الارتياب في عزوها إلى أمير المؤمنين كما في تصويره البارع للنملة، والجرادة، ولا سيما الطاوس، ولا بد من تحقيق هذا الأمر في غير هذه المقدمة العجلي، وهو ما نسأل الله التوفيق لبيانه في كتاب مستقل، اكتملت بين أيدينا معالمه، وسنصدره قريبا بعون الله (3).

____________

(1) الكلام في التعريف إلى هنا من مقدمة الشيخ محمد عبدة في شرحه لنهج البلاغة.

(2) نهج البلاغة بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم: 8 عن كتاب ما هو نهج البلاغة: 8 - 10، وعنه أيضا الدكتور صبحي الصالح في كتابه شرح نهج البلاغة: 18.

(3) في كتابه: شرح نهج البلاغة: 12.