الصفحة 148

فمثل هذه الكلمات العنيفة التي تخرج في هذا المكان الانتخابي الحساس إلى حد التهديد بالضرب والدعوة للقتل إنما تدل على تلك النفوس المليئة بالحقد والمشبعة بالعداء والكراهية لبعضها البعض.. فكيف لنا أن نقبل مشورة مثل هؤلاء ـ إن صحت الشورى ـ.

ثم انظر إلى كلماتهم واحتجاجاتهم على بعضهم البعض، فهي احتجاجات واهية بعيدة عن الصواب، فاحتجاج عمر مثلاُ ـ وهو أقوى الاحتجاجات: (لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم، وولي أمرهم منهم).

فإذا كان العرب لا يرضون بإمارة من هون بعيد عن النبي، فبالأولى أن ترضى بإمارة من هو أقرب من رسول الله (ص) وهو علي بن أبي طالب (ع)، ولذلك قال أمير المؤمنين (ع): (احتجوا بالشجرة وتركوا الثمرة)(1).

وإذا كانت العرب لا ترضى بإمارة علي (ع) فبالأولى أن لا ترضى بإمارة رجل من قبيلة تيم، فإذا كانت هذه حجتهم فلعلي (ع) الحجة البالغة.

.. قال أبو بكر الجواهري في احتجاج علي (ع): (وعلي يقول: (أنا عبد الله وأخو رسول الله) حتى انتهوا به إلى أبي بكر، فقيل له: بايع، فقال: أنا أحق بهذا الأمر منكم لا بايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله، فأعطوكم المقادة وسلموا إليكم الإمارة، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، فأنصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم، واعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفت الأنصار لكم وإلا فبؤوا بظلم وأنتم تعلمون فقال عمر: إنك لست متروكاً حتى تبايع..

____________

1- شرح النهج لابن أبي الحديد ج2 ص2.


الصفحة 149
فقال له علي: احلب له يا عمر حلباً لك شطره، اشدد له اليوم أمره ليرده عليك غداً. لا والله لا أقبل قولك ولا أتبعك(1).

فحاولوا بعدة طرق أن يكسبوا علياً (ع)، فقد حاولوا يوماً أن يغيروا العباس فقالوا أعطوه نصيباً يكون له ولعقبه من بعده فتقطعون به ناحية علي بن أبي طالب وتكون لكم حجة على علي إذا مال معكم)(2)... وجاء في رد العباس: (فأما ما قلت إنك تجعله لي، فإن كان حقاً للمؤمنين فلس لك أن تحكم فيه، وإن كان لنا فلم نرضى ببعضه دون بعض؟! وعلى رسلك فإن رسول الله من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها)(3).

وعندما لم ينجح هذا لاأسلوب لجأوا إلى أسلوب الإكراه.

قال عمر بن الخطاب: وإنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه أن علياً والزبير ومن معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة(4).

فبعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجهم من بيت فاطمة، وقال له: إن أبوا فاقتلهم.

فأقبل ـعمر بن الخطاب ومن معه ـ بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار فلقيتهم فاطمة فقالت:

يا بن الخطاب أجئت لتحرق دارنا؟!

قال: نعم، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة(5)

وفي أنساب الأشراف:

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج2 ص2ـ5.

2- الإمامة والسياسة، لابن قتيبة ج2 ص14، تاريخ اليعقوبي ج2 ص124ـ125.

3- تاريخ اليعقوبي ج2 ص124.

4- مسند أحمد ج1 ص55، الطبري ج2 ص466، ابن الأثير ج2 ص124، ابن كثير ج5 ص246.

5- العقد الفريد لابن عبد ربه ج3 ص64، وأبو الفداء ج1 ص156.


الصفحة 150
فتلقته فاطمة على الباب فقالت فاطمة:

يا ابن الخطاب أتراك محرقاً عليَّ بابي؟!

قال نعم(1).

وقد عد المررخون من الرجال الذين تعدوا على دار فاطمة لإحراقها:

1ـ عمر بن الخطاب.

2ـ خالد بن الوليد.

3ـ عبد الرحمن بن عوف.

4ـ ثابت بن قيس بن شماس.

5ـ زياد بن لبيد.

6ـ محمد بنمسلم.

7ـ زيد بن ثابت.

8ـ سلمة بن سلامة بن وغش.

9ـ سلمة بن أسلم.

10ـ أسيد بن حضير.

قال اليعقوبي: فأتوا في جماعة حتى هجموا على الدار ـ إلى قوله وكُسر سيفه ـ أي سيف علي ودخلوا الدار(2).

وقال الطبري: أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين، فخرج عليه الزبير مسلطاً بالسيف، فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه(3).

ورأت فاطمة ما صنع بهما ـ أي بعلي والزبير ـ فقامت على باب الحجرة وقالت: يا أبا بكر، ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله، والله لا أكلم عمر حتى ألقى الله(4).

ولهذا ولمنع فاطمة إرثها ومصائب أخرى، غضبت فاطمة، ووجدت على أبي بكر فهجرته ولم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي ستة

____________

1- أنساب الأشراف ج1 ص586، كنز العمال ج3ص140، الرياض النضرة ج1 ص167.

2- اليعقوبي ج2 ص126.

3- الطبري ج2 ص443ـ 446، عبقرية عمر للعقاد ص173.

4- شرح النهج لابن أبي الحديد ج1 ص143، ح2 ص2ـ5.


الصفحة 151
أشهر...! فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر(1) ـ أي لم يحضر جنازتها.

وفي رواية أنها قالت له:

والله لأدعون عليك في كل صلاة أصليها(2).

ولهذا قال أبو بكر في مرض موته:

أما إني لا آسي على شيء من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن، وددت أني تركتهن ـ إلى قوله: فأما الثلاث التي فعلتهن: فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء، وإن كانوا قد أغلقوه على الحرب(3).

وفي اليعقوبي: وليتني لم أفتش بيت فاطمة بنت رسول الله وأدخله الرجال ولو كان أغلق على الحرب(4).

وفي هذا يقول شاعر النيل حافظ إبراهيم:


وقولة لعلي قالها عمرأكرم بسامعها أعظم بملقيها
حرّقت دارك لا أبقي عليك بهاإن لم تبايع وبنت المصطفى فيها
ما كان غير أبي حفص يفوه بهاأمام فارس عدنان وحاميها

ديوان حافظ إبراهيم ط. المصرية.

وقد تطور الأمر أكثر من ذلك، عندما هددوا علياً (ع) بالقتل، فقد أخرجوا علياً (ع) مكرهاً من بيته وذهبوا به إلى أبي بكر وقالوا له: بايع، فقال: إن أنا لم أفعل فمه؟

قالوا: إذن والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك.

____________

1- البخاري ج 5 ص 177، ج4 ص 96.

2- الإمامة والسياسة ج 1 ص 25.

3- الطبري ج2 ص 619، ومروج الذهب ج 1 ص 414، والعقد الفريد ج3 ص 69، وكنز العمال ج 3 ص 135، والإمامة والسياسة ج 1 ص 18 وتاريخ الذهبي ج 1 ص 388.

4- تاريخ اليعقوبي ج2 ص 115.


الصفحة 152
فقال: إذن تقتلون عبد الله وأخا رسول الله(1).

فبهذه الطريقة التي بدأت فيها الخلافة بالغلبة وانتهت بالإكراه والتهديد بالقتل، لا يمكن أن تكون مصداقاً لنظرية الشورى.

وعندما شعر أبو بكر وعمر بقبيح ما صنعوا، جاءوا للاعتذار من فاطمة، ولكن بعد فوات الأوان.

قالت لهم فاطمة: (أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول الله تعرفانه وتفعلان به؟

قالا: نعم؟

فقالت: نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول: (رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني).

قالا: نعم، سمعناه من رسول الله.

قالت: إني اشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه.

وقالت وهي تخاطب أبا بكر: والله لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها...)(2).

وهكذا لم يستحق أبو بكر خلافة المسلمين بالشورى، فإن الشورى باطلة نظرياً، ولم يكن لها وجود في الواقع الخارجي، فإذا تجاوزنا وسلمنا بأن بأن أبو بكر أتى إلى الخلافة عن طريق الشورى، وأن الشورى هي الطريق الوحيدة لذلك، فكيف حق له أن ينصب عمراً خليفة من بعده.

وبذلك يكون أبو بكر وخلافته أما م محظورين:

____________

1- الإمامة والسياسية ج1 ص19.

2- المصادر السابق.


الصفحة 153
الأول: أن تكون الشورى هي الطريق الذي جعله اله لتنصيب الخليفة فيكون أبو بكر عاصياً لأمر الله لمخالفته هذا الأمر وتنصيبه لعمر.

الثاني: أن لا تكون الشورى أمراً إلهياً. فتكون خلافة أبي بكر غير شرعية، لأنها أتت بالشورى التي لم يأمر بها الله.

وبالتبع تكون خلافة عمر وعثمان غير شرعة، ما عدا الإمام علي (ع) فقد أجمعت الامة جميعها على مبايعته بالخلافة بعد مقتل عثمان فضلاً عن النص على خلافته وإمامته من الله ورسوله، فإن كانت هناك شورى فهي لعلي (ع) وإن كان هناك تنصيب فهو لعلي (ع).. كما تواترت الاخبار في ذلك.

ولإتمام الفائدة نختم هذا البحث بهذه المناظرة:

قيل لعلي بن ميثم: لِمَ قعد علي (ع) عن قتالهم؟

قال: كما قعد هارون عن السامري وقد عبدوا العجل(1).

كان كهارون حيث يقول: (ابن أم إن القوم استضعفوني) الأعراف/150.

وكنوح إذ قال: (إني مغلوب فانتصر) القمر/10.

وكلوط إذ قال: (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) هود/80.

وكموسى وهارون، إذ قال موسى موسى: (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي) المائدة/25.

وهذا المعنى قد أخذه من قول أمير المؤمنين لما اتصل به الخبر أنه لم ينازع الأولين. فقال (ع): لي بستة من الأنبياء أسوة أولهم خليل الرحمن إذ قال: (وأعتزلكم وما تعبدون من دون الله) مريم/48.

____________

1- أي حرص على عدم تفريق الامة والأعداء من حولها يتربصون بها الدوائر كما حرص هارون على عدم تفريق بني إسرائيل (إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل) طه/94.


الصفحة 154
فإن قلتم: إنه اعتزلهم من غير مكروه فقد كفرتم.

وإن قلتم: إنه اعتزلهم لما راى المكروه فالوصي أعذر.

وبلوط غذ قال: (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد).

فغن قلتم: إن لوطاً كانت له بهم قوة، فقد كفرتم، وإن قلتم: لم يكن له بهم قوة، فالوصي أعذر.

وبيوسف إذ قال: (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه).

فغن قلتم: طلب السجن بغير مكروه يسخطالله، فقد كفرتم.

وإن قتلم: إنه دعي إل ما يسخ طالله فالوصي أعذر.

وبموسى إذ قالLفررت منكم لما خفتكم) الشعراءم21.

فإن قلتم: إنه فر من غير خوف فقد كفرتم.

وإن قلتم: فر منهم لسوء أرادوه به، فالوصي أعذر.

وبهارون إذ قال لأخيه: (ابن أم عن القوم استضعفوني وكادوا يقتلوني).

فإن قلتم: لم يستضعفوه وأشرفوا على قتله فلذلك سكت عنهم فالوصي أعذر.

وبمحمد (ص) إذ هرب إلى الغار وخلّفني على فراشه ووهبت مهجتي لله.

فإن قلتم: إنه هرب من غير خوف أخافوه فقد كفرتم.

وإن قلتم: إنهم أخافوه فلم يسعه إلا الهرب إلى الغار فالوصي أعذر.

فقال الناس: صدقت يا أمير المؤمنين(1).

____________

1- مناظرات في الإمامة، المناقب لابن شهر أشون ج2 ص270.


الصفحة 155

ثالثاً: الصحابة وآية الإنقلاب

(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين) آل عمران/144.

إن محور هذه الآية الكريمة يتحدث عن وفاة رسول الله (ص) وما يحدث بعده من انقلاب، وقد جمع هذا المحور في ثلاثة ألفاظ (وما محمد) (أفإن مات أو قُتل) (انقلبتم على أعقابكم)، للدخول في عمق هذه الآية وإلقاء الأضواء عليها بشيء من التفصيل، لا بد من طرح بعض الأسئلة المحفزة لاستخراج الفكرة ومحاولة الإجابة عليها.

لماذا لم يكتف الباري بقوله (وما محمد إلا رسول) ويعقبه مباشرة بقوله (أفإن مات أو قُتِل) مع أن سياق الآية يستقيم بهذا، وإنما ذكر وبصيغة تأكيدية صفة الرسالة فيه وأنه رسول قد خلت من قبله الرسل؟

ما الفارق بين الموت والقتل، فحرف أو العاطف يفيد الافتراق بين المعطوف والمعطوف عليه فما الفرق بينهما؟ ولماذا هذا الترديد من قبل الله تعالى وهو العالم بأن رسوله (ص) سيموت؟ ومن المخاطبون في قوله (انقلبتم)؟ وعلى ماذا انقلبوا؟ ما هي علاقة الانقلاب بوفاة الرسول (ص)؟

المقام مقام استقامة فلماذا استخدم لفظة (سيجزي الله الشاكرين) ولم يقل المستقيمين أو المسلمين أو المؤمنين؟


الصفحة 156
قبل الإجابة على هذه الأسئلة لا بد من ذكر مقدمتين هامتين:

أولاً: سبب النزول: ذكر أصحاب التفاسير أن سبب نزول هذه الآية كانت الهزيمة التي لحقت بالمسلمين بعد معركة أحد حيث أشاع المشركون أن رسول الله (ص) قتل في المعركة مما سبب حالة من الانهزام والتراجع والتشكيك عند بعض المسلمين. فأنزل الله تعالى هذه الآية معاتباً المسلمين على ذلك.

ثانياً: ما هو الأصل في الآيات؟ هل الأصل في الآيات القرآنية أنها صالحة لكل زمان إلا ما خرج بدليل؟ أو العكس.

والمقصود بذلك أنها لو كانت صالحة لكل زمان فإننا نستطيع تعميم معنى الآية إلى غير زمان سبب نزولها، وإلا فإننا نتقيد بالسبب الذي نزلت فيه الآية، وشمولها إلى زمان غير زمانها هو الذي يحتاج إلى دليل.

اتفق علماء المسلمين سنة وشيعة أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. إذ لو كان الأصل عدم جريان الآيات القرآنية في كل زمان لبطل العمل بالقرآن في الأزمنة التالية أو لتركنا معظم الآيات القرآنية في زاوية الجمود وعدم الصلاحية، وهذا لا يتماشى مع روح الإسلام ونهجه وتعاليمه وعموميته. هذا هو الدليل العقلي، ويؤيده من القرآن الكريم، جل الآيات التي تحث على التدبر والعمل بالقرآن الكريم وتوبخ على فعل العكس.

ولو سمحنا للرأي الثاني لما كان معنى لقوله (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) إذ الآية تشير لمطلق القرآن ولم تخصصه بجزء يسير أو ببعضه بل كل الآيات نحاول أن نفهمها وننصت لها ونستخرج العبرة منها، كما أن الله أمرنا بالتدبر فيه (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها).


الصفحة 157
ويوبخ على الإيمان ببعض دون بعض (الذين جعلوا القرآن عضين) (الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض) ويقول تعالى: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل) (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) (كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون) (إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون).

فهذه الآيات تحفزنا على الالتزام بالقرآن كله لا بعضه.

وعلى كل لو التزمنا بالرأي الثاني فإن أحداً من المسلمين لا يرتضيه، وعلى فرضه فإن الآية التي نحن بصددها لها من الأدلة ما يثبت أنها ليست محصورة بزمان نزولها فقط بل تمتد على حياة رسول الله (ص) وما بعده وإليك الأدلة:

إن ما شاع في معركة أحد هو قتل الرسول (ص)، والآية تتناول حالة شيوع أو وقع موته (أفإن مات أو قتل..) ولو كانت مخصصة بزمان نزولها فقط لقال تعالى (أفغن قتل) ولعل ذكر الموت للدلالة على أن ما وقع في معركة أحد من انقلاب سيقع نظيره بعد ممات الرسول (ص).

والفائدة العملية لهذه المقدمة في بحثنا أننا لسنا ملزمين بدليل لتعميم حكم آية الإنقلاب إلى غير الواقعة التي نزلت فيها إذا ثبت الأصل الأول وهو الحق كما رأيت، وعلى القول الثاني لا بد من دليل خاص لإثبات أن الآية مخصصة بالواقعة التي من أجلها نزلت آية الإنقلاب وأنها تمتد على امتداد حياة رسول الله (ص) وما بعده، وعلى فرض صحة القول الثاني فإن دليل سريان الآية على امتداد حياة رسول الله (ص) وبعده موجود ضمن طيات ذات الآية، أين وكيف؟

أما أين ففي قوله تعالى (فإن مات أو قتل) وأما كيف لأن ما أرجف به وشاع حول المدينة وفيها عند معركة أحد هو قتل رسول (ص) مما

الصفحة 158
سبب حالة الارتداد والانقلاب على الأعقاب فلو أراد الله تخصيص هذه الآية فقط بمعركة أحد لقال (فإن قتل) ولكن شموله لحالة الموت أيضاً (فإن مات أو قتل) موحية بشكل لا لبس فيه، أن ذات الحالة ستكرر عند وقوع موته حقيقة، وما الترديد من قبل الله تعالى بحرف أو الذي يفيد الافتراق بين المعطوف والمعطوف عليه كما يجمع على ذلك أهل اللغة، وهو العالم بالغيب وكيفية موت نبيه (ص) إلا لإرادته شمول الواقعتين، واقعة شيوع قتله في أحد وواقعة موته (ص) ووفاته، وأما من نسب القتل إلى فعل البشر والموت إلى فعل الرب وأن قصد الله في ذكره هذا التفصيل في بطن الآية إنما هو واقعة أحد فقط، كل ما هنالك أنه قد تغير اللحاظ من فعل البشر إلى فعل الله؟ فغير دقيق غذ قال تعالى (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم) فيجوز إذا اسناد فعل القتل إليه سبحانه مع أن سياق الآية لا يساعد على هذا التفصيل إذ أن الله سبحانه وتعالى يتناول ويركز على التوبيخ والاستنكار على الانقلاب وليس ناظراً للتفصيل بين فعل العبد وفعل الرب.

فإن الله علق جواب الشرط وهو الانقلاب (انقلبتم) على فعلي الشرط وهو (أفإن مات أو قتل) وهذا التعليق يدل على أن تركيزه واقع على حالة الانقلاب وأنها جاءت عند موته أو قتله، وإن إدخال حرف الاستفهام على أداة الشرط التي تفيد التوكيد إنما هو للاستنكار والتوبيخ والاستهجان على هذه الحالة.

ويستبعد جداً أن يفهم من الآية ما معناه (أفإن شاع عند سماع موت محمد (ص) بفعلي وجعلت فعلي عبر قتل الكفار له بأيديهم انقلبتم على أعقابكم، إذ أن النظر الفوقي إلى الآية ككل وبهذا المعنى يخفف كثيراً من حالة توبيخ الله لهم والذي ينبغي عدم التساهل بها في حدث كهذا ويشتت تركيز الآية ويجعل لها محاور عدة وهذا خلاف بيان أي حكيم بالك بحكيم الحكماء.


الصفحة 159
ويؤيد أن الآية الكريمة غير محصورة بهذه الواقعة ما سيأتيك إن شاء الله في تفصيلاتها الآتية مما يدفع أي شبهة أو شك في عدم محصوريتها وعموميتها إلى موت الرسول (ص) وبعده.

ثم أعلم أن للموت معنيين: عاماً والمقصود به قبض الروح (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) (وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم).

وهنا معنى خاصاً له يقابل القتل وهو الذي يموت حتف أنفه لفساد بنية حياته، وأي آية جاءت باللفظتين في آن واحد أي لفظ الموت والقتل فإن المقصود المعنى الخاص للموت، وتأكد ذلك عند استخدام حرف (أو) الذي يفيد المفارقة بين المعطوف والمعطوف عليه ومثال ذلك (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) (ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون) (ولو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا).إذ لو كان في هذه الآيات بمعناه الأعم فليس هناك مسوغ لاستخدام لفظة القتل إذ هو من ضمنه، وهذا خلاف البلاغة وهذا ما ينطبق على محل خلافنا، ومن هنا يثبت أن المقصود بالموت في آية الانقلاب هو المعنى الأخص الذي هو قسم القتل وليس المقسم له(1).

لماذا ركز الله تعالى على صفة الرسالة في رسوله وأنه رسول قد خلت من قبله الرس، وكان يكفيه قوله (وما محمد إلا رسول) ويعقبها مباشرة (أفإن مات أو قتل)؟

____________

1- الموت بـ (المعنى الاعم) :

    أ ـ القتل.

    ب ـ الموت بـ (المعنى الأخص).


الصفحة 160
ولأول وهلة في الإجابة على هذا السؤال، كما ذهب إليه بعض المفسرين، إ، ما اراد الله أن يفت المسلمين على حقيقة وهي أن محمداً (ص) غير مخلد، بل هو ماض وميت، شأنه شأن بقية الرسل الذين مضوا وماتوا.

هذا المعنى ظاهر ولكنه ليس الوحيد، إذ لو كان مراده تثبيت صفة الموت له فقط لقال وما محمد إلا بشر قد خلت من قبله البشر، للتأكيد على الطابع البشري من الفناء وعدم الخلود، فناك معان أبعد وأعمق من هذا استدعت أن تقدم صفة الرسالة وتؤكد عليها، وذلك.

أولاً: فكما أن الدين لم يكن معلقاً على حياة الرسول السابقين، كذلك فهو غير معلق على حياة الرسول (ص)، فكما مات الأنبياء السابقون واستمر الدين بعدهم، فكذا رسول الله (ص) عندما سيموت أو يقتل سيستمر الدين من بعده.

ثانياً: وهو أعمقها غوراً وأثقبها نظرة وأشملها معنى هو التأكيد على حقيقة تطابق السنن بين الأمم بعد موت رسلها فما حدث لتلك الأمم سيحدث لهذه الأمة حذر القذة بالقذة وطبق النعل بالنعل، يؤكد هذه الحقيقة القرآن والسنة والواقع، أما من القرآن فقوله تعالى: (وتلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البنات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) فضمير (هم) راجع على (الرسل) ولو أراد به عيسى (ع) فقط لقال من بعده، ولا يقال أنه أراد به وعيسى (ع) على سبيل التفخيم، لأن موقع الضمير (هم) في (من بعدهم مخل بالبلاغة والفصاحة أن قصد به التفخيم ثم على القول بالعدم، فإنا نقول هذا

الصفحة 161
دار الأمر بين استخدام اللفظ على نحو الحقيقة أو المجاز فإننا نتمسك بأصالة الحقيقة، وفي موردنا استخدام (هم) على نحو الحقيقة يرجع على (تلك الرسل) ومن بينهم رسول الله (ص) بدلالة قوله تعالى قبل هذه الآية (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) ومن ثم استطرد الباري مخاطباً (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض).

ثم إن تطابق السنن تدل عليها كثير من الروايات المشهورة الصحيحة المجمع عليها عند المسلمين كقوله (ص): (ستتبعون سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة وطبق النعل بالنعل حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) وقوله (ص) (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) وكقوله: (افترقت اليهود إلى احدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى إلى اثنين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاثة وسبعين فرقة اثنان وسبعون في النار وواحدة ناجية). بل وتدل عليه كثير من الآيات كقوله تعالى: (فهل ينظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم) وكقوله تعالى (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه فمن الحق بإذنه) (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمناً وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذي صدقوا وليعلمن الكاذبين).

وإن لأكبر دلالة على تطابق السنن هو واقع الأصحاب بعد موت رسول الله (ص) حيث كفّر بعضهم بعضاً وفسّق كل

الصفحة 162
منهم الآخر ووصل الأمر إلى التقاتل فيما بينهم في حروب طاحنة راح ضحيتها أكثر من مائة ألف رقبة مسلمة. وهذا مصداق الآية (.. ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا..).

وبعد هذا لا يمكن القول كيف يمكن للأصحاب أن ينقلبوا وهم الذي ضحوا بأموالهم وأنفسهم وقاتلوا أهليهم ووقفوا مع رسول الله (ص) في الشدة والرخاء ورأوا آياته ومعجزاته!! إذ يرد بالإضافة إلى ما مضى.

آ ـ إن ضمير المخاطبين في (انقلبتم) إنما هو موجه لهم بالذات، إذ لا يعقل أن يقصد به الكفار أو المنافقين وهم منقلبون في الأساس.

ب ـ إن العلم لا يشفع لصاحبه أن يستقيم، فكم من الناس يعلم أن الحق في ضفة، ولكن هواه يملي عليه الضفة الأخرى فيتبعها، بل إن أكثر حالات البغي تأتي بعد العلم بالحق (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم) (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم) فكل شيء بين وواضح (البينات) ولكن اختلفوا واقتتلوا (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات) (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم).

ج ـ إن التضحيات السابقة والصبر على البلاء لا يعصم الإنسان من الانحراف في المستقبل، وليست بأعظم من التضحيات والصبر على البلاء الذي صب على بني إسرائيل عندما قطع فرعون أرجلهم وأيديهم من خلاف فصبروا وصلبهم فصبروا واستحيي نساءهم وأطفالهم وقتل رجالهم فصبروا على التمسك بدعوة موسى (ع) ورأوا وبشكل واضح معجزات موسى (ع)

الصفحة 163
الباهرات وكان من أعظمها انفلاق البحر فِرقَاً كل فرق كالطود العظيم، ولكن ما إن فارقهم موسى (ع) بضعة أيام حتى عبدوا فيها العجل، وكأن طبيعة الإنسان الطغيان عندما يحس ويستشعر الكفاية والأمان (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى).

د ـ مما ارتقى الإنسان في درجات الإيمان فإنه إن لم يكن معصوماً من قبل الله جاز عليه الانقلاب والكفر، وليس هناك مثل أعظم من بلعم بن باعوراء (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذي كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون) وهل كان أحد من الأصحاب وصل إلى إيمان هذا حيث كان يحمل الاسم الأعظم؟ وقد انحرف فما بالك بمن هو دونه.

والسؤال هنا: على ماذا تم الانقلاب.

بل بدورنا نسأل على ماذا عادة يتم الانقلاب؟

إن إمامنا في الآية عناصر أولية من خلالها نستطيع التوصل للإجابة عبر التحليل والاستنتاج:

آـ إن للانقلاب علاقة مباشرة بوفاة الرسول (ص) (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم).


الصفحة 164
ب ـ الانقلاب دلالة على وجود أصل وقع عليه الانقلاب، أصل معروف لدى جميع المنقلبين عليه ولو لم يكن المنقلبون يعرفون ذلك الأصل لما قيل لهم (انقلبتم على أعقابكم) بل وإن ما وقع عليه الانقلاب كان ملتزماً به لفترة حتى كان الانقلاب.

ج ـ إن لهذا الأمر صلة وعلاقة مباشرة بالله والرسول (ص) وعليهما انقلبوا.

د ـ إن شرر هذا الانقلاب يرجع على المنقلبين في الدنيا والآخرة (وسيجزي الله الشاكرين) (فلن يضر الله شيئاً) (ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه) ثم بين الله أن هذا الشكر مردود نفعه إلى ذات العبد وكذا يفهم منه أن عدم الشكر سيرجع بالضرر على العبد ذاته.

هـ ـ إن هذا الانقلاب مرتبط بسنن الأولين فعلى ما انقلب عليه الأولون انقلب الآخرون.

وـ لم يقل تعالى وسيجزي المؤمنين والمسلمين، بل قال (وسيجزي الله الشاكرين) مما يوحي بن غير المنقلبين هم القلة (وقليل من عبادي الشكور). ويؤيده قوله (انقلبتم) الذي يفيد العموم والكثرة ولو كان المنقلبون قلة لقال (انقلب بعضكم) ولما صح توبيخ الأكثرية.

ز ـ إن هذا الانقلاب متحقق وحادث لا محالة بدلالة جواب الشرط الذي يفيد التحقق عند تحقق الشرط، واستخدام صيغة الماضي (انقلبتم) التي تفيد التحقق لا محالة.

ح ـ إن الخطاب خاص بالمسلمين ومتوجه إليهم، ولم يُرِدِ الكافرين إذ هم منقلبون في الأصل، كما يَرِدْ بخصوص المنافقين فقط إذ هو خلاف

الصفحة 165
ظاهر الآية، ولو أراد بالخطاب فقط لقال (أظهرتم انقلابكم) بل ذات الانقلاب ووقوعه بحدث عند الوفاة مباشرة.

ولمعرفة ماهية هذا الانقلاب فعند التحليل والاستنتاج لا بد من مراعاة جميع هذه العناصر، وينبغي تكون النتيجة متوافقة معا تماماً وإلا فليست هي.

لقد كان رسول الله حاكماً وبعد وفاته حدث الانقلاب.. وبدورنا نسأل: بعد وفاة الحاكم، على ماذا يقع الانقلاب عادة؟! ما هو المورد الذي كان يمثل فيه رسول اله (ص) وسلم صمام الأمان للأمة من الخلاف بحيث لو لم يكن الرسول (ص) موجوداً لتفجر هذا النزاع والخلاف؟ وهل تطرق القرآن لهذا؟ القرآن لم يتطرق بشكل صريح لأمر كان عظيماً على الناس لم يقبله الكثيرون، وتخوف الرسول على أمته من تبليغهم إياه، ولكن كان أمر الله (يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس).

وبإلقاء نظرة سريعة ومختصرة على الآية نستكشف:

1ـ إن هذا الأمر الواجب تبليغه به يوازي تبليغ الرسالة، فإذا لم يبلغه فكأنما لم يبلغ الرسالة، وبالتالي فإن الكفر به كفر بالرسالة وإن الانقلاب عليه انقلاب من الرسالة.

2ـ إن هذا الأمر هو مرت خلاف عظيم بين الناس، بل إن الرسول خاف على نفسه من الناس ولذا طمأنه الله تعالى (والله يعصمك من الناس).

3ـ هذا الأمر هو تمام الرسالة لأن مفهوم الآية إنه إذا بلغ هذا الأمر فقد بلّغ الرسالة وأكملها (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي

الصفحة 166
ورضيت لكم الإسلام ديناً) وهذا مطابق لآية الإنقلاب الذي يوحي بأنه انقلاب على الدين كله.

4ـ (يعصمك من الناس) الغالبية العظمى من الناس كارهة لهذا الأمر الذي أمر الرسول بتبليغه؟

ما هوهذا الأمر الذي يريد تبليغه؟

عن هذا الأمر مرتب أولاً بالانقلاب وذلك:

1ـ لأن هذا الأمر مرتبط بالرسالة والانقلاب عليه انقلاب على الرسالة.

2ـ توجد فيه بوادر الانقلاب عدم رضى الغالبية.

3ـ تحتم على الرسول تبليغه لدنو أجله (إني أوشك أن أُدعى فأجيب) حتى لا يترك لهم مسوغاً للانقلاب ويقيم عليهم الحجة كاملة لأن الانقلاب مرتبط بوفاة الرسول (ص).

4ـ إن الأمر الذي يريد تبليغه هو الشيء الوحيد الذي يمكن الانقلاب عليه، إذ بلغ رسول الله (ص) كل الرسالة بفروعها المتعددة ولم يظهر في مفردة من مفرداتها علامة عدم الرضى من المسلمين إلا هذا الأمر الذي تخوف منه رسول الله (ص) فوعده الله بأن يعصمه من الناس.

5ـ إن الرسول (ص) كان يمثل فيه صمام الأمان فإذا مات انفلت الامام وعمل الناس عكسه.

6ـ فلم يبق شيء يقع الانقلاب عليه سوى الخلافة المنصبة من قبل الله.

من هو الرجل الذي بُلّغ رسول الله (ص) بخلافته؟

تواترت الأخبار ونقلت مئات من مصادر المسلمين حادثة الغدير وتنصيب الإمام على خليفة على المسلمين كما تقدم ذكرها.


الصفحة 167
ومن هذا ومن غيره من آلاف الأحاديث يتضح أن رسول الله (ص) نصب علياً خليفة وإماماً على الخلق، ولكن هذا الأمر لم يكن محل رضى من المسلمين، فما خرج رسول الله (ص) من هذه الدنيا حتى انقلبوا عليه وغصبوا منه حقه، ولم يثبت منهم إلا القليل كما قال تعالى في ذيل آية الانقلاب (وسيجزي الله الشاكرين) فيتضح منها:

أولاً: هؤلاء قلة بدلالة.

آـ انقلبتم التي تفيد العموم والغالبية.

ب ـ (وقليل من عبادي الشكور.

ثانياً: هذا الشكر قبال الكفر وهو الانقلاب (فمنهم من آمن ومنهم من كفر) (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) وهذا السبيل معروف بدلالة:

آ ـ هدايته إلى هذا السبيل (إنا هديناه السبيل).

ب ـ الانقلاب عليه لأن الآية التي سبقت تقول (وسيجزي الله الشاكرين) أي الذين اتبعوا بمفهوم هذه الآية السبيل، ويكون غيرهم كافرين لأنهم انقلبوا على السبيل.

ج ـ ألف ولام التعريف.

وهذا السبيل موضع بلاء ونعمة في نفس الوقت، بلاء يبتلى به الناس ونعمة لم سلكه، ولأن الذي يُشكر هو النعمة، وعادة يكون الانقلاب الذي يساوي الكفر هو الانقلاب على النعمة أي الكفر بها، ولما كانت ولاية علي نعمة (وأتممت عليكم نعمتي)(1) وقع عليها الانقلاب ولم يسلم إلا القليل، وما يؤكد ذلك حديث رسول الله (ص) قال: (بينما أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خر رجل من بيني وبينهم فقال لهم، فقلت: إلى

____________

1- كما تقدم إثبات أنها نزلت بعد تولية علي (ع) في غدير خم.


الصفحة 168
أين؟ فقال: إلى النار والله، قلت ما شنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا ارض يخلص منهم إلا مثل همل النعم) فيؤكد هذا الحديث على ما دلت عليه آية الانقلاب أن قليلين يصبحون شاكرين للنعمة، فقال (ص) فلا أرى يخلص منهم إلا مثل همل النعم. فكما أن النعم الشاردة من القافلة قليلة العدد فكذا الأصحاب الناجون هم القلة..

وقال (ص): إني فرطكم على الحوض من مر لي شرب ومن شب لم يظمأ أبداً، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم فأقول: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي).

وقول الرسول (ص) لأبي بكر حينما شهد الرسول الشهداء أهل الإيمان والجنة وقال: (أما هؤلاء فإني أشهد لهم. فقال أبو بكر: ونحن يا رسول الله قال: أما أنتم فلا أدري ماذا تحدثون بعدي).