وأما الروايات غير الصحيحة والتي قد يستند إليها البعض والتي تقول بتحريف القرآن والموجودة في كتب الحديث عند الشيعة، فإنّها مدانة ومرفوضة يوجد مثيلها في كتب صحاح الحديث عند أهل السنة، وقد أخرج البخاري بسنده عن عائشة(رضي الله عنه)أنّها قالت:
"سمع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) رجلاً يقرأ في سورة بالليل فقال: يرحمه الله لقد أذكرني آية كذاوكذا كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا" (2).
وبالطبع فإنّه لا يمكن لأحد أن يصدق بما يعنيه الحديث أعلاه والذي يشير إلى عدم حفظ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) للقرآن كاملاً أن نسيانه لبعض الآيات منه، وفيما يلي ما يشير إلى أنّ جزءاً من سورة الأحزاب لم يجدوه إلاّ مع خزيمة الأنصاري أثناء جمع القرآن، وذلك على حد ما أخرجه البخاري في صحيحه، فعن زيد بن ثابت قال:
"لما نسخنا الصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يقرؤها لم أجدها مع أحد إلاّ مع خزيمة الأنصاري الذي جعل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) شهادته شهادة رجلين
____________
1- دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين.
2- صحيح البخاري ج6 ص239 كتاب فضل القرآن باب نسيان القرآن.
وفي رواية أخرى عن زيد بن ثابت قال:
".... فقمت فتتبَّعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره" (3) فأين هذه الرواية من الحقيقة القائلة بنقل القرآن بالتواتر؟؟
ومن ضمن الروايات الكثيرة التي أخرجها البخاري وغيره من رجال الحديث من أهل السنة في صحاحهم ومسانيدهم، والتي تقول صراحة بتحريف القرآن الكريم ما يروى عن الخليفة عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) بالسند عن عبدالله بن عباس(رضي الله عنه) قال:
"خرج عمر بن الخطاب فلما رأيته مقبلاً قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف. فأنكر عليّ وقال: ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله؟ فجلس عمر على المنبر. فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أمّا بعد، فإنّي قائل لكم مقالة قدر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين
____________
1- الأحزاب: 23.
2- صحيح البخاري ج6 ص146 كتاب التفسير باب فمنهم من قضى نحبه.
3- صحيح البخاري ج6 ص90 كتاب التفسير باب لقد جاءكم رسول من أنفسكم.
إنّ الله بعث محمداً(صلى الله عليه وآله وسلم) بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها. رجم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ورجمنا بعده. فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: "والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله. والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحمل أو الاعتراف" (1).
والرواية التالية التي أخرجها البخاري أيضاً تبين أنّ عمر بن الخطاب كان يود أن يضيف تلك الآية التي أسقطت (على حد زعمه) بنفسه، ولكنه كان يخشى كلام الناس:
"قال عمر: لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبت آية الرجم بيدي وأقر ماعز عند النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالزنا أربعاً فأمر برجمه" (2).
وأما الآية المزعومة فهي: "والشيخ والشيخة إذا زنيا
____________
1- صحيح البخاري ج8 ص209 ـ 210 كتاب المحاربين من أهل الكفر باب رجم الحبلى من الزنا.
2- صحيح البخاري ج9 ص86 كتاب الأحكام باب الشهادة تكون عند الحاكم.
وبما أنّ القرآن الذي بين أيدينا نعتقد جزماً بعدم تعرضه لأي نقصان أو زيادة، فإنّه لابد وأن يكون الخليفة عمر(رضي الله عنه) قد التبس عليه الأمر، وقد يكون مصدر هذا الالتباس وجود آية الرجم فعلاً، ولكن في توراة أهل الكتاب وليس القرآن الكريم كما يظهر من رواية ابن عمر الذي قال:
"...أتى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) برجل وامرأة من اليهود قد زنيا، فقال لليهود: ما تصنعون بهما؟ قالوا: نسخّم وجوههما ونخزيهما، قال: فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فجاءوا فقالوا لرجل ممن يرضون أعور ـ: اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه، قال: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيه آية الرجم تلوح، فقال: يا محمد، إنّ عليهما الرجم ولكننا نتكاتمه بيننا، فأمر بهما فرجما" (2).
وما يقوي احتمال وقوع التباس الخليفة عمر(رضي الله عنه) بين كتاب الله الحكيم وتوراة أهل الكتاب ما ذكره الجزائري في كتابه: "هذه نصيحتي إلي كل شيعي" وهذا نصه: (... وكيف تجوز قراءة تلك
____________
1- سنن ابن ماجة ج2 ص854 ح2553.
2- صحيح البخاري ج9 ص193 كتاب التوحيد باب ما يجوز من تفسير التوراة.
ويروى عن الخليفة عمر أيضاً قوله:
"ثم إنّا كنّا نقرأ من كتاب الله ـ أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ـ أو إنّ كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم" (2).
ولا يخفى على أحد أن هذه الآية كسابقتها ليس لها وجود في كتاب الله.
وأما عبدالله بن مسعود، فقد روي عنه أنّه كان يضيف كلمتي "الذكر والأنثى" على الآية الكريمة ـ (والليل إذا يخشى) ـ فعن علقمة قال:
"....كيف يقرأ عبدالله ـ والليل إذا يخشى ـ فقرأت عليه ـ والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى ـ قال: والله لقد أقرأنيها
____________
1- هذه نصيحتي إلى كل شيعي لأبي بكر الجزائري.
2- صحيح البخاري ج8 ص210 كتاب المحاربين من أهل الكفر باب رجم الحبلى من الزنا.
وهكذا يوقعنا البخاري الذي أخرج هذه الرواية في صحيحه في تناقض جديد، ذلك إنّه يروي أيضاً أمر الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) للمسلمين باستقراء القرآن من عبدالله بن مسعود. فبالروايد عن ابن عمر قال: بأنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول:
"استقرئوا القرآن عن أربعة: عن عبدالله بن مسعود فبدأ به" أو قال: "استقرئوا القرآن من أربعة: من عبدالله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل" (2).
فكيف يأمرنا الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) باستقراء القرآن ممن لا يحسن حفظه؟
نترك الإجابة على هذا السؤال بالطبع للبخاري ومن سار على منهجه باعتقاد صحة كل ما رُوي في صحيحه.
وأما صحيح مسلم، فقد وجد فيه مثل ذلك أيضاً، فعن عائشة(رضي الله عنه) أنّها قالت:
____________
1- صحيح البخاري ج5 ص31 كتاب فضائل الصحابة باب مناقب عمار وحذيفة.
2- صحيح البخاري ج5 ص34 كتاب فضائل الصحابة باب مناقب عبدالله بن مسعود.
وعن أبي الأسود عن أبيه قال:
"إنّ أبا موسى الأشعري بعث إلى قرّاء البصرة وكانوا ثلاثمائة رجل، فقال فيما قال لهم: وإنّا كنّا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة، غير أنّي حفظت منها ـ لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ـ" (2).
وفي كتاب (الاتقان في علوم القرآن) للسيوطي، يذكر بعض الروايات بأنّ القرآن 112 سورة فقط أو بإضافة سورتي الحقد والخلع (3)....! وغير ذلك من أمثال تلك الروايات والتي نكتفي بالقدر
____________
1- صحيح مسلم ج2 ص1075 ح24، كتاب الرضاع باب التحريم بخمس رضعات.
2- صحيح مسلم كتاب الزكاة ج2 ص726 ح119. باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثاً.
3- الاتقان في علوم القرآن للسيوطي: ص65.
وبعد، فهل يجوز أن يقول الشيعي أنّ قرآن أهل السنة ناقص أو زائد لوجود روايات تقول بذلك في كتب الحديث عندهم؟ بالتأكيد لا، لأنّ إجماع أهل السنة هو القول بعدم تحريف القرآن. وأمّا مسألة وجود هذه الروايات القائلة بالتحريف في كتب صحاح الحديث عندهم ـ لا سيما البخاري ومسلم منها والتي ألزم أهل السنة أنفسهم بأنّ جميع ما روي فيها يعتبر صحيحاً على رأيهم ـ فإن تفسير ذلك يكون بأحد أمرين لا ثالث لهما: فإما أنّ تلك الروايات صحيحة ولكن فيها من الالتباس الذي حصل لرواتها كما هو الحال بشأن آية الرجم. وإمّا أن تكون تلك الروايات غير صحيحة كما هو الحال بالنسبة لباقي الروايات التي ذكرناها، وبذلك فإنّه لابد من إعادة النظر في تسمية كتابي البخاري ومسلم (بالصحيحين).
فبماذا نفسر إذن تلك الحملة المسعورة التي يقوم بها بعض الكتاب أمثال ظهير والخطيب وغيرهم بإتهام الشيعة بتحريف القرآن لمجرد وجود روايات ضعيفة في كتب الحديث عندهم تقول بذلك هي مرفوضة عندهم، ويوجد ما يشابهها الكثير من الروايات التي أخرجها رجال الحديث من أهل السنة في صحاحهم. فمن كان بيته من زجاج لا يرمي بيوت الآخرين بالحجارة!
الفصل الرابع
الشيعة والسنّة النبوية المطهّرة
موقف الفريقين من السنّة النبوية:
إنّ مما يفترى به على الشيعة من قبل بعض الحمقى بأنهم ينكرون سنة المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا هراء ما بعده هراء، وننقل آراء بعض علماء أهل السنة حول موقف الشيعة من السنة النبوية المطهرة.
يقول الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه "الإمام الصادق": "السنة المتواترة حجة عندهم بلا خلاف في حجيتها، والتواتر عندهم يوجب العلم القطعي.... إنّ إنكار حجية السنّة النبوية المأثورة بالتواتر عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كفر لأنه إنكار للرسالة المحمدية، أما إنكار حجية أقوال الأئمة فإنّها دون ذلك تعد فسقاً ولا تعد كفراً" (1).
ويقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه ـ دفاع عن العقيدة
____________
1- "الإمام الصادق" لأبى زهرة.
ولا يوجد أي اختلاف بين أهل السنة والشيعة حول مكانة السنة النبوية المطهرة ووجوب الأخذ بها، ولكنهم اختلفوا حول طريقة نقل هذه السنة إلى الأجيال اللاحقة لجيل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، أو طريقة التثبت منها. فيكفي عند أهل السنة إيصال اسناد الحديث بنقل الثقة عن الثقة إلى أي من الصحابة الذين يعتقدون بعدالتهم جميعاً، وعندهم صحيحا البخاري ومسلم لا يشك قطعاً بصحة أحاديثهما حتى أصبحا وكأنّهما بنفس مرتبة القرآن الكريم من حيث الصحة، وإلاّ فما معنى إلزام الغالبية العظمى من أهل السنة لأنفسهم بقبول كل ما احتواه هذان الصحيحان؟ وتأكيداً لذلك، ننقل رأي الشيخ أبو عمرو بن الصلاح من مقدمة شرح النووي على صحيح مسلم: "جميع ما حكم مسلم رحمه الله بصحته في هذا الكتاب ـ صحيح مسلم ـ فهو
____________
1- "دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين" للغزالي.
وأما الشيعة فإنّهم يشترطون أولاً إيصال أسناد الحديث إلى أي من أئمة أهل البيت(عليهم السلام) محتجين بقول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم): "إني تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي "(2).
وبقوله تعالى: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرِّجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا) (3)، وأما الشروط الأخرى فأهمها عرض الرواية على كتاب الله ثم النظر في متنها وسندها ومقارنتها بروايات أخرى ثبتت بالتواتر القطعي، وأخيراً عرضها على العقل، وأي رواية ينقصها أي من هذه الشروط، فإنّ الأخذ بها يكون محل نظر وتأمل.
وكتب الحديث الرئيسية عند الشيعة أربعة هي: (الكافي، من لا يحضره الفقيه، الاستبصار، التهذيب)، وجميع الروايات في هذه الكتب خاضعة للتحقيق، ففيها الغث والسمين، ولا يرون صحة جميع
____________
1- صحيح مسلم بشرح النووي ج1 ص19.
2- صحيح الترمذي ج5 ص662 ـ 663، باب مناقب أهل البيت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)دار الكتاب العربي.
3- الأحزاب: 33.
ففي كتاب ـ مصادر الحديث عند الشيعة الإمامية ـ للعلامة المحقق السيد محمد حسين الجلالي، تقسيم لأحاديث الكافي حيث يقول: "مجموع الأحاديث التي فيه 121، 16 حديثاً، منها 485، 9 حديثاً ضعيفاً، و114 حديث حسن و118 حديث موثق و302 حديث قوي و5702 حديث صحيح" وهذا يظهر بوضوح كيف ضعّف علماء الشيعة آلاف الأحاديث في الكافي. فأين هذه الحقيقة من تشدق بعض الأفّاكين مثل ظهير والخطيب القائلين بأن كتاب الكافي عند الشيعة هو كصحيح البخاري عند أهل السنة، ثم يدعون أن اسمه "صحيح الكافي"، وهذا كذب صارخ يكرروه في كتبهم المسمومة بهدف تضليل القارىء بإضفاء صفة الصحة على روايات ضعيفة اقتبسوها من الكافي أو غيره من كتب الحديث عند الشيعة لإقامة الحجة عليهم وإدانتهم بها.
موقف الفريقين من عصمة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم):
في الوقت الذي يثير فيه بعض المغرضين والأفّاكين إشاعات كاذبة بتفضيل الشيعة لأئمتهم على شخص الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكما هو
فالشيعة يقدّسون سنة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ويرون كفر من ينكر حكماً أمر به النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه أفضل الأولين والآخرين، فهم يرون ضرورة التمسك بالأئمة الإثني عشر من أهل البيت(عليهم السلام) بوصفهم أوثق الطرق نقلاً لسنة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهم يدرأون عن كل ما أحيط بمسألة عصمة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من شبهات وأقاويل، فهو بنظرهم معصوم في أمور الدين والدنيا وقبل النبوة وبعدها.
وأمّا أهل السنة فإنّهم أيضاً يفضلون شخص النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على الأولين والآخرين، إلاّ أنّهم يرون أنّ عصمته محدودة بالأمور الدينية فقط، والتي هي بنظرهم الأمور المتعلقة بتبليغ الرسالة ليس إلاّ، وما دون ذلك فهو كغيره من البشر يخطىء ويصيب.
وقبل أن نفنّد هذا القول، نعرض للقارىء صوراً مما يعتقده أهل السنة بشأن عصمة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)لنرى بصورة جلية حقيقة موقفهم بهذا الشأن، ومن خلال ما يعتبرونه أصح الكتب بعد كتاب الله. فعن عائشة(رضي الله عنه) قالت:
"...حتى فاجأه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه، فقال: اقرأ، فقال له النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني حتى
فهل يعقل أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يعلم بأنّ ما أنزل عليه كان النبوة وأنّ ورقة بن نوفل ـ النصراني ـ هو الذي أعلمه بذلك؟؟ وتستمر عائشة(رضي الله عنه) بروايتها هذه بما هو أغرب من ذلك، وبما تقشعر له الأبدان:
"... ثم لم ينشب ورقة حتى توفي وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً كي يتردي من رؤوس
____________
1- صحيح البخاري ج9 ص38 كتاب التعبير باب أول ما بدى به رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
وهل يمكن لمسلم أن يصدق بأن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يحفظ القرآن بكامله؟ فانظر إذن لما أخرجه البخاري بالإسناد إلى عائشة(رضي الله عنه) قالت:
"سمع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) رجلاً يقرأ في المسجد، فقال: رحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتها في سورة كذا وكذا (2).
وأما بالنسبة لما يزعمونه من جواز سهو النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد روي بالإسناد إلى جابر بن عبدالله أنّه قال:
"إنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) جاءه عمر بن الخطاب يوم الخندق فقال: يا رسول الله، والله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس تغرب وذلك بعدما أفطر الصائم، فقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والله ما صليتها، فنزل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بطحان وأنا معه فتوضأ ثم صلى العصر بعدما غربت
____________
1- صحيح البخاري ج9 ص38 كتاب التعبير باب أول ما بدى به رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
2- صحيح البخاري ج8 ص91 كتاب الدعوات باب قوله تعالى "وصل عليهم".
وعن أبي هريرة قال:
"أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف قياماً، فخرج إلينا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فلما قام في مصلاه ذكر أنّه جنب، فقال لنا: مكانكم، ثم رجع فاغتسل، ثم خرج إلينا ورأسه يقطر، فكبّر فصلينا معه" (2).
وعن أبي هريرة أيضاً:
"فصلى بنا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الظهر ركعتين ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد، ووضع يده عليها وفي القوم يومئذ أبوبكر وعمر فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس، فقالوا: قصرت الصلاة؟ وفي القوم رجل كان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)يدعوه ذا اليدين، فقال: يا نبي الله، انسيت أم قصرت؟ فقال: لم أنس ولم تقصر، قالوا: بل نسيت يا رسول الله، قال: صدق ذو اليدين" (3).
ويصل الأمر ـ على حد زعمهم ـ إلى أن يتمكن أحد اليهود من أن يسحر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فيتهيأ للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه فعل الشيء وما فعله،
____________
1- صحيح البخاري ج1 ص165 كتاب الأذان باب قول الرجل للنبي ـ ما صلينا ـ.
2- صحيح البخاري ج1 ص77 كتاب الغسل باب إذا ذكر في المسجد أنه جنب.
3- صحيح البخاري ج8 ص20 كتاب الأدب باب ما يجوز من ذكر الناس.
فعن عائشة(رضي الله عنه) قالت:
"مكث النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كذا وكذا يخيل إليه أنّه يأتي أهله ولا يأتي، فقال لي ذات يوم: يا عائشة إن الله تعالى أفتاني في أمر استفتيته فيه: أتاني رجلان فجلس أحدهما عند رجلي، والآخر عند رأسي، فقال الذي عند رجلي للذي عند رأسي: ما بال الرجل؟ قال:مطبوب، يعني مسحوراً. قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن أعصم" (1).
وعن عائشة(رضي الله عنه) أيضاً أنّها قالت:
"سحر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أنّه يخيل إليه أنّه فعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي دعا الله ودعاه ثم قال: أشعرت يا عائشة أنّ الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟"(2).
وقد رفض الشيخ محمد عبده هذه الروايات التي تقول بوقوع الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)تحت تأثير السحر لأنها تتعارض مع قوله تعالى: (وقال الظالمون إن تتبعون إلاّ رجلاً مسحوراً) (3).
____________
1- صحيح البخاري ج8 ص22 ـ 23 كتاب الأدب باب إن الله يأمر بالعدل والاحسان.
2- صحيح البخاري ج7 ص176 كتاب الطب باب السحر.
3- الفرقان: 8.
"إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لما كان في مرضه جعل يدور في نساءه ويقول: أين أنا غداً؟ حرصاً على بيت عائشة. قالت عائشة:فلما كان يومي سكن" (1).
وعن عائشة(رضي الله عنه) قالت:
"كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها، غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تبتغي بذلك رضا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)" (2).
ومما يفهم أيضاً من الروايتين أعلاه، أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقسم لكل من نسائه يومها وليلتها، إلاّ أنّ الرواية التالية تتعارض معهما. فعن أنس بن مالك قال:
" كان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يدور على نساءه في الساعة الواحدة من الليل والنهار وهن احدى عشرة، قال: قلت لأنس أو كان يطيقه؟
____________
1- صحيح البخاري ج5 ص37 كتاب فضائل الصحابة باب فضل عائشة.
2- صحيح البخاري ج3 ص208 كتاب الهبة باب هبة المرأة لغير زوجها.
ويقول كذلك أهل السنة أنّ الآيات الكريمة: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعلّه يزكّى * أو يذّكّر فتنفعه الذكرى....) (2) قد نزلت عتاباً للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لعبوسه بوجه عبدالله ابن مكتوم والذي كان ضريراً، وأنّ سبب إعراض الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) عنه حسب ما يرويه أهل السنة هو انشغاله بالحديث مع عتبة بن ربيعة، وأبي جهل بن هشام، والعباس بن عبدالمطلب، واُبي، وأمية بن خلف، يدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم، وقد طلب ابن مكتوم من الرسول حينها أن يقرؤه ويعلمه مما علمه الله حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)لقطعه كلامه وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد إنّما أتباعه من العميان والعبيد، فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين كان يكلمهم.
والشيعة يرفضون ذلك ويقولون إنّ هذه الآيات نزلت بحق رجل من بني أمية أعرض عن ذلك الأعمى وليس الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم). وقد ذكر العلامة محمد حسين الطباطبائي في تفسيره "الميزان":
"... وليست الآيات ظاهرة الدلالة على أنّ المراد بها هو
____________
1- صحيح البخاري ج1 ص76 كتاب الغسل باب إذا جامع ثم عاد ومن دار على نسائه في غسل واحد.
2- عبس: 1 ـ 4.
واعتماداً على الروايات السابقة وأمثالها أخذ أهل السنة اعتقادهم بعدم اشتمال عصمة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ للأمور الدينية والتبليغية فقط، ولكن الله تعالى أمر بالاقتداء برسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) مطلقاً وبدون أي قيد أو شرط، فقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحيّ يوحى)(2)، وكذلك قوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (3). يدل على عدم تقييد عصمته بل إطلاقها،
____________
1- تفسير الميزان للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي ج20 ص203 الطبعة الثانية 1974 م.
2- النجم: 3 ـ 4.
3- الحشر: 7.
وإنّ تسرّب الروايات التي تمس بعصمة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالإضافة إلى أنّها من وضع الوضاعين حتى تتخذ مطاعن على دين الاسلام، فإنّه يحتمل أيضاً أسباب أخرى لوضعها منها ما يصلح ليكون مؤيداً لموقف بعض الصحابة عندما قالوا في الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه يهجر ـ وهو في مرضه الأخير ـ عندما طلب منهم أن يأتوه بكتاب يكتبه لهم حتى لا يضلوا بعده، فلا غرابة بعد ذلك من وجود بعض الروايات والتي تجعل من أحد الصحابة يصيب في مسائل أخطأ فيها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وذلك على حد زعم مروّجي مثل هذه الروايات. ومنها ما نسب بشأن نزول آية الحجاب بعد تنبيه عمر بن الخطاب لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بضرورة تحجب نسائه فعن أنس قال:
"قال عمر(رضي الله عنه): قلت: يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ـ وفي رواية أخرى، قال عمر للرسول: احجب نساءك، قالت: فلم يفعل ـ فأنزل الله آية الحجاب"(1).
وأيضاً ما نسبه أهل السنة بشأن آية النهي عن الصلاة على
____________
1- صحيح البخاري ج6 ص148 كتاب التفسير، و ج8 ص66 كتاب الاستئذان.