وهكذا فإنّه بوضع الخليفة عمر شرط قبول من يبايع له العمل بسيرة الشيخين بجانب العمل بكتاب الله وسنة نبيه، يكون قد قرر الخلافة لعثمان من حينه، لأنه كان يعلم موقف الإمام علي(عليه السلام) من هذا الشرط بالإضافة إلى علمه بأن طلحة والزبير سيقفان في جانب علي لما عرف من موقفهما المؤيد له يوم السقيفة. أضف إلى ذلك إعطاء عمر حق الترجيح إلى عبدالرحمن بن عوف، ليتضح لك أي نوع من الشورى التي يزعمون؟
مقتل الخليفة عثمان:
لقد أثير كلام كثير حول مقتل الخليفة عثمان، وتضاربت الأقوال والروايات في ذلك، وخصوصاً بما يتعلق بالفئة التي كانت تحرّض على قتله، والأسباب التي كانت تدفعهم لذلك الأمر، وبلوغ تلك الأحداث ذروتها بمقتله.
على أنّ أرجح التفسيرات لذلك تكمن في الممارسات على صعيد سدة الحكم، وتعيين الولاة من أقرباء الخليفة عثمان وصرف الأموال لهم من خزينة الدولة الأمر الذي أثار ضده ملامة اللائمين وثورات الثائرين. يقول الكاتب المعروف خالد محمد خالد: "بل لا
____________
1- صحيح البخاري ج9 ص97 كتاب الأحكام باب كيف يبايع الإمام الناس.
وقد لعبت أيادي أقرباء الخليفة عثمان من بني أمية بأموال الدولة لدرجة أنّ البعض يعتقد بأنّ الدولة الأموية بدأ حكمها منذ اختيار الخليفة عثمان ومبايعته، وهذا أبو سفيان يؤكد هذا الرأي أيضاً بقوله للخليفة عثمان بعد أن عقدت البيعة له: "يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم، ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة" (2). وفي رواية أخرى: "تلقفوها تلقف الكرة فما هناك جنة ولا نار" (3).
وكان من ضمن الذين اعترضوا على الخليفة عثمان فضلاء الصحابة: كأبي ذر الغفاري، وعبدالله بن مسعود، وعمار بن ياسر،
____________
1- خلفاء الرسول لخالد محمد خالد ص276 ط الثامنة.
2- مروج الذهب للمسعودي ج2 ص351، الاستيعاب ج4 ص1679.
3- شرح نهج البلاغة ج9 ص38.
فعن زيد بن وهبة قال: "مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر رضي الله عنه، فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في ـ (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله)(1) ـ. قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب. فقلت: نزلت فينا وفيهم. فكان بيني وبينه في ذلك، وكتب إلى عثمان(رضي الله عنه)يشكوني. فكتب إليّ عثمان: أن أقدم المدينة فقدمتها: فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك.
فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت تنحيت فكنت قريباً. فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمّروا علي حبشياً لسمعت وأطعت"(2).
وأمّا عبدالله بن مسعود صاحب بيت المال في الكوفة، فقد لاقى كسراً في أضلاعه بعد أن ضربه غلام عثمان عقاباً بسبب اعتراضه على الوليد بن عقبة بن أبي معيط ـ أخ الخليفة عثمان لأمه
____________
1- سورة التوبة: 34.
2- صحيح البخاري ج2 ص133 كتاب الزكاة.
وأمّا عمار بن ياسر، فقد لاقى الفتق نتيجة للضرب المبرح من غلام عثمان عقاباً له لصلاته على ابن مسعود ودفنه دون إعلام الخليفة عثمان بذلك. إلاّ أنّ عمار فعل ذلك بوصية من ابن مسعود حتى لا يصلي عليه الخليفة (2)!
وغيرهم الكثيرون ممن اعترضوا على تبذير أقرباء الخليفة من بني أمية لأموال الدولة العامة، فمروان بن الحكم مثلاً أخذ لوحده خمس خراج افريقيا! وراجع المزيد عن الخليفة عثمان من كتاب "خلافة وملوكية" للعلامة المودودي.
وقد كان لغضب أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنه) واعتراضها على الخليفه عثمان، بل وتحريضها على قتله بقولها: "اقتلوا نعثلاً فقد كفر" (3) بعد أن اتهمته بتغيير سنة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ما عمل على ازدياد
____________
1- البلاذري في أنساب الأشراف ج6 ص147، تاريخ اليعقوبي ج2 ص170، شرح نهج البلاغة ج1 ص154.
2- شرح ابن أبي الحديد ج3 ص42 و47 و50، تاريخ اليعقوبي ج2 ص170 ـ 171.
3- الطبري ج4 ص459، النهاية لابن الأثير ج5 ص80، وغيرها من المصادر.
بيعة الإمام علي(عليه السلام):
بعد مقتل الخليفة عثمان، تهافت الناس على الإمام علي(عليه السلام)يطلبون يده للبيعة، فقالوا له: إنّ هذا الرجل قد قتل، ولابدّ للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحقّ بهذا الأمر منك. وتمت البيعة.
ولما أراد الإمام علي(عليه السلام) أن يقيم العدل بين الناس فيجعل الضعيف يساوي القوي لا فرق بينهما، وأن يقيم الحدود التي أنزلها الله في كتابه، فعارضه بعضهم، وقاموا ضده وأثاروا الفتن وسيّروا الجيوش معلنين العصيان والتمرد عليه، وكان ذلك في عدة مواقع أهمها موقعتا الجمل وصفين.
سادساً: موقعة الجمل وخروج اُمّ المؤمنين:
عندما علمت أم المؤمنين بمقتل الخليفة عثمان ومبايعة الناس لعلي قالت لعبيدالله بن كلاب الذي أخبرها بذلك: "والله ليت هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك، ويحك أنظر ما تقول" فقال لها عبيد: هو ما قلت لك يا أم المؤمنين. فولولت، فقال لها: ما شأنك يا أم المؤمنين، والله ما أعرف أحداً أولى بها منه، فلماذا تكرهين
وقد وافق غضب أم المؤمنين عائشة غضب طلحة والزبير بعد أن استردّ الإمام علي(عليه السلام) عهد ولايتي اليمن والبحرين منهما، فنكثا عهديهما للإمام علي(عليه السلام)، وذهبا إلى مكة يحثون أم المؤمنين للسير إلى قتال علي، فخرجوا وقد سار معهم جيش كبير بقيادة أم المؤمنين متوجهين نحو البصرة حيث دارت رحى معركة عرفت باسم (معركة الجمل)، وقد كان الظفر فيها بجانب جيش الإمام وقتل فيها طلحة والزبير وثلاثة عشر ألفاً من المسلمين، وكل هؤلاء ذهبوا ضحية دعوة أم المؤمنين بالإقتصاص من قتلة عثمان والذين ادعت أنهم اندسّوا في جيش الإمام.
ومهما يكن الأمر، أولم يكن الأجدر بها أن تدع كل ذلك لولي الأمر؟
____________
1- الطبري ج4 ص459، ابن الأثير ج3 ص206.
فعثمان رجل من بني أمية، وهي من تيم. إلاّ إذا كان لخروجها سبب آخر غير ذلك!؟
وبالرغم من أن واقع هذه الحادثة يُجيب على هذه التساؤلات بوضوح فإنّه يضاف إلى ذلك تنبؤ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لهذه الفتنة وإشارته إلى مسببيها. فعن عبدالله قال: "قام النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) خطيباً فأشار نحو مسكن عائشة فقال: هاهنا الفتنة، ثلاثاً، من حيث يطلع قرن الشيطان"(2).
وقد اعتبر عمار بن ياسر أنّ طاعة عائشة في هذا الفعل كانت على حساب طاعة الله جل وعلا. فعن ابن زياد الأسدي قال:
"....فسمعت عماراً يقول: إنّ عائشة قد سارت إلى البصرة، ووالله إنّها لزوجة نبيكم(صلى الله عليه وآله وسلم) في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي؟"(3).
____________
1- الأحزاب: 32.
2- صحيح البخاري ج4 ص100 كتاب الخمس باب ما جاء في بيوت أزواج النبي.
3- صحيح البخاري ج9 ص70 كتاب الفتن باب الفتنة التي تموج كموج البحر.
ولعل ما سمعته عائشة(رضي الله عنه) من قول علي لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بشأنها في حادثة الافك كان سبباً لهذه الغيرة والضغينة، فعن عبيدالله بن مسعود قال: "...وأمّا علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير" (2).
وقد وصف أمير الشعراء أحمد شوقي غيرة عائشة من خلال أبيات يخاطب بها الإمام علي(عليه السلام):
يا جبلاً تأبى الجبال ما حمل | ماذا رمت عليك ربة الجمل |
أثأر عثمان الذي شجاها | أم غصة لم ينتزع شجاها |
ذلك فتق لم يكن بالبال | كيد النساء موهن الجبال |
____________
1- صحيح البخاري ج1 ص61 كتاب الوضوء باب صب النبي وضوءه على المغمى عليه.
2- صحيح البخاري ج6 ص129 كتاب التفسير باب ـ لولا إذ سمعتموه ـ.
وإنّ أم المؤمنين لامرأة | وإن تك الطاهرة المبرأة |
أخرجها من كنها وسنها | ما لم يزل طول المدى من ضغنها |
اُسطورة عبدالله بن سبأ:
وموجز هذه الأسطورة: "أنّ هذا الشخص اسمه عبدالله بن سبأ وهو يهودي من اليمن، أظهر إسلامه في عصر عثمان ليكيد بالمسلمين، فتنقل في الحواضر الإسلامية مصر،والشام، والبصرة، والكوفة مبشراً برجعة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنّ علياً هو وصيه، وأن عثمان غاصب حق هذا الوصي، فمال إليه وتبعه جماعات من كبار الصحابة والتابعين من أمثال عمار بن ياسر وأبي ذر ومحمد بن أبي حذيفة، وغيرهم، واستطاع أن يجيّش الجيوش لقتل الخليفة عثمان حتى قتلوه في داره - وهكذا تتسلسل حوادث هذه الأسطورة الموضوعة حتى تنتهي بحرب الجمل ـ حيث يأمر عبدالله بن سبأ أتباعه بالإندساس في جيش علي وعائشة دون علمهما، فيثيروا الحرب، وهكذا وقعت معركة الجمل" (1).
وكما ذكر العلامة السيد مرتضى العسكري (2) والذي تصدى
____________
1- أحاديث أم المؤمنين للعلامة العسكري ص272.
2- وقد نفى أيضاً وجود هذه الشخصية عدد من العلماء المحققين مثل الدكتور طه حسين في كتابه الفتنة الكبرى ج1 ص760، والدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه الصلة بين التشيع والتصوف ج1 ص46 ـ 47.
ومن المعروف أنّ روايات الآحاد لا تفيد إلاّ الظن العلمي، ولا تفيد يقيناً، فما بالك إذا كان هذا الراوي غير ثقة وقد اشتهر بكذبه وزندقته، فهل تقبل روايته؟
وكيف يقبل أن يحكم على طائفة كبرى من المسلمين بالاعتماد على روايات آحاد ثبت كذب أصحابها، ويهمل ما تواتر
____________
1- بتصرف عن كتاب عبدالله بن سبأ للعلامة السيد مرتضى العسكري: ص47 ـ 71، 76 ـ 77.
أعبدالله بن سبأ القائل: "إنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي؟، أهو القائل: "من كنت مولاه فعلي مولاه"؟ أهو القائل باستخلاف الأئمة الإثني عشر؟
وأي مهزلة هذه تقول بأنّ رجلاً يهودياً يأتي من اليمن ويعلن إسلامه نفاقاً، ثم يعمل كل تلك الأعمال الخارقة والتي تصل لحد تسييره لجيوش المسلمين ضد بعضها البعض دون علم أحد فيه؟ وهل من المعقول أن يقع الإمام علي(عليه السلام)الذي قال فيه الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم): "أنا مدينة الحكمة وعلي بابها" ضحية لخدعة هذا اليهودي؟ لاشك أن من يقول بذلك قد ضل ضلالاً بعيداً.
سابعاً: موقعة صفين وتمرد معاوية:
بعد أن تمّ لعلي(عليه السلام) النصر في موقعة الجمل، توجه بجيشه لتصفية المعارضة التي يقودها معاوية بن أبي سفيان في الشام، وتلاقى الجيشان عند الفرات، وقد حاول الإمام إصلاح الموقف
____________
1- الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: ص87.
2- تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي: ص96.
وقد كنت في الماضي استغرب كثيراً لهذه الواقعة التي قتل فيها ما يزيد على التسعين ألفاً من الجانبين، وكانت الإجابة كالمعتاد فيقولون: (إنها كانت مجرد فتنة حصلت بين صحابيين جليلين، وقد اجتهدا، فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد، ولا ينبغي التفكير في ذلك، فتلك أمة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم) وغير ذلك مما يسدون به أي باب من شأنه أن يكشف النقاب عن هذه (الفتنة) كما يسمونها. وهكذا تبقى هذه المسألة بنظر أهل السنة معلقة وكأنها لغز غامض ليس له حل، مما فتح الباب على مصراعيه للمستشرقين ليدلوا بدلوهم في ديننا، حتى أنّ بعضهم قال بأنّه يوجد في الإسلام تناقض، مشيراً إلى حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): "إذا تلاقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" والذي يتعارض مع قول أهل السنة بأنّ الفريقين في موقعة صفين كانا مسلمين وقائداهما صحابيين جليلين!! فلماذا هذا الإصرار على عدم تمييز الحق من الباطل؟ فلماذا لا تقال الحقيقة إذن؟ وهل هي فعلاً غامضة؟
وعلى كل حال، فإن الذي قد التبس عليه معرفة حقيقة معاوية، فليتمعن بما يلي من دلائل، وليكن للقارىء حكمه بعد ذلك:
فقد أخرج مسلم في صحيحه قول علي(عليه السلام): "والذي فلق الحبة
وفي صحيح البخاري ما يشير إلى بغي معاوية. فعن أبي سعيد الخدري قال: "كنا ننقل لبن المسجد لبنة لبنة وكان عمار ينقل لبنتين لبنتين فمر به النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ومسح على رأسه الغبار وقال: ويح عمار، تقتله الفئة الباغية، عمار يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النار" (2) وقد تحققت نبوءة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)هذه عندما استشهد عمار وهو يقاتل تحت راية الإمام علي(عليه السلام) في صفين.
وفي مستدرك الصحيحين بالسند عن خالد العربي قال: (دخلت أنا وأبو سعيد الخدري على حذيفة فقلنا: يا أبا عبدالله، حدثنا ما سمعت من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في الفتنة؟ قال حذيفة: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) دوروا مع الكتاب حيث ما دار. فقلنا: فإذا اختلف الناس فمع من نكون؟ فقال: انظروا الفئة التي فيها ابن سمية،
____________
1- صحيح مسلم كتاب الإيمان باب حب علي كرم الله وجهه من الايمان ج1 ص86 ح78.
2- صحيح البخاري ج4 ص25 كتاب الجهاد باب مسح الغبار عن الرأس في سبيل الله.
وقد كان بغي معاوية وتمرده متوقعاً، فمنذ أن تسلّم ولاية الشام في عهد الخليفة عمر، والنعيم والجاه والقصور التي بناها، وتوسعه بكل ذلك زمن الخليفة عثمان، لم يكن من السهل على رجل مثله أن يتخلى عنها، وكان يعلم يقيناً أنّ الإمام علياً(عليه السلام) إن لم يعزله من الولاية، فإنّه على الأقل سيجرده من جميع ما تملكه على حساب بيت مال المسلمين، وإنّه سيساويه مع غيره من المسلمين.
وحادثته مع الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري في عهد الخليفة عثمان لتدل أيضاً على ما نقول به من تكالبه على الدنيا وتبذيره لأموال الدولة العامة، وقد أدّى اعتراض أبي ذر على معاوية بأن أمر الخليفة عثمان بنفيه إلى الربذة بعد أن استدعاه إلى المدينة. فعن زيد بن وهبة قال: "مررت على أبي ذر بالربذة فقلت: ما أنزلك بهذه الأرض؟ قال: كنا بالشام فقرأت (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)(2) قال معاوية: ما
____________
1- مستدرك الصحيحين ج2 ص148.
2- سورة التوبة: 34.
ويظهر من هذه الحادثة كيف تلاعب معاوية بتفسير القرآن من أجل التغطية على تبذيره لأموال الأمة التي ليس له أي حق فيها. والمصيبة أنّ البخاري قد أخرج في صحيحه ما يجعل من معاوية فقيهاً، فعن ابن أبي مليكة قال: "أوتر معاوية بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس، فقال: دعه فإنّه قد صحب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)"(3) وفي رواية أخرى: قال إنّه "فقيه"(4)! وإذاعلمت أنّ معاوية أمضى عشرين عاماً كخليفة للمسلمين، وقبلها كوال على الشام، فللقارىء أن يتصور عندئذ المدى الذي تمكن فيه معاوية التأثير في وضع ونقل أحاديث تنسب إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)لتبرير أفعاله والتي بالرغم من كل الجهود التي بذلت للتغطية عليها، بقيت
____________
1- صحيح البخاري ج6 ص82 كتاب التفسير باب قوله والذين يكنزون الذهب.
2- صحيح الترمذي ج5 ص669 مناقب أبي ذر (رض)، مسند أحمد ج2 ص175.
3- صحيح البخاري ج5 ص35 كتاب فضائل الصحابة باب ذكر معاوية.
4- صحيح البخاري ج5 ص35 كتاب فضائل الصحابة باب ذكر معاوية.
وخلق معاوية في الولاية والحكم له جذوره في عائلته السفيانية حيث قال أبوه لعثمان بعد عقد البيعة له: "يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرن إلى صبيانكم" (1) وفي رواية أخرى بزيادة: "...فما هناك جنة ولا نار". وفي ذلك ما يشير إلى حقيقة الهدف الذي دخلت فيه هذه العائلة في الإسلام من أجله بعد فتح مكة حيث دخل في الإسلام جميع أهلها، وانظر في الرواية التالية لتعلم أي نوع من الإسلام هذا الذي دخلوه وهم له كارهون، فعن عبدالله بن عباس قال: "قال أبو سفيان: والله ما زلت ذليلاً مستيقناً بأن أمره سيظهر، حتى أدخل الله قلبي الإسلام وأنا كاره" (2)، فإذا كان لسان أبي سفيان قد تحدث بذلك، فما بالك لو قُدر لقلبه أن يتكلم عما بداخله؟
ومن أقوال الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في معاوية ما أخرجه مسلم في صحيحه: (بعث النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إليه ذات يوم ابن عباس يدعوه ليكتب له، فوجده ابن عباس يأكل، فأعاده النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إليه يطلبه، فوجده يأكل
____________
1- مروج الذهب ج2 ص351، الاستيعاب ج4 ص1679.
2- صحيح البخاري ج4 ص57 كتاب الجهاد.
وفي مسند أحمد، قال الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في معاوية وعمرو ابن العاص: "اللهم اركسهما في الفتنة ركساً، ودعهما إلى النار دعاً"(3).
وغير ذلك الكثير من الروايات التي تبين حقيقة أميرالمؤمنين معاوية ابن آكلة الأكباد والذي ختم أعماله في هذه الدنيا بتنصيبه لابنه يزيد السكير الفاسق خليفة على المسلمين من بعده، وليس عنده من العمر ما يزيد على عشرين عاماً مخالفاً بذلك ليس فقط معاهدة الصلح التي عقدها مع الإمام الحسن(عليه السلام) بل يكون قد خالف الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين وكل السنن الأخرى التي يتحدث عنها أهل السنة.
____________
1- صحيح مسلم ج4 ص2010 ح96 كتاب البر والصدقة والآداب باب من لعنه النبي صحيح مسلم بشرح النووي ج16 ص152.
2- صحيح مسلم 2 ص1119 ح47 كتاب الطلاق باب المطلقة البائن لا نفقة لها.
3- مسند أحمد ج4 ص421.
ثامناً: استشهاد الإمام علي(عليه السلام):
كانت آخر موقعة خاضها الإمام علي(عليه السلام) هي موقعة النهروان، حيث خاض بها قتالاً ضد المجموعة التي فرضت التحكيم عليه في صفين، ولكنها ندمت بعد عدة أيام، فنكثت عهدها وخرجت من بيعة الإمام، وقد عرفوا فيما بعد باسم "الخوارج" أو "المارقين"، وقد انتصر عليهم الإمام(عليه السلام)، وكان يتهيأ لاستئناف قتال المتمردين في الشام بعد أن فشل التحكيم عند اللقاء بين الحكمين، بيد أنّ الإمام(عليه السلام)استشهد على يد أحد أفراد الخوارج وهو "عبد الرحمن بن ملجم" عندما طعن الإمام بسيف وهو في سجوده، عند صلاة الفجر في مسجد الكوفة صبيحة اليوم التاسع عشر من رمضان سنة أربعين للهجرة بعد خمسة أعوام من الحكم.
وقد بقي الإمام(عليه السلام) يعاني من علته ثلاثة أيام، عهد خلالها بالإمامة إلى ولده الحسن السبط(عليه السلام) ليمارس بعده مسؤولياته في قيادة الأمة.
وهذا الاستخلاف لم يكن بلحاظ أنّ الحسن(عليه السلام) كان ابناً لعلي(عليه السلام)، أو أنّه كان الأصلح للخلافة بنظره، وإنّما عملاً بأمر الله تعالى الذي اختار خلفاء الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)الإثني عشر ـ كما مر سابقاً ـ حيث كان الإمام الحسن(عليه السلام) ثانيهم.
تاسعاً: معاهدة الصلح واستشهاد الإمام الحسن(عليه السلام):
بعد استشهاد الإمام علي(عليه السلام)، اعتلى الإمام الحسن(عليه السلام) المنبر ونهض أهل الكوفة وبايعوه خليفة للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وإماماً للأمة، إلاّ أنّ ذلك لم يدم سوى ستة شهور، فعندما وصل الشام نبأ استشهاد الإمام علي(عليه السلام)، تحرك معاوية بجيش كبير نحو الكوفة ليأخذ بيده زمام المسلمين، ويجبر الإمام الحسن بن علي(عليه السلام) على الاستسلام.
ولم يجد الإمام الحسن (عليه السلام) مناصاً سوى المسالمة وعقد ميثاق صلح مع معاوية. وأمّا الأسباب التي فرضت عليه عقد مثل هذا الصلح فقد كانت تفكك جيشه ووضع العراق الداخلي المضطرب من جهة، والأمبراطورية الرومانية التي كانت تتحين الفرصة لضرب الإسلام وقد تأهبت بجيش عظيم لحرب المسلمين من جهة أخرى، مما يؤكد أنّه لو نشبت حرب بين معاوية والإمام الحسن(عليه السلام)في ظل هذه الظروف لكان المنتصر فيها أمبراطورية الروم وليس الإمام الحسن(عليه السلام)ولا معاوية.
وهكذا فإنّ الحسن(عليه السلام) بقبوله السلام قد أزال خطراً كبيراً كان يهدد الإسلام، وأمّا بنود معاهدة الصلح فكانت:
1 ـ يسلّم الحسن بن علي(عليه السلام) الحكومة وأزمّة الأمور إلى معاوية على شرط أن يعمل معاوية وفق مبادىء القرآن وسنة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
2 ـ تكون الخلافة بعد موت معاوية حقاً خاصاً بالإمام
3 ـ تمنع الشتائم وكافة الإساءات ضد الإمام علي(عليه السلام) سواء على المنابر أو غيرها.
4 ـ ينفق مبلغ خمسة ملايين درهم الموجودة في بيت المال في الكوفة تحت إشراف الإمام الحسن(عليه السلام)، ويجب على معاوية أن يرسل سنوياً مليون درهم من الخراج إلى الإمام الحسن(عليه السلام)، ليوزعها على عوائل أولئك الذين استشهدوا في معركتي الجمل وصفين إلى جانب الإمام علي(عليه السلام).
5 ـ يتعهد معاوية بأن يدع الناس قاطبة من أي جنس وعنصر في منأى من الملاحقة والأذى، ويتعهد أيضاً أن ينفذ بنود هذا الصلح بدقة ويجعل الملة عليه شهيداً.
إلاّ أنّ الإمام الحسن(عليه السلام) استشهد في سنة 50 هـ بعد أن دست له زوجته (جعدة بنت الأشعث بن القيس) السمّ، والتي كانت تنسب إلى إحدى الأسر المخالفة للعلويين. وقد حرّضها معاوية على اقتراف هذه الجريمة السوداء بإرساله إليها مائة ألف درهم، ووعده إيّاها بأن يزوجها بابنه يزيد إذا دست السم للحسن(عليه السلام). وقد فرح معاوية فرحاً كبيراً عندما علم باستشهاد الإمام الحسن(عليه السلام)، إذ كان يرى أنّ أكبر عقبة بوجه مآربه ـ وخصوصاً توطيد الحكم للأسرة الأموية ـ قد
وهكذا فقد تم لمعاوية بعد ذلك ما أراد، وتمكن من تنصيب ابنه المراهق الخليع يزيد على الأمة قهراً. فأين هذا من اعتقاد أهل السنة بأنّ الخلافة هي بالشورى؟ أو لم يرفضوا النصوص التي تدلّ على استخلاف أئمة أهل البيت بحجة أنّ الخلافة هي بالشورى؟ أو ليس يدل هذا على أنّ الخلافة ـ على رأيهم ـ إن لم تكن بالشورى فهي غير شرعية؟ ولكن لماذا اعتبروا أنّ خلافة يزيد شرعية؟ وكيف قبلوا تسميته بأميرالمؤمنين؟
وتأمل فيما يلي لترى شيئاً من صفحات تاريخنا الإسلامي السوداء، وسرداً لقبس من قبسات حياة "أميرالمؤمنين" يزيد بن معاوية بن أبي سفيان!!
عاشراً: ثورة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين(عليه السلام):
بعد وفاة الإمام الحسن(عليه السلام)، في سنة خمسين للهجرة، شرعت الشيعة في العراق بمراسلة الحسين(عليه السلام) وطلبت منه أن يعزل معاوية عن امرة المسلمين، ولكن الحسين(عليه السلام) ذكر في جوابه إليهم أنّ له مع معاوية عهداً وميثاقاً لا يستطيع نقضهما.
وأما معاوية فقد كان يقوم طيلة العشرين سنة من حكمه بتهيئة وتوطيد الخلافة لابنه "الماجن" يزيد ليجعل منه أميراً للمؤمنين،