ووفق هذه النظرة الصائبة جرى بعض فقهاء السلف الورعين والمحتاطين لدينهم من أهل القرون الأولى وحسبك أن التابعي الفقيه الكبير المتفق على جلالته مسروق بن الأجدع كان يأخذ في أسفاره لبنة (أي حجرا) يسجد عليها كما أخرجه عنه إمام السنة الحافظ الثقة في زمانه أبو بكر بن أبي شبة في (مصنفه) في المجلد الثاني باب: من كان يحمل في السفينة شيئا يسجد عليه فأخرج بإسنادين: " أن مسروقا كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها ".
هذا في ما يتعلق بالسجود على الأرض مباشرة من حيث أصل الوجوب وأخذ الحيطة بحمل تربة طاهرة.
أما في ما يتعلق باستحباب السجود على تربة كربلاء فإن قاعدة التفضيل المطردة في هذه الحياة تدل عليه وتؤكده فضلا عن ورود بعض الأحاديث التي تعضده.
فلا شك أن الله - سبحانه - قد اصطفى مكة وانتجبها من بين الأماكن وجعلها مقرا لبيته الحرام الذي أوجب على الناس الحج إليه والطواف حوله وخصها بميزات معينة بوصفها حرما آمنا لا يجوز انتهاكه وما يرتبط من ذلك بشجرها ونبتها ومن نزل بها وكذلك اختار المدينة المنورة وجعلها حرما إلهيا - أيضا - يجب تعظيمه وعدم تجاوزه. وما ورد في السنة الشريفة في
بل إن قاعدة التفاضل وتفاوت الدرجات ممتدة ومطردة على الدوام حتى بين الأنبياء والمرسلين والأوصياء والأولياء والشهداء والصالحين وأفراد المؤمنين. وكذلك بين الأوقات لاختصاص بعضها بفضائل وخصال معينة فشهر رمضان خير الشهور وليلة القدر أفضل ليالي ويوم عرفة أفضل الأيام.. وما إلى ذلك من الاختصاصات والتفاضلات بين الأعيان نتيجة تعلقها بالله سبحانه ونسبتها إليه.
وكانت تربة كربلاء هي التربة التي ضمت بين ثناياها أطهر الأجساد وأطيبها وهم أبناء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذين سجلوا على صعيدها أعظم صفحات البذل والتضحية في سبيل الله سبحانه واختلطت ذراتها بدمائهم الزكية التي أهرقت قربة إليه جل وعلا فحري بها أن تلازم الإنسان المسلم في حله وترحاله وإقامته وتجاوله وتذكره دائما بما كتب عليها من معاني البطولة والفداء والبذل والعطاء وأن تكون نصب عينيه شاهدة عليه وكأنما تأخذ عليه البيعة كل يوم بالوفاء لتلك الدماء الطاهرة والالتزام بالخط الرسالي التضحوي الذي سلكه أصحابها الأبرار الذين قدموا أرواحهم قربانا إلى الله تبارك وتعالى.
إن تربة كربلاء هي رمز الجهاد الثوري الذي خاضه أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كفاحهم المرير ضد الظلم والاستكبار والفساد والانحراف.
وهي رمز الاعتزاز بالإسلام دينا ومنهجا للحياة في مواجهة القوى الشيطانية التي تسعى إلى استئصاله وإقصائه بعيدا عن ساحة الوجود.
كما أنها رمز الشجاعة والصمود في وجه الطغاة والمستبدين من أجل إحقاق الحق وتثبيت أركانه وإزهاق الباطل وتقويض بنيانه.
ولذلك جاءت الأحاديث الشريفة لتعظم تلكم التربة الطاهرة وتشيد بفضلها. ودونك ما أخرجه ابن حجر الهيتمي في (صواعقه المحرقة) في الفصل الثالث من الباب الحادي عشر ص 192 حيث قال:
- أخرج ابن سعد والطبراني عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل يعدي بأرض الطف وجاءني بهذه التربة فأخبرني أن فيها مضجعه ".
- أخرج أبو داود والحاكم عن أم الفضل بنت الحرث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " أتاني جبريل فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا (يعني الحسين) وأتاني بتربة من تربة حمراء ".
- وأخرج أحمد: " لقد دخل على البيت ملك لم يدخل علي قبلها فقال لي: إن ابنك هذا حسينا مقتول وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها ".
قال: " فأخرج تربة حمراء ".
- وأخرج البغوي في (معجمه) من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
" استأذن ملك القطر ربه أن يزورني فأذن له وكان في يوم أم سلمة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أم سلمة احفظي علينا الباب لا يدخل أحد فبينا هي على الباب إذ دخل الحسين فاقتحم فوثب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلثمه ويقبله فقال الملك: أتحبه؟ قال: نعم. قال: إن أمتك ستقتله وإن شئت أريك المكان الذي يقتل به فأراه فجاء بسهلة أو تراب أحمر فأخذته أم سلمة فجعلته في ثوبها قال ثابت: كنا نقول: إنها كربلاء ".
- وأخرجه - أيضا - أبو حاتم في (صحيحه) وروي أحمد نحوه وروى عبد الحميد وابن أحمد نحوه - أيضا - لكن فيه أن الملك جبريل فإن صح
(والسهلة - بكسر أوله -: رمل خشن ليس بالدقاق الناعم). وفي رواية الملا وابن أحمد في زيادة المسند: " قالت: ثم ناولني كفا من تراب أحمر وقال:
إن هذا من تربة الأرض التي يقتل بها فمتى صار دما فاعلمي أنه قد قتل قالت أم سلمة: فوضعته في قارورة عندي وكنت أقول: إن يوما يتحول فيه دما ليوم عظيم ". وفي رواية عنها: " فأصبته يوم قتل الحسين وقد صار دما ".
وفي رواية أخرى: " ثم قال: (يعني جبريل): ألا أريك تربة مقتله؟ فجاء بحصيات فجعلهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قارورة قالت أم سلمة: فلما كانت ليلة قتل الحسين قائلا يقول:
قالت: فبكيت وفتحت القارورة فإذا الحصيات قد جرت دما ".
- أخرج ابن سعد عن الشعبي قال: " مر علي عليه السلام بكربلاء عند مسيره إلى صفين وحازى نينوى (قرية على الفرات) فوقف وسأل عن اسم هذه الأرض فقيل: كربلاء فبكى حتى بل الأرض من دموعه ثم قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يبكي فقلت: ما يبكيك؟ قال: كان عندي جبريل آنفا وأخبرني أن ولدي الحسين يقتل بشاطئ الفرات بموضع يقال له " كربلاء " ثم قبض جبريل قبضة من تراب شمني إياه فلم أملك عيني أن فاضتا ".
ورواه أحمد مختصرا عن علي عليه السلام قال: " دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم... " الحديث. وروي الملا أن عليا عليه السلام مر بقبر الحسين (أي موضعه) فقال:
" ههنا مناخ ركابهم وههنا موضع رحالهم وههنا مهراق دمائهم فتية من آل محمد يقتلون بهذه العرصة تبكي عليهم السماء والأرض ".
وأخرج - أيضا - أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان له مشربة (أي غرفة) ورحبتها (أي مرقاتها) في حجرة عائشة يرقى إليها إذا أراد لقاء جبريل فرقى إليها وأمر
ستقتله أمتك. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ابني؟! قال: نعم وإن شئت أخبرتك الأرض التي يقتل فيها فأشار جبريل إلى الطف بالعراق فأخذ منها تربة حمراء فأراه إياها وقال: هذه من تربة مصرعه.
- أخرج الترمذي أن أم سلمة رأت النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أي في المنام) باكيا وبرأسه ولحيته التراب فسألته فقال: قتل الحسين آنفا. وكذلك رآه ابن عباس نصف النهار أشعث أغبر بيده قارورة فيها دم يلتقطه فسأله فقال: دم الحسين وأصحابه لم أزل أتتبعه منذ اليوم فنظروا فوجدوه قد قتل في ذلك اليوم فاستشهد الحسين كما قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكربلاء من أرض العراق بناحية الكوفة ويعرف الموضوع - أيضا - بالطف (1).
نقول: يتضح لنا - مما تقدم - مكانة تلك التربة الطاهرة ومدى اهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم والملائكة والملأ الأعلى بها وما ذلك إلا تنويها بعلو شأنها وجلالة قدرها ولذا كان إخواننا الشيعة يستحبون السجود عليها في صلواتهم لما اختصت به من ميزات وفضائل معنوية.
وتجب الإشارة هنا إلى أن ذلك ليس من الفرض المحتم عندهم ولا من واجبات الشرع والدين ولا يلتزمون به في ما بينهم بل إنه من قبيل الاستحسان والاستحباب فحسب.
أما الأصل الواجب فهو السجود على أي شئ طاهر يصح السجود عليه وفقا للسنة المطهرة كما قدمنا آنفا وبالله التوفيق.
____________
(1) يراجع - أيضا -: كنز العمال: ج 7 ص 105 و 106.
[ 5 ]
الأذان
إن الأذان يعبر عن النداء المتكرر الذي يوجه إلى الأمة الإسلامية لجمع أفرادها من أجل أداء الصلوات المفروضة إذ هو وسيلة إعلام مستقلة للمؤمنين لإعلامهم بدخول وقت الصلاة تميزا عن غيره من أساليب الإعلام الأخرى التي تستخدمها الملل المختلفة وهو يتضمن بين مقاطعه أهم الأركان العقائدية والأصول الدينية مثل: التوحيد والشهادة بالرسالة والإقرار بالنبوة والتكبير والتهليل وصرخات إعلاء كلمة الله وإفراده بالخلق والتدبير التي تشرح صدور المؤمنين وتشمئز منها قلوب المنافقين.
قال تعالى: (وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) [ المائدة / 58 ].
والأذان - من حيث المبدأ - قد اتفقت عليه الأمة الإسلامية قاطبة بيد أنه قد وقع تفاوت بسيط بين إخواننا الشيعة الإمامية وإخواننا أهل السنة حول نقطتين:
الأولى: كيفية بدء مشروعيته.
الثانية: بعض الألفاظ والمقاطع التي يتضمنها.
وبالرغم من كونه مجرد وسيلة إعلام بدخول الصلاة ولا يشكل خلافا جوهريا إلا أنه لا بأس من القاء بعض الضوء على هاتين النقطتين حتى تتضح الرؤية ويرتفع اللبس وسوء الفهم.
أما في ما يتعلق بالنقطة الأولى فقد ذكر في أصل مشروعية الأذان قضية حاصلها أن عبد الله بن زيد رأى ليلة - في ما يراه النائم - شخصا علمه الأذان
أخرج مالك في (الموطأ) باب: بدء الأذان بسنده عن يحيى بن سعيد أنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أراد أن يتخذ خشبتين يضرب بهما ليجتمع الناس للصلاة فأري عبد الله بن زيد الأنصاري خشبتين في النوم فقال: إن هاتين لنحو مما يريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقيل له: ألا تؤذنون للصلاة؟ فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين استيقظ فذكر له ذلك فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأذان " (1). وهذه القضية لا يقرها إخواننا الشيعة فهم يعتقدون أن الأذان من أمور الشرع التوقيفية التي أوحي بها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبل ربه وأمر بتبليغها للناس ليعملوا بها وليس العكس. نعم هناك السنة التقريرية حيث إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقر عملا قام به واحد من الأمة كان يصوب عمل رجل يكدح من أجل عيشه أو يحسن عمل رجل قام بزرع نخلة وما إليه. ومع ذلك فإن هذه الأشياء لها أصل قد جاء به الشرع الحنيف. أما بالنسبة إلى الأذان فإنه ليس من مصاديق ذلك لأنه يتعلق بالوحي والتشريع لا سيما عند اعتباره من الأمور العبادية المحضة المنوطة بالشارع المقدس وحده.
أما في ما يتعلق بالنقطة الثانية وهي مسألة ألفاظ الأذان ومقاطعه فعند إخواننا أهل السنة ألفاظ الأذان كالآتي:
الله أكبر الله أكبر | مرتين |
أشهد أن لا إله إلا الله | مرتين |
أشهد أن محمد رسول الله | مرتين |
____________
(1) ذكر قضية الأذان بالتفصيل كل من أبي داود والترمذي وأحمد في مسنده والحاكم في مستدركه وابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما. فراجع: نيل الأوطار للشوكاني: ج 2 ص 40 وأوردها الحلبي في باب: بدء مشروعية الأذان من سيرته وكل من ذكر عبد الله بن زيد من أصحاب التراجم أشار إلى هذه القضية وربما سموه صاحب الأذان.
حي على الصلاة | مرتين |
حي على الفلاح | مرتين |
الله أكبر الله أكبر | مرة |
لا إله إلا الله | مرة |
فقد أخرج الدارقطني في (سننه) بسنده عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه قال لمؤذنه: " إذا بلغت " حي على الفلاح " في الفجر فقل: الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم " (1). وفي لفظ مالك: أنه بلغه أن المؤذن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه لصلاة الصبح فوجده نائما فقال: " الصلاة خير من النوم " فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح " (2).
قال الدهلوي في شرح (الموطأ): " وعليه أكثر أهل العلم ".
أما عند إخواننا الشيعة فإن ألفاظ الأذان كما يأتي:
الله أكبر الله أكبر | مرتين |
أشهد أن لا إله إلا الله | مرتين |
أشهد أن محمد رسول الله | مرتين |
حي على الصلاة | مرتين |
حي على الفلاح | مرتين |
حي على خير العمل | مرتين |
الله أكبر الله أكبر | مرة |
لا إله إلا الله | مرتين |
____________
(1) سنن الدارقطني: ج 1 ص 243.
(2) الموطأ ص 78.
" أشهد أن عليا ولي الله " على سبيل التبرك والاستحسان الزائد لا بوصفه جزءا من ألفاظ الأذان ومقاطعه.
وهنا يطرأ سؤالان:
الأول: هل هناك دليل على هذا المقطع " حي على خير العمل "؟
الثاني: هل هناك مسوغ لاستحباب قول: " أشهد أن عليا ولي الله "؟
أما بالنسبة للسؤال الأول فقد أجابوا بأن الروايات الصحيحة المتضافرة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام تؤكد أن مقطع " حي على خير العمل " هو جزء من ألفاظ الأذان الشرعية وقد تظاهرت الأحاديث المتواترة من طرقنا بذلك.
كما أن هناك بعض الإشارات في كتب أهل السنة تدل على أن هذا المقطع كان موجودا في الأذان ولكنه قد أسقط اجتهادا وتأولا حيث كان القائمون بالأمر يرغبون في إعلام العامة بأن خير العمل إنما هو الجهاد في سبيل الله ليشتاقوا إليه وتعكف هممهم عليه والنداء على الصلاة بخير العمل في كل يوم خمس مرات ربما ينافي ذلك.
بل ربما رأوا أن في بقاء هذه الكلمة في الأذان تثبيطا للعامة عن الجهاد إذ لو عرفوا أن الصلاة خير العمل مع ما فيها من السلامة وعدم المخاطرة لاقتصروا في ابتغاء الثواب عليها وأعرضوا عن خطر الجهاد المفضول بالنسبة إليها وكانت همة القائم بالأمر - يومئذ - عمر بن الخطاب (ره) متجهة إلى تبليغ رسالة الإسلام ودعوة بقية الدول والشعوب إليه.
ولا شك أن ذلك لا يكون إلا بتشويق الجنود إلى خوض الغمار في سبيل الدعوة بحيث يقبلون على الجهاد معتقدين بأنه خير العمل يوم المعاد ولذا قد ترجحه في نظره إسقاط هذه الكلمة تحقيقا للمصلحة المطلوبة كما أن
متعة النساء ومتعة الحج وحي على خير العمل ". ثم عرض القوشجي مسوغات هذا الاجتهاد مع اعترافه به.
وتبعه في إسقاطها عامة من تأخر من المسلمين في ما عدا أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم فإن " حي على خير العمل " من مقاطعهم في الأذان كما هو بديهي في مذهبهم حتى أن شهيد فخ الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين عليهم السلام لما ظهر بالمدينة أيام الطاغية الهادي من ملوك العباسيين أمر المؤذن أن ينادي بها ففعل وقد نص على ذلك أبو الفرج الأصفهاني في كتابه " مقاتل الطالبيين " (1).
وذكر الحلبي في باب: بدء الأذان ومشروعيته: أن عبد الله بن عمر والإمام علي بن الحسين كانا يقولان في الأذان بعد " حي على الفلاح ": " حي على خير العمل " (2).
وربما يقول قائل: هل يجوز الاجتهاد في إسقاط المقطع من الأذان؟
والجواب: أن ذلك الاجتهاد كان يهدف إلى تحقيق مصلحة معينة دون الإخلال بطبيعة دور الأذان بوصفه وسيلة إعلام بالصلاة كما أن الذي سوغ الزيادة فيه هو الذي سوغ الإسقاط منه فها قد رأيت أنه قد زاد " الصلاة خير من النوم " في صلاة الصبح وهذه الكلمة لا عين لها ولا أثر في ما هو مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كيفية الأذان فراجع كتاب الأذان من (صحيح البخاري) وباب: صفة الأذان في أول كتاب الصلاة من (صحيح مسلم).
____________
(1) راجع ما ذكره عن صاحب فخ ص 446.
(2) السيرة الحلبية: ج 2 ص 305 ونيل الأوطار: ج 2 ص 43 و 44.
" الصلاة خير من النوم " فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح قال الإمام الدهلوي " وعليه أكثر أهل العلم ".
وبالرغم من ورد بعض الأخبار المرفوعة عن أبي محذورة والتي تفيد أن تلك الزيادة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن الروايات الثابتة عن أبي محذورة في ألفاظ الأذان لا تتضمن هذه الزيادة ولعله اشتباه من الرواة فنسبوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حين أن النسبة الصحيحة كانت إلى عمر (ره).
ولذلك قال الشافعي في (الأم): " والأذان والإقامة كما حكيت عن آل أبي محذورة فمن نقص منها شيئا أو قدم مؤخرا أعاد حتى يأتي بما نقص وكل شئ منه في موضعه والمؤذن الأول والآخر سواء في الأذان ولا أحب التثويب في الصبح ولا غيرها لأن أبا محذورة لم يحك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمر بالتثويب فأكره الزيادة في الأذان وأكره التثويب بعده " (1).
وعلى أية حال فإن إيراد " حي على خير العمل " كفصل من فصول الأذان لا غضاضة فيه البتة بل هو أمر مرغوب فيه أوليست الصلاة هي عمود الدين وهي أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة فإذا صلحت صلح سائر عمله وإذا فسدت فسد سائر عمله؟
وهي الركن الإسلامي والعبادة الوحيدة التي لم يرخص الشرع في تركها؟
كل ذلك يجعلها تتبوأ موقعا فريدا ومكانة متميزة في الإسلام تجعلها جديرة بأن تكون خير العمل وأحبه إلى الله تعالى.
أما في ما يتعلق بالسؤال الثاني حول وجود مسوغ لاستحباب قول:
" أشهد أن عليا ولي الله " أجابوا: أن مكانة أهل البيت عليهم السلام الذين أذهب
____________
(1) الأم للشافعي: ج 1 ص 73.
(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) [ الشورى / 23 ] والقربى هم أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين نشأوا في كنفه ورعايته.
وفي ما يخص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فإنه يحظى بمنرلة فريدة مرموقة ويتبوأ مكانة عظيمة متميزة فهو سيد العترة المحمدية وأبو الأئمة الأطهار عليهم السلام وأن ولايته مفروضة على جميع المؤمنين كما جاء بذلك الكتاب المجيد والسنة المطهرة ففيه نزل قول الحق تبارك وتعالى في " سورة المائدة ": (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) [ المائدة / 55 و 56 ] (1).
فقد أخرج الإمام الثعلبي في (تفسيره الكبير) عند بلوغه هاتين الآيتين بالإسناد إلى أبي ذر الغفاري قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهاتين وإلا صمتا ورأيته بهاتين وإلا عميتا يقول: علي قائد البررة وقاتل الكفرة منصور من نصره مخذول من خذله أما إني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا وكان علي راكعا فأومأ بخنصره إليه وكان يتختم بها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره فتضرع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله - عز وجل - يدعوه فقال: اللهم إن أخي موسى سالك (قال رب اشرح لي صدري * ويسر لي أمري * واحلل عقدة من
____________
(1) أخرج السيوطي في الدر المنثور: ج 2 ص 293 ثلاث عشرة رواية نزلت في الإمام علي إذ تصدق بخاتمه وهو راكع. وكذلك في لباب النقول ص 90 ونقله عن الطبراني وابن مردويه وابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهم وأخرج الطبري ست روايات نزلت فيه وأقر بنزولها فيه أيضا الرازي والزمخشري والبيضاوي وغيرهم من المفسرين وأخرج ذلك أيضا النسائي في صحيحه وصاحب الجمع بين الصحاح الستة من حديث ابن سلام مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومثله حديث ابن عباس في تفسير هذه الآية من كتاب: أسباب النزول للواحدي ص 148.
قال أبو ذر: فوالله ما استتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلمة حتى هبط عليه الأمين جبريل بهاتين الآيتين: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) ".
فتأمل قوله تعالى: (إنما وليكم) الذي تصدر بأقوى أدوات القصر " إنما " بحيث يفيد حصر الولاية وقصرها إذ أن المقصود بالولاية هنا هو الولاية عن النفس والأولوية في التصرف على غرار قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) [ الأحزاب / 6 ] وليست الولاية هنا بمعنى النصرة أو المحبة كما زعم بعضهم وإلا فلا يصبح ثمة وجه للحصر كما لا يخفى.
وكان الله - عز وجل - يريد أن يبين للمؤمنين: إنما وليكم الأولى بكم من أنفسكم هو الله ورسوله وعلي فكما أن ولاية الله عامة فكذلك ولاية رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وولاية الإمام علي عليه السلام على ذات الأسلوب وبلا فرق.
وهذه الآية الكريمة تثبت أن ولاية الإمام علي عليه السلام مفروضة على جميع المؤمنين مثل ولاية رسول رب العالمين صلى الله عليه وآله وسلم بنص الكتاب المحكم المبين.
ثم جاءت السنة المطهرة لتعضد ما جاء في الكتاب المجيد وتضفي عليه مزيدا من التأكيد فقد أخرج أبو داود الطيالسي - كما في أحوال علي من القسم الثالث من (الإستيعاب) لابن عبد البر - بالإسناد إلى ابن عباس قال:
" قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب: أنت ولي كل مؤمن بعدي " (1).
____________
(1) أخرجه أبو داود الطيالسي وغيره من أصحاب السنن عن أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري =
فأعرض عنه فقام الثاني فقال مثل ذلك فأعرض عنه وقام الثالث فقال مثل ما قال صاحباه فأعرض عنه وقام الرابع فقال مثل ما قالوا فأقبل عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والغضب يبصر في وجهه فقال: ما تريدون من علي؟! إن عليا مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي " (1).
وكذلك ما جاء عن ابن عباس عن بريدة قال: " غزوت مع العلي اليمن فرأيت منه جفوة فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت عليا فتنقصته فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتغير فقال: يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ فقلت: بلى يا رسول الله. قال: من كنت مولا هذا علي مولاه " (2).
ومثله ما أخرجه ابن السكن عن وهب بن حمزة - كما في ترجمة وهب من (الإصابة) - قال: " سافرت مع علي فرأيت منه جفاء فقلت: لئن رجعت لأشكونه فرجعت فذكرت عليا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت عنه فقال: لا
____________
= عن أبي بلج يحيى بن أبي سليم الفزاري عن عمرو بن ميمون الأودي عن ابن عباس مرفوعا ورجال هذا السند كلهم حجج وقد احتج بكل منهم الشيخان في صحيحيهما إلا يحيى بن أبي سليم لم يخرجا له لكن أئمة الجرح والتعديل صرحوا بوثاقته وقد نقل الذهبي - حيث ترجمه من الميزان - توثيقه عن يحيى بن معين والدار قطني ومحمد بن سعيد وأبي حاتم وغيرهم وكذلك نقل وثاقته ابن أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل احتج به أصحاب السنن الأربعة.
(1) أخرجه غير واحد من أصحاب السنن كالإمام النسائي في خصائصه العلوية وأحمد بن حنبل في مسنده من حديث عمران: ج 4 ص 438 والحاكم في مستدركه: ج 3 ص 111 مسلما بصحته على شرط مسلم وأقره الذهبي في التلخيص وأخرجه بن أبي شيبة وابن جرير وصححه في ما نقله عنهما المتقي الهندي في كنز العمال: ج 6 ص 400.
(2) أخرجه أحمد: ج 5 ص 347 من مسنده والحاكم: ج 3 ص 110 من المستدرك وغير واحد من المحدثين.
وأخرج الطبراني وغيره بسند مجمع على صحته عن زيد بن أرقم قال:
" خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغدير خم تحت شجرات فقال: أيها الناس يوشك أن أدعى فأجيب وأني مسؤول وأنكم مسؤولون فماذا أنتم قائلون؟ قالوا:
نشهد أنك قد بلغت وجاهدت ونصحت فجزاك الله خيرا فقال: أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن جنته حق وأن ناره حق وأن الموت حق وأن البعث بعد الموت حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلى نشهد بذلك.
قال: اللهم اشهد ثم قال: يا أيها الناس إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فهذا مولاه [ يعني عليا ] اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.
ثم قال: يا أيها الناس إني فرطكم وإنكم واردون على الحوض حوض أعرض مما بين بصرى إلى صنعاء فيه عدد النجوم قدحان من فضة وإني سائلكم حين تردون علي عن الثقلين كيف تخلفوني فيهما كتاب الله عز وجل سبب طرفه بيد الله تعالى وطرفه بأيديكم فاستمسكوا به لا تضلوا ولا تبدلوا وعترتي أهل بيتي فإنه قد نباتي اللطيف الخبير أنهما لن ينقضيا حتى يردا على الحوض " (2).
وعن البراء بن عازب قال: " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزلنا بغدير خم فنودي فينا: الصلاة جامعة وكسح لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت شجرتين فصلى
____________
(1) نقله المتقي عن ابن أبي عاصم: ج 6 ص 397 من الكنز.
(2) هذا لفظ الحديث عن الطبراني وابن جرير والحكيم الترمذي عن زيد بن أرقم وقد نقله ابن حجر عن الطبراني وغيره بهذا اللفظ وأرسل صحته إرسال المسلمات عند ذكره الشبهة الحادية عشرة ص 43 من الصواعق.
قالوا: بلي. قال: ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلى.
قال: فأخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال: فلفيه عمر بعد ذلك فقال له: هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة " (1).
هذا الحديث يعرف بحديث الغدير وقد قال ابن كثير - كما في مقدمة (تاريخ الطبري) ط 1 دار المعارف -: رأيت للإمام الطبري كتابا جمع فيه أحاديث غدير خم في مجلدين. وقال فيه ابن حجر الهيثمي: إنه حديث صحيح لا مرية فيه وقد أخرجه جماعة كالترمذي وأحمد وطرقة كثيرة جدا ومن ثم رواه ستة عشر صحابيا وفي رواية لأحمد أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثون صحابيا. فراجع ما ذكره في الشبهة الحادية عشرة من (صواعقه ص 42).
وهذا الحديث قد قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند عودته من حجة الوداع فنزل بغدير يقال له " خم " بين مكة ومدينة فجمع الناس ثم قام فيهم خطيبا فقال:
" ألستم تشهدون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى. فأخذ بيد علي وقال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله ".
فاقبل على هذا الحديث بقلبك وتدبره بلبك وتأمل مقاصده وانظر أي منزلة عظيمة وأي مكانة مرموقة قد حباها الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم لسيد العترة الطاهرة وأبي الأئمة الميامين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ألا وهي الولاية العامة على جميع المؤمنين.
____________
(1) هذا الحديث يعرف بحديث الغدير وقد أخرجه بألفاظ متقاربة كثير من الحفاظ والمحدثين فقد أخرجه أحمد عن البراء بن عازب في المستدرك عن زيد بن أرقم من طريقين وصححهما على شرط الشيخين: ج 3 ص 109 وأقره الذهبي في التلخيص وأخرجه النسائي في خصائصه العلوية من حديث سعد ص 25 ومن حديث عائشة بنت سعد ص 4 ومن حديث زيد بن أرقم ص 21.
وفي هذه الآية المباركة قد جاء الأمر الأكيد في ما يشبه الوعيد من رب العرش المجيد إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ ولاية الإمام علي عليه السلام إلى الناس كافة.
وإلا فإن " سورة المائدة " كانت آخر سورة نزلت من القرآن والشرائع والأحكام قد اكتملت والحلال بين والحرام بين فما هو هذا الأمر العظيم الذي شدد الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغه للناس بحيث إن التقاعس عن تبليغه أو التهاون في أدائه يعدل عدم تبليغ الرسالة كلها؟!
إن هذا الأمر الخطير الذي أنزل من عند الله - سبحانه - هو ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام المفروضة على كل مؤمن ومؤمنة والتي صدع بها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم على رؤوس الأشهاد يشيد بها ويعلنها حقيقة واقعة بين تلك الجموع الحاشدة والأعداد البشرية الكبيرة عند عودته من حجة الوداع وأكد على أهميتها وضرورة الالتزام بها.
وقد قال حسان بن ثابت في هذا اليوم المهيب:
____________
(1) نص على ذلك الإمام الواحدي في أسباب النزول من طريقين معتبرين عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) يوم غدير خم في علي بن أبي طالب وأخرجه الحافظ أبو نعيم في تفسيرها من كتابه نزول القرآن بسندين أحدهما عن أبي رافع والآخر عن أبي سعيد ورواه الحمويني الشافعي في كتابه فرائد السمطين بطرق متعددة وأخرجه الإمام الثعلبي في معنى الآية من تفسيره بسندين معتبرين وكذلك أخرجه السيوطي في الدر المنثور عند بلوغه الآية من تفسيره.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تزال - يا حسان - مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك ".
هذه الولاية العامة التي افترضها الله في كتابه والتي صدع بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأعلنها على رؤوس الملأ في ذلك اليوم المشهود هي التي دفعتنا على استحباب الإشادة بها وإعلانها كل يوم مع الأذان مثلما أعلنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على مسامع الأمة وقد شدد الله عليه في تبليغها بحيث إن عدم القيام بذلك يعادل عدم تبليغ الرسالة بأجمعها ولهذا فإن إعلان تلك الولاية في الأذان ما هو إلا بمثابة تبليغ لها وإعلام بها وتأكيد على عظيم شأنها حتى تكون الأمة على دراية بها كما أنزلها الله في كتابه وأمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وعلى أية حال فإن الشهادة بالولاية - كما أومأنا من قبل - ليست من فصول الأذان الجزئية ولكن يؤتى بها على سبيل الاستحباب والاستحسان لما تقدم وأما من لم يأت بها فلا شئ عليه البتة وأذانه صحيح مائة بالمائة.
هذا وبالله التوفيق.
[ 6 ]
زواج المتعة
الزواج أمر هام ندب إليه الشرع المقدس وحث على المبادرة إليه عند القدرة عليه لأنه يحفظ أخلاق الفرد والجماعة ويصون الأعراض من الانتهاك والشبهة ويمنع الوقوع في الفتن والرذائل ويحول دون ارتكاب الشذوذ والفحشاء وما إليها من المنكرات وبذلك يحتفظ المجتمع بنقاء فطرته وسلامة طبائعه ويصبح مجتمعا فاضلا متحليا بمكارم الأخلاق وهذا بدوره سوف ينعكس على نظامه وآدابه ومدى تماسكه.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج " (1). (الباءة: القدرة على الزواج).
وأن الإنسان الذي يقبل على الزواج يرمي إلى تحقيق غرضين:
الأول: الحافظ على عفته وسلامة عرضه وعصم نفسه عن مقارفة الإثم والفحشاء وإشباع غريزته الفطرية التي استودعه الله إياها من خلال القناة الشرعية التي حددها له خالقه وهذا الغرض يعرف (بالغرض الغريزي).
الثاني: تحقيق الاستقرار العائلي وتكوين الأسرة وإنجاب الأولاد نظرا لتعلق الإنسان فطريا بالجو العائلي ورغبته الحثيثة في إيجاد الأولاد إذ أنهم يسدون فراغا نفسيا في حياته ويحملون اسمه ومبادئه من بعده ويصونون ثروته ويكثرون قلته وما إلى ذلك مما ينشده المرء من وراء إنجاب الأولاد وهذا الغرض يعرف (بالغرض العائلي).
____________
(1) رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود.
أما بالنسبة للغرض الأول فإنه يتعلق بإشباع الغريزة الفطرية التي تصاحب المرء وتلازمه كأحد مكوناته الأساسية ما دام على قيد الحياة وهذا (الجانب الغريزي) لا يتوقف على القدرة الصحية والمالية التي يتطلبها (الجانب العائلي) كما أنه لا يمكن إرجاؤه أو التغاضي عنه أو إهماله لأنه يلازم الإنسان ويشكل مطلبا ضروريا نابعا من طبيعة تكوينه مثل: الأكل والشرب والنوم وسائر الغرائز الفطرية التي تحكم سلوكه اللاإرادي. ولذلك إذ أمكن إرجاء (الجانب العائلي) إلى حين توفر القدرة والإمكانات لتحقيقه إلا أن ذلك لا يتيسر بسهولة بالنسبة (للجانب الغريزي) لأنه يجري من المرء مجرى الدم إذا ما هو العلاج الذي يمكن وصفه في هذه الحالة؟
هناك عدة أساليب مقترحة:
أولا: أن يتسامى الفرد بهذا (الجانب الغريزي) وينبذه وراء ظهره ويحصر اهتمامه في الروحانيات بحيث يفقد قابلية الاستجابة لعوامل إثارة الشهوة ودواعيها وبالتالي يضل هادئا وادعا لا يرد على ذهنه أمر إشباع تلك الغريزة غير أن هذا الأسلوب لا يتوفر لكل إنسان فإذا استطاع شخص ما أن يتسامى بغرائزه ويرقى بمشاعره فهناك غيره ممن لا يستطيع ذلك بل إن هذا المستطيع قد لا تتسع قدرته على الدوام وفي جميع الظروف والأحوال لأن الشهوة أمر غريزي فطري والمرء مجبول عليه وأن تكليفه بذلك يعد تكليفا فوق طاقته قال تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) [ البقرة / 286 ].
كما أنه قد يؤدي إلى الإصابة بالأمراض النفسية والعصبية. كذلك فإن محاولة فرض حالة من الانضباط على غرائز الإنسان غير ممكنة لجميع البشر ومن المحتمل أن يأتي وقت ما على الإنسان يفلت منه الزمام ويقوده ذلك إلى الشذوذ وارتكاب الفحشاء وهذا لا يرضى به الشرع أبدا.
ثالثا: تصيير صورة معينة للزواج تختص بإشباع (الجانب الغريزي) بصورة طبيعية فطرية بحيث لا تتوقف على الإمكانات والقدرات الكبيرة نسبيا التي يتطلبها (الجانب العائلي) وهذه الصورة المنشودة من واقع الفطرة ترمي إلى إشباع شهوة الإنسان وسد حاجته الغريزية على نحو طبيعي وفي إطار مشروع بحيث يحول ذلك دون كبت مشاعره ووقوعه في دائرة الشذوذ والانحراف.
ولذلك قد شعر الله سبحانه - العالم بعباده - هذه الصورة رفقا بخلقه ورحمة بعباده وانسجاما مع غرائزهم التي استودعهم إياها وإشباعا لنوازعهم الفطرية وصيانة لأعراضهم من الدنس والرذيلة وحفظا لحالة التوازن الشعوري داخل أنفسهم.
تلك الصورة من الزواج هي ما أطلق عليها الشرع المقدس " زواج المتعة " أو بتعبير آخر " الزواج المؤقت " وهذه الصورة تعد زواجا طبيعيا مشروطا بمدة معينة بحيث تؤدي إلى سد الحاجة الغريزية وإشباع الشهوة الفطرية عند عدم توفر الإمكانات التي يتوقف عليها الزواج الدائم ذو الطابع العائلي كما أن الزواج المؤقت قد عمل على حل كثير من مشكلات العقم والترمل والعزوبة والغربة والسفر وما إلى ذلك من الظروف والأحوال التي قد تحول دون إتمام الزواج الدائم وتهيئة المناخ المناسب له وتحقيق الأغراض المتوخاة منه.
طبيعة الزواج المتعة
حقيقة هذا الزواج أن يتزوج المرأة الحرة الكاملة المسلمة أو الكتابية بحيث لا يكون عنده مانع شرعي في دين الإسلام عن نكاحها من نسب أو مصاهرة أو إحصان أو عدة أو غير ذلك من الموانع الشرعية ككونها معقودا عليها من قبل أحد آبائه وإن كان طلقها أو مات عنها قبل الدخول بها أو أختا لزوجته مثلا أو نحو ذلك.
تقوم هذه المرأة بتزويج نفسها إلى هذا الشخص في مقابل مهر معين إلى أجل معين بعقد زواج جامع لشرائط الصحة الشرعية لا يوجد به أي مانع شرعي - كما أشرنا من قبل - فتقول له بعد تبادل الرضا والاتفاق بينهما: زوجتك أو: أنكحتك أو: متعتك نفسي بمهر قدره كذا لمدة كذا ثم تحدد المدة المتفق عليها بالضبط فيقول هو لها على الفور: قبلت.
وتجوز الوكالة في هذا العقد من كلا الزوجين كغيره من العقود وبعد ذلك تكون زوجة له وهو زوجا لها إلى منتهى المدة المذكورة في العقد وبمجرد انتهائها تنفصل عنه من غير طلاق كالإجارة ومن حق الزوج أن يفارقها قبل انتهائها بأن يهبها المدة المحددة ويتنازل عن استكمالها معها بغير طلاق أيضا - عملا بنصوص خاصة حاكمة بذلك - ويجب عليها مع الدخول بها وعدم بلوغها سن اليأس الشرعي أن تعتد بعد هبة المدة أو انقضائها بحيضتين حتى يستبرئ ما في رحمها إن كانت ممن تحيض وإلا فبخمسة وأربعين يوما كالأمة عملا بأدلة خاصة تحكم بذلك.
فإذا وهبها المدة أو انقضت قبل أن يمسها فما له عليها من عدة كالمطلقة
قبل المس والبالغة سن اليأس وإن كانت حاملا في زواج المتعة فأجلها أن
تضع حملها مثل المطلقات في الزواج الدائم. أما عدة المتوفى عنها زوجها في
زواج المتعة فهي تماما عدة المتوفى عنها زوجها في الزواج الدائم مطلقا
سواء اكان مدخولا بها أم لا وسواء كانت حبلى أم لا وعدة الحبلى إذا مات