الفصل الثامن
المذاهب الأربعة تحت المجهر
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
المذاهب الأربعة تحت المجهر
لقد انعكست آثار السقيفة وتحويل الخلافة عن أهل البيت في كل المجالات والأصعدة فأثرت سلبياً في التاريخ وعلم الحديث. وغيرها من العلوم وظهرت آثارها الواضحة على الفقه الإسلامي، فتعددت المدارس الفقهية، وتباينت عن بعضها.
وقد نقل التاريخ تعصب كل جماعة لمدرستهم الفقهية وما حصل بينهم من مشادات ونزاعات إلى درجة أن يكفر بعضهم البعض، وكشف لنا أيضا دور السلطات الحاكمة وكيف كانت تتلاعب بدين المسلمين فالعالم الذي يوافق هواها يكون إماماً للمسلمين وتلزم الناس بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بتقليده والإقتداء به.
وقد رست المرجعية الفقهية بعد ظروف وملابسات متعددة على أربع من مئات المجتهدين وهم: مالك، أبو حنيفة، الشافعي، أحمد بن حنبل، ثم حُرِّم الاجتهاد من بعدهم وأمرَ الجميع بتقليدهم، ويرجع ذلك إلى تاريخ 645هـ عندما رأت السلطات الحاكمة أن مصلحتها تتطلب حصر الاجتهاد في المشايخ الأربعة، وقد تعصب مجموعة من العلماء فهذه الفكرة وأعلنوا تأيدهم لها، واعتبرت مجموعة أخرى أن هذا التصرف ما هو إلا كبت للحرية ومصادرةً للقدرات، وقد ألف ابن القيم فصلاً طويلاً في - إعلام الموقعين - استقصى فيه أدلة القائلين بوجوب سد باب الاجتهاد وعطلها بالأدلة القوية، ورغم أن الرأي الذي يقول بوجوب الوقوف على اجتهادات
يقول الأستاذ عبد المتعال الصعيدي: (وإني أستطيع أن أحكم بعد هذا بأن منع الاجتهاد قد حصل بطرق ظالمة، وبوسائل القهر والإغراء بالمال، ولا شك أن هذه الوسائل لو قُدرت لغير المذاهب الأربعة - التي نقلدها اليوم - لبقي جمهور يقلدها أيضاً ولكانت الآن مقبولة عند من ينكرها، فنحن إذا في حل من التقيد بهذه المذاهب الأربعة التي فُرضت علينا بتلك الوسائل الفاسدة وفي حل من العود إلى الاجتهاد في أحكام ديننا، لأنه منعه لم يكن إلا بطريق القهر، والإسلام لا يرضى بما يحصل بطريق الرضا والشورى بين المسلمين. كما قال تعالى: [وأمرهم شورى بينهم](1).
هذه هي الحقيقة المُرة التي يصل لها الباحث المنصف في تاريخ المذاهب الأربعة فبأي حق فُرض على المسلمين التعبد بأحدهم، وبأي دليل مُنع العلماء من الاجتهاد ولماذا اختير هؤلاء الأربعة دون غيرهم؟! مع وجود علماء أكثر منهم علماً وفضلاً. مثل.
(1) سفيان الثوري:
ولد سنة 65هـ، وله مذهب خاص ولكن لم يطل العمل به لقلة أتباعه، وعدم مؤازرة السلطة له. وهو أحد تلاميذ الإمام الصادق (ع)، وخريج مدرسته، ويعتبر من الفقهاء الذين تُشدّ لهم الرحال في طلب العلم، وقد روى عنه عشرون ألفاً.
وأراد المنصور قتله فلم يتمكن وهرب حتى توفى متوارياً منه سنة 161هـ فبقي مذهبه معمولاً به إلى القرن الرابع.
____________
1- ميزان الاجتهاد ص 14.
(2) سفيان بن عيينة:
عالم وفقيه ثابت أخذ العلم عن الصادق (ع)، والزهري وابن دينار وغيرهم. وقال الشافعي في حقه ما رأيت أحداً فيه من آلة الفتيا ما في سفيان وما رأيت أكفأ منه على الفتيا، وله مذهب يُعمل به انقرض في القرن الرابع.
(3) الأوزاعي:
لقد كان الأوزاعي من العلماء، وقد انتشر مذهبه في الشام، وعمل أهلها بمذهبه مدة من الزمن، ولقد كان الأوزاعي محترماً مقرباً من قبل السلطة، فقد كان من المؤيدين لها، فاتخذته لذلك رمزاً دينياً، وعندما جاء العباسيون قربوه لمكانته من أهل الشام، فكان المنصور يعظمه ويراسله لما عرف منه الانحراف عن آل محمد صلوات الله عليهم، ولكن رغم ذلك فقد انقرض مذهب الأوزاعي ندما عُين محمد بن عثمان - الشافعي - قاضياً على دمشق، فحكم بمذهب الشافعية وعمل على فرضه ونشره في الشام، حتى تحول الشاميون إلى شوافع سنة 203هـ.
إلى غيرهم من عشرات المجتهدين أمثال: ابن جرير الطبري، وداود ابن على الظاهري، والليث بن سعيد والأعمش والشعبي. وآخرين..
فلماذا بقيت هذه المذاهب الأربعة وانتشرت دون غيرها؟!
أكان أئمتها أعلم الناس في عهدهم؟!
أم اجتمع عليهم رضا الناس فجعلوهم أئمتهم؟!
كل هذا لم يكن متوفراً للمذاهب الأربعة، فناهيك عن التاريخ الذي يثبت وجود علماء كانوا أعلم منهم، فالعقل وحده يحكم بانتفاء هذا الشرط لأن تحديد الأعلمية من الصعوبة بمكان، كما أن انتشار هذه المذاهب واشتهار أئمتها لم يكن في ظروف وأجواء تحكمها الحرية والنزاهة العلمية، بل يظهر للمتتبع لتاريخها أنها فرضت على المسلمين في حين غرة من أمرهم، أما
وكان الحنابلة يخلّون بأعمالهم بالأمن ويهرجون في بغداد، ويستظهرون بالعميان على الشافعية، الذين كانوا يأوون إلى المساجد، فإذا مرّ بهم شافعي المذهب أغروا به العميان فيضربونه(2).
وتجتمع بقية الذاهب على الحنابلة غضباً من أعمال ابن تيمية، ونودي في دمشق وغيرها: من كان على دين ابن تيمية حُلّ ماله ودمه. بمعنى أنهم يعاملونهم معاملة الكفرة، وفي القمابل نجد الشيخ ابن حاتم الحنبلي يقول: (من لم يكن حنبلياً فليس بمسلم)(3).
____________
1- البداية والنهاية ج4 ص76، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ص 190.
2- ابن الأثير ج8 ص 229.
3- تذكرة الحفّاظ ج3ص375.
وغيرها من الحوادث التي يدمى لها القلب، فقد بلغ بهم التعصب إلى قتل العلماء والفقهاء غدراً بالسم. وهذا الفقيه - أبو منصور - المتوفي سنة 567هـ قتله الحنابلة بالسم تعصباً عليه، قال ابن الجوزي: إن الحنابلة دسوا إليه امرأة جاءت إليه بصحن حلاوة، وقالت: هذا يا سيدي من غزلي، فأكل هو وامرأته وولده وولدٌ له صغير فأصبحوا موتى، وكان من علماء الشافعية المبرزين(2). وكثير من أمثالهم من العلماء الذين قتلوا بسيف التعصب.
وهكذا تعصب كل أناس لأئمتهم إلى درجة أنهم وضعوا في فضلهم أحاديث ونسبوها إلى رسول الله كذباً وزوراً، فأخرجتهم عن حدود المعقول والاتزان وذلك مثل ما نسبوه لرسول الله (ص): (آن آدم افتخر بي وأنا أفتخر برجل من آمتي اسمه النعمان، وصورة أخرى: الأنبياء يفتخرون بي، وأنا أفتخر بأبي حنيفة من أحبه فقد أحبني ومن أبغضه فقد أبغضني)(3)، وقد أخذهم الغلو في أبي حنيفة إلى أن ذكروا في فضائله (الله خصّ أبا حنيفة بالشريعة والكرامة، ومن كرامته أن الخضر (ع) كان يجيء إليه كل يوم وقت الصبح. ويتعلم منه أحكام الشريعة إلى خمس سنين، فلما توفي أبو حنيفة دعا الخضر ربه فقال: يا رب إن كان لي عندك منزلة فأذن لأبي حنيفة حتى يعلمني من القبر على عادته حتى أعلم الناس شريعة محمد على الكمال ليحصل لي الطريق، فأجابه ربه إلى ذلك. وتمت للخضر
____________
1- راجع شذرات الذهب ج3ص 252.
2- طبقات الشافعية ج4 ص 184.
3- الياقوت في الوعظ، لأبي فرج على بن الجوزي ص48.
وادعت المالكية لإمامهم أموراً، منها: أنه مطتوب على فخذه بقلم القدرة مالك حجة الله في أرضه، وأنه يحضر الأموات من أصحابه في قبورهم ويُنّحي الملكين عن الميت، ولا يدعهما يحاسبانه على أعماله(2).
وقد ذُكر أنه: اُلقي كتابه الموطأ في الماء ولم يبتل.
وقال الحنابلة في إمامهم: (أحمد بن حنبل إمامنا لم يرض فهو مبتدع). فكل المسلمين مبتدعون على حسب هذه القاعدة.
ويقولون أنه ما قام بأمر الإسام أحد بعد رسول الله كما قام به أحمد بن حنبل ولا أبو بكر الصديق مثله، وأن الله جل وعلا كان يزور قبره، كما روى ابن الجوزي في مناقب أحمد ص 454 قال: (حدثني أبو بكر بن مكارم ابن أبي يعلى الحربي - وكان شيخاً صالحاً - قال: كان قد جاء في بعض السنين مطر كثير جداً قبل دخول رمضان بأيام فنمت ليلة في رمضان فرأيت في منامي كأني قد جئت على عادتي إلى قبر الإمام أحمد بن حنبل أزوره فرأيت قبره قد التصق بالأرض مقدار ساف - أي صف من الطين أو اللبن - أو سافين فقلت: إنما تمم هذا على قبر الإمام أحمد من كثرة الغيث فسمعته من القبر وهو يقول: لا بل هذا من هيبة الحق عز وجل قد زارني فسألته عن سر زيارته إياي في كل عام فقال عز وجل: يا أحمد لأنك نصرت كلامي فهو يُنشر ويُتلى في المحاريب. فأقبلت على لحده أقبله ثم قلت: يا سيدي ما السر في أنه لا يقبل قبر إلا قبرك؟ فقال لي: يا بني ليس هذا كرامة لي ولكن هذا كرامة لرسول الله (ص) لأن معي شعرات من
____________
1- المرجع السابق، ص48.
2- مشارق الأنوار للعدوي ص 88.
وغير ذلك من المناقب التي تدل على التعصب والغلو الفاحش وقد ظهر هذا التعصب بوضوح في أشعارهم.
قال شاعر الحنفية:
غدا مذهب النعمان خير المذاهب | كذا القمر الوضواح خير الكواكب |
مذاهب أهل الفقه عندي تقلصت | وأين عن الرواسي نسج العناكب |
ويقول شاعر الشافعية:
مثل الشافعي في العلماء | مثل البدر في نجوم السماء |
قل لمن قاسه بنعمان جهلاً | أيقاس الضياء بالظلماء |
ويقول شاعر المالكية:
إذا ذكروا كتب العلوم فحيي | هل بكتب الموطأ من تصانيف مالك |
فشد به كف الصيانة تهتدي | فمن حاد عنه هالك في الهوالك |
ويقول الحنبلي:
سبرت شرائع العلماء طراً | فلم أر كاعتقاد الحنبلي |
فكن من أهله سراً وجهراً | تكن أبداً على النهج السوي |
ويقول آخر:
أنا حنبلي ما حييت وإن أمت | فوصيتي للناس أن يتحنبلوا |
ومثل هذه الحوادث كثيرة لا تخصى، وما ذكرناه كاف كنماذج وأمثلة لحركة الاختلاف والتعصب بين المذاهب الأربعة، حتى أصبح التكتم بالمذهب لازماً. يقول أبو بكر محمد بن عبد الباقي المتوفي سنة 535هـ في ذلك - وكان حنبلياً يصف حالة التكتم بقوله:
احفظ لسانك لا تبح بثلاثة | سن ومال ما استطعت ومذهب |
فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثة | بمكفر وبحاسد ومكذب |
وقد صور الزمخشري الخلاف وشدة التطاحن بين المذاهب بقوله:
____________
1- الدين الخالص ج3 ص 355.^
2- طبقات الشافعية ج3ص 22.
إذا سألوا عن مذهبي لم أبح به | وأكتمه كتمانه لي أسلم |
فإن حنفياً قلت قالوا بأنني | أبيح الطلى وهو الشراب المحرم |
وإن شافعياً قلت قالوا بأنني | أبيح نكاح البنت والبنت تحرم |
وإن مالكياً قلت قالوا بأنني | أبيح لهم أكل الكلاب وهم هم |
وإن قلت من أهل الحديث وحزبه | يقولون تيس ليس يدري ويفهم(1) |
____________
1- الكشاف للزمخشري ج 2 ص 498.
وقفة مع أئمة المذاهب الأربعة
عن البحث عن تاريخ أئمة المذاهب الأربعة من الصعوبة بمكان، لأن أخبارهم إما منقولة عن المتعصبين لهم الغالين فيهم، وإما عن طريق أعدائهم المتحاملين عليهم، وبين هذين الخطين المتعارضين يصعب الخروج رؤية مجردة نزيهة.
يقول أحمد أمين: كما أن العصبية المذهبية حملت بعض الأتباع لكل مذهب أن يضعوا الأخبار لإعلاء شأن إمامهم، ومن هذا الباب ما زوروه من الأحاديث بتبشير النبي (ص) لكل إمام من مثل ما روي أن النبي (ص) قال في أهل العراق: إن الله وضع خزائن علمه فيهم، ومثل: يكون في الأمة رجل يقال له النعمان بن ثابت ويكنى بأبي حنيفة يُحيي اله على يديه سنتي في الإسلام... إلخ، حتى لقد زعموا أن أبا حنيفة بشرت به التوراة، وكذلك فعل بعض الشافعية بالشافعي والمالكية في مالك، وما كان أغناهم عن ذلك. ومن أجل ذلك صَعُب على الباحث معرفة التاريخ الصحيح لكل إمام، فقد كان كلما أتى جيل زاد في فضائل إمامه(1).
____________
1- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج ص 275.2
ومن بين هذين الخطين المتناقضين بين الغلو والتحامل، نحاول أن نستكشف رؤية مجردة لتاريخ المذاهب والملابسات التي انتشرت فيها.
(1) الإمام أبو حنيفة
نشأة أبي حنيفة:
هو النعمان بن ثابت، ولد سنة 80هـ في خلافة عبد الملك بن مروان، وتوفى ببغداد سنة 150هـ، وقد نشأ في الكوفة في عهد الحجاج، وكانت الكوفة إحدى مدن العراق العظيمة، التي نشأت بها حلقات العلم، وكانت الأهواء المتضادة والآراء المتضاربة في السياسة والعلم وأصول العقائد آنذاك تدعو إلى الدهشة، وفي هذه الأجواء نبغ أبو حنيفة في علم الكلام والجدل وناظر فيه، ثم انتقل إلى حلقة الفقه حتى اختص به، وقد تتلمذ على يد حمّاد بن أبي سليمان المتوفي سنة 120هـ وكان من أنبغ تلاميذه، وقد انفرد أبو حنيفة بعد وفاة حمّاد فعلاً صيته واشتهر اسمه، وقد درس أيضاً على مشايخ عصره، وحضر عند عطاء بن رباح في مكة، وعلى نافع مولى
فقه أبي حنيفة:
لم يُعرف لأبي حنيفة فقه خاص إلا عن طريق تلامذته، فلم يكتب فقهاً بنفسه ولم يدون شيئاً من آرائه، وكان لأبي حنيفة تلاميذ كثيرون، ولكن الذين حملوا مذهبه ونشروه أربعة وهم: أبو يوسف وزفر ومحمد بن الحسن الشيباني والحسن بن زياد اللؤلؤي.
وقد علب أبو يوسف وهو يعقوب بن إبراهيم دوراً كبيراً في نشر المذهب الحنفي، فقد حظي بالقبول عند خلفاء بني العباس، وولي رئاسة القضاء في عهد المهدي والهادي والرشيد، ونال عند الرشيد حظاً مكيناً، فاستغل أبو يوسف هذا المنصب فعمل على نشر المذهب الحنفي في الأقطار، على أيدي القضاة الذي كان يعينهم من أصحابه، فكان نفوذ المذهب الحنفي يستمد من نفوذ سلطته، قال ابن عبد البر في ذلك، (كان أبو يوسف قاضي القضاة قضى لثلاثة من الخلفاء، ولي القضاء في بعض أيام المهدي ثم للهادي ثم للرشيد، وكان الرشيد يكرمه ويجله، وكان عنده حظياً مكيناً، لذلك كانت له اليد الطولى في نشر ذكر أبي حنيفة وإعلاء شأنه، لما أوتي من قوة السلطان وسلطان القوة)(1).
وقد شارك تلميذ أبي حنيفة/ محمد بن الحسن الشيباني في نشر مذهب أبي حنيفة بتأليفاته التي أصبحت المرجع الأول لفقه أبي حنيفة، رغم انه تتلمذ أيضاً على الثوري والأوزاعي ومالك، وأدخل الحديث في فقه أهل الرأي.
____________
1- الانتفاء لابن عبد البر ص 5.
إن كنت كذاباً بما حدثتني | فعليك إثم أبي حنيفة أو زفر |
الماثلين إلى القياس تعمداً | والراغبين عن التمسك بالخبر |
وكان القياس أكثر ما يعاب على أبي حنيفة وأصحابه، وقد ذُكر في العقد الفريد ص 408 أن مساوراً قال في أبي حنيفة:
كنا من الدين قبل اليوم في سعة | حتى بُلينا بأصحاب المقاييس |
قاموا من السوق إذ قامت مكاسبهم | فاستعملوا الرأي بعد الجهد والبؤس |
فلقيه أبو حنيفة فقال: هجوزتنا يا مساور، نحن نُرضيك. فوصله بدراهم فقال مساور:
إذا ما الناس يوماً قايسونا | بآبدة من الفتيا طريفه |
أتيناهم بمقياس صحيح | تلاد من طراز أبي حنيفة |
إذا سمع الفقيه بها وعاها | وأثبتها بحبر من سحيفة |
فأجابه أصحاب الحديث:
إذا ذو الرأي خاصم عن قياس | وجاء ببدعة هنة سخيفة |
أتيناهم بقول الله فيها | وآثار مبرزة شريفه |
يقول العلامة الخضري: (وقد حاول بعض الحنفية أن يجعل أقوالهم المختلفة أقوالاً لإمام رجع عنها، ولكن هذه غفلة شديدة عن تاريخ هؤلاء الأئمة، بل عما ذكر في كتبهم، فإن أبا يوسف يحكي في كتاب (الخراج) رأي أبي حنيفة، ثم يذكر رأيه مصرحاً بأنه يخالفه، ويبين سبب الخلاف، وكذلك يعفل في كتاب أبي حنيفة وابن أبي ليلي، فإنه أحياناً يقول برأي ابن أبي ليلى بعد ذكر الرأيين، ومحمد رحمه الله يحكي في كتبه أقوال الإمام، وأقوال أبي يوسف، وأقواله مصرحاً بالخلاف، على أنه لم كان كما قالوا لم يكن ما رجع عنه من الآراء مذهباً.
ومن الثابت أنا أبا يوسف، ومحمد رجعا عن آراء رآها الإمام، لما اطلعوا على ما عند أهل الحجاز من الحديث، فالمحقق تاريخياً أن أئمة الحنفية الذين ذكرناهم بعد أبي حنيفة، رحمه الله، ليسوا مقلدين له(1).
الخلاصة، أن المذهب الحنفي اتسع وانتشر بمجهود أصحابه بمجهود أصحابه، وقد ساعدهم على ذلك السلطة التي كان يمتلكها أبو يوسف، فيكون المذهب الحنفي من تأسيس مجموعة من الفقهاء كل واحد مستقل بنفسه وليس من إمام واحد وهو أبو حنيفة. ومحاولة الحنفية بإرجاع الجميع إليه أمر غير وجيه.
____________
1- الخضري، تاريخ الشريع الإسلامي ص 275.
طعون على أبي حنيفة:
كان هناك غير المغالين فيه طرف آخر من معاصريه من العلماء العدول الذين رموه بالزندقة، والخروج عن الجادة، ووصفوه بفساد العقيدة والخروج عن نظام الدين، ومخالفة الكتاب والسنة، وطعنوا في دينه وجرّدوه عن الإيمان(1).
اجتمع سفيان الثوري وشريك وحسن بن صالح وابن أبي ليلى، فبعثوا إلى أبي حنفية. فقالوا: ما تقول في رجل قتل أباه ونكح أمه وشرب الخمر في رأس أبيه؟
فقالك مؤمن، فقال ابن أبي ليلى: لا قبلت لك شهادة أبداً.
وقال له سفيان الثوري: لا كلمتك أبداً(2).
وحدّث إبراهيم بن بشار عن سفيان بن عينية أنه قال: ما رأيت أحداً أجرأ على الله من أبي حنيفة، وعنه أيضاً: كان أبو حنيفة يضرب لحديث رسول الله الأمثال فيبرره بعلمه(3).
وحُكي عن أبي يوسف، قيل له: أكان أبو حنيفة مرجئياً؟
قال: نعم، قيل: كان جَهْمِيّاً؟ قال: نعم، قيل: أين أنت منه؟ قال: إنما كان أبو حنيفة مدرساً، فما كان من قوله حسناً قبلناه وما كان قبيحاً تركناه عليه(4).
فهذا رأي أقرب المقربين إليه، تلميذه والنشار مذهبه، فما بال الآخرين....!.
____________
1- أبو حنيفة، لمحمد أبو زهرة ص 5.
2- أبو حنيفة، لمحمد أبو زهرة ص5.
3- الخطيب ص 13ص 374.
4- الانتقاء لابن عبد البر ص 148.
وقال الأوزاعي: إننا لا ننقم على أبي حنيفة أنه رأى، لكنا يرى، ولكنا ننقم عليه أنه يجيئه الحديث عن النبي (ص)، فيخالفه إلى غيره(2).
قال ابن عبد البر: وممن طعن عليه وجرحه، محمد بن إسماعيل البخاري، فقال في كتابه (الضعفاء والمتروكون): أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، قال نعيم بن حمّاد: حدّثنا يحيى بن سعيد ومعاذ بن معاذ سمعنا سفيان الثوري يقول:
استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين، وقال نعيم الفزاري: كنت عند سفيان بن عيينة، فجاء نعي أبي حنيفة، فقال:... كان يهدم الإسلام عروة عروة، وما ولد في الإسلام مولود أشر منه، هذا ما ذكره البخاري(3).
وقال ابن الجارود في كتابه (الضعفاء والمتروكون): النعمان بن ثابت جل حديثه وهم.
وعن وكيع بن الجرّاح أنه قال: وحدت أبا حنيفة خالف مائتي حديث عن رسول الله.
وقيل لابن المبارك: كان الناس يقولون أنك تذهب إلى قول أبي حنيفة، قال: ليس كل ما يقول الناس يُصيبون فيه، كنا نأتيه زماناً ونحن لا نعرفه، فلما عرفناه(4).
____________
1- الخطيب ج3ص 374.
2- تأويل مختلف الحديث لا بن قتيبة ص 63.
3- الانتفاء لابن عبد البر ص 150.
4- المصدر السابق.