وبعد موت معاوية سنة ستين للهجرة، تربع يزيد على سدة الحكم، فكان بلاطه بؤرة المجون والإثم، فهو وباعتراف جميع فرق المسلمين كان يحتسي الخمور علانية، ويشرب حتى الثمالة في السهرات الحافلة ومن أقواله المأثورة أشعار ضحلة نذكر فيها:
شغلتني خمرة الديدان عن صوت الاذان | وتعوضت عن الحور عجوزاً في الدنان |
ولا غرابة في ذلك، فيزيد تربى على يد مربية مسيحية، وكان كما يصفه المؤرخون شاباً أهوجاً، خليعاً، مستبداً، مترفاً، ماجناً، قصير النظر، وفاقداً للحيطة، وقد روي عنه أيضاً: أنه صلى مرة بالمسلمين صلاة الجمعة يوم أربعاء، وصلى بهم الفجر أربع ركعات بعد أن كان شارباً حتى الثمالة وغير ذلك الكثير الكثير مما ليس في هدفنا تبيانه، وإنّما ذكرنا لتلك الانتهاكات ما هو إلاّ وسيلة لإلقاء
ويصرّح الإمام الحسين(عليه السلام) في إحدى خطاباته بالقرب من كربلاء عن سبب انتفاضته بقوله: "أيها الناس، من رأى إماماً جائراً يحلل حرمات الله وينقض عهد الله من بعد ميثاقه ويخالف سنة نبيه، ويحكم بين عباد الله بالإثم والجور ثم لم يغير بقول ولا فعل، كان حقاً على الله أن يكبه معه في النار" وكذلك قوله: "أيها الناس، إنّهم أطاعوا الشيطان، وعصوا الرحمان، وأفسدوا في الأرض، وعطلوا السنن واستأثروا ببيت أموال المسلمين، وحلّلوا حرمات الله، وحرّموا ما أحله الله، وأنا أحق الناس بالإنكار عليهم".
وعندما علم الإمام الحسين(عليه السلام) بالنكوص والارتداد الذي حصل في الكوفة، جمع أصحابه وأهل بيته الذين كانوا بصحبته وصارحهم قائلاً: "قد خذلنا شيعتنا، فمن أحب أن ينصرف، فلينصرف، فليس عليه منا ذمام" فتفرقوا من حوله يميناً وشمالاً، حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من مكة والمدينة.
إن كان دين محمد لم يستقم | إلاّ بقتلي يا سيوف خذيني |
والتقى بالجيش الذي أرسله والي الخليفة الأموي يزيد على الكوفة "عبيدالله بن زياد" بقيادة عمر بن سعد، وكان قوامه اثنين وثلاثين ألفاً كما في بعض الروايات"؟
وكان طبيعياً أن تمكن جيش يزيد بن معاوية من قتل هذه الفئة القليلة العدد، وقد تجسدت في ذلك اليوم صورة مأساة أهل البيت ومظلوميتهم بأجلى صورها، وكأن يزيد بن معاوية في هذه المذبحة كان يدفع الأجر الذي سأله رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): "قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى".
ولقد حدّث التاريخ عن مشاهد وصور مأساوية يصعب على أحد وصفها على حقيقتها.... ومن ذلك مأساة طفل رضيع هو عبدالله ابن الإمام الحسين(عليه السلام)، الذي حمله الإمام إلى المعسكر الأموي يطلب له الماء بعد أن حالوا بين مخيم الحسين(عليه السلام) وبين ماء الفرات، وأخذ منهم العطش مأخذه... حمله يطلب له الماء وليحرك ضمائرهم ويثير
وبعد سرد كل هذه الأحداث التي تبين بوضوح الأهداف السامية التي من أجلها قام الحسين(عليه السلام)بثورته، والتي وصفها الداعية الإسلامي الكبير الدكتور عمر عبدالرحمن بقوله: "إنّ استشهاد الحسين أعظم ألف مرة من بقائه على قيد الحياة". إلاّ أنّه وجد أيضاً من ينتقص من قيمة هذه الثورة العظيمة لوقوعهم ضحية الإعلام الأموي المضلل ـ والذي حاول جاهداً تزوير التاريخ ـ ولوقوعهم ضحية التعصب المذهبي المقيت، فيضطرون بذلك إلى هذا التحريف الشائن كقول (شيخ الإسلام) ابن تيمية مثلاً ما معناه: أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) بثورته هذه، قد أحدث فتنة في أمة الإسلام بخروجه عن طاعة ولي أمر المسلمين!! وإذا سألنا شيخ الإسلام عن خروج معاوية من طاعة الإمام علي(عليه السلام)، فإنّه يرى بأنّ ذلك كان فتنة بينهما ولا ذنب لهما فيها، وهكذا بالنسبة لخروج عائشة(رضي الله عنه) أيضاً على الإمام
وما هذه إلاّ صورة من صور محاولات التزييف المكشوف في تاريخنا الإسلامي، وإلاّ فكيف نفسر تجاهل معظم أهل السنة لهذه المأساة التأريخية، والتي يقتل فيها أبناء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بأبشع ما يكون القتل والتعذيب، وقد سار على نهج معاوية وابنه يزيد سائر أبناءهم من ملوك بني أمية والعباس في قمع أي حركة معارضة لسلطانهم، وخصوصاً آل البيت النبوي الذين كانوا ملاحقين دائماً بالاضطهاد والتشريد والقتل والتعذيب.
ولم يقتصر هذا الظلم ضد آل البيت النبوي فحسب، فقد كان من ضمن ضحايا الاستبداد الأموي من غير آل البيت عبدالله ابن الزبير مثلاً، حيث سجل التاريخ ذلك المشهد المأساوي في الحرم المكي عندما ذُبح و سُلخ ابن الزبير و الذي لم تشفع له قدسية هذا المكان الذي كانت حتى الجاهلية تقدّسه و تعظّمه ولا تستبيح فيه دماء الوحش فضلا عن البشر، ولم تشفع له الكعبة عند حكام بني أمية والتي تعلق بستائرها؟؟ والتي حتى رميت بالمنجنيق في عهد عبدالملك بن مروان الذي أطلق العنان ليد طاغيته الحجاج ليقتل ويذبح الناس بغير حق. وقد قال فيهما الحسن البصري: "لو لم تكن لعبد الملك سيئة سوى الحجاج لكفته"، وقول عمر بن عبدالعزيز(رضي الله عنه): "لو جاءت كل أمة بطاغيتها، وجئنا بالحجاج لغلبناهم". فضلاً عما عرف من تمزيق الوليد بن عبدالملك لكتاب الله وغير ذلك الكثير
لا شك أننا اليوم بحاجة إلى إعادة النظر في تأريخنا(1)الإسلامي وإمعان النظر في كثير من الحوادث فيه واستنطاقها لما لها من ارتباط وثيق برسم معالم المذاهب الإسلامية التي عليها المسلمون اليوم، ولما فيها ما يساعد على معرفة حقيقة هذه الطائفة أو تلك بعيداً عن الظلم والتجني. فبسبب تلك الحوادث تفرع المسلمون عن الخط الإسلامي المحمدي الأصيل وأصبحوا بذلك طوائف وشيعاً متفرقة كل منها تزعم بأنها الطائفة الناجية، وليس لأحد في عصرنا أن ينتظر وحياً من السماء ليخبره باسم هذه الطائفة، وقد أعطانا الله جل ثناؤه عقلاً لنميز به الخبيث من الطيب وجعله حجة على عباده، ونهانا عن التقليد لأعمى بقوله: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون)(2)، وبقوله: (بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون)، وأمرنا بالبحث والتقصي قبل الأخذ والتصديق بقول كل من هب ودب. عندما قال: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) (3).
____________
1- انظر الصورة المرفقة لغلاف كتاب "حقائق عن أميرالمؤمنين يزيد" لترى المدى الذي وصل إليه البعض في تزييف هذا التأريخ!!
2- المائدة: 104.
3- الحجرات: 6.
الفصل الثاني
عدالة الصحابة
إن مسألة الصحابة ودرجة عدالتهم هي من أكبر المسائل المختلف عليها بين أهل السنة والشيعة، ومن أكثرها حساسية، فأهل السنة يرون الصحابة جميعهم عدولاً لا يتطرق إليهم الجرح، ولا يجوز نقدهم أو الشك فيما يروونه من حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهم بذلك يلتزمون بكل ما رواه الصحابي.
والصحابي عند أهل السنة ـ كما ذكر النووي في مقدمة شرحه على صحيح مسلم ـ هو: "كل مسلم رأى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ولو لحظة، وهذا هو الصحيح في حده، وهو مذهب ابن حنبل والبخاري في صحيحه والمحدثين كافة" (1).
____________
1- صحيح مسلم بشرح النووي ج1 ص35.
ففي الصحابة مؤمنون أثنى الله عليهم في القرآن الكريم بقوله: ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة...)(1)، فكما ذكر العلامة لطف الله الصافي بشأن هذه الآية: (إنّ الله تعالى قد خص الثناء بالمؤمنين فقط ممن حضروا بيعة الشجرة، ولم تشمل المنافقين الذين حضروها مثل عبدالله بن أبيّ وأوس بن خولى، فلا دلالة للآية على كل من بايع، ولا تدل على حسن خاتمة أمر جميع المبايعين المؤمنين، فالآية لا تدل على أكثر من أنّ الله تعالى رضي عنهم بيعتهم هذه ـ أي قبلها منهم ـ ويثيبهم عليها، فرضا الله عن أهل هذه البيعة ليس مستلزماً لرضاه عنهم إلى الأبد، والدليل على ذلك قوله تعالى بشأنهم: ( إنّ الذين يبايعونك إنّما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد
____________
1- الفتح: 18.
وفي الصحابة من أخبر الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بردتهم بعد وفاته، ومن ثم هلاكهم يوم القيامة من خلال الحديث التالي الذي أخرجه البخاري في صحيحه بسنده عن سهل بن سعد قال:
"سمعت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: أنا فرطكم على الحوض من ورده شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبداً، ليرد عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم. قال: لسمعته يزيد فيه، قال: إنّهم مني، فيقال: إنّك لا تدري ما بدلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي"(3).
وعند عبدالله، قال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث له مع الصحابة:
"أنا فرطكم على الحوض. ليرفعن إلي رجال منكم. حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي رب، أصحابي، يقول: لا
____________
1- الفتح: 10.
2- بتصرف عن كتاب مع الخطيب في خطوطه العريضة للعلامة لطف الله الصافي: ص120 ـ 121.
3- صحيح البخاري ج9 ص59 كتاب الفتن باب واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة.
وتأكيداً للحديثين السابقين واللذان يشيران إلى الإحداث والتبديل، فإن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يشبههم بأمم اليهود والنصارى الذين حرّفوا الكلم عن مواضعه، فعن أبي سعيد الخدري أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)قال:
"لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً، وذراعاً ذراعاً، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟"(2).
وفي الصحابة من أخبر الله عنهم بكتابه العزيز: ( وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا إليها وتركوك قائماً)(3)، حيث نزلت هذه الآية في الصحابة الذين تركوا الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يخطب يوم الجمعة عندما سمعوا بقافلة قدمت من الشام، ولم يبق معه منهم سوى اثني عشر رجلاً فقط من كل تلك الآلاف من الصحابة، فعن جابر بن عبدالله قال:
____________
1- صحيح البخاري ج9 ص58 كتاب الفتن باب واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة.
2- صحيح البخاري ج9 ص126 كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة باب لتتبعن من كان قبلكم.
3- الجمعة: 11.
"بينما نحن نصلي مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إذ أقبلت عير تحمل طعاماً فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ اثنى عشر رجلاً فنزلت هذه الآية: ( وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا إليها وتركوك قائماً).(2) ونفس العدد من الصحابة، بقي مع الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) عند فرارهم في موقعة أحد، مما حدى برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتبرّأ يومئذ من فعلهم ذلك، فعن البراء بن عازب قال:
"جعل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على الرجالة يوم أحد عبدالله بن جبير وأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في أخراهم ولم يبق مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) غير اثنى عشر رجلاً "(3).
وعن أنس(رضي الله عنه) قال:
____________
1- صحيح البخاري ج6 ص189 كتاب التفسير.
2- صحيح البخاري ج2 ص16 كتاب الجمعة.
3- صحيح البخاري ج6 ص48 كتاب التفسير باب قوله تعالى ـ ( والرسول يدعوكم في أخراكم).
ويوم حنين كان فرار الصحابة أدهى وأمر، حيث كانوا يعدون بالآلاف، وقد نزل القرآن الكريم يؤنبهم على فعلتهم الشنيعة هذه بقوله تعالى: ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين....) (2).
وفي الصحابة من أنزل الله تعالى في حقهم: ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم)(3)، وكان نزول هذه الآية بحق فئة من الصحابة كان من رأيهم أن يأخذوا العير وما تحمل قافلة أبوسفيان وتفضيلهم ذلك على القتال عندما استشارهم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قبل موقعة
____________
1- صحيح البخاري ج4 ص23 كتاب الجهاد باب قوله ـ من المؤمنين رجال صدقوا ـ.
2- التوبة: 25 ـ 26.
3- الأنفال: 67 ـ 68.
وفي الصحابة من أنّبهم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لدعواتهم القبلية ونزعاتهم الجاهلية، كما يظهر مما رواه جابر بن عبدالله(رضي الله عنه) قال:
"كنا في غزاة، قال سفيان مرة في جيش فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ما بال دعوى جاهلية" (1).
وهذه الدعوى الجاهلية كادت أن تحدث حرباً بين قبيلتي الأوس والخزرج اللتين تشكلان مجموع الأنصار، فعن عائشة(رضي الله عنه)قالت:
"....فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله، أنا والله أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من اخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن احتملته الحمية، فقال: كذبت لعمر الله، والله لنقتلنّه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيّان الأوس والخزرج حتى همّوا، ورسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على المنبر فنزل فخفضهم
____________
1- صحيح البخاري ج6 ص191 كتاب التفسير باب قوله ـ سواء عليهم استغفرت لهم ـ.
وفي الصحابة من كان يبغض علياً والذي كان كُرهه علامة من علامات النفاق كما مر، فعن أبي بريدة قال:
"بعث النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) علياً إلى خالد ليقبض الخمس وكنت أبغض علياً، وقد اغتسل، فقلت لخالد: ألا ترى إلى هذا؟ فلما قدمنا على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ذكرت له فقال: يا بريدة، أتبغض علياً؟ فقلت: نعم، قال: لا تبغضه، فإنّ له في الخمس أكثر من ذلك" (2).
ومن الصحابة من كان يطعن بقرارات النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، كما ظهر ذلك في طعنهم بتأمير أسامة بن زيد على سبيل المثال، فعن ابن عمر(رضي الله عنه)قال:
"بعث النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بعثاً، وأمّر عليهم أسامة بن زيد، فطعن بعض الناس في إمارته فقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل" (3).
ومن الصحابة من طردهم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) من مجلسه عند ما اعترضوا على أمره لهم بكتابة وصيته الأخيرة والذين بدلاً من ذلك
____________
1- صحيح البخاري ج3 ص229 كتاب الشهادات.
2- صحيح البخاري ج5 ص207 كتاب المغازي باب بعث علي وخالد رضي الله عنهما إلى اليمن.
3- صحيح البخاري ج5 ص29 كتاب فضائل الصحابة باب مناقب زيد.
"يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم بكى حتى بل دمعه الحصى، فقلت: يا ابن عباس، ما يوم الخميس؟ قال: اشتدّ برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وجعه، فقال: إئتوني بكتف اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: ما له أهجر؟ استفهموه. فقال: ذروني، فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه" (1).
وفي الصحابة من تنازع على الإمارة بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى وصل الحد ببعضهم أن يطالب تعيين أميرين واحداً للمهاجرين وآخر للأنصار، ممّا يثبت عدم تخلّيهم عن نزعاتهم القبلية الجاهلية بالرغم من إسلامهم كما مر تفصيله في باب أحداث السقيفة.
وفي الصحابة أبو هريرة ومعاوية اللذان أفردت لهما أبواباً خاصة في أماكن أخرى من هذا البحث فراجع.
ولعل مبالغة أهل السنة في رفع منزلة الصحابي مردّها إلى تشرفه بصحبة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن ذلك ليس أكثر امتيازاً من التشرّف بالزواج منه، حيث قال الله تعالى بشأن نساءه: (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين)(2). وكذلك
____________
1- صحيح البخاري ج4 ص120 كتاب الخمس باب إخراج اليهود من جزيرة العرب.
2- الأحزاب: 30.
ونقصد من ذلك أنّ كثرة مصاحبة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لا تعني بالضرورة ارتفاع درجة إيمان المصاحبين، فبالإضافة إلى ما سبق من روايات بشأن أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد روي عن أزواجه ما يشابه ذلك، إن لم يكن أبلى وأشد، فعن ابن عباس(رضي الله عنه) قال:
"لبثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فجعلت أهابه، فنزل يوماً منزلاً فدخل الأراك، فلما خرج سألته فقال:عائشة وحفصة، ثم قال: كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئاً، فلما جاء الإسلام وذكرهن الله رأينا لهنّ بذلك علينا حقاً من غير أن ندخلهن في شيء من أمورنا. وكان بيني وبين امرأتي كلام فأغلظت لي فقلت لها: وإنّك لهناك، قالت: تقول هذا لي وابنتك تؤذي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فأتيت حفصة فقلت لها: إنّي أحذرك أن تعصي الله ورسوله" (2).
____________
1- التحريم: 4 ـ 10.
2- صحيح البخاري ج7 ص196 كتاب اللباس.
"كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يشرب عسلاً عند زينب ابنة جحش ويمكث عندها، فواطأت أنا وحفصة عن أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير، إنّي أجد منك ريح مغافير. قال: لا، ولكنني كنت أشرب عسلاً عند زينب ابنة جحش فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحداً" (1).
وعن عائشة(رضي الله عنه) أيضاً قالت: "إنّ نساء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كن حزبين، فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسؤدة، والحزب الآخر: أم سلمة وسائر نساء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)" (2).
وعن عائشة(رضي الله عنه) قالت: "كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأقول: اتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى: (ترجى من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك)(3). قلت: ما أرى إلاّ ربك يسارع في هواك" (4).
____________
1- صحيح البخاري ج6 ص194 كتاب التفسير باب أيها النبي لم تحرم.
2- صحيح البخاري ج3 ص204 كتاب الهبة باب من أهدى إلى صاحبه.
3- سورة الاحزاب: 51.
4- صحيح البخاري ج6 ص147 كتاب التفسير باب قوله ـ ترجى ما تشاء منهن ـ.
وفي قول آخر لعائشة بشأن خديجة التي تميزت على جميع نساء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد صدّقت بدعوة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يوم كذب به الناس، وتصدقت له بمالها يوم حرمه الناس، ورزق منها الولد، الأمر الذي يفسر غيرة عائشة الشديدة منها وخصوصاً أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان دائم الذكر لفضائلها حتى بعد موتها، وفي ذلك ما يناقض قول عائشة بالرواية السابقة من أنّ الله قد أبدله خيراً منها.
فعن عائشة(رضي الله عنه) قالت: "ما غرت على أحد من نساء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ما غرت على خديجة وما رأيتها، ولكن كان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يكثر ذكرها. وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة، فيقول إنّها كانت وكانت وكان لي منها ولد" (2).
____________
1- صحيح البخاري ج5 ص48 كتاب مناقب الأنصار باب تزويج النبي خديجة وفضلها.
2- صحيح البخاري ج5 ص48 كتاب مناقب الأنصار باب تزويج النبي خديجة وفضلها.
وبالرغم من أنّ أهل السنة لا يقولون صراحة بعصمة جميع الصحابة، إلاّ أنّ من يزعم صحة هذه الرواية فإنّه لابد وأن يعتقد بعصمتهم جميعاً لأنه ليس من الممكن أن يأمر الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)بالاقتداء مطلقاً دون أي قيد أو شرط ـ كما توحي هذه الرواية المزعومة ـ بمن يحتمل فعله لمعصيته.
وهكذا، فإن الروايات السابقة والتي تجعل عدالة الكثير من الصحابة محل نظر وتأمل إنّما هي في غالبها بشأن من طالت صحبتهم لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فما بالك إذن بعدالة من سُموا بالصحابة لمجرد رؤيتهم لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ولو للحظة واحدة؟؟ ولماذا يا ترى هذه المبالغة؟ وهل العدالة أو التقوى تكتسب لمجرد رؤية الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)ولو لحظة أم بالطاعة والاقتداء بما أمر به الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)بحسن نية وإخلاص؟؟
ولعل هذا التناقض الذي يأباه العقل السليم والفطرة البشرية يتضح بأجلى صورة بتفضيل بعض علماء المسلمين من أهل السنة كابن تيمية لمعاوية بن أبي سفيان على الخليفة الزاهد عمر بن عبدالعزيز لا لشيء إلاّ لأنّ معاوية كان صحابياً وعمر تابعياً، وذلك
ومن المفيد أن نتساءل في هذا المقام، أيهما أعلى درجة: من آمن بالرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن رأى عشرات المعجزات السماوية بأم عينيه، أم الذي آمن بالإسلام دون أن يرى أياً منها؟؟
والحقيقة أنّني لم أر تفسيراً لهذه المبالغة بدرجة تقوى الصحابة، وإشاعة فكرة عدالتهم جميعاً ما هو إلاّ لغلق الباب في وجه كل من ينتقد بعض الصحابة الذين عملوا على إبعاد الخلافة عن أصحابها الشرعيين، وهكذا فإنّ الكثيرين من أهل السنة يرفضون جميع الأدلة الدامغة على احقية أهل البيت(عليهم السلام) بإمامة المسلمين لا لشيء إلا الاعتقادهم بعدالة جميع الصحابة وهم لذلك يحملون أي تصرف قاموا به على الصحة.
وأما الذين عملوا على بث هذه الفكرة الخاطئة فهو لأنّهم كانوا يرون بالأئمة من أهل البيت(عليهم السلام)خطراً يهدد عروشهم، لعلمهم ما لهؤلاء حقاً في ذلك، فكان لابد من محاولة إضفاء نوع من التعتيم
وهكذا، فإن الحديث المزعوم والقائل بنجومية جميع الصحابة الذي مر قد اقتبست الفاظه ومعانيه من حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):
"النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب، اختلفوا فصاروا حزب إبليس"(1).
وقد كان من أهم الآثار السلبية التي تمخضت نتيجة للاعتقاد بعدالة جميع الصحابة هو وجود ذلك الكم الهائل من الروايات الغثة في كتب الحديث كالإسرائيليات والمسيحيات وغير ذلك من الخرافات مما يتخذ مطاعن على دين الإسلام، ذلك أنّ تلك الروايات قد أخذت محل القبول والتصديق لمجرد أنها رويت عن الصحابة بالرغم من كل ما يحتمل عليهم فعله كما بينا ذلك من خلال الروايات العديدة السابقة.
____________
1- مستدرك الصحيحين ج3 ص149.
الفصل الثالث
الشيعة والقرآن الكريم
يعتقد الشيعة أنّ (القرآن هو الوحي الإلهي المنزل من الله تعالى على لسان نبيه الأكرم في تبيان كل شيء، وهو معجزته الخالدة التي أعجزت البشر عن محاربتها في البلاغة والفصاحة وفيما احتوى من حقائق ومعارف عالية، لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف، وهذا الذي بين أيدينا نتلوه هو نفس القرآن المنزل على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن ادّعى فيه غير ذلك فهو مخترق أو مغالط أو مشتبه وكلهم على غير هدى، فإنّه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه)(1).
ويقول شيخ المحدثين محمد بن علي القمي الملقب بالصدوق: "اعتقادنا في القرآن الذي أنزل الله تعالى على نبيه محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) هو ما
____________
1- عقائد الإمامية لمحمد رضا المظفر: ص85، ط القسم العربي بدار التبليغ الاسلامي قم.
ويؤكد ذلك ما يقوله الأستاذ البهنساوي وهو أحد مفكري الإخوان المسلمين: "...إنّ الشيعة الجعفرية الإثني عشرية يرون كفر من حرّف القرآن الذي أجمعت عليه الأمة منذ صدر الإسلام.... وإنّ المصحف الموجود بين أهل السنّة هو نفسه الموجود في مساجد وبيوت الشيعة، ويواصل قوله في مجال رده على ظهير والخطيب، فينقل رأي السيد الخوئي، وهو أحد مجتهدي الشيعة في العصر الحاضر: "المعروف بين المسلمين عدم وقوع التحريف في القرآن، وأنّ الموجود بين أيدينا هو جميع القرآن المنزل على النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) " (2).
وأما الشيخ محمد الغزالي فيقول في كتابه دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين: " سمعت من هولاء من يقول في مجلس علم: إنّ للشيعة قرآناً آخر يزيد وينقص عن قرآننا المعروف. فقلت له: أين هذا القرآن؟ ولماذا لم يطلع الانس والجن على نسخة منه خلال هذا الدهر الطويل؟ لماذا يساق هذا الافتراء؟....فلماذا هذا
____________
1- اعتقادات الصدوق: ص93.
2- السنة المفتري عليها: ص60.