الصفحة 146
المنافقين بأنها نزلت مؤيدة لموقف عمر بعد أن أصرّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)على الصلاة على ابن أبيّ المنافق، فيروى عن عبدالله بن عمر أنّه قال:

"لما توفي عبدالله بن أبيّ جاء ابنه إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله أعطني قميصك اكفنه فيه وصل عليه واستغفر له. فأعطاه قميصه وقال له: إذا فرغت منه فآذنّا، فلما فرغ آذنه به فجاء ليصلي عليه فجذبه عمر فقال: أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟ فقال: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ـ فنزلت ـ (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره). فترك الصلاة عليهم" (1).

وفي رواية أخرى عن عمر نفسه قال:

"... فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) "(2).

والحقيقة في تلك الحادثة أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قد خير بالصلاة على المنافقين والاستغفار بقوله تعالى: (استغفر لهم أولا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) (3) وقد اختار الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الصلاة على ذلك المنافق لما في ذلك من فائدة عظيمة

____________

1- صحيح البخاري ج7 ص185 كتاب اللباس باب لبس القميص.

2- صحيح البخاري ج2 ص121 كتاب الجنائز.

3- التوبة: 80.


الصفحة 147
ومصلحة متوخاة واستئلافاً لقومه الخزرج، وقد أسلم بذلك منهم ألف رجل، وقد كانت صلاته(صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك المنافق قبل نزول النهي عن ذلك، فآية (استغفر لهم أو لا تستغفر....) لا تدل على النهي الذي فهمه عمر واعترض على الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وخطأه بسببه، ونزول آية النهي عن الصلاة على المنافقين لا تدل أبداً على خطأ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)في صلاته على عبدالله بن أبي والعياذ بالله، فهي تكون خطأ لو فعلها بعد نزول آية النهي وليس قبل. ولا يستفاد من هذه الحادثة سوى خطأ عمر وشدة اعتراضه على الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكما اعترف عمر نفسه بذلك، حيث يروى عنه أنّه قال: "أصبت في الإسلام هفوة ما أصبت مثلها قط، أراد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصلي....الخ" (1).

ومثل ذلك ما يُروى أخذ الفداء من الأسرى يوم بدر، وأنّ الآية (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم) (2) نزلت ـ على حسب رأي أهل السنة ـ عتاباً للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)بسبب أخذه الفداء من أسرى بدر وعدم قتله لهم، في نفس الوقت الذي كان فيه عمر بن الخطاب يريد قتلهم جميعاً، فنزلت الآية مؤيدة لرأي عمر، ورووا ما يؤيد رأيهم

____________

1- كنز العمال ج2 ص419 ح4393.

2- الأنفال: 67، 68.


الصفحة 148
قولاً وضعوه من عندهم، ونسبوه إلى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بشأن معنى الآية السابقة الذي يتضمن تهديداً بالعذاب الشديد ولكن لمن ذلك التهديد؟ فيروي أهل السنة أن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يبكي مع أبي بكر حيث قال: "إن كاد ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل عذاب ما أفلت منه إلاّ ابن الخطاب" (1).

وحقيقة هذه الحادثة: أنّ الآية السابقة قد نزلت قبل معركة بدر وتنديداً بالصحابة الذين فضلوا العير وما تحمله قافلة أبو سفيان على القتال، وذلك عندما استشارهم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ليرى مدى استعدادهم ورغبتهم لقتال المشركين، فالنهي في الآية ليس في مطلق أخذ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) للأسرى وإنما النهي عن أخذ الأسرى دون قتال المشركين كما كان يريد بعض الصحابة عندما استشارهم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)بأخذ القافلة منهم أو قتالهم. وكيف يعقل أن تكون هذه الآية التي تهدد الذين لا يريدون إثخاناً في الأرض (أي القتال) قد نزلت تنديداً بالرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أثخن في المشركين وقتلهم شر قتلة! وقد قتل في تلك الموقعة سبعين من صناديد قريش.

____________

1- الدر المنثور للسيوطي ج4 ص108.


الصفحة 149

أبو هريرة وكثرة روايته للحديث:

نظراً لكثرة ما رواه أبو هريرة من أحاديث، فقد ارتأيت إلقاء بعض الضوء على شخصيته، حيث أجمع رجال الحديث على أن أبا هريرة كان أكثر الصحابة حديثاً عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، على حين أنّه لم يصاحب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ عاماً وتسعة أشهر ـ أو ثلاثة أعوام حسب بعض الروايات ـ وقد احتوت صحاح أهل السنة على 5374 حديثاً روى منها البخاري 446 حديثاً.

أمّا أبو هريرة نفسه فيقول: "ما من أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أحد أكثر حديثاً عنه مني إلاّ ما كان من عبدالله بن عمر، فإنّه كان يكتب ولا أكتب" (1)، وكل ما رواه ابن عمر 722 حديثاً، لم يخرج منها يخرج منها البخاري سوى سبعة أحاديث، ومسلم 20 حديثاً.

وأما سبب كثرة مصاحبة أبي هريرة للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد أجاب هو نفسه عن ذلك عندما قال:

"يقولون أنّ أبا هريرة يكثر والله الموعد، ويقولون ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل أحاديثه؟ وإنّ إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإنّ اخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرءاً مسكيناً ألزم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)على ملء بطني. فأحضر حين يغيبون، وأعي حين ينسون" (2).

____________

1- صحيح البخاري ج1 ص39 كتاب العلم.

2- صحيح البخاري ج3 ص143 كتاب المزارعة باب ما جاء في الغرس.


الصفحة 150
"إنّ الناس كانوا يقولون أكثر أبو هريرة، وإنّي كنت ألزم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بشبع بطني حتى لا آكل الخمير، ولا ألبس الحرير، ولا يخدمني فلان ولا فلانة. وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع وإن كنت لاستقرىء الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطمعني، وكان أخير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته حتى أن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقها فنلعق ما فيها" (1).

وقد عبر أبو هريرة عن تقديره لتصدق جعفر بن أبي طاب عليه بالطعام بأنه قال فيه: " ما احتذى بالنعال ولا ركب المطايا، ولا وطىء التراب بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل من جعفر بن أبي طالب (2)". فما هو المعيار الذي اعتبره أبو هريرة بتفضيله جعفر بن أبي طالب على جميع الصحابة؟

وقد روى مسلم في صحيحه أنّ عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) ضرب أبا هريرة لما سمعه يحدث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): ـ من قال لا إله إلا الله

____________

1- صحيح البخاري ج5 ص24 كتاب فضائل الصحابة باب مناقب جعفر بن أبي طالب.

2- أخرجه الترمذي ج5 ص654 ح3764، والحاكم بإسناد صحيح ج3 ص209.


الصفحة 151
دخل الجنة (1) ـ، وروى ابن عبدالبر عن أبي هريرة نفسه قال: لقد حدثتكم بأحاديث لو حدثت بها زمن عمر بن الخطاب لضربني عمر بالدرة (2).

وقال الفقيه المحدث رشيد رضا: "لو طال عُمُر عمر حتى مات أبو هريرة لما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة" (3)، وقال مصطفى صادق الرافعي:".... فكان بذلك ـ يعني أبو هريرة ـ أول راوية اتهم في الإسلام "(4).

وعند حدوث معركة صفين، فقد كان تشيع أبو هريرة لمعاوية، وقد كوفىء على حسن روايته للحديث ومناصرته لهم بأن أغدقوا عليه، فكان مروان بن الحكم ينيبه عنه في ولاية المدينة، فتحولت أحواله من حال إلى حال، وقد روي عن أيوب بن محمد أنه قال:

"كنا عند أبي هريرة وعليه ثوبان ممشقان من كتان، فتمخط فقال: بخ بخ، أبو هريرة يتمخط في الكتان؟ لقد رأيتني وإنّي لآخر فيما بين منبر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)إلى حجرة عائشة مغشياً علي، فيجيء

____________

1- صحيح مسلم ج1 ص59 ـ 60 ح52 باب من شهد لا إله إلاّ الله مستيقناً دخل الجنة.

2- فقة السيرة للشيخ محمد الغزالي ص41 ط السادسة.

3- مجلة المنار ج10 ص851.

4- تاريخ آداب العرب ج1 ص275.


الصفحة 152
الجائي فيضع رجله على عنقي ويُرى أنّي مجنون، وما بي من جنون، ما بي إلاّ الجوع" (1).

وما يرتبط بتشيعه لبني أمية كتمانه لبعض حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن روايته لها ستعرض حياته للموت، فعن أبي هريرة نفسه قال:

"حفظت عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وعاءين، فأمّا أحدهما فبثثته، وأمّا الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم" (2).

وأين هذا من قول أبي هريرة نفسه:

"إنّ الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثاً، ثم يتلو ـ (إنّ الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون * إلاّ الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم)(3).(4) ومن خلال هذه الأدلة الدامغة تتبين حقيقة أبي هريرة وأمانته

____________

1- صحيح البخاري ج9 ص275 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب ما ذكر النبي على اتفاق أهل العلم.

2- صحيح البخاري ج1 ص41 كتاب العلم باب حفظ العلم.

3- سورة البقرة: 159، 160.

4- صحيح البخاري ج1 ص40 كتاب العلم باب حفظ العلم.


الصفحة 153
في رواية الحديث، والتي تجعل منه شبيهاً بوعاظ السلاطين في زماننا، ويتضح سبب إعراض الشيعة عن رواياته، وبما يصلح أن يكون رداً على مغالاة أهل السنة بقبول أحاديث أبي هريرة، وطعنهم في كل من يوجه إليه النقد.

ففي اختصار علوم الحديث، قال ابن حنبل وأبوبكر الحميدي وأبوبكر الصيرفي: "لا نقبل رواية من كذب في أحاديث رسول الله وان تاب عن الكذب بعد ذلك" (1)، وقال السمعاني: "من كذب في خبر واحد وجب إسقاط ما تقدم من حديثه" (2).

ونعرض فيما يلي بعضاً من روايات أبي هريرة والتي أخرجها البخاري في صحيحه، نبدأ بزعم أبي هريرة بأنّ موسى (عليه السلام)قد فقأ عين ملك الموت!

فعن أبي هريرة قال: "أرسل ملك الموت إلى موسى(عليهما السلام)، فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت. فرد الله عليه عينه وقال: ارجع فقل له يضع يده على متن ثور، فله بكل شعرة سنة. قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية

____________

1- اختصار علوم الحديث ص111.

2- التقريب للنووي ص14.


الصفحة 154
بحجر" (1).

وعن أبي هريرة قال: "يقال لجهنم هل امتلأت، وتقول هل من مزيد؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول قط قط " (2).

وعن أبي هريرة قال: "قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟"(3).

والرواية الأخيرة تتناقض مع ما يعتقده أهل السنة من استقرار الله جل وعلا على العرش، فنزوله إلى السماء الدنيا في آخر الليل ـ كما يزعم أبو هريرة ـ يعني بقائه فيها طوال ألـ 24 ساعة من الليل والنهار لدوام وجود وقت آخر الليل على الأرض ولكن في بقع مختلفة نظراً لكروية الأرض! ترى لو كان أبو هريرة يعلم بكروية الأرض، فهل كان ليروي مثل هذه الروايات؟

وعن أبي هريرة أيضاً قال: "قال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل

____________

1- صحيح البخاري ج2 ص117 كتاب الجنائز.

2- صحيح البخاري ج6 ص173 كتاب التفسير باب قوله ـ وهل من مزيد ـ.

3- صحيح البخاري ج2 ص66 كتاب التهجد.


الصفحة 155
وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلاّ أنّه آدر، فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبة، فخرج موسى في أثره يقول: ثوبى يا حجر، ثوبي يا حجر حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى فقالوا: والله ما بموسى من بأس: وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضرباً. فقال أبو هريرة: والله إنّه لندب بالحجر ستة أو سبعة ضرباً بالحجر" (1).

وعن أبي هريرة أيضاً: "إن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء، أقبل حتى إذا ثوِّب بالصلاة ادبر، حتى إذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، وكذا لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى" (2).

وعن أبي هريرة أيضاً قال: "قال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): بينما رجل راكب على بقرة التفتت إليه فقالت: لم أخلق لهذا. خلقت للحراثة، قال: آمنت به وأبوبكر وعمر. وأخذ الذئب شاة فتبعها الراعي، فقال الذئب: من لها يوم السبع؟ يوم لا راعي لها غيري؟ قال: آمنت به أنا وأبوبكر وعمر. قال أبو سلمة: وما هما يومئذ في

____________

1- صحيح البخاري ج1 ص78 كتاب الغسل باب من اغتسل عرياناً وحده في خلوة.

2- صحيح البخاري ج1 ص158 كتاب الأذان باب فضل التأذين.


الصفحة 156
القوم" (1).

والحقيقة أنّ الأحاديث السابقة من الإسرائيليات التي أكثر أبو هريرة من روايتها، وذلك يرجع لكثرة ملازمته لكعب الأحبار اليهودي الذي تظاهر باعتناقه الإسلام.

وعن دخول الجنة، فقد رُوي عن أبي هريرة قوله: "سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول: يدخل الجنة من أمتي زمرة هي سبعون ألفاً تضيء وجوههم إضاءة القمر، فقام عكاشة بن محصن الأسدي يرفع نمرة عليه، قال: ادع الله لي يا رسول الله أن يجعلني منهم، فقال: اللهم اجعله منهم، ثم قام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله، ادع الله لي أن يجعلني منهم. فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): سبقك عكاشة" (2).

وعن أبي هريرة أيضاً قال: "بينما نحن عند النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إذ قال: بينما أنا نائم، رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فذكرت غيرته فوليت مدبراً. فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله" (3).

____________

1- صحيح البخاري ج3 ص136 كتاب المزارعة باب استعمال البقر للحراثة.

2- صحيح البخاري ج7 ص189 كتاب اللباس باب البرود والحبر والشملة.

3- صحيح البخاري ج4 ص142 كتاب بدء الخلق باب ما جاء في صفة الجنة.


الصفحة 157
ونختتم روايات أبي هريرة ببعض الفتاوى، التي رُويت عنه منسوبة إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "لو اطلع في بيتك أحد ولم تأذن له حذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح"(1)، وأما الفتوى الأخرى عن أبي هريرة أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "لا يمشي أحدكم في نعل واحدة، لينعلهما جميعاً، أو ليحفهما جميعاً" (2).

وقفة مع البخاري في صحيحه:

لقد أصبح من الضروري إلقاء ولو نظرة سريعة على صحيح البخاري بوصفه أصح كتب الحديث عند أهل السنة الذين يعتقدون بصحة جميع ما روي فيه من جهة، وبوصفه الحاوي للكثير من روايات أبي هريرة وذلك الكم الهائل من الروايات التي تطعن بعصمة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وغيرها من جهة أخرى.

فقد أخرج البخاري أحاديثه (الصحيحة برأيه) من 600 ألف حديث، وكما روي عنه إذ قال: "لم أخرج في هذا الكتاب إلاّ صحيحاً، وما تركت من الصحيح أكثر" (3).

____________

1- صحيح البخاري ج9 ص8 كتاب الديات باب من أخذ حقه أو اقتص دون السلطان.

2- صحيح البخاري ج7 ص199 كتاب اللباس باب لا يمشي في نعل واحدة.

3- ابن حجر في مقدمة شرح الباري على صحيح البخاري ص5.


الصفحة 158
ومأخذنا الأول على الشيخ البخاري هو اعتماده على عدالة سلسلة رواة الحديث كشرطه الوحيد لإثبات صحة الحديث المروي وبدون النظر إلى متنه وما احتواه من معنى الأمر الذي يفسر وجود الاضطراب والفساد والتناقض في كثير من الروايات التي أخرجها. فحتى لو كان الراوي عدلاً، فإنّ ذلك لا يمنع نسيانه جزءاً من الحديث الذي سمعه فضلاً عن احتمالية روايته للحديث بالمعنى لا بعين اللفظ الذي سمعه الأمر الذي يفقد الحديث جزءاً من ألفاظه الأصلية والتي يحتمل أن يكون لها معنى آخر لم يتنبه له الراوي وخصوصاً مع طول سلسلة الرواة التي قد تتضمن في بعض الأحيان لسبعة أو ثمانية أفراد.

وإذا أضفنا صعوبة الوقوف على عدالة الرجال وخصوصاً المنافقين منهم والذين لا يعلم سرائرهم سوى رب العباد، يتضح لنا العيب الأكبر في منهج البخاري في إخراجه لأحاديثه.

وقد قال أحمد أمين تأكيداً لذلك: "إنّ بعض الرجال الذي روى لهم غير ثقات، وقد ضعف الحفاظ من رجال البخاري نحو الثمانين" (1).

وفيما يلي مزيد من الروايات التي عدها البخاري صحيحة

____________

1- ضحى الإسلام لأحمد أحمد ج2 ص117، ص118 رقم 4.


الصفحة 159
وألزم بها أهل السنة أنفسهم على مر العصور. فعن أبي سعيدالخدري، أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قال بشأن يوم الحساب: "...فيتساقطون حتى يبقى من كان يعبدالله من بر أو فاجر، فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس؟ فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منا إليه اليوم، وانا سمعنا منادياً ينادي ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنما ننتظر ربنا، قال: فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا؟! فلا يكلمه إلا الأنبياء، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟ فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن" (1).

وعن جرير بن عبدالله قال: "كنا جلوساً ليلة مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة، فقال: إنّكم سترون ربكم كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته" (2).

ويكفي لرد الروايتين الأخيرتين، بما أخرج البخاري بسنده عن مسروق، قال: "قلت لعائشة(رضي الله عنه): يا أمَّتاه هل رأي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)ربه؟ فقالت: لقد قفَّ شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب؟ من حدثك أنّ محمداً(صلى الله عليه وآله وسلم)رأى ربه فقد كذب.

____________

1- صحيح البخاري ج9 ص158 كتاب التوحيد باب وجوه يومئذ ناضرة.

2- صحيح البخاري ج6 ص173 كتاب التفسير باب قوله ـ فسبح بحمد ربك وج9 ص156 باب التوحيد.


الصفحة 160
ثم قرأت ـ (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)(1) ـ (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلاّ وحياً أو من وراء حجاب)(2)"(3).

ويقول العلامة العسكري: "إنّ قول الله ـ (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)(4) ـ أي إلى أمر ربها ناظرة "أي منتظرة وذلك مثل قوله تعالى في حكاية قول أولاد يعقوب لأبيهم" (واسأل القرية التي كنا فيها)(5) "أي واسأل أهل القرية". قد (أمر) في تلك الآية، وفي هذه الآية (أهل)، وهكذا تؤول سائر الآيات التي ظاهرها يدل على أن الله تبارك وتعالى جسم" (6).

ومن الإسرائيليات الأخر التي وجدت في كتاب البخاري ما روي عن عبدالله قال: "جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فقال: يا محمد، إنّا نجد أنّ الله يجعل السماوات على أصبع، والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلائق على أصبع. فيقول: أنا الملك. فضحك النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)حتى بدت نواجذه

____________

1- الانعام: 103.

2- الشورى: 51.

3- صحيح البخاري ج6 ص175 كتاب التفسير باب سورة النجم.

4- القيامة:22.

5- يوسف: 82.

6- معالم المدرستين ج1 ص31.


الصفحة 161
تصديقاً لقول الحبر. ثم قرأ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): (وما قدروا الله حق قدره)(1) (2).

وعن ابن عمر(رضي الله عنه) قال: "قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): "إذا طلع حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تبرز، وإذا غاب حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تغيب، ولا تحيّنوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فإنّها تطلع بين قرني شيطان، أو الشيطان، لا أدري أي ذلك" (3).

وأنا لا أدري كيف يمكننا التصديق بمثل هذه الخرافات؟ وهذه أخرى عن أبي ذر الغفاري قال: "قال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي ذر حين غربت الشمس: تدري أين تذهب؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، وتوشك أن تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، وتوشك أن تسجد فلا يقبل منها. وتستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها. فذلك قوله تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها ذلك

____________

1- الزمر: 67.

2- صحيح البخاري ج6 ص157 كتاب التفسير باب ـ وما قدروا الله حق قدره ـ.

3- صحيح البخاري ج4 ص149 كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده.


الصفحة 162
تقدير العزيز العليم)(1).(2) وعن عمر بن الخطاب قال: "أما علمت أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إنّ الميت ليعذب ببكاء الحي" (3) بالرغم من أنّ الله تعالى يقول: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)(4)؟

وروي عن عبدالله قال: "ذكر عند النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) رجل فقيل: ما زال نائماً حتى أصبح ما قام إلى الصلاة.

فقال: بال الشيطان في اذنه" (5).

وعن جابر بن عبدالله رفعه قال: "خمروا الآنية وأوكوا الأسقية، وأجيفوا الأبواب، واكفتوا صبيانكم عند العشاء، فإن للجن انتشاراً وخطفة، واطفئوا المصابيح عند الرقاد فإن الفويسقة ربما اجترت الفتيلة فأحرقت أهل البيت" (6).

ونكتفي بهذا القدر من الروايات والتي يوجد غيرها الكثير مما

____________

1- يس: 38.

2- صحيح البخاري ج4 ص131 كتاب بدء الخلق باب صفة الشمس والقمر بحسبان.

3- صحيح البخاري ج2 ص102 كتاب الجنائز.

4- الإسراء: 15.

5- صحيح البخاري ج2 ص66 كتاب التهجد.

6- صحيح البخاري ج4 ص157 كتاب بدء الخلق.


الصفحة 163
يضع علامة استفهام كبيرة أمام البخاري وصحيحه، وأول ما يترتب على إثباتنا خطأ المقولة الشائعة بصحة جميع ما أخرج في هذا الصحيح هو عدم صلاحية أي حديث فيه ليكون حجة لمجرد إعطاء الشيخ البخاري له صفة الصحة. ولذلك فإنّه يلزمنا إعادة النظر في العقائد التي أخذت بناء على بعض أحاديثه مثل إمكانية رؤية الله تعالى ووضع قدمه في جهنم، وعدم اكتمال عصمة النبي وعدم حفظه جميع القرآن، وفقأ موسى لعين ملك الموت وغيرها الكثير الكثير، مما أخذ مكان الاعتبار والتصديق بالرغم مما فيها من شبهات وخرافات تتخذ مطاعن على دين الإسلام، وهكذا بالنسبة لكتب الحديث الأخرى.

ونتيجة لذلك أيضاً، فإنّه يلزمنا مراجعة تاريخنا الإسلامي وإعادة النظر في كثير مما رواه البخاري وغيره من رجال الحديث حول مكانة الصحابي هذا أو ذاك، وخصوصاً مع وجود تلك المنازعات التي حصلت بينهم والتي لا زالت آثارها واضحة لأيامنا هذه بوجود مذاهب مختلفة فرقت المسلمين وأضعفتهم.


الصفحة 164

الصفحة 165

الفصل الخامس
الزواج المؤقت

وهو ما يعرف بزواج المتعة وهو "أن تزوج المرأة نفسها للرجل بمهر معلوم إلى أجل مسمى بعقد نكاح جامع لشرائط الصحة الشرعية، صيغته بأن تقول المرأة للرجل بعد الاتفاق والتراضي على المهر والأجل "زوجتك نفسي بمهر قدره ـ كذا ـ إلى ـ الأجل المعلوم حيث تسمي مدة معينة على الضبط ـ" فيكون جواب الرجل على الفور: (قبلت)، وتجوز الوكالة في هذا العقد كغيره من العقود، وبتمام شروط العقد، تصبح المرأة زوجة للرجل، والرجل زوجاً لها إلى منتهى المدة المعينة في العقد، ولهما أن يجدداه إلى فترة أخرى أو حتى إلى أبد العمر إذا شاءا، ويجب على الزوجة أن تعتد بعد انقضاء المدة بقرءين (حيضتين) إذا كانت ممن تحيض، وإلاّ فبخمسة وأربعين يوماً، وولد المتعة ذكراً أو انثى يلحق بأبيه" (1).

____________

1- الفصول المهمة للإمام شرف الدين: ص63.


الصفحة 166
وهذا النوع من الزواج مما يُشنَّع به على الشيعة لاعتقادهم بجوازه، ولكن السؤال هنا: من أين جاء الشيعة بتشريع هذا النوع من الزواج؟ وهل هذا النوع من التشريع مما يجتهد بتحليله وتحريمه؟ وما هي أدلّة ذلك من الكتاب الكريم والسّنة المطهرة؟ وللإجابة على كل ذلك نقول:

إنّ جميع المسلمين على اختلاف مذاهبهم يجمعون على أنّ هذا النوع من الزواج مما شرع في صدر الإسلام، وقد أخرج البخاري بالرواية عن ابن عباس قوله:

"كنا نغزو مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وليس معنا نساء فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك، فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب ثم قرأ ـ (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم )(1)"(2).

وقد نزلت الآية: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة)(3).

في هذا النوع من الزواج، حيث ذكر معظم مفسري أهل السنة أنّ الاستمتاع المقصود في هذه الآية هو نكاح المتعة، وكان ابن

____________

1- المائدة: 87.

2- صحيح البخاري ج6 ص66 كتاب التفسير باب قوله ـ (ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم).

3- النساء: 24.