الصفحة 237
وهو جل ثناؤه القائل: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما) (1).

فليس ثمة عصمة إذن، فمنهم من قد ينكث عهده، ومنهم من يفي.

وليس في المقام عفو وصفح عمن ينكث، بل (ينكث على نفسه).

وإنما اختص بالأجر العظيم من أوفى (بما عاهد عليه الله).

وهذا أمر لازم عقلا أيضا، فليس الذين ثبتوا بعد نبيهم والذين ارتدوا عن الإسلام سواء. ولا من أوفى كمن نكث.

(وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسئ قليلا ما تتذكرون) (2).

أما فيمن مات على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا ينكر أحد وجود طابور المنافقين، والمتخاذلين، وقد تحدث القرآن الكريم عنهم، وعنفهم في عشرات الآيات حتى أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا يصلي على أحد مات منهم، ولا يقم على قبره، وأمر هو صلى الله عليه وآله وسلم بهجرهم!

والحكم لرسوله، ثانيا:

وأحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هي الأخرى لا تمنح العصمة لكل من صحب النبي، ولا ترفع عنهم احتمال الخطأ، أو التقاعس عن الحق، بل حتى الانحراف والارتداد.

____________

(1) الفتح: 10.

(2) غافر (المؤمن): 58.

الصفحة 238
ومن ذلك: قوله المشهور في خطبة حجة الوداع: " فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " (1).

ثم حديث الحوض المشهور الذي يخبر بعاقبة الكثير من الصحابة، وتناقلته كتب الصحاح بأسانيد عديدة، ومتون متشابهة، وإليك الحديث..

حديث الحوض:

أخرج البخاري عن موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو عوانة عن مغيرة عن أبي وائل، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " أنا فرطكم على الحوض، ليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي رب أصحابي، فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك " (2).

وأخرج أيضا عن يحيى بن كثير، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، قال: سمعت سهل بن سعد يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " أنا فرطكم على الحوض، من ورده شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبدا، ليرد علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم ".

قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش وأنا أحدثهم هذا، فقال:

هكذا سمعت سهلا؟ فقلت: نعم.

قال: وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد فيه، قال: " إنهم

____________

(1) البخاري - كتاب الفتن 9: 90 / 26 - 29، مسلم - كتاب الإيمان - باب معنى قول النبي: " لا ترجعوا بعدي كفارا " - 1: 81 / 118 - 120، ومسند أحمد أيضا من أربعة عشر طريقا منها في الجزء الخامس: 37، 44، 49، 73، والترمذي 4: 486 / 2193، وأبو داود 4: 221 / 4686، والدارمي 2: 69 - باب حرمة المسلم - وغيرها.

(2) صحيح البخاري 9: 83 / 2 - كتاب الفتن -.

الصفحة 239
مني، فيقال: إنك لا تدري ما بدلوا بعدك " (1).

وأما مسلم فأخرج هذا الحديث من طرق عديدة، منها: عن أبي بكر ابن شيبة، وأبي كريب، وابن نمير، قالوا، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أنا فرطكم على الحوض، ولأنازعن أقواما ثم لأغلبن عليهم، فأقول: يا رب أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " (2).

وأخرج الحاكم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إني - أيها الناس - فرطكم على الحوض، فإذا جئت قام رجال، فقال هذا: يا رسول الله، أنا فلان، وقال هذا: يا رسول الله، أنا فلان. وقال هذا: يا رسول الله، أنا فلان.

فأقول: قد عرفتكم، ولكنكم أحدثتم بعدي ورجعتم القهقرى " (3).

وأخرج أحمد في عدة مواضع حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

" ليردن علي الحوض رجال ممن صحبني ورآني، حتى إذا رفعوا إلي ورأيتهم اختلجوا دوني، فلأقولن: رب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " (4).

وعن عبد الله بن رافع المخزومي، عن أم سلمة، قالت: فسمعته يقول:

" أيها الناس، بينما أنا على الحوض جئ بكم زمرا، فتفرقت بكم الطرق، فناديتكم: ألا هلموا إلى الطريق.

فناداني مناد من بعدي، فقال: إنهم قد بدلوا بعدك.

____________

(1) المصدر 9: 83 / 3، وأخرجه بنصه أحمد في المسند 5: 333.

(2) صحيح مسلم 4: 1796 / 32 (2297) حديث الحوض.

(3) المستدرك 4: 74 - 75 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

(4) مسند أحمد 3: 140، 281 و 5: 48، 50، 388، 400.

الصفحة 240
فأقول سحقا سحقا " (1).

  • وفي موطأ مالك: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لشهداء أحد:

    " هؤلاء أشهد عليهم " فقال أبو بكر الصديق: ألسنا - يا رسول الله - بإخوانهم، أسلمنا كما أسلموا، وجاهدنا كما جاهدوا؟

    فقال رسول الله صلى عليه وآله وسلم: " بلى، ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي " (2).

    أرأيت هذه الكلمة: " إنهم قد بدلوا بعدك "؟

    ثم قاله صلى الله عليه وآله وسلم: " سحقا سحقا " لمن بدل بعدي؟

    ولعله يصعب على المرء التصديق لأول وهلة - برغم ما قرأ من نصوص الكتاب الكريم، وصحيح الحديث الشريف - أن أصحاب النبي، والسابقين إلى الإسلام، الذين قضوا في نصرته عمرا طويلا، يميلون بعد النبي، ويبدلون ويغيرون!

    ولأجل هذا سنذكر نماذج مما دار بينهم، وما طعن به بعضهم على بعض، لا لغرض النيل والشماتة، ولا لأجل الإنتصار والتباهي، فهذا كله بعيد عمن أيقن بالحق، وإنما كمصاديق فقط لما تقدم من نصوص، وليكون تمهيدا لبحث يأتي بعده، ولنعرف كيف نقرأ القرآن، ثم لنعرف الحق فنعرف أهله.

    حديث الإفك:

    من كان يا ترى أصحاب الإفك إلا رجالا من الصحابة! من المهاجرين والأنصار!

    ____________

    (1) سنن ابن ماجة - كتاب الزهد، باب ذكر الحوض - 2: 1439 / 4306، مسند أحمد 6: 297، مصابيح السنة 3: 537 / 4315.

    (2) الموطأ 2: 462 / 32 - كتاب الجهاد، باب الشهداء في سبيل الله.

    الصفحة 241
    وفيهم نزلت آيات التهديد والوعيد تلك (1)، ثم فيمن يحذو حذوهم.

    تقول أم المؤمنين عائشة: فأقبلت أنا، وأم مسطح - وهي ابنة أبي رهم ابن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب - حين فرغنا من شأننا نمشي، فعثرت أم مسطح، فقالت، تعس مسطح!

    فقلت لها: بئسما قلت، أتسبين رجلا شهد بدرا؟!

    فقالت: يا هنتاه، ألم تسمعي ما قال؟ فأخبرتني بقوله.

    وكان أصحاب حديث الإفك هم: مسطح بن أثاثة، وهو من المهاجرين الأولين، وحسان بن ثابت، وهو من الأنصار، وعبد الله بن أبي.

    وقد جلدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جميعا (2).

    المغيرة بن شعبة أيام معاوية:

    وكان قد ولاه الكوفة عام (42 هـ‍) ثم عزله وولى عبد الله بن عامر بن كريز، فغاظ المغيرة ذلك، فعزم على شئ، فنادى غلامه: يا غلام، شد رحلي، وقدم بغلي.

    فخرج، حتى أتى دمشق، فدخل على معاوية، فقال له بعد كلام بينهما:

    يا أمير المؤمنين، كبرت سني، وضعفت قوتي، وعجزت عن العمل، وقد بلغت من الدنيا حاجتي، ووالله ما آسي على شئ منها إلا على شئ واحد قدرت به قضاء حقك، وودت أنه لا يفوتني أجلي وأن الله أحسن علي معونتي.

    قال معاوية: وما هو؟

    ____________

    (1) سورة النور: 11 - 25.

    (2) أنظر القصة مفصلة في صحيح البخاري 5: 250 - 253، صحيح مسلم 4: 2129 / 2770، تاريخ اليعقوبي 2: 53، الكامل في التاريخ 2: 195 - 199.

    الصفحة 242
    قال: كنت دعوت أشراف الكوفة إلى البيعة ليزيد ابن أمير المؤمنين بولاية العهد بعد أمير المؤمنين، فقدمت لأشافهه بذلك، وأستعفيه عن العمل.

    فقال سبحان الله - يا أبا عبد الرحمن - إنما يزيد ابن أخيك، ومثلك إذا شرع في أمر لم يدعه حتى يحكمه، فنشدتك الله إلا رجعت فتممت هذا.

    فخرج من عنده، فلقي كاتبه، فقال: ارجع بنا إلى الكوفة، والله لقد وضعت رجل معاوية في غرز لا يخرجها منه إلا سفك الدماء (1).

    أرأيت هذه الفتنة الكبرى كيف وضع أساسها صحابي شهير، وهو ممن شهد بيعة الرضوان؟!

    ثم بعد، أقام المغيرة عاملا لمعاوية على الكوفة يشتم عليا وأصحابه على المنبر حتى مات (2).

    أرأيت هذه الطامة الكبرى!

    بل الأعظم والأجل أن نجمع المغيرة هذا مع علي بن أبي طالب في آية السابقين الأولين، أو آية الفتح، أو سورة الحشر، ونظائرها!

    وعمرو بن العاص:

    ولما عزم معاوية الخروج على أمير المؤمنين أرسل إلى عمرو بن العاص وهو يومها في مصر، فدعا عمرو ابنيه: عبد الله ومحمدا فاستشارهما، فأما عبد الله فقال له: أيها الشيخ، إن رسول الله قبض وهو عنك راض، ومات أبو بكر وعمر وهما راضيان، فإنك إن تفسد دينك بدنيا يسيرة تصيبها مع معاوية، فتضجعان غدا في النار!

    ____________

    (1) تاريخ ابن خلدون 3: 19، تاريخ اليعقوبي 2: 219 - 220 وعنه اختصرنا القصة.

    (2) ابن خلدون 3: 13، اليعقوبي 2: 230، ابن أبي الحديد 4: 69، 70، 71 ومواضع أخرى، تهذيب تاريخ دمشق 2: 373 - 374 - عند ترجمة أرقم الكندي -.

    الصفحة 243
    وأما محمد فقال له: بادر هذا الأمر، فكن فيه رأسا قبل أن تكون ذنبا!

    فأنشأ عمرو يقول:

    تطاول ليلي للهموم الطوارق * وخوف التي تجلو وجوه العواتق (1)
    فإن ابن هند سائلي أن أزوره * وتلك التي فيها بنات البوائق (2)

    فلما سمع عبد الله شعره، قال: بال الشيخ على عقبيه، وباع دينه بدنياه.

    فلما أصبح دعا وردان مولاه، فقال له: ارحل يا وردان، ثم قال: حط يا وردان، فحط ورحل ثلاث مرات، فقال وردان: لقد خلطت - أبا عبد الله - فإن شئت أخبرتك بما في نفسك.

    قال: هات.

    قال: اعترضت الدنيا والآخرة على قلبك، فقلت: علي معه آخرة بلا دنيا، ومعاوية معه دنيا بلا آخرة، فلست تدري أيهما تختار.

    قال: لله درك، فما أخطأت مما في نفسي شيئا، ثم قال: ارحل يا وردان وأنشأ يقول:

    ____________

    (1) العاتق: الجارية التي أدركت وبلغت فخدرت في بيت أهلها، والجمع: عواتق.

    لسان العرب (عتق) 10: 235.

    (2) البائقة: الداهية.

    لسان العرب (بوق) 10: 30.

    الصفحة 244

    يا قاتل الله وردان وفطنته * أبدى لعمرك ما في الصدر وردان

    فقدم على معاوية، وتذاكرا أمر القتال مع علي، فكان مما قاله معاوية:

    ولكنا نقاتله على ما في أيدينا، ونلزمه قتل عثمان.

    قال عمرو: واسوأتاه! إن الحق ألا يذكر عثمان لا أنا ولا أنت.

    قال: ولم، ويحك؟

    قال: أما أنت، فخذلته ومعك أهل الشام، حتى استغاث بيزيد بن أسد البجلي! وأما أنا، فتركته عيانا وهربت إلى فلسطين!

    فقال معاوية: دعني من هذا، مد يدك فبايعني.

    قال: لا، لعمر الله، لا أعطيك ديني حتى آخذ من دنياك.

    قال معاوية: لك مصر طعمة.

    فأنشأ عمرو يقول:

    معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل * به منك دنيا فانظرن كيف تصنع
    فإن تعطني مصرا فأربح بصفقة * أخذت بها شيخا يضر وينفع
    وما الدين والدنيا سواء، وإنني * لآخذ ما أعطني ورأسي مقنع
    لكنني أعطيك هذا وإنني * لأخدع نفسي، والمخادع يخدع


    الصفحة 245
    حتى إذا حضرته الوفاة، قال: يا ليتني مت قبل هذا اليوم بثلاثين سنة، أصلحت لمعاوية دنياه، وأفسدت ديني، آثرت دنياي وتركت آخرتي، عمي علي رشدي حتى حضرني أجلي (1).

    وسرعان ما يقفز إلى الذهن هنا موقف شبيه بهذا، وقد رد عليه القرآن الكريم، فقال: (آلآن وقد عصيت قبل...) (2).

    ومعاوية من هو؟

    بعد ما قرأنا أخباره نكتفي هنا بذكر أرقام وتعريف غاية في الإيجاز:

    فهل تعلم أنه خرج على إمام زمانه الحق علي بن أبي طالب، هل تعلم من كان مع علي؟

    كان معه سبعون بدريا!

    وممن بايع تحت الشجرة كان مع علي سبعمائة رجل!

    ومن سائر المهاجرين والأنصار أربعمائة رجل!

    ولم يكن مع معاوية إلا النعمان بن بشير ومسلمة بن مخلد من الأنصار (3).

    أذكر هذه الأرقام وقلبي يعتصر ألما إذ أستعين بها وبنظائرها للاستدلال على أحقية علي عليه السلام، وأن خصومة ليسوا على شئ!

    أبعد علي نبحث عن أدلة وشواهد على الحق؟!

    وبعد، فإن هذا الصحابي، وكاتب الوحي! هو الذي قتل الصحابيين:

    ____________

    (1) وقعة صفين: 34 - 39، اليعقوبي 2: 184 - 186، ابن أبي الحديد 2: 62 - 66، الكامل 3:

    276 بعضه، سير أعلام النبلاء 3: 71 - 73 بعضه، تاريخ ابن خلدون 2: 625 مختصرا.

    (2) يونس: 91.

    (3) تاريخ اليعقوبي 2: 188، وفي مآثر الإنافة: قتل - من أصحاب علي عليه السلام بصفين - خمسة وعشرون بدريا كان من جملتهم عمار بن ياسر الذي قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " تقتلك الفئة الباغية " 1: 102.

    الصفحة 246
    حجر بن عدي الكندي، وعمرو بن الحمق الخزاعي صبرا لأنهما ردا على من سب عليا على منابر المسلمين!

    وليتك تدري أن الذي سعى بهما وبأصحابهما إلى معاوية فكان سببا في قتلهم جميعا هو صحابي آخر، وقد عمل لمعاوية على الكوفة بعد المغيرة، وهو القائل لحجر بن عدي رضي الله عنه: أرأيت ما كنت عليه من المحبة والموالاة لعلي؟

    قال: نعم قال: فإن الله قد حول ذلك بغضة وعداوة.

    أورأيت ما كنت عليه من البغضة والعداوة لمعاوية؟

    قال: نعم.

    قال: فإن الله قد حول ذلك كله محبة وموالاة، فلا أعلمنك ما ذكرت عليا بخير، ولا أمير المؤمنين معاوية بشر!

    إنه زياد بن أبيه، وقد كتب فيهم إلى معاوية: أنهم خالفوا الجماعة في لعن أبي تراب، وزروا على الولاة، فخرجوا بذلك عن الطاعة (1)!!

    فأمر بقتلهم جميعا - وكانوا سبعة نفر - بمرج عذراء من بلاد الشام.

    قيل: ودخل معاوية على عائشة، فقالت له: يا معاوية، ما حملك على قتل أهل عذراء، حجرا وأصحابه؟

    فقال: يا أم المؤمنين، إني رأيت في قتلهم إصلاحا للأمة، وفي بقائهم فسادا!

    فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " سيقتل

    ____________

    (1) تاريخ اليعقوبي 2: 230، وقصة زياد ومعاوية مع حجر وأصحابه تجدها مفصلة في: الكامل في تاريخ 3: 472 - 488، وتهذيب تاريخ دمشق 2: 373 - 383 - عند ترجمة أرقم الكندي -.

    الصفحة 247
    بعذراء ناس يغضب الله لهم وأهل السماء " (1).

    هل عجبت من دين هؤلاء؟

    كلا، فإن الأعجب من ذلك ما نسمعه من وجوب حفظ كرامتهم، والترضي عليهم!!

    وإنه لمن عظائم الأمور التي تستدعي بحق إعادة النظر في حقيقة الإيمان، أن يشك المرء بفسق هؤلاء، بل بوجوب البراءة منهم.

    وهذه شهادة الحسن البصري: أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة:

    انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف، حتى أخذ الأمر من غير مشورة، وفيهم بقايا الصحابة، وذوو الفضيلة.

    واستخدامه بعده ابنه سكيرا، خميرا، يلبس الحرير، ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زيادا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " الولد للفراش، وللعاهر الحجر ".

    وقتله حجرا وأصحاب حجر، فيا ويلا له من حجر! ويا ويلا له من حجر (2).

    وأبو هريرة:

    الذي دخل الإسلام أيام خيبر، فكان له من الصحبة عامان، ثم حدث بأحاديث لم يحدثها أحد غيره ممن صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ

    ____________

    (1) دلائل النبوة 6: 457، البداية والنهاية 6: 231، الإصابة 2: 329.

    (2) الكامل في التاريخ 3: 487، ابن أبي الحديد 2: 262 و 16: 193، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر 2: 384.

    الصفحة 248
    بعثته الشريفة، ولم يفارقه حتى وفاته صلى الله عليه وآله وسلم! لنرى ماذا قالوا فيه.

    قال ابن أبي الحديد: قال أبو جعفر: وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضي الرواية. ضربه عمر بالدرة، وقال: قد أكثرت من الرواية، وأحر بك أن تكون كاذبا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!

    وروى سفيان الثوري عن منصور، عن إبراهيم التيمي، قال: كانوا لا يأخذون عن أبي هريرة إلا ما كان من ذكر جنة أو نار! (1) وروى أبو أسامة عن الأعمش، قال: كان إبراهيم صحيح الحديث، فكنت إذا سمعت الحديث أتيته فعرضته عليه، فأتيته يوما بأحاديث من حديث أبي صالح عن أبي هريرة، فقال: دعني من أبي هريرة، إنهم كانوا يتركون كثيرا من حديثه.

    وقد روي عن علي عليه السلام، أنه قال: " ألا إن أكذب الناس - أو قال: أكذب الأحياء - على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو هريرة الدوسي ".

    وروى أبو يوسف، قال: قلت لأبي حنيفة: الخبر يجئ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخالف قياسنا، ما تصنع به؟

    قال: إذا جاءت به الرواة الثقات عملنا به وتركنا الرأي.

    فقلت: ما تقول في رواية أبي بكر وعمر؟

    فقال: ناهيك بهما!

    فقلت: علي وعثمان؟

    قال: كذلك، فلما رآني أعد الصحابة، قال والصحابة كلهم عدول ما

    ____________

    (1) وانظر: سير أعلام النبلاء 2: 609.

    الصفحة 249
    عدا رجالا، ثم عد منهم: أبا هريرة، وأنس بن مالك!

    وروى سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم، عن عمر بن عبد الغفار: أن أبا هريرة لما قدم الكوفة كان يجلس بالعشيات بباب كندة، ويجلس الناس إليه، فجاءه شاب من الكوفة فجلس إليه، فقال: يا أبا هريرة، أنشدك الله، أسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لعلي بن أبي طالب:

    " اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه "؟

    فقال: اللهم نعم.

    قال: فأشهد بالله لقد واليت عدوه، وعاديت وليه!

    وروت الرواة أن أبا هريرة كان يخطب وهو أمير المدينة، فيقول: الحمد لله الذي جعل الدين قياما، وأبا هريرة إماما، يضحك الناس بذلك!

    وكان يمشي - وهو أمير المدينة - في السوق، فإذا انتهى إلى رجل يمشي أمامه ضرب برجليه الأرض، ويقول: الطريق الطريق، قد جاء الأمير، يعني نفسه!

    قال: وقد ذكر هذا كله ابن قتيبة في كتاب (المعارف) (1) في ترجمة أبي هريرة، وقوله فيه حجة لأنه غير متهم عليه (2).

    وقال ابن المسيب: كان أبو هريرة إذا أعطاه معاوية سكت، فإذا أمسك عنه تكلم (3)!

    عبد الله بن الزبير - أميرا -:

    ولما وقعت الفتنة بين عبد الله بن الزبير وعبد الملك بن مروان ارتحل

    ____________

    (1) المعارف: 158، وروى كثيرا منه ابن كثير في البداية والنهاية 8: 117.

    (2) ابن أبي الحديد 4: 67 - 69.

    (3) البداية والنهاية 8: 117، سير أعلام النبلاء 2: 615.

    الصفحة 250
    عبد الله بن عباس ومحمد بن الحنفية بأولادهما ونسائهما حتى نزلوا مكة، فبعث عبد الله بن الزبير إليهما يبايعان، فأبيا، وقالا: أنت وشأنك، لا نعرض لك ولا لغيرك.

    فأبى، وألح عليهما إلحاحا شديدا، فقال لهما: لتبايعن، أو لأحرقنكم بالنار!

    فبعثا أبا الطفيل إلى شيعتهم بالكوفة، فانتدب أربعة آلاف، فدخلوا مكة، فكبروا تكبيرة سمعها أهل مكة وابن الزبير، فانطلق هاربا حتى دخل دار الندوة، وقيل وتعلق بأستار الكعبة، وقال: أنا عائذ بالبيت.

    فمالوا إلى ابن عباس وابن الحنفية وأصحابهما وهم في دورهم وقد جمع الحطب فأحاط بهم حتى بلغ رؤوس الجدر، ولو أن نارا تقع فيه ما رؤي منهم أحد، فأخرجوهم، وقالوا لابن عباس: ذرنا نريح الناس منه.

    قال: لا، إن هذا بلد حرام ما أحله الله إلا لنبيه ساعة، ولكن أجيرونا.

    فخرجوا بهم إلى الطائف، فتوفي عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه في مسيره ذاك (1).

    - وقيل لعبد الله بن عمر: ألا تبايع أمير المؤمنين؟ يعني ابن الزبير.

    فقال: والله ما شبهت بيعتهم إلا بققة، أتعرف ما الققة؟ الصبي يحدث ويضع يده في حدثه، فتقول له أمه: ققة (2).

    سمرة بن جندب:

    هو صاحب النخلة التي كانت في بستان الأنصاري، وكان يؤذيه، فشكاه

    ____________

    (1) أسد الغابة 3: 194 - 195 - ترجمة عبد الله بن عباس -، تهذيب تاريخ دمشق 7: 411 - 412.

    (2) النهاية لابن الأثير (قق) 4: 95، لسان العرب 10: 323.

    الصفحة 251
    الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبعث إلى سمرة، فقال له:

    " بع نخلك من هذا وخذ ثمنه ".

    قال: لا أفعل! قال صلى الله عليه وآله وسلم: " فخذ نخلا مكان نخلك ".

    قال: لا أفعل! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " فاشتر منه بستانه ".

    قال: لا أفعل! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " فاترك لي هذا النخل ولك الجنة ".

    قال: لا أفعل!! فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقطع نخله (1).

    وكان سمرة من شرطة زياد، فاستخلفه زياد على البصرة، فأكثر فيها القتل، قال ابن سيرين: قتل سمرة في غيبة زياد هذه ثمانية آلاف!.

    وقال أبو السوار العدوي: قتل سمرة من قومي في غداة واحدة سبعة وأربعين كلهم قد جمع القرآن (2)!

    وتقدم ذكر وضعه الحديث في طعن علي عليه السلام، وقد كان سمرة يحرض الناس على الخروج إلى الحسين عليه السلام وقتاله (3)!

    وروي عن أبي هريرة أنه قال: ما فعل سمرة؟ قيل له: هو حي.

    قال: ما أحد أحب إلي طول حياة منه. قيل: ولم ذاك؟

    قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لي وله ولحذيفة بن اليمان: " آخركم موتا في النار " فسبقنا حذيفة، وأنا الآن أتمنى أن أسبقه!

    ____________

    (1) ابن أبي الحديد 4: 78.

    (2) الكامل في التاريخ 3: 462 - 463، وانظر ابن أبي الحديد 4: 77 - 78.

    (3) ابن أبي الحديد 4: 79.

    الصفحة 252
    فكان سمرة بن جندب آخرهم موتا (1).

    معاوية بن حديج (2):

    له صحبة ورواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (3).

    وهو الذي تولى قتل محمد بن أبي بكر رضي الله عنه في مصر بعد أن تفرق عنه جيشه، فقبضوا عليه وقد كاد يموت عطشا، وأقبلوا به نحو الفسطاط فقال له معاوية بن حديج: أتدري ما أصنع بك؟ أدخلك جوف حمار، ثم أحرقه عليك بالنار.

    فقتله، ثم ألقاه في جيفة حمار، ثم أحرقه (4).

    فلما بلغ ذلك عائشة جزعت عليه جزعا شديدا، وجعلت تدعو على معاوية وعمرو بن العاص دبر الصلوات (5).

    وماذا كان معاوية مع هذا؟ أسب الناس لعلي عليه السلام!.

    ____________

    (1) ابن أبي الحديد 4: 78، والحديث في: سير أعلام النبلاء 3: 184 - 185، ودلائل النبوة 6: 458 - 460، ومجمع الزوائد 8: 290 من عدة طرق تدل على أن الحديث تكرر في أكثر من موضع، وفيها " أبو مخدورة " بدلا من " حذيفة "، ورواه أيضا: ابن عبد البر في (الاستيعاب) - هامش الإصابة - 2: 78، والعسقلاني في (الإصابة) 3: 131، وابن دريد في (الاشتقاق) في موضعين: 134، 282.

    (2) ذكر بعضهم (خديج) بالمعجمة.

    (3) الطبقات الكبرى 7: 503، أسد الغابة 4: 383، التاريخ الكبير للبخاري 7: 328 / 1407، سير أعلام النبلاء 3: 37.

    (4) الكامل في التاريخ 3: 357، البداية والنهاية 7: 326، سير أعلام النبلاء 3: 482، فتوح البلدان: 319.

    (5) الكامل في التاريخ 3: 357، البداية والنهاية 7: 327.

    الصفحة 253
    قال الذهبي: حج معاوية ومعه معاوية بن حديج، وكان من أسب الناس لعلي، فمر في المدينة، والحسن جالس في جماعة من أصحابه، فأتاه رسول، فقال: أجب الحسن. فأتاه فسلم عليه، فقال له: أنت معاوية بن حديج؟

    قال: نعم.

    قال: فأنت الساب عليا رضي الله عنه؟

    قال فكأنه استحيا. فقال له الحسن: أما والله لئن وردت عليه الحوض وما أراك ترده، لتجدنه مشمر الإزار على ساق، يذود عنه رايات المنافقين ذود غريبة الإبل، قول الصادق المصدوق (وقد خاب من افترى) (1).

    فتنة الجمل:

    تلك الفتنة التي راح ضحيتها قرابة ثلاثين ألفا من المسلمين!

    دعنا نقف عندها فنتساءل: هل كان قادة الجمل على الحق يوم بايعوا عليا بكل رضى واختيار، أم يوم خرجوا عليه وجيشوا لقتاله الجيوش؟

    أكانوا على الحق يوم حرضوا على عثمان، أم يوم خرجوا يطلبون بدمه؟

    أم نسينا نحن ما نسوه، أو تناسوه من تحذير النبي الأعظم لهم من تلك الفتنة؟!

    لنقرأ منها لمحات فقط، ولنتذكر:

    أن أم المؤمنين عائشة كانت بمكة، خرجت إليها قبل أن يقتل عثمان، فلما كانت في بعض طريقها راجعة إلى المدينة لقيها ابن أم كلاب، فقالت له:

    ما فعل عثمان؟

    ____________

    (1) سير أعلام النبلاء 3: 39.

    الصفحة 254
    قال: قتل!

    قالت: بعدا وسحقا، فمن بايع الناس؟

    قال: طلحة.

    قالت: إيها ذو الإصبع.

    ثم لقيها آخر، فقالت: ما فعل الناس؟

    قال: بايعوا عليا.

    قالت: والله ما كنت أبالي أن تقع هذه على هذه، ثم رجعت إلى مكة (1).

    فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوما، والله لأطلبن بدمه!

    قال لها: ولم؟ والله إن أول من أمال حرفه لأنت، ولقد كنت تقولين:

    اقتلوا نعثلا فقد كفر.

    قالت: إنهم استتابوه، ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأول.

    فقال لها ابن أم كلاب:

    فمنك البداء ومنك الغير * ومنك الرياح ومنك المطر
    وأنت أمرت بقتل الإمام * وقلت لنا: إنه قد كفر

    ____________

    (1) تاريخ اليعقوبي 2: 180، ابن أبي الحديد 6: 215 - 216 الإمامة والسياسة 1: 52، كتاب الأوائل:

    97.

    الصفحة 255

    فهبنا أطعناك في قتله * وقاتله عندنا من أمر
    ولم يسقط السقف من فوقنا * ولم ينكسف شمسنا والقمر
    وقد بايع الناس ذو تدرء * يزيل الشبا ويقيم الصعر
    يلبس للحرب أثوابها * وما من وفى مثل من قد غدر (1)

    هذا مع أن مروان كان قد دعاها أيام كان عثمان محاصرا، فقال لها: يا أم المؤمنين، لو قمت فأصلحت بين هذا الرجل وبين الناس.

    فقالت: قد فرغت من جهازي وأنا أريد الحج.

    قال: فيدفع إليك بكل درهم أنفقته درهمين.

    قالت: لعلك ترى أني في شك من صاحبك؟ أما والله لوددت أنه مقطع في غرارة من غرائري، وأني أطيق حمله، فأطرحه في البحر (2)!

    وأقام علي أياما، ثم أتاه طلحة والزبير، فقالا: إنا نريد العمرة، فأذن لنا في الخروج، فلحقا عائشة بمكة فحرضاها على الخروج، فأتت أم سلمة، فكلمتها في الخروج معهم، فردت عليها أم سلمة كلاما، منه قولها: ما أنت

    ____________

    (1) تاريخ الطبري 5: 172، الكامل في التاريخ 3: 206، الفتوح لابن أعثم 1: 434، الإمامة والسياسة 1: 52.

    (2) اليعقوبي 2: 175 - 176.

    الصفحة 256
    قائلة لو أن رسول الله عارضك بأطراف الفلوات، قد هتكت حجابا قد ضربه عليك (1)؟.

    وقولها: أفأذكرك؟

    قالت: نعم.

    قالت أم سلمة: أتذكرين إذ أقبل عليه السلام ونحن معه، فخلا بعلي يناجيه، فأطال، فأردت أن تهجمين عليهما، فنهيتك فعصيتني، فهجمت عليهما، فما لبثت أن رجعت باكية، فقلت: ما شأنك؟

    فقلت: إني هجمت عليهما وهما يتناجيان، فقلت لعلي: ليس لي من رسول الله إلا يوم من تسعة أيام، أفما تدعني يا ابن أبي طالب ويومي!

    فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي وهو غضبان محمر الوجه، فقال: " ارجعي وراءك، والله لا يبغضه أحد من أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس إلا وهو خارج من الإيمان "؟

    قالت عائشة: نعم أذكر.

    قالت أم سلمة: وأذكرك أيضا، وكنت أنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر له، فقعد في ظل سمرة (2)، وجاء أبوك وعمر فاستأذنا عليه، فقمنا إلى الحجاب، ودخلا يحادثانه فيما أرادا، ثم قالا: يا رسول الله، إنا لا ندري قدر ما تصحبنا، فلو أعلمتنا من يستخلف علينا، ليكون بعدك مفزعا؟

    فقال لهما: " أما إني قد أرى مكانه، ولو فعلت لتفرقتم عنه، كما تفرقت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران " فسكتا، ثم خرجا.

    فلما خرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلت له، وكنت أجرأ عليه منا: من كنت يا رسول الله مستخلفا عليهم؟

    ____________

    (1) تاريخ اليعقوبي 2: 181، ابن أبي الحديد 6: 219 - 220، العقد الفريد 5: 62.

    (2) السمرة: من شجر الطلح. الصحاح (سمر) 2: 689.

    الصفحة 257
    فقال: " خاصف النعل ".

    فنظرنا، فلم نر أحد إلا عليا، فقلت: يا رسول الله، ما أرى إلا عليا.

    فقال: " هو ذاك "؟

    فقالت عائشة: نعم، أذكر ذلك.

    فقالت لها: فأي خروج تخرجين بعد هذا (1)؟!

    وسار القوم قاصدين البصرة، فلما بلغوا ذات عرق لقي سعيد بن العاص مروان بن الحكم وأصحابه، فقال لهم: أين تذهبون وتتركون ثأركم على أعجاز الإبل وراءكم؟ - يعني عائشة، وطلحة، والزبير - اقتلوهم ثم ارجعوا إلى منازلكم.

    فقالوا نسير لعلنا نقتل قتلة عثمان جميعا (2).

    ومر القوم في الليل بماء يقال له: الحوأب، فنبحتهم كلابه، فقالت: ما هذا الماء؟

    قال بعضهم: ماء الحوأب.

    قالت: أنا لله وإنا إليه راجعون، هذا الماء الذي قال لي رسول الله:

    " لا تكوني التي تنبحك كلاب الحوأب ".

    فأتاها القوم بأربعين رجلا، فأقسموا بالله أنه ليس بماء الحوأب!!

    وأتى عبد الله بن الزبير فحلف لها بالله لقد خلفته أول الليل، وأتاها ببينة زور من الأعراب فشهدوا بذلك.

    فزعموا أنها أول شهادة زور شهد بها في الإسلام!

    وجاءها محمد بن طلحة، فقال لها: تقدمي - يرحمك الله - ودعي هذا القول (3)!

    ____________

    (1) ابن أبي الحديد 6: 217 - 218، أعلام النساء 3: 38، وقريب منه في الفتوح 1: 456 وفيه زيادة (2) الكامل 3: 209، الإمامة والسياسة 1: 63، تاريخ ابن خلدون 2: 608.

    (3) قصة ماء الحوأب وحديث كلاب الحوأب متفق عليه عند أصحاب السير، انظر: الكامل في التاريخ

    =>


    الصفحة 258
    وبلغوا البصرة، وعامل علي عليه السلام عليها الصحابي عثمان بن حنيف الأنصاري، فمنعهم من الدخول، وقاتلهم، ثم توادعوا ألا يحدثوا حدثا حتى يقدم علي، ثم كانت ليلة ذات ريح وظلمة، فأقبل أصحاب طلحة فقتلوا حرس عثمان بن حنيف، ودخلوا عليه، فنتفوا لحيته وجفون عينيه، وقالوا:

    لولا العهد لقتلناك، وأخذوا بيت المال (1).

    فلما حضر وقت الصلاة، تنازع طلحة والزبير، وجذب كل واحد منهما صاحبه حتى فات وقتها، فصاح الناس: الصلاة الصلاة، يا أصحاب محمد!

    فقالت عائشة: يصلي محمد بن طلحة يوما، وعبد الله بن الزبير يوما فاصطلحوا على ذلك (2).

    ثم التقى الجمعان، فخرج الزبير، وخرج طلحة بين الصفين، فخرج إليهما علي، حتى اختلفت أعناق دوابهم، فقال علي: " لعمري قد أعددتما سلاحا وخيلا ورجالا إن كنتما أعددتما عند الله عذرا، فاتقيا الله، ولا تكونا (كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا) (3).

    ألم أكن أخاكما في دينكما، تحرمان دمي، وأحرم دمكما، فهل من حدث أحل لكما دمي؟! ".

    قال طلحة: ألبت على عثمان.

    ____________

    <=

    3: 210، اليعقوبي 2: 181، الفتوح 1: 460، الإمامة والسياسة: 63، ابن أبي الحديد 6: 225 تاريخ ابن الوردي 1: 208، البداية والنهاية 6: 217، 218 وانظر: مسند أحمد 6: 52، 97، مسند أبي يعلى 8: 282 / 512، دلائل النبوة 6: 410، المستدرك 3: 119 - 120، الخصائص الكبرى 2: 232 - 233، كنز العمال 11 ح / 31667.

    (1) الكامل في التاريخ 3: 215، اليعقوبي 2: 181، الإمامة والسياسة: 69، تاريخ ابن خلدون 2:

    610، سير أعلام النبلاء 2: 322.

    (2) تاريخ اليعقوبي 2: 181، الطبقات الكبرى 5: 54.

    (3) النحل: 92.

    الصفحة 259
    قال علي: " (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق) يا طلحة، تطلب بدم عثمان؟! فلعن الله قتلة عثمان.

    يا طلحة، أجئت بعرس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقاتل بها، وخبأت عرسك في البيت! أما بايعتني؟! ".

    قال: بايعتك والسيف على عنقي!

    فقال علي للزبير: " يا زبير، ما أخرجك؟ قد كنا نعدك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء، ففرق بيننا " وذكره أشياء، فقال: " أتذكر يوم مررت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بني غنم، فنظر إلي، فضحك، وضحكت إليه، فقلت له: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك:

    " ليس به زهو، لتقاتلنه وأنت ظالم له؟ ".

    قال اللهم نعم، ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا، والله لا أقاتلك أبدا.

    فانصرف الزبير إلى عائشة، فقال لها: ما كنت في موطن منذ عقلت إلا وأنا أعرف فيه أمري، غير موطني هذا.

    قالت: فما تريد أن تصنع؟

    قال: أريد أن أدعهم وأذهب.

    قال له ابنه عبد الله: جمعت بين هذين الغارين، حتى إذا حدد بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب؟! لكنك خشيت رايات ابن أبي طالب، وعلمت أنها تحملها فتية أنجاد، وأن تحتها الموت الأحمر، فجبنت!

    فأحفظه (1) ذلك، وقال: إني حلفت ألا أقاتله.

    قال: كفر عن يمينك، وقاتله.

    فأعتق غلامه (مكحولا)، وقيل (سرجيس).

    ____________

    (1) أحفظه: أغضبه.

    لسان العرب (حفظ) 7: 442.

    الصفحة 260
    فقال عبد الرحمن بن سلمان التميمي:

    لم أر كاليوم أخا إخوان * أعجب من مكفر الأيمان
    بالعتق في معصية الرحمن (1)

    وقيل: إنه رجع، ولم يقاتل (2).

    تلك هي مسيرة الجمل، مسيرة الجمل كل خطاها كانت ظالمة، فهل يؤمها قوم عدول؟ إن حكما كهذا لهو أشد عجبا من كل تلك الخطى.

    وفي تاريخ ابن عساكر: بعث علي عليه السلام إلى طلحة أن القني، فلقيه، فقال له: أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه "؟

    قال: نعم، وذكره.

    فقال له: ولم تقاتلني (3).

    وشهد شاهد من أهلها:

    قال ابن عساكر: قدم معاوية المدينة، فأقام بها، ثم توجه إلى الشام، فتبعه من تبعه، فأدركه ابن الزبير في أول الناس، فسار إلى جنبه ليلا وهو نائم ففزع له، فقال: من هذا؟

    فقال ابن الزبير: أما إني لو شئت أن أقتلك لقتلتك.

    قال: لست هناك، لست من قتال الملوك، إنما يصيد كل طائر قدره.

    ____________

    (1) تاريخ الطبري 5: 200، الكامل في التاريخ 3: 239، تهذيب تاريخ دمشق 5: 367، 368 ولم يذكر الشعر، والحديث " لتقاتلنه وأنت ظالم له " أخرجه أيضا: البيهقي في (دلائل النبوة) 6: 414، والحاكم في المستدرك 3: 366 - 367.

    (2) الإمامة والسياسة: 73، تهذيب تاريخ دمشق 5: 368.

    (3) تهذيب تاريخ دمشق 7: 87.