الصفحة 385

أو عامي كذاب بليد الذهن؟

أوغريب واجم قوي المكر؟

أو ناشف طالح عديم الفهم؟

فإن لم تصدقني ففتشهم وزنهم بالعدل..).

وجاء في الدرر الكامنة لابن حجر العسقلاني ج1 ص141:

(فمن نا وهناك ردوا عليه، ما أبدعته يده الاثيمة من المخاريق التافهة والآراء المحدثة، الشاذة، عن الكتاب والسنة والاجماع والقياس، ونودي عليه بدمشق: من اعتقد عقيدة ابن تيمية، حل دمه وماله.

وقال فيه الحافظ عبد الكافي السبكي، وقد ألف في الرد على ابن تيمية كتاباً سماه شفاء الاسقام في زيارة خير الانام عليه الصلاة والسلام.

وقال في خطبة كتابه ـ الدرة المضيئة في الرد على ابن تيمية: (أما بعد فإنه لما أحدث ابن تيمية ما أحدث في أصول العقائد، ونقض من دعائم الاسلام الأركان والمعاقد، بعد أن كان مستتراً بتبعية الكتاب والسنة، مظهراً أنه داع إلى الحق، هاد إلى الجنة، فخرج عن الإتباع إلى الابتداع، وشد عن جماعة المسلمين بمخالفة الإجماع، وقال بما يقتضي الجسمية والتركيب في الذات المقدسة وإن الافتقار إلى الجزء ليس بمحال، وقال لمحلول الحوادث بذات الله تعالى...)(1).

وعشرات العلماء الذين اعترضوا عليه، ولا يتسع المقام لتتبع كلماتهم وإيراد أقوالهم، ونكتفي في الختام بقول شهاب الدين ابن حجر الهيثمي، قال في ترجمة ابن تيمية: (إن تيمية عبد خذله الله، وأضلّه، وأعماه، واصمه، وأذله، لذلك صرح الأئمة الذين بينوا فساد أحواله، وكذبوا أقواله، ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة الإمام المجتهد المتفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرحلة

____________

1- الملل والنحل ج4 ص42 للشهرستاني.


الصفحة 386
الاجتهاد أبي الحسن السبكي وولده التاج والشيخ الإمام العز بن جماعة، وهل عصرهم وغيرهم من الشافعية والمالكية والحنفية، ولم يقصر اعتراضه على متأخري السلف الصوفية بل اعترض على مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما والحاصل أنه لا يقام لكلامه وزن بل يرمى في كل وعر وحزن، ويعتقد فيه أنه مبتدع، ضال، مضل، غال، عامله الله بعدله، وأجارنا من مثل طريقته وعقيدته وفعله. آمين!.. إلى أن قال: إنه قائل بالجهة وله في إثباتها جزء، ويلزم أهل هذا المهب الجسمية والمحاذاة والاستقرار)(1).

.. نكتفي بهذا القدر عن ابن تيمية، وسوف نتناول بعض أفكاره بالتحليل العلمي والرد عليها عندما نتحدث عن الوهابية، لأنها هي الامتداد التاريخي لعقائد ابن تيمية، الذي هو بدوره امتداد لعقائد الحنابلة.

ولقد تفنّن الرجل في خلط الحق بالباطل، ولذلك ظن فيه بعض المسلمين الخير، فسمه ـ شيخ الإسلام ـ واشتهر أمره وانتشر، وإلا فالباطل المطلق لا أنصار له.

وقد قال أمير المؤمنين (ع) في ذلك: (إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب اله، ويتولى عليها رجال رجالاً على غير دين الله. فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين، ولو أن الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، وينجو الذين سبقت لهم منا الحسنى) نهج البلاغة خطبة 49.

____________

1- المصدر السابق ص48.


الصفحة 387

ثالثاً: مرحلة محمد بن عبد الوهاب:

قام ابن عبد الوهاب مجدداً لعقائد الحنابلة بعد أن أشرب في قلبه فكر ابن تيمية، فأعلن حركته في نجد وبدأ تحركه في المنطقة التي شهدت أسوأ أنواع الكبت والظلم والقتل والتشريد، وبلغت العقيدة الحنبلية المتحجرة عظمتها ومجدها ودخلت في إطارها التطبيقي على الواقع الخارجي، لأول مرة في تاريخها بعد أن مرت بمرحلتين لم تجد فيهما كبير حظ وعناية، وكان السبب في ذلك أن الأشاعرة احتكروا الساحة العقائدية بعد أحمد بن حنبل مباشرة، أما في المرحلة الثانية: (إن ابن تيمية افتقد الارضية الكفيلة بإنجاح دعوته لأنه بثها بين أوساط علمية كان فيهم كبار العلماء والفقهاء، فأخمدوا ضوضاءها بالاستدلال والبرهنة فثاروا في وجهه ثورة اخمدت دعوته وأبطلت كيده، وكانت السلطة أيضاً ناصرت العلماء في مجابهتهم له، فلم يكن لبذرة الفساد نصيب سوى الكمون في ثنايا الكتب، أو النجاح في مرضى القلوب)(1).

وعكس هذا فقد كانت الاجواء مهيأة لمحمد بن عبد الوهاب في نشر أفكاره وسمومه في الامة، فكان الجهل والأمية في كل مكان من أقاليم نجد، بالإضافة إلى سلطة آل سعود التي آلت على نفسها نشر الدعوة بحد السيف، وبهذه العوامل حملوا الناس على الايمان بالوهابية، وإلا حكموا عليهم بالكفر والشرك وأحلوا مالهم ودمهم.. مبررين ذلك بمجموعة عقائد فاسدة تحت عنوان التوحيد الصحيح، فيبدأ ابن عبد الوهاب الحديث عن التوحيد

____________

1- الملل والنحل للسبحاني.


الصفحة 388
بقوله: (.. وهو نوعان: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، أما توحيد الربوبية فيقر به الكافر والمسلم، وأما توحيد الألوهية فهو الفارق بين الكفر والإسلام، فينبغي لكل مسلم أن يميز بين هذا وهذا ويعرف أن الكفار لا ينكرون أن الله هو الخالق الرازق المدبر، قال الله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الامر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) الآية: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس لقولن الله) الآية. فإن ثبت لك أن الكفار يقرون بذلك، عرفت أن قولك لا يخلق ولا يرزق إلا الله، ولا يدبر الأمر إلا الله، لا يصيرك مسلماً حتى تقول: لا إله إلا الله معل العمل بمعناها)(1).

وبهذا المفهوم الساذج البسيط الذي لا ينم إلا عن جهل بحكمة الله وآياته، يكفر كل المجتمع بعد أن يصل إلىمراده بقوله: (إن مشركي زماننا ـ أي المسلمين ـ إلظ شركاً من الأولين، لأن أولئك يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة، وهؤلاء شركهم في الحالتين لقوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون). العنكبوت/659)(2).

فكل من يتوسل بوسل الله (ص) وأهل بيته (ع) أو يزور مقاماتهم هو مشرك كافر، بل شركه أعظم من شرك عبدة اللات والعزى ومناة وهبل، وتحت هذه العقيدة قتل الأنفس ونهب الأموال، وسبي الذراري من مسلمي نجد والحجاز وكان شعارهم:

أدخل في الوهابية وإلا فالقتل لك والترمل لنسائك واليتم لأطفالك.

____________

1- في عقائد الإسلام ، من رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص38.

2- محمد بن عبد الوهاب رسالة أربع قواعد ص4.


الصفحة 389
ويقول أخوه سليمان بن عبد الوهاب في رده عليه في كتاب (الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية): (حثت من قبل زمان الإمام أحمد في زمن أئمة الإسلام حتى ملئت بلاد الإسلام كلها ولم يرو عن أح من أئمة المسلمين أنهم كفّروا بذلك ولا قالوا هؤلاء مرتدون ولا أمروا بجهادهم، ولا سموا بلاد المسلمين بلاد شرك وحرب كما قلتم ِأنتم، بل كفّرتم من لم يكفر بهذه الافاعيل وإن لم يفعلها، وتمضي قرون على الائمة من ثمانمائة عام ومع هذا لم يرو عن عالم من علماء المسلمين أنه كفر بل ما يظن هذا عاقل، بل والله لازم قولكم أن جميع الامة بعد زمان أحمد (ره) علماؤها وأمراؤها وعامتها كلهم كفار مرتدون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، واغواثاه إلى الله! ثم واغوثاه أن تقولوا كما يقول بعض عامتكم أن الحجة ما قامت إلا بكم....)(1).

ويقول أيضاً في ص4: (فإن اليوم ابتلي الناس بمن ينتسب إلى الكتاب والسنة ويستنبط من علومهما ولا يبالي ن خالفه. وإذا طلبت منه أن يعرض كلامه على أهل العلم لم يفعل، بل يوجب على الناس الأخذ بقوله وبمفهومه، ومن خالفه فهو عنده كافر، هذا وهو لم تكن فيه خصلة واحدة من فعال أهل الاجتهاد لا والله، وعشر واحدة، ومع هذا فراح كلامه ينطلي على كثير من الجهال، فإنا لله وإنا إليه راجعون، الأمة كلها تصبح بلسان واحد، ومع هذا لا يرد لهم في كلمة بل كلهم كفار وجهال: اللهم أهد هذا الضال ورده إلى الحق).

____________

1- ص 38.


الصفحة 390

مناقشة توحيد الربوبية:

ولكي نبين الخطأ تعمده ابن عبد الوهاب، والاشتباه الذي وقع فيه كثير من أتباعه، والذي على أساسه يكفرون غالبية المسلمين إلى عصرنا هذا، لا بد أن نطرح أفكاره على طاولة البحث والتدقيق.

ونبدأ هنا بتوحيد الربوبية: فتفسير الرب بمعنى الخالق، بعيد عن مراد القرآن. فمعنى الرب في اللغة والقرآن الكريم لا يخرج عن معنى من بيده أمر التدبير والإدارة والتصرف وقد ينطبق هذا المعنى الكلي على مصاديق متعددة مثل التربية والاصلاح والحاكمية والمالكية والصاحبية، ولا يمكن متعددة مثل التربية والاصلاح والحاكمية والمالكية والصاحبية، ولا يمكن حمل الرب على معنى الخالقية كما ذهبت إليه الوهابية التي بنت على أساسه إهرامات من الأفكار المنحرفة. ولكي يثبت هذا الخطأ بجلاء تعال نتدبر هذه الآيات القرآنية لكي نكتشف منها معنى الرب في الكتاب العزيز.

قال تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم) البقرة/21.

وقال تعالى: (بل ربكم السموات والأرض الذي فطرهن) الأنبياء/56.

فلو كان الرب بمعنى الخالق لم يكن هناك حاجة لذكر (الذي خلقكم) أ, (الذي فطرهم) مرة أخرى، وإلا يصبح تكراراً من غير معنى، فإذا وضعنا بدل الرب في الايتين (الخالق)، لم يكن هناك حاجة لقوله (الذي خلقكم) (الذي فطرهن) بخلاف إذا قلنا أن معنى الرب هو المدبر، المتصرف إذ تكون الحاجة إلى الجملة الاخيرة متحققة، فيكون معنى الآية الأولى، أن الذي خلقكم هو مدبركم، وفي الآية الثانية أن خالق السموات والأرض هو المتصرف فيه المالك لتدبيرهما، والشواهد على ذلك كثيرة لا يتسع المجال التفصيل فيها.


الصفحة 391
وعلى ذلك فقوله: (أما توحيد الربوبية فيقر به الكافر والمسلم) كلام لا وجه له وتخالفه النصوص القرآنية الصريحة، قال تعالى: (قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء) الأنعام /164، هذا خطاب من اله سبحانه إلى رسول (ص)، ليقول لقومه، أتأمروني أن أتخذ رباً أقر له بالربوبية والتدبير غير الله الذي لا مدبر سواه، كما تتخذون أنتم أصنامكم وأوثانكم وتقرون لها بالتدبير، وإذا كن الكفار يقرون بالربوبية لله وحده، كما يزعم ابن عبد الوهاب لكان ليس لهذه الآية معنى، فتكون زائدة ونازلة عبثاً ـ والعياذ بالله ـ لا، كل الناس ـ على حد زعمه ـ مسلمهم وكافرهم يوحدون الله في ربوبيته فلا يأمرون الرسول (ص) بأن يتخذ رباً غير اله، ومثل هذه الآية ما نزل في مؤمن آل فرعون، قال تعالى: (.. أتقتلون رجلاً أن يقول ربي اله وقد جاءكم بالبينات من ربكم) غافر/28.

وعشرات الآيات تؤكد أن الرب لا يعني الخالق، وإنما يعني المدبر الذي بيده تدبير الأمور، والرب بهذا المعنى كما تؤكد الآيات لم يكن موضع اتفاق بين البشر، ولم يكن ابن عبد الوهاب إلا تلميذاً مقلداً لابن تيمية. فقد نقل منه هذه الفكرة من غير تدبر فيها فكان خطره على المسلمين أعظم، لان ابن تيمية لم يخرج هذه الفكرة من إطار الاصطلاح والمنهج العلمي، بخلاف ابن عبد الوهاب الذي ساعدته الظروف على ممارسة هذه الفكرة على الواقع العملي وتطبيقها على المسلمين، فكانت نتيجتها تكفيرهم ما عدا الوهابية، ولكي يتضح لك ذلك نتناول نظرته حول توحيد الألوهية.

مناقشة توحيد الألوهية:

يقصد الوهابية بتوحيد الألوهية أنه صرف العبادة لله سبحانه وتعالى، وأن لا شرك في عبادته غيره، وهذا هو التوحيد الذي بعث الله الأنبياء والرسل من أجله.


الصفحة 392
لا إشكال ولا غبار على هذا المفهوم، وإن كان هناك إشكال فهو في نفس الاصطلاح لأن الله في القرآن لا يعني المعبود، فيمكننا أن نسمي هذا التوحيد بتوحيد العبادة ولكن لا كلام لنا في الاصطلاحات إذا اتفقنا في المفاهيم.

قد أجمع المسلمون على وجوب اجتناب عبادة غير الله، وأن يفرد الله تعالى وحده بالعبادة، ولكن الخلاف هو في تحديد ـ مفهوم العبادة ـ وهو أهم شيء في هذا الباب، لأنه المكان الذي زلت فيه أقدام الوهابية، فإذا قلنا أن التوحيد الخالص هو صرف العبادة لله تعالى، لا يكون له معنى إذا لم نحدد مفهوم العبودية، ونعرف حدودها وضوابطها، حتى يكون لنا معيار ثابت نعرف به الموحد من المشرك، فمثلاً الذي يتوسل، ويزور مقابر الأولياء ويعظمهم، هل يعد مشركاً أم موحداً؟ وقبل الإجابة لا لنا من ضابط نكتشف به مصاديق العبادة في الواقع الخارجي.

  مناقشة الوهابية في مناط مفهوم العبادة:

اعتبرت الوهابية أن مطلق الخضوع والتذلل والتكريم عبادة.

فكل من يخضع أو يتذلل لشيء يعتبر عابداً له، فمن يخضع ويتذلل لنبي من أنبياء الله أو ولي من أوليائه بأي شكل من أشكال الخضوع يكون عابداً له، وبالتالي مشركاً بالله تعالى، فالذي سافر ويقطع المسفات من أجل زيارة رسول الله (ص) حتى يُقبّل ضريحه الطاهر ويتمسح به تبركاً يُعتبر كافراً مشركاً، وكذلك الذي يبني المشاهد والقبب على الأضرحة لتكريمها وتعظيمها.

يقول ابن عبد الوهاب في احدى رسائله: (.. فمن قصد شيئاً من قبر أو شجر أ ونجم أو ملك مقرب أو نبي مرسل لجب نفع أو كشف ضر فقد

الصفحة 393
اتخذ إلهاً من دون الله، فكذب بلا إله إلا الله، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإن قال هذا المشرك: لم أقصد غلا التبرك، وإني لأعلم أن الله هو الذي ينفع ويضر. فقل له: عن بني إسرائيل ما أرادوا إلا ما أردت، كما أخبر الله عنهم أنهم لما جاوزوا البحر أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى أجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة فأجابهم بقوله (إنكم قوم تجهلون)...)(1).

ويقول في رسالة أخرى: (.. وأيضاً من تبرك بحجر أو شجر أو مسح على قبر أو قبة يتبرك بهم فقد اتخذهم آلهة...)(2).

ثم انظر إلى هذا الوهابي، محمد سلطان المعصومي، كيف وصف المسلمين الموحدين الذين يزورون قبر رسول الله (ص)، ويتبركون بمقامه الطاهر ويقولون: أشهد أن لا إله غلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، يقول في حقهم: (.. والعبد الضعيف في زياراتي الأربع للمدينة الطيبة، قد أمعنت النظر فشاهدت في المسجد النبوي وعند قبره الشريف، ما يضاد الايمان ويهدم الإسلام ويبطل العبادات من الشركيات والوثنيات الصادرة من الغلو وتراكم الجهالات والتقليد الجامد الأعمى أو التعصب الباطل، وغالب من يرتكب هذه المنكرات بعض الغرباء من أهل الآفاق، مما لا خبر له عن حقيقة الدين، فإنهم قد اتخذوا قبر النبي (ص) وثناً غلواً في المحبة وهم لا يشعرون)(3).

ولكي يتضح الخلط والجهل الذي ارتكبه الوهابية لا بد أن تنقض هذه القاعدة التي اعتمدوها مقياساً في معرفة العبادة، وهو الخضوع والتذلل والتكريم.

____________

1- عقائد الإسلام ، من رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص26.

2- المصدر السابق.

3- المشاهدت المعصومية عند قبر خير البرية ص15.


الصفحة 394
لا يمكن شرعاً وعقلاً حمل مطلق الخضوع والتذلل على العبادة، فنحن نرى كثيراً من الأمور التي يمارسها الإنسان في حياته الطبيعية، يتخللها الخضوع والتذلل، مثل خضوع التلميذ لأستاذه والجندي أمام قائده، ولا يمكن أن يتجرأ إنسان ويصف عملهم هذا بالعبادة ن فقد أمرنا الله سبحانه بإظهار الخضوع والتذلل للوالدين، قال تعالى: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة)(1) والخفض هما كناية عن الخضوع الشديد، فلا يمكن أن نسمي هذا العمل عبادة إن شعار المسلم هو التذلل والخضوع للمؤمن والتعزز على الكافر قال تعالى: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) وإذا كان التذلل عبادة يكون قد أمر الله المؤمنين بأن يعبدوا بعضهم البعض، وهذا محال.

وهناك آيات أكثر وضوحاً في هذا الأمر، وتنفي تماماً ما ادعته الوهابية، منها سجود الملائكة لآدم، والسجود هو أعلى مراتب الخضوع والتذلل. قال تعالى: (وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) البقرة 34.

فإذا كان السجود لغير الله سبحانه وإظهار قمة الخضوع والتذلل عبادة كما تدعي الوهابية فيتحتم عليها أن تسمي الملائكة ـ والعياذ بالله ـ مشركين كفاراً، وأن تسمي آدم طاغوتاً، فما لهم لا يتدبرون القرآن؟ أم على قلوبهم أقفالها؟

ومن هذه الآية نعرف أن قمة الخضوع ليس عبادة، ولا يعترض معترض بقوله إ ن السجود ليس بمعناه الحقيقي، أو إن المقصود من السجود لآدم (ع) هو جعله قبلة ـ كما يجعل المسلمون الكعبة المشرفة قبلة ـ فإن كلا الاحتمالين باطل، لأن السجود الظاهر من هذه الآية هو الهيئة المتعارفة. ولا يجوز صرفه إلى أي معنى آخر، وأما كونه قبلة فهذا تأويل من غير مصدر ولا

____________

1- الإسراء 24 .


الصفحة 395
دليل، كما أن السجود لآدم (ع) كان قبلة لما كان لإبليس أي مبرر للاعتراض حيث السجود لا يكون لآدم بذاته، وقد أكد القرآن الكريم خلاف ذلك بقول إبليس: (أأسجد لمن خلقت طيناً) ففهم إبلييس من الأمر الإلهي السجود لنفس آدم (ع). لذلك اعترض بقوله: (.. أناخيرمنه) أي أفضل فكيف يسجد الأفضل للمفضول وغذا كان المقصود من السجود هو اتخاذ آدم قبلة فلا يلزم من ذلك أنتكون القبلة أفضل من الساجد، فبذلك لا يكون لآدم حظ من الفضل وهذا خلاف ظاهر الآية. والذي يؤكد ذلك قول إبليس: (أأسجد لمن خلقت طيناً.. أرأيتك هذا الذي كرمت علي) الاسراء 61ـ62.

فامتناع إبليس عن السجود كان لأن في هذا السجود لآدم (ع) منزلة وفضلاً عظيماً، وقد اعترض علي أحد الوهابية يوماً. وهو أمير جماعة أنصار السنة في مدينة بربر شمال السودان ـ في هذا المبحث بقوله إن سجود الملائكة كان بأمر الله، وهو يظن بذلك أنه القمني حجراً وأبطل حجتي. قلت له: إذن أنت ما زلت تصر على أن هذا الفعل ـ وهو السجود ـ من مصاديق الشرك بل هو الشرك بعينه، ولكن أمر الله به. قال نعم.

قلت: وهل هذا الأمر الإلهي يخرج سجود الملائكة (ع) من الشركية.

قال: نعم.

قلت: هذا كلام لا وجه له، ولا يقبله جاهل فضلاً عن عالم، فإن الأمر الإلهي لا يغير ماهية الشيء ولا يبدل موضوعه، فمثلاً إن ماهية السب والشتم هي الاهانة، فإذا أمرنا الله تعالى بسب فرعون فهل هذا الأمر الإلهي يغير ماهية السب، فيكون سبناً له مدحاً وتكريماً لفرعون...؟!


الصفحة 396
وأيضاً إذا حرم الله علينا ضيافة شخص معين، فلا يغير هذا التحريم ماهية الضيافة وهي الإكرام والاحترام فتصبح الضيافة إهانة للضيف، فإذا اعتبرت أن السجود شرك وعبادة، فإذا أمر الله به فلا يغير هذا الأمر ماهيته، فيصبح السجود بالأمر الإلهي توحيداً خالصاً، وهذا محال، فيلزم منكلامك أن تتهم الملائكة بالشرك.

بدأت الحيرة على وجهه وظل ساكتاً.

قطعت صمته قائلاً: أمامك أمران، إما أن يكون هذا السجود خارجاً من الأساس عن إطار العبادة.. وهذا ما نقوله.

وإما أن يكون هذا السجود من أجلى مصاديق العبادة وتكون الملائكة الساجدة مشركة ولكنه شرك أذن الله به وأجازه، وهذا ما لا يقول به مسلم عاقل، وهو مردود بقوله تعالى: (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله مالا تعلمون) الأعراف 28.

فلو كان السجود عبادة وشركاً لما كان الله سبحانه وتعالى يأمر به.

وقد أخبرنا القرآن أيضاً بسجود أخوة يوسف وأبيه، وهذا السجود لم يكن بالأمر الإلهي، ولم يصفه الله سبحانه بالشرك، ولم يتهم أخوة يوسف وأباه بذلك، قال تعالى: (.. رفع أبويه على العرش وخروا له سجداً وقال يأبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً) يوسف 100.

وكانت هذه الرؤية في الآية 4 (إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين).

فقد عبر الله تعالى في الموضعين بالسجود ليوسف، وبهذا يستفاد أن مجرد السجود أو أي عمل يظهر منه الخضوع والتذلل والتعظيم ليس عبادة.

وبهذا لا يمكن أن نسمي ذلك المسلم الموحد الذي يخضع ويتذلل أمام قبر رسول الله وأضرحة الائمة والأولياء مشركاً عابداً للقبر، لأن الخضوع لا

الصفحة 397
يعني العبادة ولو أن مثل هذا العمل عبادة للقبر لكان عمل المسلمين في الحج من الطواف حول البيت الحرام والسعي بين الصفا والمروة وتقبيل الحجر الأسود أيضاً عبادة لأن هذه الأعمال من حيث الشكل والظاهر لا تختلف عن الطواف بقبر رسول الله (ص) أو تقبيله أو التمسح به، ورغم ذلك نجد الله سبحانه وتعالى يقول: (وليطوفوا بالبيت العتيق) الحج 29. وقال جل شأنه: (إن الصفات والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أواعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما).

فهل ترىأن الطواف بالحجارة والطين عبادة لها؟

لو كان مطلق الخضوع عبادة للزم أن يتكون هذه الأفعال عبادة، ولا مخرج هنا بالأمر الإلهي، كما وضحنا أن الأمر الإلهي لا يغير ماهية الفعل، ولكن مشكلة الوهابية أنهم لم يفهموا العبادة ولم يعرفوا روحها وحقيقتها، فيتعاملون فقط بالظواهر والأشكال، فعندما يروا ذلك الزائر يقبل مقام رسول الله (ص) يذهب ذهنهم إلى ذلك المشرك الذي يقبل صنمه، فينتزع الحكم من تلك الحالة الذهنية لينسبها إلى ذلك الموحد الذي يقبل مقام رسول الله (ص) وهذا هو الاشتباه، فلو كان مجرد الشكل الخارجي كافياً للحكم لوجب عليهم أن يكفروا كل من يقبل الحجر الأسود، ولكن الواقع غير ذلك.. فتقبيل الحجر الأسود من المسلم توحيد خالص، وتقبيل الصنم من الكافر يعد شركاً خالصاً.

فما هو الفرق؟!

هناك ضابط آخر نتعرف به على العبادة وهو:


الصفحة 398

  تعريف العبادة بالمفهوم القرآني:

العبادة هي الخضوع اللفظي والعملي عن اعتقاد بألوهية المعبود أو ربوبيته أو الاعتقاد باستقلاله في فعله أو بأنه يملك شأناً من شؤون وجوده وحياته على وجه الاستقلال.

فكل عمل مصحوب بهذا الاعتقاد يعد شركاً بالله، ولذلك نجد أن مشركي الجاهلية كانوا يعتقدون بألوهية معبوداتهم وقد صرح القرآن بذلك، قال تعالى: (واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا) مريم 81 أي كان هؤلاء يعتقدون بألوهية معبوداتهم.

قال الله تعالى: (الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون) الحجر 69.

فهذه الآيات ترد الوهابية على أعقابهم حيث تصرح أن الشرك الذي كان يقع فيه الوثنييون هو من باب اعتقادهم بألوهية معبوداتهم، وقد نص الله سبحانه على هذا الأمر في قوله تعالى: (وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون) الحجر 94ـ96.

فتحدد هذه الآيات الملاك الأساسي في قضية الشرك، وهو الاعتقاد بألوهية المعبود، ولذلك استنكروا واستكبروا على عقيدة التوحيد التي جاء بها الرسول (ص)، قال تعالى: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون).

ولذلك كانت دعوة الأنبياء لهم محاربة اعتقادهم بإله غير الله سبحانه وتعالى، حيث يمتنع عقلاً عبادة من لا يعتقد بألوهيته، فيعقد أولاً ثم يعبد ثانياً.

قال تعالى: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) الأعراف 59.

فيبين القرآن الكريم بذلك انحرافهم عن الإله الحقيقي.


الصفحة 399
فإذاً المناط في الشرك، هو الخضوع المقترن بالاعتقاد بالألوهية، وقد يكون الشرك ناتجاً من الاعتقاد بربوبية المعبود، أيكونه مالكه ومسيطراً على أمره من الخلق والرزق والحياة والممات، أو لكونه مالكاً للشفاعة والمغفرة، فالذي يخضع لشيء معتقداً بربوبيته يكون عابداً له، ولذلك جاءت الآيات القرآنية تدعوا الكفار والمشركين لعبادة الرب الحق، قال تعالى: (وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم) المائدة 72.

قال تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) الأنبياء 92.

وهنا مناط ثالث، وهو الاعتقاد بأن الشيء مستقل في ذاته أو في فعله من غير أن يكون قائماً بالله، فالخضوع المقترن بهذا الاعتقاد يعد شركاً.

فإذا خضعت أمام إنسان باعتبار أنه مستقل في فعله سواء كان هذا الفعل عادياً مثل التكلم والحركة أو كالمعجزات التي كان يقوم بها الأنبياء يكون هذا الخضوع عبادة على حد سواء بل لو اعتقد الإنسان أن حبة الصداع تشفي بصورة مستقلة عن الله تعالى يكون هذا الاعتقاد شركا.

وبهذا نعرف أن الملاك في العبادة ليس فقط إظهار الخضوع والتذلل وإنما الملاك الحقيقي هو الخضوع والتذلل بالقول أو الفعل لمن يعتقد بأنه إله أو رب أو مالك لشيء من شؤونه على وجه الاستقلال.

  الاعتقاد بالاستقلالية وعدمها ملاك في التوحيد والشرك:

وأركز على هذا المعنى ـ أي على وجه الاستقلال ـ لأن فيه نكتة دقيقة تعتبر الفاصل بين التوحيد والشرك، لم يتلفت إليها الوهابية، وهي لا بد منها لكي نعرف كيفية التعامل مع السنن الطبيعية والغيبية، فذهبت الوهابية إلى أن التوسل بالأسباب الطبيعية لا غبار عليه كالأخذ بالأسباب المادية في الحالة

الصفحة 400
الطبيعية، أما التوسل بالأسباب الغيبية كأن تطلب من أحد شيئاً لا يحصل عليه بالسنن المادية وإنما بالسنن الغيبية فهو شرك، وهذا خلط واضح حيث جعلوا السنن المادية والغيبية ملاكاً في التوحيد والشرك، فالأخذ بالسنن المادية يكون عين التوحيد والأخذ بالسنن الغيبية يكون عين الشرك.

وإذا أمعنا النظر في هذه السنن بشقيها نجد أن ملاك التوحيد والشرك خارج عن إطار نفس هذه السنن، وإنما يعود الماك إلى نفس الإنسان ونوعية اعتقاده بهذه السنن، فإذا اعتقد انسان أن لهذه الوسائل والأسباب استقلالية بذاتها أي منفصلة عن الله، يكون هذا الاعتقاد شركا.

فمثلاً، يعتقد أن الدواء الفلاني يشفي من المرض بصورة مستقلة وذاتية فيكون عمله شركا، فمهما كان نوع السبب بسيطاً طبيعياً أم غيبياً فلا دخل له في الأمر وإنما الأساس في الاعتقاد بالاستقلالية وعدمها فإذا اعتقد إنسان أن كل الأسباب غير مستقلة لا في وجودها ولا في تأثيرها بل هي مخلوقة لله تعالى مسيرة لأمره وإرادته، يكون اعتقاده هذا عين التوحيد.

ولا أعتقد أن مسلماً على ظهر هذه الأرض يعتقد في سبب ما أنه مؤثر على نحو الاستقلال، فلا يحق لنا نسب الشرك والكفر لهم، فتوسلهم بالرسل والأولياء أ, التبرك بآثارهم لطلب الشفاء أوغيره، لا يعد شركاً لأنه حالة طبيعية في الأخذ بالأسباب المتعددة.

وقد تحدت القرآن الكريم عن الاسباب بحيث ينسب بعض بعض الأشياء إلى الله سبحانه، وأحياناً ينسبها إلى أسبابها المباشرة، وإليك أمثلة من ذلك.

قال تعالى: (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) الذاريات 58 فهي تؤكد ان الرزق بيد الله.

وإذا نظرنا إلى قوله (وارزقوهم فيها واكسوهم..) تنسب الرزق إلى الإنسان.


الصفحة 401
وفي آية تجعل الله هو الزارع الحقيقي قال تعالى: (أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) الواقعة 63ـ64.

وفي آية أخرى يجعل الله سبحانه صفة الزراعة للإنسان قال تعالى: (يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار) الفتح 39.

وفي آية يجعل الله وفاة الانفس بيده قال تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها) الزمر 42.

وفي آية اخرى يجعل التوفي فعل الملائكة قال تعالى: (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا).

وفي آية يعتبر القرآن الشفاعة حقاً مختصاً بالله وحده، قال تعالى: (قل لله الشفاعة جميعاً) الزمر 44.

ويخبر في آية أخرى عن وجود شفعاء غير الله سبحانه كالملائكة قال تعالى: (وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله) النجم 26.

وفي آية يجعل الله الإطلاع على الغيب أمراً مختصاً به، قال تعالى: (قل لا يعلم ما في السموات والارض الغيب إلا الله) النمل 65.

ونجد في آية أخرى أن الله اختار من عباده رسلاً لإطلاعهم على الغيب إذ يقول: (وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء) آل عمران 179.

وغير هذه من الآيات.

فالنار لهذه الآيات من أول وهلة ومن غير تدبر يشعر أن هناك شيئاً من التناقض، وفي الواقع إنها تقر ما قلناه أي أن الله سبحانه هو المستقل بفعل كل شيء وأما بقية الأسباب التي تقوم بنفس الفعال نما تقوم بها على نحو التبعية وفي ظل القدرة الإلهية، وقد لخص الله سبحانه هذا الأمر بقوله: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) الأنفال 17.


الصفحة 402
فيصف النبي بأنه رمى ـ إذ رميت ـ وفي المقابل يصف نفسه أنه هو الرامي الحقيقي لأن النبي (ص) لم يرم إلا بالقدرة التي منحها له الله، فيكون رامياً بالتبع.

فيمكننا أن نقسم الفعل الإلهي إلى قسمين:

1ـ فعل من غير واسطة (كن فيكون).

2ـ فعل بتوسط واسطة، مثل أن ينزل الله المطر بواسطة السحاب، ويشفي المريض بواسطة العقاقير الطبية... وهكذا.

فإذا تعلق الإنسان وتوسل بهذه الوسائط معتقداً أنها غير مستقلة يكون موحداً وخلاف ذلك يكون مشركاً.

  هل القدرة وعدمها ملاك في التوحيد والشرك:

وللوهابية خلط واشتباه آخى في قضية التوحيد والشرك وهو مشابه تماماً لما سبق، فيجعلون من ملاكات التوحيد والشرك، قدرة المطلوب منه أو عدم قدرته فإذا كان قادراً لا إشكال وإلا يكون شركاً... وهذا جهل أحمق.

فما دخل هذا الأمر في التوحيد والشرك، ولا يتعدى البحث هنا عن جدوائية الطلب أو عدم ذلك.

فما بال أولئك من قساة الوهابية ينتهرون زوار رسول الله (ص) قائلين: يا مشرك، هل ينفعك رسول الله بشيء.

ناسين أو جاهلين، وهم للجهل أقرب أن المنفعة وعدمها ليس لها دخل في التوحيد والشرك.

وهذا مثل جهل آخر عند الوهابية وهو عدم جواز التوسل والطلب من الأموات.


الصفحة 403
يقول ابن القيم ـ تلميذ ابن تيمية ـ: (ومن أنواع الشرك، طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله هو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً)(1).

وهذا من عجائب القول وغرائبه، لا يصدر إلا ممن ليس له نصيب في الدين علماً وفهماً، فكيف يكون طلب شيء محدد من حي عين التوحيد، وطلب ذلك الشيء نفسه من ميت شركا؟!، ومن الواضح أن مثل هذا العمل خارج عن إطار التوحيد والشرك، ويمكننا أن نضعه في إطار جدوائية هذا الطلب وعدمها، فيكون الطلب من غير فائدة ولا يكون شركاً.

وكما أشرنا إن الملاك الأساسي في التوحيد والشرك هو الاعتقاد، والاعتقاد ها مطلق لا يخصص بحياة أو موت، فكلام ابن القيم ظاهر البطلان، فقوله: (إن الميت قد انقطع عمله) إن صح لا يزيد على كون أن الطلب من الميت لا فائدة فيه لا إنه شرك، وقوله: (ولا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً) فهو كلام عام يشمل الميت والحي فكل ما هو موجود لا يملك لنفسه شيئاً سواء كان حياً أو ميتاً، وإنما يملك بإذن الله وإرادته حياً وميتاً.

وهناك مجموعة أخرى من اشتباهاتهم، هي أصغر من أن تناقش ويمكنك أيها القارئ الرد عليها كما تبين لك من الأسس السابقة.

فيجتز لكل مسلم أن يستغيث ويتوسل بأولياء الله في أي أمر غيبياً كان أو مادياً مع ملاحظة الشروط السابقة.

فيجوز لكل مسلم أن يستغيث ويتوسل بأولياء اله في أي أمر غيبياً كان أو مادياً مع ملاحظة الشروط السابقة.

قال تعالى: (قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي..) النمل 38ـ49ـ40.

____________

1- فتح المجيد، تأليف مفيد ابن عبد الوهاب ص67 ط6 .


الصفحة 404
فإذا طلب سيدنا سليمان (ع) هذا الأمر الغيبي من أتباعه، وإذا تمكن رجل عنده علم من الكتاب أن يقوم بذلك، فجاز لنا أن نطلب من الذي عنده علم الكتاب كله، وهذا بالتأكيد عند رسول الله (ص) وأهل بيته (ع).

  هل التوسل بالأنبياء والصالحين حرام؟

قد عرفنا فيما سبق أن التوسل والاستغاثة خارجة من إطار التوحيد والشرك، وبقي شيء آخر وهوجواز هذا الأمر أو حرمته.

لم يقل أحد من علماء الإسلام بحرمة التوسل قديماً وحديثاً، وقد جاءت كثير من الروايات تبيح ذلك، وإليك بعض الأحاديث:

ـ حديث عثمان بن حنيف:

(إن رجلاً ضريراً أتى على النبي (ص) فقال: إدع الله أن يعافيني، فقال إن شئت دعوت وإن شئت صبرت وهو خير، قال: فادع، فأمره أن يتوضأ ويحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضي، اللهم شفعه في. قال ابن حنيف: فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا كأن لم يكن به ضر)(1).

وقد ناقش إسناد هذا الحديث الشيخ جعفر السبحاني في كتابه (مع الوهابيين فيخططهم وعقائدهم) وقال: (.. لا شك في صحة وسند الحديث هذا، حتى أن إمام الوهابية (ابن تيمية) قد اعترف بصحة سنده قائلاً: إن

____________

1- سنن ابن ماجة ج1 ص441، مستدرك الحاكم ج1 ص313، مسند أحمد ج4 ص138، الجامع الصغير ص59، تلخيص المستدرك للذهبي.


الصفحة 405
المقصود من اسم (أبو جعفر) الذي ورد في سند الحديث هوأبو جعفر الخطي وهو موثق.

يقول الرفاعي ـ الكاتب الوهابي المعاصر ـ الذي يسعى لتضعيف الأحاديث الخاصة بالتوسل يقول ول هذا الحديث: (لا شك أن هذا الحديث صحيح ومشهور وقد ثبت فيه بلا شك ولا ريب ارتداد بصر الأعمى بدعاء رسول الله)(1).

ويقول الرفاعي في كتابه التوصل لقد أورد هذا الحديث النسائي، البهقي، الطبراني، الترمذي، والحاكم في مستدركه، ولكن أورد الترمذي والحاكم جملة (اللهم شفعني فيه) بدلاً من جملة (وشفعه في). كتب زيني دحلان في (خلاصة الكلام) ذكر هذا الحديث مع مستندات صحيحة كل من البخاري في تاريخه وابن ماجة والحاكم في مستدركهما، كما ذكره جلال الدين السيوطي في كتابه الجامع(2)...)(3).

وهناك أحاديث وروايات أخرى كثيرة تجاوزنا ذكرها روماً للاختصار وللزيادة، راجع حديث توسل آدم برسول الله كما جاء في مستدرك الحاكم ج2 ص615 والدر المنثور ج1 ص59، نقلاً عن الطبراني وأبي نعيم الاصفهاني والبيهقي، وحديث توسل النبي بحق الأنبياء من قبله، كما رواه الطبراني في الكبير والأوسط وابن حبان والحاكم وصححوه، وحديث التوسل بحق السائلين في صحيح ابن ماجة ج1 ص261، باب المساجد، ومسند أحمد ج3 ص21.. وغيرها من الروايات.

____________

1- التوصل إلى حقيقة التوسل ص158.

2- كشف الارتياب ص309، نقلاً عن خلاصة الكلام.

3- التوصل إلى حقيقة التوسل ص66.


الصفحة 406
وبالإضافة إلى ذلك ما يدل على جواز التوسل إجماع التوسل إجماع المسلمين وسيرة المتشرعة فقد كان المسلمون من القديم إلى اليوم يتوسلون بالأنبياء والصالحين ولم يعترض عليهم عالم أو يحرم ذلك.

نكتفي بهذا القدر ـ الموجز ـ عن عقائد الوهابية، فالنقاش معهم يطول ويحتاج إلى كتابمنفصل، وقد رد عليهم العلماء في عشرات الكتب والمقالات.. ومن الطريف ذكره أن العلامة محسن الأمين رد على الوهابية بقصيدة طويلة تناول فيها عقائدهم ورد على إشكالاتهم تتكون من 546 بيتاً راجعها في آخر كتابه (كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب).


الصفحة 407

تهافت الأشاعرة

ذكر التاريخ أن أبا الحسن الأشعري انتقل من مدرسة الاعتزال وأعلن انتماءه إلى المدرسة الحنبلية، ولكن لم تكن هذه النقلة كافية للتخلي تماما عن منهج الاعتزال فقد ظهرت انعكاسته واضحة في اسلوبه الجديد، فقد حاول أن يصبغ المعتقدات السلفية بصبغة عقلية، فلم يحالفه التوفيق في ذلك، لأن العقائد السلفية عقائد سماعية تعتمد على الحديث، ومع العلم أن كثيراً من الأحاديث غير صحيحة دست من قبل أعداء الدين في التراث الإسلامي، فلم تمماش هذه الأحاديث مع القواعد العقلية مما أحدث تناقضاً واضحاً في منهج أبي الحسن الاشعري، فنتجب مجموعة من التهافتات عندما أراد أن يبرهن على عقائد أهل الحديث بمنهج عقلي.

ونستعرض هنا نموذجاً واحداً من تهافتاته، وهو كاف لعرض العقلية الأشعرية وهي: مسألة رؤية الله... وقد أجمع أهل السنة والجماعة على إمكانها.

وقد حاول أبو الحسن الأشعري وتلاميذه أن يخرجوها من إطار الأحاديث على إطار البرهان العقلي، ولذلك اخترناهم في هذا الباب حتى نستعرض آراءهم.

قد حفلت الكتب السنية بروايات صريحة في الرؤية البصرية لله جل ولعا، وإليك نماذج من هذه الأحاديث قبل الدخول في غمار البحث.


الصفحة 408
ـ عن جابر، قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا. ثم قرأ: (و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب).

صحيح البخاري ج1، باب فضل صلاة العصر.

صحيح مسلم ج2باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما.

ـ وجاء في حديث طويل، أن أبا هريرة أخبرهما: أن أناساً قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة.

قال: هل تمارون في القمر ليلة البدر، ليس دونه سحاب؟

قالوا: لا، يا رسول الله.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما تمارون في رؤية الله تبارك تعالى يوم القيامة، إلا كما تمارون في رؤية أحدكم... إلى أن يقول: حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم رب العالمين في أدنى صوره من التي رأوه فيها، فيقال: ماذا تنتظرون؟... تتبع كل أمة ما كانت تعبد.

قالوا: فارقنا الناس في الدنيا، على أفقر ما كنا إليهم، ولم نصاحبهم ونحن ننتظر ربنا الذي كنا نعبد.

فيقول: أنا ربكم.

فيقولون: لا نشرك بالله شيئاً.. مرتين أو ثلاثة.

حتى أن بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه علامة فتعرفونه بها؟

فيقولون: الساق.