الصفحة 211
قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) (1):

وأن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم - قاتل علي عليه السلام - وهي قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) (2) فلم يقبل، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل، فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل، فبذل له أربعمائة ألف فقبل، وروى ذلك (3).

8 - وفي ترجمة الإمام علي لابن عساكر أثبت عددا من الأحاديث الموضوعة التي اختلقوها في قبال حديث الولاية وأدلة الخلافة منها:

الحديث 1138: أنه في مرض رسول الله الذي توفي فيه، قال العباس لعلي عليه السلام: اذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسأله:

فيمن هذا الأمر؟ فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا كلمناه فأوصى بنا.

فقال علي: " إنا والله لئن سألناه فمنعناها، لا يعطيناها الناس بعد أبدا " وذكر عدة أحاديث مثله في الباب (4).

ثانيا: المناقب المصنوعة...

تقدم الكلام في كتاب معاوية إلى عماله: ولا تتركوا خبرا يرويه أحد في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة.

وقول نفطويه: إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة

____________

(1) البقرة: 204، 205.

(2) البقرة: 207.

(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 63 - 73 باختصار.

(4) ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق 3: 98.

الصفحة 212
اختلقت في أيام بني أمية.

وقول أحمد بن حنبل: فجاءوا إلى رجل قد حاربه وقاتله، فأطروه كيدا منهم له.

حتى صار الرجل الذي يذكر بالخير - كما قال الإمام الباقر عليه السلام - يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئا منها ولا كانت وقعت، وهو يحسب أنها حق لكثرة من رواها.

وقد ذكر ابن أبي الحديد جملة من هذه الأحاديث، منها:

1 - حديث: " لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر " قال: فإنهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء.

2 - وحديث سد الأبواب، فإنه كان لعلي عليه السلام فقلبه البكرية إلى أبي بكر.

3 - ونحو: " ائتوني بدواة وبياض أكتب فيه لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه اثنان " ثم قال: " يأبى الله تعالى والمسلمون إلا أبا بكر ".

فإنهم وضعوه في مقابلة الحديث المروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه: " ائتوني بدواة وبياض أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا " فاختلفوا عنده، وقال قوم منهم: لقد غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله!.

4 - ونحو حديث: " أنا راض عنك فهل أنت عني راض " ونحو ذلك (1).

هذا ما ذكره هنا شاهدا على قوله، وأما المتتبع فيجد العشرات من هذه (المناقب!) إذ لم يتركوا منقبة لعلي عليه السلام إلا صنعوا أمثالها وزادوا على ذلك كثيرا كما أمر معاوية بن أبي سفيان!

وقد شهد بذلك كثير من علماء الحديث وذكروا طرفا من تلك الأحاديث

____________

(1) شرح نهج البلاغة 11: 49.

الصفحة 213
كما فعل السيوطي في (اللآلئ المصنوعة) والشوكاني في (الفوائد المجموعة) وانتخبنا من ذلك ما يفي بغرض الاستشهاد، فمنها:

1 - حديث: إن الله جعل أبا بكر خليفتي على دين الله ووحيه، فاسمعوا له تفلحوا، وأطيعوه ترشدوا.

قال الشوكاني: رواه الخطيب عن ابن عباس مرفوعا، وهو موضوع.

2 - حديث: لما عرج بي إلى السماء، قلت: اللهم اجعل الخليفة بعدي علي بن أبي طالب.

فارتجت السماء، وهتف بي الملائكة من كل جانب: يا محمد، اقرأ:

(وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) قد شاء الله أن يكون من بعدك أبو بكر الصديق.

قال: رواه الجوزقي عن أبي سعيد مرفوعا، وهو موضوع.

3 - حديث: لو لم أبعث فيكم لبعث عمر.

قال: في إسناده وضاع.

4 - حديث: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم متكئا على علي رضي الله عنه، وإذا أبو بكر وعمر أقبلا، فقال: يا أبا الحسن، أحبهما، فبحبهما تدخل الجنة.

قال: روي عن أبي هريرة، ولا يصح.

5 - حديث: أنه آخي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أبي بكر وعمر فقال لهما: أنتما وزيراي في الدنيا والآخرة.

قال: رواه ابن حبان عن أنس مرفوعا، وهو موضوع.

6 - حديث: إن لكل نبي خليلا من أمته، وإن خليلي عثمان.

قال: هو من أباطيل الملطي.

7 - حديث: خذوا شطر دينكم عن الحميراء.


الصفحة 214
قال: قال ابن حجر: لا أعرف له إسنادا، ولا رأيته في شئ من كتب الحديث، إلا في نهاية ابن الأثير، وإلا في الفردوس بغير إسناد: خذوا ثلث دينكم من عائشة. وسئل المزي والذهبي فلم يعرفاه.

8 - حديث: أنه صلى الله عليه وآله وسلم أخذ القلم من يد علي فدفعه إلى معاوية.

قال: هو موضوع.

9 - حديث: الأمناء عند الله ثلاثة: أنا، وجبريل، ومعاوية.

قال: قال النسائي، وابن حبان، والخطيب: إنه باطل.

10 - ما في الجنة شجرة إلا مكتوب على كل ورقة منها: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان ذو النورين.

قال: قال ابن حبان: موضوع، وكذا قال الذهبي (1).

ومن طريف ما يذكر في هذا الباب ما رواه معمر (2) عن الزهري، قال:

سألت الزهري: من كان كاتب الكتاب يوم الحديبية؟

فضحك، وقال: هو علي، ولو سألت هؤلاء قالوا: عثمان، يعني بني أمية (3).

ومثل هذا يقال في حديث (أول من أسلم) فبعد أن نقل إجماع أكثرهم أن علي بن أبي طالب عليه السلام هو أول الناس إسلاما (4) ظهر كلام آخر

____________

(1) أنظر كتاب: الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة: 330 - 420.

(2) هو معمر بن راشد الأزدي، وقد عد فيمن دار الإسناد عليهم، حدث عن قتادة والزهري وغيرهم، وقيل فيه: لم يبق في أهل زمانه أعلم منه، وقد تمسكوا بحديثه عن الزهري وابن طاوس، توفي سنة 152 هـ‍.

تهذيب التهذيب 10: 243 / 439.

(3) أخرجه أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة 2: 591 / 1002، والمحب الطبري في الرياض النضرة 3: 156.

(4) أسد الغابة 4: 16 - 17، تاريخ الخلفاء: 132، الإصابة 4: 269، الطبقات الكبرى 3:

=>


الصفحة 215
ليشرك معه غيره في هذه المنزلة! فلجأوا إلى التصنيف، فقالوا: أول من أسلم من الغلمان علي، ومن الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد!

ولكن هل سيقدم هذا الكلام من تأخر، أم سيؤخر من تقدم؟

ومما ورد في الصحاح في إسلام علي عليه السلام:

1 - حديث أبي ذر الغفاري، وأنس بن مالك: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الاثنين، وأسلم علي يوم الثلاثاء (1).

2 - قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " ولقد صلت الملائكة علي وعلى علي لأنا كنا نصلي وليس معنا أحد يصلي غيرنا " (2).

3 - حديث علي عليه السلام: " إني عبد الله، وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كاذب، صليت قبل الناس بسبع سنين قبل أن يعبده أحد في هذه الأمة " (3).

4 - قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " أول هذه الأمة ورودا على نبيها

____________

<=

21، البدء والتاريخ 4: 145، كتاب الأوائل: 91 - 93، الإستيعاب 3: 27 - 28، السيرة النبوية للذهبي: 70، السيرة الحلبية 1: 435، فضائل الصحابة 2: ح / 997، 1003، 1004، سيرة ابن إسحاق: 137، الرياض النضرة 3: 109 - 115، الصواعق المحرقة - الباب 9 -: 120.

(1) سنن الترمذي 5: 640 / 3728، المستدرك 3: 112، أسد الغابة 4: 17، الإستيعاب 3 : 32، البدء والتاريخ 4: 145، الأوائل: 91، جامع الأصول 9: 467 / 6472، الرياض النضرة 3: 111، الصواعق المحرقة: 120، مجمع الزوائد 9: 102، 103.

(2) أسد الغابة 4: 18، الرياض النضرة 3: 121، ذخائر العقبى: 64، ترجمة الإمام علي من تاريخ ابن عساكر 1: 80 / 112، 113، وسائر أصحاب المناقب.

(3) سنن ابن ماجة 1: 44 / 120 - وتعقبه المحقق بقول ابن حجر: إسناد صحيح رجاله ثقات -، المستدرك 3: 112، الخصائص للنسائي: 3، الرياض النضرة 3: 124، ابن أبي الحديد 13: 200.

الصفحة 216
أولها إسلاما علي بن أبي طالب " (1) وكثير غيرها تدل كلها دلالة لا شك فيها أن عليا عليه السلام هو أول الناس إسلاما وأولهم تصديقا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا منازع.

____________

(1) المستدرك 3: 136 وذيله، الإستيعاب 3: 27 - 28، بثلاث طرق، أسد الغابة 4: 18، تاريخ بغداد 2: 81، الترجمة من تاريخ ابن عساكر 1: 82 / 118، الرياض النضرة 3: 110، ذخائر العقبى: 58، مجمع الزوائد 9: 102 وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات، منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد 5: 33، وأصحاب المناقب.

الصفحة 217

على تلك الخطى

وعلى تلك الخطى سار جماعة من أصحاب الحديث وأئمة الجرح والتعديل فأحاطوا بمناقب أهل البيت، وطعنوا رواتها وإن كانوا من أوثق الناس، وأكثرهم صلاحا وحفظا وإتقانا، في حين اعتمدوا رجالا من المنحرفين والمطعونين في خلاف ذلك. وإليك هذه النبذة الموجزة:

أولا.. مع حديث الطير:

قال سبط ابن الجوزي (1) - وقد روى حديث الترمذي من طريق السدي عن أنس بن مالك، فقال -: قال الترمذي: والسدي اسمه إسماعيل بن عبد الرحمن، سمع من إنس بن مالك، وروى عن الحسن بن علي، ووثقه سفيان الثوري، وشعبة، ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم.

قال: قلت: إنما ذكر الترمذي هذا في تعديل السدي لأن جماعة تعصبوا

____________

(1) هو شمس الدين أبو المظفر يوسف بن قزاغلي - تركية بمعنى: الجوزي - بن عبد الله التركي البغدادي الحنفي، سبط الإمام أبي الفرج بن الجوزي - وقد انتهت إليه رئاسة الوعظ وحسن التذكير ومعرفة التاريخ، توفي في سنة 654 هـ‍.

سير أعلام النبلاء 23: 296 / 203.

الصفحة 218
عليه ليبطلوا هذا الحديث، فعدله الترمذي.

قال: وقال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري: حديث الطائر صحيح يلزم البخاري ومسلم إخراجه في صحيحيهما لأن رجاله ثقات، وهو من شرطهما.

ثم قال: فإن قيل: لم لم يخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (1)؟

فالجواب: إنما لم يخرجه لأن محمد بن طاهر المقدسي، والدارقطني تعصبا عليه، وأخرجا لحديث الطائر طرقا ضعيفة، فإنه لما صنف المستدرك بلغ الدارقطني، فقال: لعله يستدرك عليهما حديث الطير، فتركه، ثم رموا الحاكم بالتشيع لأجل هذا (2).

ثانيا.. مع حديث مدينة العلم:

أخرج الحاكم هذا الحديث من طريق أبي الصلت الهروي - عبد السلام ابن صالح - وقال: هذا حديث صحيح، وأبو الصلت ثقة مأمون فإني سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب في التاريخ يقول: سمعت العباس بن محمد الدوري يقول: سألت يحيى بن معين عن أبي الصلت الهروي.

فقال: ثقة.

فقلت: أليس قد حدث عن أبي معاوية، عن الأعمش " أنا مدينة العلم "؟

فقال: قد حدث به محمد بن جعفر الفيدي وهو ثقة مأمون (3).

____________

(1) أخرج الحاكم حديث الطير في المستدرك من طريق يحيى بن سعيد عن أنس، وقال: رواه عن أنس جماعة من أصحابه زيادة على ثلاثين نفسا، ثم صحت الرواية عن علي، وأبي سعيد الخدري، وسفينة وأخرجه أيضا من طريق ثابت البناني عن أنس، إلا أنه لم يخرجه من طريق السدي.

أنظر المستدرك 3: 130 - 131.

(2) تذكره الخواص: 39.

(3) المستدرك 3: 126.

الصفحة 219
ثم تعقبه الذهبي فقال: قال: الحديث صحيح. قلت: بل موضوع.

وقال: وأبو الصلت ثقة مأمون قلت: لا والله لا ثقة ولا مأمون (1)!.

وزاد الخطيب في تاريخه: قرأت على الحسن بن أبي القاسم، عن أبي سعيد أحمد بن محمد بن رميح النسوي، قال: سمعت أحمد بن محمد بن عمر بن بسطام يقول: سمعت أحمد بن سيار بن أيوب يقول: أبو الصلت عبد السلام ابن صالح الهروي: ذكر لنا أنه من موالي عبد الرحمن بن سمرة، وقد لقي وجالس الناس، ورحل في الحديث، وكان صاحب قشافة، وهو من آحاد المعدودين في الزهد، وكان يعرف بكلام الشيعة، وناظرته في ذلك لأستخرج ما عنده فلم أره يفرق، إلا أن ثم أحاديث يرويها في المثالب، وسألت إسحاق بن إبراهيم عن تلك الأحاديث وهي أحاديث مروية، نحو ما جاء في أبي موسى، وما روي في معاوية، فقال: هذه أحاديث قد رويت.

وقال: سئل يحيى بن معين عن أبي الصلت الهروي فقال: ثقة صدوق، إلا أنه يتشيع.

وعن عبد الله بن الجنيد قال: سمعت يحيى - وذكر أبو الصلت الهروي - قال: لم يكن أبو الصلت عندنا من أهل الكذب.

قال: وأما حديث الأعمش فإن أبا الصلت كان يرويه عن أبي معاوية عنه، فأنكره أحمد بن حنبل ويحيى بن معين من حديث أبي معاوية، ثم بحث يحيى عنه، فوجد غير أبي الصلت قد رواه عن أبي معاوية.

أخبر محمد بن أحمد بن رزق، أخبرنا أبو بكر مكرم بن أحمد بن مكرم القاضي، حدثنا القاسم بن عبد الرحمن الأنباري، حدثنا أبو الصلت الهروي، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: قال

____________

(1) هامش المستدرك: الجزء والصفحة.

الصفحة 220
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب ".

قال القاسم: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث. فقال: هو صحيح.

وقال محمد بن يعقوب الأصم: سمعت العباس بن محمد الدوري يقول:

سمعت يحيى بن معين يوثق أبا الصلت عبد السلام بن صالح، فقلت: إنه حدث عن أبي معاوية عن الأعمش: " أنا مدينة العلم وعلي بابها "!؟.

فقال: ما تريدون من هذا المسكين، أليس قد حدث به محمد بن جعفر الفيدي عن أبي معاوية (1)؟

ثالثا.. محنة الأعمش:

وكان يحدث بفضائل علي عليه السلام ولا يكتمها إلا قليلا، فلاقى ما لاقى، وها هو يحدث عن نفسه في قصة وقعت له يرويها الخوارزمي، وابن المغازلي قالا:

حدث المدائني، وأبو معاوية، وسليمان بن سالم: حدثنا الأعمش، قال:

وجه إلي المنصور، فقلت للرسول: لم يريدني أمير المؤمنين؟

قال: لا أعلم.

فقلت: أبلغه أني آتيه. ثم تفكرت في نفسي، فقلت: ما دعاني في هذا الوقت لخير، ولكن عسى أن يسألني عن فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فإن أخبرته قتلني - قال - فتطهرت، ولبست أكفاني، وتحنطت، ثم كتبت وصيتي، ثم صرت إليه، فوجدت عنده عمرو بن عبيد (2) فحمدت الله

____________

(1) تاريخ بغداد 11: 46 - 50.

(2) أبو عثمان عمرو بن عبيد بن باب، شيخ المعتزلة، جده من سبي كابل من جبال السند، وكان أبوه يخلف أصحاب الشرط بالبصرة، فكان الناس إذا رأوا عمرا مع أبيه، قالوا: هذا خير الناس ابن شر

=>


الصفحة 221
تعالى، وقلت: وجدت عنده عون صدق من أهل النصرة.

فقال لي: ادن يا سليمان. فدنوت، فقال: يا سليمان، ما هذه الرائحة؟

والله لتصدقني وإلا قتلتك... فأخبره بأمره، فاستوى جالسا، ثم قال:

أخبرني - بالله وبقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - كم رويت في علي من فضيلة من جميع الفقهاء، وكم يكون؟

قلت: يسير، يا أمير المؤمنين.

قال: على ذاك.

قلت: عشرة آلاف حديث، وما زاد.

قال: يا سليمان، لأحدثنك في فضائل علي عليه السلام حديثين يأكلان كل حديث رويته عن جميع الفقهاء، فإن حلفت لي ألا ترويهما لأحد من الشيعة حدثتك بهما.

فقلت: لا أحلف، ولا أخبر بهما أحدا منهم - فحدثه بالحديثين في قصة طويلة، في أحدهما: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ألا أدلكم على خير الناس جدا وجدة وأبا وأما "؟.

قالوا: بلى، يا رسول الله.

فقال: " عليكم بالحسن والحسين، فإن جدهما محمد رسول الله، وجدتهما خديجة بنت خويلد سيدة نساء أهل الجنة، وأباهما علي بن أبي طالب، وهو خير منهما، وأمهما فاطمة بنت رسول الله سيدة نساء أهل الجنة ".

وفي الثاني، قوله صلى الله عليه وآله وسلم لبضعته الزهراء: " إن الله

____________

<=

الناس، فيقول أبوه: صدقتم، هذا إبراهيم وأنا آزر. وكان لعمرو مجالس وأخبار مع أبي جعفر المنصور وكان صاحبه وصديقه قبل الخلافة.

كانت ولادته سنة 80 ووفاته سنة 144 هـ‍.

وفيات الأعيان 3: 460.

الصفحة 222
اطلع على أهل الدنيا فاختار من الخلائق أباك، فبعثه نبيا، ثم اطلع ثانية فاختار من الخلائق عليا، فأوحى إلي فزوجتك إياه، واتخذته وصيا ووزيرا ".

ثم قال: يا سليمان، سمعت في فضائل علي أعجب من هذين الحديثين؟

يا سليمان، حب علي إيمان، وبغضه نفاق.

فقلت: يا أمير المؤمنين، الأمان؟

قال: لك الأمان.

قلت: فما تقول - يا أمير المؤمنين - فيمن قتل هؤلاء؟

قال: في النار، لا أشك.

قلت: فما تقول فيمن قتل أولادهم، وأولاد أولادهم؟ - قال - فنكس رأسه، ثم قال: يا سليمان، الملك عقيم، ولكن حدث عن فضائل علي بما شئت.

فقلت: فمن قتل ولده فهو في النار.

فقال عمرو بن عبيد: وأخبرني الشيخ الصدق - يعني الحسن البصري - عن أنس، أن من قتل أولاد علي لا يشم رائحة الجنة.

قال: فوجدت أبا جعفر - المنصور - وقد حمض وجهه، وخرجنا، فقال أبو جعفر: لولا مكان عمرو ما خرج سليمان إلا مقتولا (1).

ودخل على الأعمش جماعة فيهم أبو معاوية، فقالوا له: لا تحدث هذه الأحاديث.

فقال: يسألوني، فما أصنع؟ ربما سهوت، فإذا سألوني عن شئ من هذا فذكروني.

قال أبو معاوية: وكنا يوما عنده، فجاء رجل فسأله عن حديث " قسيم

____________

(1) مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي: 143 - 155 باختصار شديد، ورواه الخوارزمي في الناقب باختلاف يسير في بعض الألفاظ: 200 - 208.

الصفحة 223
النار " فتنحنحت، فقال الأعمش: هؤلاء المرجئة لا يدعوني أحدث بفضائل علي رضي الله عنه، أخرجوهم من المسجد حتى أحدثكم (1).

ولكن الأعمش خضع مرة:

قال محمد بن داود الحداني: سمعت عيسى بن يونس يقول: ما رأيت الأعمش خضع إلا مرة واحدة، فإنه حدثنا بهذا الحديث، قال: قال علي: " أنا قسيم النار " فبلغ ذلك جماعة فجاءوا إليه، فقالوا: تحدث بأحاديث تقوي بها الرافضة والزيدية والشيعة!؟.

فقال: سمعت فحدثت به.

فقالوا: أو كل شئ سمعته تحدث به؟!.

قال: فرأيته خضع ذلك اليوم (2).

فمن هو الأعمش؟

هو سليمان بن مهران أبو محمد الأسدي، مولاهم الكوفي (60 - 148 هـ‍) رأى أنس بن مالك وحدث عنه. قال يحيى بن معين: الأعمش ثقة.

وقال النسائي: ثقة ثبت.

وقال يحيى: هو علامة الإسلام.

وقال عمرو بن علي: كان الأعمش يسمى المصحف، من صدقه.

وقال الموصلي: ليس في المحدثين أثبت من الأعمش.

وقال القاسم بن عبد الرحمن: هذا الشيخ - الأعمش - أعلم الناس بقول عبد الله بن مسعود.

____________

(1) أورده ابن عساكر في تاريخه، انظر ترجمة الإمام علي 2: 245 / 763 - 765.

(2) المصدر 2: 246.

الصفحة 224
وقال أحمد بن حنبل: أبو إسحاق (1)، والأعمش رجلا أهل الكوفة.

وقال علي بن المديني: حفظ العلم على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ستة: فلأهل مكة عمرو بن دينار... ولأهل الكوفة أبو إسحاق السبيعي، وسليمان الأعمش (2)....

فهل سلم الأعمش من الطعن؟ لم يسلم الأعمش، ولم يسلم معه أبو إسحاق السبيعي!

قال الذهبي: فالأعمش مع إمامته إلا أنه يدلس، وربما دلس عن ضعيف وهو لا يدري. ثم نقل كلام ابن المبارك، والمغيرة: إنما أفسد حديث أهل الكوفة أبو إسحاق والأعمش (3).

وقال ابن حجر: قال الجوزجاني: كان قوم من أهل الكوفة لا تحمد مذاهبهم - يعني للتشيع - وهم رؤوس محدثي الكوفة، مثل: أبي إسحاق، والأعمش (4)...

رابعا.. محنة النسائي (5):

قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: كان - الحافظ النسائي - قد صنف

____________

(1) هو عمرو بن عبد الله السبيعي، تابعي روى عن علي عليه السلام والمغيرة وزيد بن أرقم وسليمان بن صرد، والبراء بن عازب - ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان.

تهذيب التهذيب 8. 63 / 100.

(2) تهذيب الكمال 12: 76 / 2570، سير أعلام النبلاء 6: 226 / 110.

(3) ميزان الاعتدال 2: 224 / 3517.

(4) تهذيب التهذيب 8: 66.

(5) هو الحافظ أبو عبد الرحمن أحمد بن علي بن شعيب، صاحب السنن، إمام عصره في الحديث ولد بنسا من خراسان وإليها ينسب، وتوفي سنة 303 هـ‍.

وفيات الأعيان 1: 77، سير أعلام النبلاء 14: 125 / 67.

الصفحة 225
كتاب (الخصائص) في فضل علي بن أبي طالب ر ضي الله عنه وأهل البيت، فقيل له: ألا تصنف كتابا في فضائل الصحابة رضي الله عنهم؟

فقال: دخلت دمشق والمنحرف عن علي عليه السلام كثير، فأردت أن يهديهم الله تعالى بهذا الكتاب.

وسئل - وهو في الشام - عن معاوية، وما روي من فضائله.

فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأسا برأس، حتى يفضل؟

وفي رواية أخرى، قال: ما أعرف له فضيلة إلا: " لا أشبع الله بطنك ".

- قال الراوي - وكان يتشيع، فما زالوا يدفعونه في حضنه - وفي رواية في خصييه - وداسوه، ثم حمل إلى الرملة، فمات فيها (1).

خامسا... في الجرح والتعديل:

لم يسلم النسائي، ولم يسلم الحاكم، ولا أبو إسحاق السبيعي، ولا الأعمش، ولا أبو الصلت الهروي، ولا عشرات من أمثالهم يطول إحصاؤهم لم يسلموا من الطعن! فهل كان هذا الطعن عليهم كله بحق؟

مسألة على درجة من الأهمية يعرف خطورتها كل من له اهتمام بأمر هذا الدين. وقد أحلنا الجواب فيها إلى واحد من أبرز تلامذة الذهبي، ينقله عنه تلميذ آخر له، هو التاج السبكي، ويضيف عليه رأيه:

قال التاج السبكي: إن أهل التاريخ ربما وضعوا من أناس، أو رفعوا أناسا إما لتعصب، أو جهل، أو لمجرد اعتماد على نقل من لا يوثق به.

قال: والجهل في المؤرخين أكثر منه في أهل الجرح والتعديل، وكذلك التعصب، قل أن رأيت تاريخا خاليا منه.

____________

(1) سير أعلام النبلاء 14: 125، وفيات الأعيان 1: 77 والنص عنه بإيجاز.

الصفحة 226
أما تاريخ شيخنا الذهبي: غفر الله له ولا آخذه، فإنه على حسنه وجمعه مشحون بالتعصب المفرط، فلقد أكثر الوقيعة في أهل الدين، أعني الفقراء الذين هم صفوة الخلق، واستطال بلسانه على كثير من أئمة الشافعية والحنفيين، وقال وأفرط على الأشاعرة، ومدح وزاد في المجسمة، هذا وهو الحافظ القدوة، والإمام المبجل، فما ظنك بعوام المؤرخين؟

فالرأي عندنا أن لا يقبل مدح ولا ذم منهم إلا بما اشترطه - يعني والده وقد ذكر شروطا لذلك منها: الصدق، والمعرفة، وعدم غلبة الهوى -.

ثم قال: لا يجوز الاعتماد على الذهبي في ذم أشعري، ولا شكر حنبلي، لما حكي عن العلائي كونه - بعد وصفه له بالتدين والورع قال -: قد غلب عليه مذهب الإثبات والغفلة عن التنزيه، حتى أثر ذلك في طبعه انحرافا شديدا عن أهل التنزيه وميلا قويا إلى أهل الإثبات. فإذا ترجم واحدا منهم يطنب في وصفه بجميع ما قيل فيه من المحاسن، ويبالغ في وصفه، ويتغافل عن غلطاته ويتأول له ما أمكن.

وإذا ذكر أحدا من الطرف الآخر، كإمام الحرمين، والغزالي، ونحوهما، لا يبالغ في وصفه، ويكثر من قوله من طعن فيه، ويعيد ذكره، ويبديه، ويعتقده دينا وهو لا يشعر، ويعرض عن محاسنهم الطافحة فلا يستوعبها، وإذا ظفر لأحد منهم بغلطة ذكرها.

وكذلك فعله في أهل عصرنا، إذا لم يقلد على أحد منهم بتصريح يقول في ترجمته: والله يعلم. ونحو ذلك مما سببه المخالفة في العقائد.

قال التاج: إن الحال في حقه أزيد مما وصف العلائي، وهو شيخنا، ومعلمنا، غير أن الحق أحق أن يتبع، وقد وصل من التعصب المفرط إلى حد

الصفحة 227
يسخر منه، وأنا أخشى عليه يوم القيامة من غالب علماء المسلمين (1).

- وكان الذهبي (673 - 748 هـ‍) قد تتلمذ في الحديث على أبي الحجاج المزي (654 - 742 هـ‍) وفي الفقه على ابن تيمية (661 - 728 هـ‍) وأخذ عنه مذهبه وسار عليه.

- وأبرز من سار على نهج الذهبي تلميذه ابن كثير الدمشقي (701 - 774 هـ‍) صاحب التفسير، والتاريخ المعروف ب‍ (البداية والنهاية).

- وإذا كان هذا حظ الأحناف، والشافعية، والأشعرية عندهم، فكيف سيكون حظ آخرين، يا ترى؟

في الميزان:

وكل شئ سينتهي إلى الميزان، وكل فعل أو قول إنما يؤول إلى عاقبته، فما هو نصيب أرباب تلك الخطة؟

هذا ما تخبرنا به العديد من أحاديث نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم التي كانت تنبئ بحدوث أشياء كهذه، ثم تصف عواقب أهلها، ومن ذلك:

1 - قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " (2).

2 - قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي: " من آذى لي وليا فقد استحل محاربتي " (3).

____________

(1) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ - للسخاوي -: 73 - 76 أخذه عن كتاب (معيد النعم) للتاج السبكي.

(2) صحيح مسلم 1: 10، مسند أحمد 1: 47، 78، 90، 130، 165 ومواضع أخرى. مجمع الزوائد من ست وثلاثين طريقا معظمها في الجزء الأول: 143 - 148، والحديث متفق عليه.

(3) مجمع الزوائد 2: 247، مسند أحمد 6: 256، كنز العمال 1 / 1157.

الصفحة 228
3 - قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " من آذى عليا فقد آذاني " (1).

واقرأ قوله تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا) (2).

4 - قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " من سب عليا فقد سبني " (3).

5 - قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " فاطمة بضعة مني من أغضبها أغضبني " (4).

وأخرج ابن حجر في الصواعق قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " يا فاطمة إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك ".

ثم قال: فمن آذى أحدا من ولدها فقد تعرض لهذا الخطر العظيم لأنه أغضبها (5).

6 - قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحسن والحسين عليهما السلام:

" الحسن والحسين ابناي من أحبهما أحبني، ومن أحبني أحبه الله، ومن أحبه الله

____________

(1) مسند أحمد 3: 483، المستدرك 3: 122 وصححه، دلائل النبوة 5: 395، الجامع الصغير 2: 547 / 8266، مجمع الزوائد 9: 129، البداية والنهاية 7: 359، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 9 : 39 / 6884، الإستيعاب 3: 37، فضائل الصحابة 2: 633 / 1078، تاريخ الخلفاء: 137، الرياض النضرة 3: 121، الصواعق المحرقة باب 9 فصل 2: 123، شواهد التنزيل 2: 98 / 776 - 778 وغيرهم، وأصحاب المناقب جميعا.

(2) الأحزاب: 57.

(3) مسند أحمد 6: 323، المستدرك 3: 121 - 122، الخصائص للنسائي: 17، مجمع الزوائد 9: 130 ، الترجمة في تاريخ ابن عساكر 2: 182 / 667، البداية والنهاية 7: 367 تاريخ الخلفاء: 137، المناقب للخوارزمي: 91.

(4) صحيح البخاري: 5: 92 / 209، مسلم 4: 1902 / 93 - 2449، الترمذي 5: 698 / 3867، مصابيح السنة 4: 185 / 4799، المستدرك 3، 158، مجمع الزوائد 9: 203، الجامع الصغير 2:

208 / 5833 وبعده.

(5) الصواعق المحرقة باب 11 فصل - 1 - المقصد الثالث، وأخرجه السيوطي في الخصائص الكبرى 2:

464.

الصفحة 229
أدخله الجنة، ومن أبغضهما أبغضني، ومن أبغضني أبغضه الله، ومن أبغضه الله أدخله النار " (1).

7 - وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام: " أنا حرب لمن حاربتم، وسلم لمن سالمتم " (2).

8 - قالت: أم سلمة: جاءت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى رسول الله متوركة الحسن والحسين، في يدها برمة - أي قدر - فيها سخين حتى أتت بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما وضعتها قدامه قال لها:

" أين أبو الحسن "؟.

قالت: " هو في البيت " فدعاه، فجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين يأكلون - قالت أم سلمة - وما سامني النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما أكل طعاما قط وأنا عنده إلا سامنيه قبل ذلك اليوم - تعني ب‍ " سامني " دعاني إليه - فلما فرغ التف عليهم بثوبه ثم قال: " اللهم عاد من عاداهم، ووال من والاهم " (3).

9 - قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " لو أن رجلا صفن (4) بين الركن

____________

(1) المستدرك 3: 166 وقال: صحيح على شرط الشيخين، مجمع الزوائد 9: 179 و 181، الصواعق المحرقة باب 11 ص 192.

(2) الترمذي 5: 699 / 3870، المستدرك 3: 149، ابن ماجة 1: 52 / 145، مسند أحمد 2: 442 أسد الغابة 3: 11، 5: 523، مجمع الزوائد 9: 169، مصابيح السنة 4: 190، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 9: 61 / 6938، الصواعق المحرقة باب 11: 187، الرياض النضرة 3: 154، شواهد التنزيل 2: 27 المناقب للخوارزمي: 91.

(3) التاريخ الكبير للبخاري 2: 69 / 70 وفيه: " اللهم هؤلاء أهل بيتي "، مسند أبي يعلى 12: 383 / 6951، ومجمع الزوائد 9: 166 - 167 وقال: إسناده جيد.

(4) صفن: صف قدميه.

لسان العرب (صفن) 13: 248.

الصفحة 230
والمقام فصلى وصام، ثم لقى الله وهو مبغض لأهل بيت محمد دخل النار " (1).

إذن، فذلك نصيبهم في الميزان.

____________

(1) المستدرك 3: 149 وصححه على شرط مسلم، الخصائص الكبرى 2: 465، مجمع الزوائد 9: 171 الصواعق المحرقة: 174، 140، وقد وردت جميع هذه الأحاديث في سائر كتب المناقب.

الصفحة 231

بين الصحابة..


الصفحة 232

الصفحة 233

الصحابة - رضي الله عنهم - بإيجاز

قال تعالى: (محمد رسول الله والذين معه:

أشداء على الكفار، رحماء بينهم تريهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) (1).

أولئك رضي الله عنهم أجمعين وأرضاهم، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خيرا، وقد وعدهم الحسنى، فطوبى لهم وحسن مآب.

أولئك الذين نصروا الله ورسوله، وأحيوا دينه، وأقاموا دعائم دولة الإسلام، وأماتوا أركان الجاهلية..

أولئك الذين قال فيهم أمير المؤمنين عليه السلام مذكرا بفضلهم: " ولقد

____________

(1) سورة الفتح: 29.

الصفحة 234
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نقتل آباءنا، وأبناءنا وإخواننا، وأعمامنا، ما يزيدنا ذلك إلا إيمانا وتسليما ومضيا على اللقم (1) وصبرا على مضض الألم، وجد في جهاد العدو...

فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت (2)، وأنزل علينا النصر، حتى استقر الإسلام ملقيا جرانه (3)، ومتبوءا أوطانه.

ولعمري لو كنا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود، ولا اخضر للإيمان.

عود... " (4).

وقال عليه السلام مرة يصفهم ويذكر بعظيم منزلتهم، ويأسف على فقدهم:

" لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله، فما رأى أحدا يشبههم منكم!

لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا وقد باتوا سجدا وقياما، يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم.

كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم. إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف، خوفا من العقاب، ورجاء للثواب " (5).

وقال عليه السلام وهو يتحرق شوقا إليهم: " أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟

أين عمار؟ وأين ابن التيهان (6)؟

____________

(1) اللقم: معظم الطريق أو جادته.

(2) الكبت: الإذلال.

(3) إلقاء الجران: كناية عن التمكن.

(4) نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: 91 - 92.

(5) المصدر: 143 - 97 - الفقرة الأخيرة.

(6) هو الصحابي الجليل أبو الهيثم مالك بن التيهان الأنصاري: كان ينبذ الأصنام قبل الإسلام، ويقول بالتوحيد، وهو أول من أسلم من الأنصار بمكة، وأحد الستة الذين لقوا رسول الله صلى الله عليه

=>


الصفحة 235
وأين ذو الشهادتين (1)؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تلوا القرآن فأحكموه، وتدبروا الفرض فأقاموه، أحيوا السنة، وأماتوا البدعة، دعوا إلى

____________

<=

وآله وسلم في مكة، وأحد النقباء الاثني عشر، وأحد السبعين، شهد بدرا والمشاهد كلها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبعثه خارصا - يقدر ما على النخل من تمر - فلما كان عهد أبي بكر بعثه فأبى، وقال: إني كنت إذا خرصت لرسول الله فرجعت، دعا لي.

وكان مع علي عليه السلام يوم الجمل وله فيها أرجاز ذكرناها في حديث الدار وإثبات الوصية، وشهد معه صفين أيضا، وفيها استشهد رضوان الله عليه، فقالت أمينة الأنصارية ترثيه:

منع اليوم أن أذوق رقادا * مالك إذ مضى، وكان عمادا
يا أبا الهيثم بن تيهان إني * صرت للهم معدنا ووسادا

وبهذا يثبت بطلان ما زعمه الذهبي وابن سعد في إصرارهما على قول الواقدي: إن وفاته كانت سنة 20 هجرية في خلافة عمر بن الخطاب. ومما يشهد ببطلان هذا الزعم أيضا، ما أثبته أهل التاريخ من مواقف مشهورة لأبي الهيثم بن التيهان أيام البيعة لأمير المؤمنين بالخلافة، ويوم بدا نقض البيعة من الزبير وطلحة ومروان والوليد بن العقبة، ويوم الجمل، ويوم صفين إذ كان يسوي صفوف الجيش ويخطب بهم يحثهم على الجهاد بين يدي أمير المؤمنين عليه السلام: انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (1: 220 و 2: 51 و 4: 8 و 5: 190 و 7: 36، 39 و 20: 19) وهو الذي اختاره ابن حجر فقال: وقيل قتل في صفين وهو الأكثر. (الإصابة 7: 209 / 1188). وانظر الأبيات المذكورة في رثائه في كتاب وقعة صفين: 365.

(1) هو الصحابي الجليل خزيمة بن ثابت الأنصاري، الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهادته بشهادة رجلين، وكان هو وعمير بن خرشه يكسران أصنام بني خطمة، وشهد بدرا وما بعدها من المشاهد كلها، وكانت راية بني خطمة بيده يوم الفتح، وشهد مع علي عليه السلام الجمل وصفين واستشهد بصفين رضي الله تعالى عنه وقالت بنته ضبيعة ترثيه:

عين جودي على خزيمة بالدم‍ * - ع قتيل الأحزاب يوم الفرات
قتلوا ذا الشهادتين عتوا * أدرك الله منهم بالترات

=>


الصفحة 236
الجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتبعوه " (1).

أولئك الذين بهم قام عمود الإسلام واشتد عوده (كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه).

(رضي الله عنهم ورضوا عنه).

(أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون).

ولكن السؤال: هل كل من عاصر النبي صلى الله عليه وآله ورآه سيكون أبدا تحت ظلال هذه التزكية الربانية؟

وهل كل من صحب النبي صلى الله عليه وآله واستقام حياته معه، ستكتب له العصمة بعده؟

وإن لم تكتب له العصمة، فهل سيكون مغفورا له ما تأخر من ذنبه، غير ملوم على ما يصنع؟

الحكم لله تعالى، أولا:

وهو سبحانه القائل: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) (2).

____________

<=

قتلوه في فتية غير عزل * يسرعون الركوب للدعوات
نصروا السيد الموفق ذا العد * ل ودانوا بذاك حتى الممات
لعن الله معشرا قتلوه * ورماهم بالخزي والآفات

أسد الغابة 2: 114، وقعة صفين: 365 والأبيات منه.

(1) نهج البلاغة - صبحي الصالح -: 264 - 182 - الفقرة الأخيرة.

(2) الفتح: 29.