الصفحة 272
موازينها السياسية ومصالحها، فالفقيه الذي لا يتعارض مع سياستها هو الفقيه الذي يجب على المسلمين تقليده والاقتداء به.

(3) الإمام الشافعي

هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع. ونلد سنة 150هـ وقيل في اليوم الذي مات به أبو حنيفة. واختلف في مكان ولادته بين غزة وعسقلان واليمن وقول شاذ متروك بمكة، وتوفي في مصر سنة 204هـ.

هاجر مع أمه وهو صغير إلى مكة، وفيها التحق بالكتاب فحفظ القرآن الكريم، وتعلم الكتابة وبعدها خرج إلى البادية ولازم هذيلاً 20 سنة على ما حدّث به ابن كثير في البداية والنهاية وسبع عشرة سنة كما حدث هو عن نفسه في معجم البلدان، فاكتسب فصاحة هذيل وفي طوال هذه المدة لم يكن للشافعي توجه علمي وفقهي حيث لم يتوجه إليه إلا في العقد الثالث من عمره، وإذا كان بقاؤه في البادية 20 سنة فيكون طلبه للفقه في العقد الرابع، أي بعد أن تجاوز الثلاثين سنة.

تتلمذ الشافعي على شيوخ من مكة والمدينة واليمن وبغداد، وأول من تلقى الشافعي منه العلم هو مسلم بن خالد المخزومي المعروف بالزنجي، وكان ممن لا يُعتمد عليه في الحديث، فقد ضعّفه وطعن فيه من الحفّاظ، كأبي داود وأبي حاتم، والنسائي(1).

ثم درس على سعيد بن سالم القدّاح، وقد أُتهم بأنه من المرجئة، وأخذ عن سفيان ب عيينة تلميذ الإمام الصادق (ع)، وهو أحد أصحاب المذاهب البائدة، كما أخذ من مالك بن أنس في المدينة.. وآخرين، وقد ذكر ابن

____________

1- تهذيب التهذيب ج ص .


الصفحة 273
حجر منهم ثمانين.. وفيه ضرب من المبالغة، وقد أنظر الرازي تعصباً منه، أخذ الشافعي من محمد بن الحسن الشيباني، القاضي، تلميذ أبي حنيفة ولا مجال لتعصبه فقد اعترف الشافعي بأخذه العلم منه.

أما تلاميذ الشافعي فمنهم العراقي ومنهم المصري، وقد شكلوا فيما بعد العامل الرئيسي في نشر مذهبه، فمن العراق: خالد اليماني الكلبي، أبو ثور البغدادي الذي يعد صاحب مذهب منفرد كان له مقلدون إلى القرن الثاني، وتوفى سنة 240هـ. والحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، والحسن بن علي الكرابيسي، كان يشبه الشافعي ويوصف به لأنه انتصر للمذهب ودافع عن أصحابه لمكانته من السلطان وعلو منزلته في الدولة فكان له جاه عظيم. ومن تلاميذه أحمد بن حنبل، رغم إدعاء الحنابلة بأن الشافعي كان يحدث عن أحمد وتتلمذ عليه كما جاء في طبقات الحنابلة.

أما تلاميذه في مصر، فقد كانوا أكثر تأثيراً في نشر مذهبه، وتأليف الكتب ومن أشهرهم، يوسف بن يعقوب البويطي وهو خليفة الشافعي في الدرس ومن أكبر الدعاة له.

فكان يدني الغرباء ويعرفهم فضل الشافعي، حتى كثر أتباعه وانتشر مذهبه فحسده بن أبي الليث الحنفي وأخرجه من مصر فمات في السجن ببغداد.

ومن تلاميذه: إسماعيل بن يحيى المني، أبو إبراهيم المصري، له تصانيف في المذهب الشافعي ساعدت في نشر المذهب، مثل الجامع الكبير، الجامع الصغير، والمنثور.....

والدارس لتاريخ الشافعي يجد أن تلاميذه وأصحابه هم الذين ساندوه ونشروا مذهبه.


الصفحة 274
وهناك اختلاف بين مدرسة الشافعي في العراق، ومدرسته في مصر، تستدعي التامل، فقد عرف عن الشافعي أنه عدل عن فتاويه في اعراق، وعرفت بالمذهب القديم وهو الذي أخذه تلاميذه في العراق، ومن كتب المذهب القديم، الأمالي ومجمع الكافي، فعند هجرته إلى مصر حرّم الأخذ بمذهبه القديم بعد أن انتشر وعمل به العوام.. فهل رجع عنها لأنها كانت باطلة؟! أم أن اجتهاده كان ناقصاً في بغداد واكتمل في مصر؟!

ثم ما هو الضمان بصحة مذهبه الجديد في مصر؟!

وهل لو طال به العمر يعدل عنه؟!. فلذلك تجد قولين في المسألة الواحدة في الفقه الشافعي، كما جاء في كتاب الأم، وقد يُعتبر هذا التردد والاختلاف ناتجاً من عدم الجزم وهو نقص في الاجتهاد والعلم.

وقد أكد هذا المعنى قول البزاز: (كان الشافعي (رض) بالعراق يُصنف الكتب وأصحاب محمد - أي الشيباني - يكثرون عليه أقاويله بالحجج ويضعفون أقواله وقد ضيقوا عليه، وأصحاب الحديث لا يلتفتون إلى قوله، ويرمونه بالاعتزال فلما لم يقم له بالعراق سوق خرج إلى مصر، ولم يكن بها فقيه معلوم فقام له بها سوق(1)..

واختلف هذا الوضع عندما هاجر إلى مصر لأن الشافعي عرف بأنه تلميذ مالك ونار مذهبه والمدافع عنه وهذا هو العامل الذي هيأ له النجاح في مصر، وذلك أن الطابع العام كان مالكياً، بالإضافة إلى أنه قدم إلى مصر بتوصية من خليفة العصر إلى أمير مصر فوجد بذلك العناية الكافية في مصر وخاصة من أصحاب مالك فأخذ بعد ذلك بنشر مذهبه الجديد.

ولكن ما برح الشافعي كثيراً حتى أخذ يؤلف الكتب في الرد على مالك، ومعارضة أقواله، ويقول الربيع في ذلك: سمعت الشافعي يقول:

____________

1- المناقب للبزاز ج2 ص153.


الصفحة 275
قدمت مصر ولا أعرف أن مالكاً يخالف من أحاديثه إلا ستة عشرة حديثاً، فنظرت، فإذا هو يقول بالأصل ويدع الفرع ويقول بالفرع ويدع الأصل. وقال أبو عمر: وتكلم في مالك أيضاً فيما ذكره الساجي في كتاب العلل، عبد العزيز بن أبي سلمى، وعبد الرحمن بن زيد، وعابوا أشياء من مذهبه إلى أن يقول وتحامل عليه الشافعي، وبعض أصحاب أبي حنيفة في شيء من رأيه حسداً لموضع إمامته(1).

فضاق المالكية به ذرعاً، وتربصوا به حتى قتلوه، وقد نصّ ابن حجر على أنهم ضربوه بمفتاح حديد فمات(2)، وذكر قصيدة أبي حيان في مدح الشافعي:


ولما أتى مصر انبرى بالأذى لهأناس طووا كشحاً على بغضه طيا
أتى ناقداً ما حصّلوه وهادماًلما أضلوا إذ كان بنيانهم وهيا
فدسوا عليه عندما انفردوا بهشقياً لهم شلّ الإله له اليديا
فشّق بمفتاح الحيد جبينهفراح قتيلاً لا بواك ولا نعيا

فذهب الشافعي ضحية التعصب المذهبي من المالكية.

ورغم كل ذلك كانت مصر البذرة الأولى التي انتشر منها مذهب الشافعي، بفضل أصحابه وتلامذته، ولولاهم لكان حاله حال المذاهب

____________

1- جامع بيان العلم وفضله.

2- توالي التأسيس ص 86.


الصفحة 276
المنقرضة، كما انتشر في الشام التي كانت يغلب عليها مذهب الأوزاعي.

وبعدما ولي القضاء فيها محمد بن عثمان الدمشقي الشافعي عمل على نشر مذهب الشافعي في الشام وانقرض بعد ذلك المذهب الأوزاعي وتمت الغلبة لمذهب الشافعي أيام الدولة الأيوبية فكان ملوكهم شوافع، مما ساعد على تمكين المذهب، وعندما جاءت بعدهم دولة المماليك في مصر لم تنقص من حظوة المذهب الشافعي، فقد كان كل ملوكها شوافع إلا سيف الدين فقد كان حنفياً ولكنه لم يؤثر في انتشار مذهب الشافعي.

وبهذه الطريقة علا اسم الشافعي بواسطة الملوك والسلاطين ولولا ذلك لكان مذهبه نسياً منسياً.

  طعون على الشافعي:

كان لكل إمام خطان مضادان، المغالون والمبغضون، كما تقدم ذكره..

ولا يمكن والحال هذا القيام بتقييم دقيق لحال الشافعي، وقد وصفه المغالون بصفات، فجعلوه بدرجة من الكمال، بحيث يمتنع لأي مخلوق الوصول إليها، وفي المقابل وضع المبغضون فيه أحاديث نزلوه بها إلى درجة إبليس.

روى أحمد بن عبد الله الجويباري عن عبد بن معدان عن أنس عن النبي (ص): يكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس أضر على أمتي من إبليس، ويكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي)(1).

وهذا مما لا يختلف فيه اثنان بأنه موضوع.

____________

1- اللآلي المصنوعة، للسيوطي ج 1 ص217.


الصفحة 277
وفي المقابل يروى ابن عبد البر بسنده عن سويد بن سعيد قال: (كنا عند سفيان بن عيينة في مكة، فجاء رجل ينعى الشافعي ويقول: إنه مات، فقال سفيان: إن مات محمد بن إدريس فقد مات أفضل أهل زمانه(1).

وهذا أيضاً خبر مكذوب لأن وفاة سفيان كانت سنة 198هـ أي قبل وفاة الشافعي بست سنوات.

ولكن رغم هذا فقد توجهت الطعون على الشافعي فرموه بالاعتزال مرة وبالتشيع مرة أخرى وأنه يروي عن الكذابين وأنه قليل الحديث.

وسئل يحيى بن معين: الشافعي كان يكذب؟

قال: لا أحب حديثه ولا أذكره.

وروى الخطيب عن يحيى بن معين أنه قال: الشافعي ليس بثقة....

وهناك طعون لا قيمة لها، ولست في مقام الترجيح والتقييم، وما أثارني هو تهمة الشافعي بالتشيع، وتعد هذه التهمة من اخطر الاتهامات في تلك العصور التي كان فيها العلويون والشيعة تبنى عليهم الأعمدة ويقتلون شر قتلة حتى أصبح التظاهر بالعداء لعلي (ع) وأولاده وشيعته أمراً رائجاً... وللتوسع راجع الكتب التاريخية مثل، مقاتل الطالبين، لأبي الفرج الأصفهاني، حتى تتعرف على نوع قليل من أنواع التعذيب لأهل البيت وشيعتهم، وبذلك انقسم الناس إلى قسمين قسم صبر وضحى وتمسك بولائه لأهل البيت، وهم الأقلية، وقسم وهو السواد الأعظم خضع وباع دينه بدنيا السلاطين، وقد صدق الإمام الحسين (ع)، عندما قال: الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما د=رث معايشهم، فإذا ما محصلوا بالبلاء قلّ الديّانون.

____________

1- الانتقاء ج 70.


الصفحة 278
وفي هذا الجو المظلم أظهر الشافعي حبه لأهل البيت، وكان مجرد الحب لهم تهمة بالتشيع، وفي الواقع لم يكن الشافعي شيعياً، أي موالياً لأئمة أهل البيت ومتابعاً لخطاهم ولكنه مجرد الحب الذي يعلق على فطرة كل إنسان، ولذلك قال الشافعي:


يا آل بيت رسول الله حبكمفرض من الله في القرآن أنزله
يكفيكم من عظيم الذكر أنكممن لم يصل عليكم لا صلاة له

مستنداً في ذلك على قوله تعالى: (قلا لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)(1).

وهي آية صريحة في وجوب حب أهل البيت (ع)، وقد كنت أعجب كيف يجعل الله أجر رسالته في حب أهل البيت؟! ولم يتضح لي هذا الأمر إلا بعدما عرفت كم هي قيمة الابتلاء في حب أهل البيت والتمسك بهم.. وهذا الشافعي نموذج أمامك فما أن أظهر حبه لأهل البيت حتى اتهموه بالترفض، قال الشافعي:


قالوا: ترفضت، قلت: كلاما الرفض ديني ولا اعتقادي
لكن توليت دون شكخير إمام وخير هاد
إن كان حب الوصي رفضاًفإنني أرفض العباد

وعندما ظهر منه حبه لعلي (ع)، هجاه بعض الشعراء: د
يموت الشافعي وليس يدريعلى ربه أم ربه الله

والشافعي في هذا الجو المشحون ضد أهل البيت وشيعتهم، لم يتوان في الجهر بالحب لهم حتى أنشد يقول:

____________

1- الشورى، الآية 23.


الصفحة 279

يا راكباً قف بالمحصب من منىواهتف بقاعد خيفها والناهض
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منىفيضاً كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضاً حب آل محمدفليشهد الثقلان أني رافضي

كما كان الشافعي يسمي الذين خرجوا على علي (ع) وقاتلوه، أهل البغي. مما ثبت عليه تهمة التشيع التي كانت كابوساً في صدور السلطة.

ولكن بعد الدراسة والتقييم يظهر لنا أن تشيع الشافعي كان تشيعاً بالنسبة إلى مجتمعه الذي غرق في العداء لأهل البيت (ع) تبعاً لملوكهم ولذلك أتهم بالتشيع، وإذا جردنا ذلك المجتمع من تبعية السلطة وسياستها فلا نجد أحداً يبغض أهل البيت ما عدا الخوارج ومن حذا حذوهم، فحب أهل البيت لا يخلو منه قلب مسلم غير مستسلم فيكون الشافعي بذاك محباً لأهل البيت وليس بشيعي، والفرق شاسع لأن كل من يحب القيم والمبادئ يحب أهل البيت الذين تجسدت فيهم هذه المبادئ، حتى ولو كان غير مسلم، والشواهد على ذلك كثيرة، يكفينا منها أن الكاتب المسيحي جورج جرداق، ألف موسوعة من خمس مجلدات في الإمام علي (ع) يصفه فيها بأعظم ما يوصف،... ويكتب آخر في السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء - عليها السلام- كتاباً يسميه (فاطمة وتر في غمد)، وهو سليمان كتاني صاحب كتاب (الإمام علي نبراس ومتراس)، كما أن أطول قصيدة في العالم والتي تتكون من خمسة آلاف بيت ألفها مسيحي في حق الإمام علي بن أبي طالب (ع)، وثاني قصيدة تتكون من ثلاثة آلاف بيت أيضاً لمسيحي في فضل الإمام علي بن أبيت طالب (ع)، وثالث قصيدة من ألف بيت لمسيحي في الإمام علي (ع)... كل هذا لا يكفي لتشيعهم، فمجرد الحب لا يكفي وإنما الحب الحقيقي هو المولاة والاتباع والانقطاع التام إليهم لأخذ الدين ومعالم الإسلام كما يقول الشاعر:


الصفحة 280

لو كان حبك صادقاً لأطعتهإن المحب لمن يحب مطيع

(4) الإمام أحمد بن حنبل

هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال، ولد سنة 164هـ في بغداد على الأشهر ومرو على الأضعف، وقد نشأ أحمد يتيماً في حجر أمه، وتوجه إلى العلم وهو ابن خمسة عشر عاماً.. أي سنة 179هـ، فدرس علم الحديث بعد تعلم قراءة القرآن واللغة، وأول شيخ تلقى عليه العلم هو هشام بن بشير السلمي، المتوفي سنة 183هـ، وقد صاحبه أحمد ثلاث سنوات أو أكثر، وقد رحل إلى مكة لطلب أحاديث والكوفة والبصرة والمدينة واليمن والشام والعراق وتتلمذ فيها على مجموعة من العلماء، لا حاجة لذكرهم، أهمهم الشافعي، ومن الغريب من الحنابلة أنهم جعلوا الشافعي تلميذاً لأحمد.

وله تلامذة كثيرون أشهرهم أحمد بن محمد بن هاني المعروف بالأثرم المتوفى سنة 261هـ، وصالح بن أحمد بن حنبل وهو أكبر وأولاده، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، المتوفى سنة 290هـ روى الحديث عن أبيه.

  من كتب أحمد وآثاره:

لم يصنف أحمد كتباً في الفقه يعد أصلاً يؤخذ منه مذهبه الفقهي، وإنما له كتب عدت من الموضوعات الفقهية، مثل المناسك الكبيرة، والمناسك الصغيرة، ورسالة صغير في الصلاة، ولكنها لا تتعدى أن تكون كتب حديث وإن كان في موضوعاتها ما تناوله بالبسط والشرح(1).

____________

1- أحمد بن حنبل، لأبي زهرة ص 198.


الصفحة 281
ومن المعروف عنه أنه يكره وضع الكتب التي تشمل التفريع والرأي، فقد قال يوماً لعثمان بن سعيد: لا تنظر إلى ما في كتب أبي عبيد ولا فيما وضع إسحاق ولا فيما وضع سفيان ولا الشافعي ولا مالك وعليك بالأصل.

ومن أشهر تأليفاته في الحديث مسنده - يشمل أربعين ألف حديث تكرر منها عشرة آلاف -، وقد وثق أحمد مسنده، فعندما سُئل عن حديث قال: (انظر فإن كان في المسند وإلا فليس بحجة) وقد طعن فيه كثير من الحفاظ لوم يوثقوا كل ما فيه، بل صرحوا بوجود روايات موضوعة وليس هنا مقام البحث في هذا الأمر.

  محنة أحمد بن حنبل:

إن أظهر منعطف في تاريخ أحمد بن حنبل هي المحنة التي لاقاها بسبب القول بعدم خلق القرآن وقد بدأت محنته في زمن المأمون الذي كان يأخذ الناس بالعنف للقول بخلق القرآن، وقد كان المأمون متكلماً عالماً فأرسل منشوره إلى كل ولاته يأمرهم بامتحان الناس بخلق القرآن، جاء فيه: (إن خليفة المسلمين واجب عليه حفظ الدين وإقامته والعمل بالحق في الرعية، وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية وسفلة العامة مما لا نظر له ولا روية، ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته، ولا استضاءة بنور العلم وبرهانه، في جميع الأقطار والآفاق، أهل جهالة بالله وعمى عنه، وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده، والإيمان به، ونكوب عن واضحات أعلامه، وواجب سبيله، وقصور عن أن يقدروا الله حق قدره، ويعرفونه كنه معرفته ويفرقوا بينه وبين خلقه، لضعف آرائهم ونقص عقولهم وجفائهم عن التفكر والتذكر، وذلك أنهم ساووا بين الله تبارك وتعالى وما

الصفحة 282
أنزل من القرآن، فأطبقوا مجتمعين على أنه - أي القرآن قديم أزلي لم يخلقه الله ويخترعه.....)(1).

ومن هنا بدأت محنة خلق القرآن، ولم يقع ابن حنبل في فخ الامتحان والتعذيب إلا في عهد المعتصم، لوفاة المأمون قبل امتحانه. وقد كان المعتصم شديداً في امتحان الناس والتكيل بهمن وعندما جاء دور أحمد بن حنبل، فقد أقسم أنه لا يقتله بالسيف وإنما يضربه ضرباً بعد ضرب.. ويزجه في مكان مظلم لا يرى فيه النور، وبقي أحمد ثلاثة أيام يؤتي به كل يوم للمناظرة، عسى أن يرضخ لحكم السلطة ولكنه تمسك بقوله ورفض. فلما يئس المعتصم منه أمر بضربه بالسياط، وضرب 38 سوطاً، ولم يدم بعد ذلك تعذيب ابن حنبل فقد أطلق المعتصم سراحه وهذا ما يثير العجب والغرابة، هل هذا كاف في أن يصنع من أحمد بطلاً تاريخياً وقد شهد التاريخ أناساً أكثر منه تعذيباً وصبراً؟! ثم لماذا لم يدم تعذيبه؟! هل خضع وقال بمقالة السلطان؟

وقد ذكر بعضهم أن العامة قد اجتمعوا على دار السلطان، وهموا بالهجوم، فأمر المعتصم بإطلاقه..، وهذا لا يستقيم وتاريخ المعتصم الذي عرف بالقوة وصلابة الإرادة، وعظمت دولته، فلا يؤثر فيها استنكار العامة، ثم أي عامة هذه، هل هم أتباع أحمد؟! لم يكن أحمد مشهوراً ومعروفاً قبل المحنة حتى يكون له عوام، وإذا كانوا أتباعه فقد تحرم أحمد عليهم الخروج على السلطان..! فهذا السبب غير مقنع.

ويظهر أن سبب ذلك أن احمد أجاب الخليفة وقال بمقالته، فأطلق سراحه كما ذكر الجاحظ في رسالته مخاطباً أهل الحديث بعد أن ذكر المحنة

____________

1- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج2 ص453.


الصفحة 283
والامتحان: (وقد كان صاحبكم هذا - أي أحمد بن حنبل - يقول: لا تقية إلا في دار الشرك، فلو كان ما اقر به من خلق القرآن كان منه على وجه التقية، فلقد أعملها في دار الإسلام وقد كذب نفسه، وإن كان ما أقربه على الصحة والحقيقة فلستم منه وليس منكم، على أنه لم ير سيفاً مشهوراً، ولا ضرب ضرباً كثيراً، ولا ضرب إلا ثلاثين سوطاً مقطوعة الثمار مشبعة الأطراف، حتى أفصح بالإقرار مراراً، ولا كان في مجلس ضيق ولا كانت حله مؤيسة، ولا كان مثقلاً بالحديد، ولا خُلع قلبه بشدة الوعيد ولقد كانت منازع بألين الكلام ويجيب بأغلظ الجواب ويرزنون ويخف ويحلمون ويطيش)(1)...

ويؤيد ذلك ما ذكره اليعقوبي في تاريخه من قول الجاحظ بإقرار أحمد بن حنبل بأن القرآن مخلوق، قال: (وامتحن المعتصم أحمد بن حنبل في خلق القرآن، فقال أحمد: أنا رجل علمت علماً ولم أعلم فيه بهذا فأحضر له الفقهاء وناظره عبد الرحمن بن إسحاق، وغيره.. فامتنع أن يقول أن القرآن مخلوق، فضرب عدة سياط، فقال إسحاق بن إبراهيم: ولني يا أمير المؤمنين مناظرته، فقال: شأنك به، فقال إسحاق: هذا العلم الذي علمته نزل به عليك ملك أو علمته من الرجال؟!

فقال أحمد: بل علمته من الرجال.

فقال إسحاق: شيئاً بعد شيء أو جملة؟

قال: علمته شيئاً بعد شيء.

قال إسحاق: فبقي عليك شيء لم تعلمه.

قال أحمد: بقي عليّ شيء لم أعلمه.

____________

1- مقدمة كتاب - أحمد بن حنبل والمحنة ص 14، نقلاً عن هامش الامل ج 3 ص 131 - ص 139.


الصفحة 284
قال إسحاق: فهذا مما لم تعلمه، وعلمكه أمير المؤمنين.

قال أحمد: فإني أقول بقول أمير المؤمنين.

قال إسحاق: في خلق القرآن؟

قال أحمد: في خلق القرآن.

فأشهد عليه وخلع عليه وأطلقه إلى منزله(1).

وتكون هذه الضجة مفتعلة أكثر من الواقع، وقد صنع منها الحنابلة أساطير وأوهاماً حتى تكون دعاية وإعلاماً بطرح إمامة أحمد بن حنبل، وإلا إذا حوكمت هذه المسألة على أرض الواقع، لم يكن ابن حنبل بطلها.

  أبطال لم تسلط عليهم الأضواء:

(1) أحمد بن نصر الخزاعي، المقتول سنة 231هـ، وهو من تلاميذ مالك بن أنس وروى عنه ابن معين ومحمد بن يوسف، وكان من أهل العلم، وقد امتحنه الواثق وسأله: ما تقول في القرآن؟

قال: كلام الله ليس بمخلوق، فحمله أن يقول أنه مخلوق فأبى وسأله عن رؤية الله يوم القيامة، فقال بها. وروى الحديث في ذلك فقال الواثق: ويحك، هل يُرى هذه صفته، ولما أصرّ أحمد الخزاعي على رأيه، دعا الخليفة السيف المسمى الصمصامة، وقال: إنني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد رباً لا نعبده، ولا نعرفه بالصفة التي وصفه بها، ثم مشى إليه بنفسه فضرب عنقه، وأمر به وحمل رأسه إلى بغداد، فنصب بالجانب الشرقي أياماً، ثم بالجانب الغربي أياماً، ولما صُلب كتب الواثق ورقة وعلقت في رأسه:

____________

1- تاريخ اليعقوبي ج ص 198.


الصفحة 285
هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك، دعاه عبد الله الإمام هارون - وهو الواثق - إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه فأبى إلا المعاندة فعجل الله به إلى ناره(1).

(2) يوسف بن يحيى البويطي، كما تقدم من تلاميذ الشافعي وخليته على حلقة درسه، حُمل من مصر إلى بغداد مثقلاً بأربعين رطلاً من الحديد، وامتحن فأبى أن يقول أن القرآن مخلوق، وقال: والله لأموتن في حديدي هذا حتى يأتي من بعدي قوم يعلمون أنه مات في هذا الشأن قوم في حديدهم، ولئن دخلت عليه - يعني الواثق - لأصدقن، ومضى على امتناعه حتى مات بسجنه سنة 232هـ.

.... وآخرون لا يتسع المجال لذكرهم كانوا أكثر جموداً وإصراراً من أحمد، ومن الظلم أن يُخصّ احمد بن حنبل بهذه المحنة وأن تكون أعظم بطولاته، رغم نه كان غير ذلك تماماً كما عرفت خضوعه وإقراره للمعتصم.

  أحمد في عهد المتوكل:

عندما جاء المتوكل إلى سدة الحكم، قرّب أهل الحديث ونكّل بالمعتزلة، بعكس ما كان في عهد المأمون والمعتصم والواثق، وامتحنهم بخلق القرآن، فمن قال منهم بخلق القرآن عُذب وقتل، فوجد أهل الحديث بغيتهم وارتفع بذلك صيتهم، وتبوأوا المكانة الرفيعة، وانتقموا من المعتزلة شر انتقام.

قال أحمد أمينك (فأراد الخليفة المتوكل أن يحتضن الرأي العام وأن يكتسب تأييده، فأبطل قوله بخلق القرآن، وأبطل الامتحانات والمحاكمات، ونصر المحدثين)(2).

____________

1- طبقات الشافعية ج 1 ص 270.

2- ظهر الإسلام ج 4 ص8.


الصفحة 286
وقد كان النصيب الأكبر في القرب من المتوكل هو لأحمد بن حنبل، لأنه هو البقية من محنة القرآن بعد أن قتل أبطاله. وكان المتوكل يوصي الأمراء باحترام أحمد وتقديره، ويصله بصلات سنيه ويعطف ليه ورتب له في كل شهر أربعة آلاف درهم(1). فعلا نجم أحمد وازدحم الناس على بابه وتهافت رجال الدولة وأعيانها عليه، وكان أحمد في المقابل يذهب إلى صحة خلافة المتوكل وإمامته ولزوم طاعته، وكان يؤيد الدولة ويشد أزرها، وهذا ليس بغريب من أحمد فإنه يرى طاعة الحاكم أياً كان براً أو فاجراً.

قال أحمد في إحدى رسائله: والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين، البر ولافاجر، ومن ولي الخلافة فأجمع الناس عليه ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف وسُميّ أمير المؤمنين، والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة، البر والفاجر، وإقامة الحدود إلى الأئمة وليس لأحد أن يطعن عليهم أو ينازعهم، ودفع الصدقات إليهم جائز من دفعها إليهم أجزأت عنه، براً كان أو فاجراً.

وصلاة الجمعة خلفه وخلف كل من ولي جائزة إمامته ومن أ، عادها فهو مبتدع تارك للآثار مخالف للسنة.

ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وكان الناس قد اجتمعوا عليه وأقروا له بالخلافة بأي وجه من الوجوه، أكان بالرضا أو الغلبة، فقد شق الخارج عصا المسلمين وخالف الآثار عن رسول الله، فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية(2).

ويقول أبو زهرة في نفس الكتاب ص 321: (ولأحمد رأي يتلاقى فيه مع سائر الفقهاء وهو جواز إمامة من تغلب ورضيه الناس، وأقام الحكم

____________

1- تاريخ ابن كثير ج10ص 239.

2- تاريخ المذاهب الإسلامية، لأبي زهرة ج2 ص 322.


الصفحة 287
الصالح بينهم، بل إنه يرى أكثر من ذلك، إن من تغلب وإن كان فاجراً تجب طاعته حتى لا تكون الفتنة.

فلذلك نجد تباعه من السلفية والوهابية يحكمون على الحسين بن علي عليهما السلام بأنه باغ ويجب على يزيد قتله لخروجه على إمام زمانه، وقد سمعته بأذني من أحدهم وهو يناقشني مدافعاً دفاعاً مستميتاً عن يزيد، قال: الحسين خرج على إمام زمانه ويجب أن يقتل، فانظر إلى أي مدى يأخذ الإنسان التقليد الأعمى لأسلافه، فما قيمة أحمد بن حنبل في قبال الحسين (ع)، حتى اقول بمقالته واعمل بفتواه وأرمي الحسين بالظلم والبغي؟!.

إذا تجردنا من هذا التقليد الأعمى، وتدبرنا آيات القرآن لكان خيراً وأقرب للحق، قال تعالى: [ولا تركنوا للذين ظلموا فتمسكم النار] هود 113.

وقال: [ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً] الكهف 28. وقال جل شأنه: [ولا تطع المكذبين] القلم 8. وقال: [ولا تطيعوا أمر المسرفين] الشعراء 151.

.. ولكنهم تركوا القرآن وراء ظهورهم، واحتجوا بروايات وضعها الظلمة من حكام بني أمية، حتى يخضعوا الناس لسلطانهم، وقد رد أهل البيت هذه الأحاديث بأحاديث صادقة وموافقة للقرآن ولروح الإسلام.

قال الإمام الصادق (ع): (من أحب بقاء الظالمين فقد أحب أن يُعصى الله). هذا فوق كونه حديثاً فهو دليل عقلي متين، حيث من يرى الاستسلام للظالم وطاعته ولا يخرج عليه فقد أحب بقاء معصية الله. قال تعالى: [ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون.. الظالمون.. الفاسقون] المائدة 44 ـ 45ـ 47.

بالإضافة إلى الآيات والروايات الدالة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلذلك عندما أراد الحسين (ع)، الخروج على طاغية زمانه يزيد قال:


الصفحة 288
(أيها الناس إن رسول الله (ص) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأطهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلةوا حرام الله وحرموا حلاله، وأنا أحق من غيري)(1).

ولكن ماذا نقول لأناس تركوا أئمة أهل البيت وأبدلوهم بأئمة مصطنعين لم يأمر الله بطاعتهم، قال تعالى: [وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً] الأحزاب 67ـ68.

فما أعظم هذه الجريمة في حق الأمة الإسلامية، التي ارتكبها حكام الأمويين بوضع هذه الأحاديث المكذوبة على رسول الله (ص)، بل ما أعظم ذنب هذه الفتوى التي أفتى بها أحمد بن حنبل، وكم هي محبطة لجيل الثورة الإسلامية الذين يرفضون الظلم والاستبداد في هذا العصر الذي اتصف بالوعي والنهضة الشاملة، التي لا يمكن أن يقف في طريقها إيحاءات علماء البلاط واسلطة. فإن كان هناك جرماً ارتكبته مجموعة من الشباب الذين انضموا تحت رايات شيوعية وغير إسلامية، فالجرم الأكبر ارتكبه علماء السوء.

  الفقه عند احمد بن حنبل:

من المعروف عن أبن حنبل أنه رجل حديث ولم يكن فقيهاً، فقد جمع أتباعه بعض آرائه المتفرقة المنسوبة له وجعلوا منها مذهباً فقهياً، ولذلك نجد

____________

1- تاريخ الطبري ج4، حوادث سنة 61هـ ص 304.


الصفحة 289
المجموعة الفقهية التي نسبت إلى أحمد مختلفة متضاربة، بالإضافة إلى اختلافهم في تفسير من بعض الكلمات التي لا يفهم منها الحكم الشرعي في المسألة مثل قوله: (لا ينبغي). فهل هي تحمل على الحرمة أو الكراهة، وكذلكقوله: يعجبني أو لا يعجبني... أو أكره، أو لا أحب.

كما أن أحمد نفسه لم يدّع أنه من أهل الفقه والفقاهة، بل كان يتحرز من الفتيا ويفر منها. قال الخطيب بإسناده: (كنت عند أحمد بن حنبل، فسأله رجل عن مسألة في الحلال والحرام، فقال له أحمد: سل عافاك الله غيرنا، قال: إنما نريد جوابك يا أبا عبد الله، قال: سل عافاك الله غيرنا، سل الفقهاء، سل أبا ثور)(1). فلا يحسب نفسه بذلك من الفقهاء.

وقال المروزي: سمعت أحمد يقول: أما الحديث فقد استرحنا منه وأما المسائل فقد عزمت إن سألني أحد عن شيء أنا لا أجيب(2).

وذكر الخطيب بالإسناد أنه قدم أحمد بن حرب (الزاهد النيسابوري) من مكة، فقال لي أحمد بن حنبل: من هذا الخراساني الذي قدم؟

قلت: من زهده كذا وكذا.

فقال: لا ينبغي لمن يدعي ما يدعيه - يعني الزهد - أن يدخل نفسه بالفتيا(3).

.. فهذا هو ديدنه لا يتدخل في الفتيا، بل يراها لا تنسجم مع الزهد.

فكيف يكون لمثل هذا فقه أو مذهب يُقلد في الأمور العبادية؟!.

وقال أبو بكر الأشرم - تلميذ أحمد بن حنبل -: كنت أحفظ الفقه والاختلاف فلما صحبت أحمد تركت كل ذلك.

____________

1- تاريخ بغداد، ج2ص 66.

2- مناقب أحمد ص75.

3- تاريخ بغداد ج4 ص 119.


الصفحة 290
وقال أحمد بن حنبل: إياك أن تكلم في مسألة ليس لك فيها إمام(1).

... أي بصريح العبارة: لا تفت حتى ولو كان في يدك حديث، إلا إذا كان لك إمام تعتمد عليه في هذه الفتوى.

كما أنه لا يرى الترجيح بين أقوال الصحابة، إذا اختلفوا في مسألة، بل يرى تقليد من شئت، وكان هذا جوابه لعبد الرحمن الصير في عندما سأله هل يمكن الترجيح بين أقوال الصحابة.

والذي ينهى عن الترجيح وأخذ الأصلح من الأقوال هو أبعد عن الاجتهاد. ومن الأدلة التي تدل على عدم وجود مذهب فقهي لأحمد بن حنبل، أن كثيراً من أصحابه المتعصبين له اختلفوا في مذهبهم الفقهي.

هل هم أحناف أم شافعية؟، مثل أبي الحسن الأشعري، عندما ترك الاعتزال وأصبح حنبلياً، فلم يُعرف عنه أن يدين الله عز وجل بفقه حنبلي، وكذلك القاضي الباقلاني فقد كان مالكياً، وكذلك عبد الله الأنصاري الهروي، المتوفى سنة 481هـ، القائل: د
أنا حنبلي ما حييت وإن أمتفوصيتي للناس أن يتحنبلوا

ورغم تعصبه لأحمد كان في الفقه على طريقة ابن المبارك، وهذا هو المعروف من معاصريه والمقربين من عهده، فالمنتسبون له إنما ينتسبون عقائدياً وليس فقهياً.

فبالإضافة إلى أن ابن حنبل ينهى في رسائله عنه: الرأي والقياس والاستحسان ويجعل القائلين بالقياس في رديف الجهمية والقدرية والروافض ويحمل على أبي حنيفة في شخصه، ورغم ذلك نجد أن القول بالقياس قد

____________

1- أحمد بن حنبل، لأبي زهرة ص 196.