يتذلل لغير الله فيكون بذلك عابداً للضريح وبالتالي يكون مشركاً، وهذا استنتاج منطقي صحيح وفقاً للقاعدة التي تقول (كل متذلل لغير الله مشرك، وهذا متذلل، إذاً هذا مشرك)، ولكن الحقيقة والواقع إن الكبرى(1) غير مسلم بها، فكل متذلل لغير الله مشرك كاذبة، وهذه بديهة عقلية وعقلائية، ويمكن معرفة ذلك من الواقع الذي يعيشه أي إنسان، فإن من طبيعة البشر الإحترام بل من الأخلاق في بعض الأحيان التذلل لبعضنا البعض كتذلل التلميذ لأستاذه، وقد جعل القرآن الكريم شعار المؤمن التذلل للمؤمن {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} كما أمرنا الله سبحانه وتعالى بتعظيم الوالدين والتذلل لهم {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ} (سورة الإسراء: آية/ 24)، وأكثر من ذلك إن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم، والسجود كما تعلمون أكمل مرتبة في الخضوع والتذلل، فإذا كان كما تدعي الوهابية فتكون كل
____________
1- أي كبرى القياس، فالقياس ينقسم إلى كبرى، وصغرى، ونتيجة، فالكبرى هنا كل متذلل.. والصغرى، هذا متذلل، والنتيجة هذا مشرك.
فإذاً لا يمكن أن يكون أي خضوع أو تذلل عبادة، ولابد أن يكون هناك ملاكٌ آخر أكثر دقة وهو مسألة الاعتقاد، فإن الخضوع إذا كان مقترناً
أما قولك إن هؤلاء الجهال يطلبون من الميت ويتوسلون به، وهو لا ينفع ولا يضر، أو يطلبون حتى من الحي طلباً لا يقدر على فعله فهو شرك.
هذا الكلام لا يقبله جاهل فضلاً عن عالم لأن هذا بعيدٌ كلَّ البعد عن مورد الشرك، فإن معنى الميت
وفي نفس الوقت إذا طلبت هذا الطلب من نفس هذا الإنسان ولكنه كان نائماً فهو في الواقع لا يقدر على فعل هذا الأمر، ولكن هل يمكن أن تقول أنك مشرك لأنه لا يقدر، قالوا بكلمة واحدة لا.
بل أكثر ما يمكن أن يقال في حقي أن طلبك طلب عبثي لا جدوى منه، أو سميني حتى مجنوناً ولكن لا تصِفْني بالشرك.
وبهذا عرفنا إن عدم القدرة على الفعل ليست ملاكاً في التوحيد والشرك.
فأنَّ في هذا الكلام مغالطة لأن السنن المادية أو الغيبية ليسَ لها دخل في ملاك التوحيد والشرك، وأنا بدوري أسأل: هل هذه السنن هي مستقلة عن الله بمعنى أنها تعمل بقدرة ذاتية منفصلة عن الله أم أنها بإذن الله وإرادته؟ وهنا المحور، فإذا تعامل معها الإنسان باعتبار أنها مستقلة فهو مشرك سواءً كانت مادية أو غيبية، أما إذا كان باعتبار أنها قائمة بالله تعالى وبإذنه فهذا هو عين التوحيد، وأقرِّب لكم هذه الصورة بمثال: إذا مرض إنسان فمن الطبيعي أنه سيذهب إلى الطبيب، فإذا كان ينظر له بأنه قادر على شفائه بقدرة ذاتية منفصلة عن الله كان مشركاً ولا يشك في ذلك اثنان، أما إنه يشفي المريض بقدرة الله وإرادته فلا إشكال في ذلك بل هو عين التوحيد، فمن هنا نعرف إن السنة والسبب ليس لها اعتبار بعنوان أنه مادي أو غيبي وإن مدار الكلام هو الاعتقاد باستقلالية هذه الأسباب أو عدم استقلاليتها، وتحت
أما قولك "لا يقدر عليها إلا الله" بهذا المعنى الذي أطلقته لا يوجد شيء في صفحة الوجود يقدر على فعل شيء، وإنما القادر الحقيقي هو الله، ولكن المسألة لا تؤخذ بهذا الإطلاق، كما إن الله أعطى الإنسان القدرة على فعل بعض الأشياء بإذنه ومشيئته، أعطى عباداً من عباده أسراراً وقدرات لم يعطيها لغيرهم، مثلما كان عند الأنبياء من إحياء الموتى وشفاء المرضى، بل حتى ما كان عند أتباع الأنبياء مثل إحضار عرش بلقيس والأمثلة كثيرة في القرآن الكريم.
وقبل أن ابدأ بالكلام في مسألة الصفات الإلهية وبُعد الوهابية عن معرفتها، جاء المتحدث الوهابي وأخذ مني لاقطة الصوت بقوة، فلم أستجب لاستفزازه وسلمته لها بكل هدوء حتى أضمن لنفسي فرصة جديدة، وأنا أعلم يقيناً أنه لا يستطيع أن يرد على كلمة واحدة مما ذكرت.
أما كلامي فرد عليه بكلمة واحدة وكأنه أبطل كل حججي.
أما المتحدث الشيعي فننصحه بان يتصفح إي كتاب في أصول الفقه حتى يجد أن شرع من كان قبلنا ليس واجباً علينا فلا يستدل بسجود أخوة يوسف.
رفعت يدي مصراً لتتاح لي الفرصة، حتى أتحدث عن أساليب الحوار، والتعاطي مع الطرف الأخر، وعن أهمية البرهان، على ضوء المنهج
وأردت أن أبين أن كلامه خارج تخصصاً عن محل البحث فما دخل هذا الكلام فيما طرحته من أدلة على بطلان نظرة الوهابية للتوحيد؟!! فهو كالذي يقول أحلى العسل أم أطول الشجر؟.
وكان كل خوفي أن ننزل نحن إلى مستواهم من سب وشتم وتشتيت المواضيع، ولكن للأسف لم تتاح لي فرصة إلى آخر ركن النقاش، بل لم تتاح الفرصة لأي شيعي. وفي المقابل كان الباب مفتوحاً للوهابية الذين لم يزيدوا غير الِسباب، وعندما أتيحت الفرصة لأحد الطلبة وهو من جماعة الأخوان المسلمين استبشرنا بذلك، فلعله يكون منصفاً، ولكنه لم يختلف عنهم كثيراً.
فبدأ حديثه قائلاً: أننا لا نستطيع أن نكفر أحداً بعينه، ولكن يمكننا أن نكفر منهجاً، ورفع صوته صارخاً، فالتشيع كفر في منهجه وتوجهه وكل تعليماته، فأشعل بذلك حماس الوهابية فتعالت
الجلسة الثانية: مع الدكتور عمر مسعود
وبعد هذه الأحداث الساخنة، زرت الدكتور في مكتبه في كلية التجارة، وسألني ما دار بيننا وبين الوهابية، وقد كانت الأخبار عنده بالتفصيل.
قال: إن المشكلة التي تعيشها الوهابية هي الجهل المركب من مصادرة للآراء والاتهام بالباطل، فنحن كنا نسمع إن الشيعة يقولون أن الرسالة كانت يفترض أن تأتي لعلي بن أبي طالب، ولكن عندما بحثنا لم نجد لذلك أثراً، وكنا نسمع أن للشيعة مصحف اسمه (مصحف فاطمة) ولكن لا واقع له، وكنا نسمع أن عبدالله بن سبأ هو مؤسس الشيعة، فبحثنا فوجدنا أنه شخصية خرافية، فما بال الوهابية يرددون هذه الاتهامات الباطلة، وبأي حق يتحدثون عن الشيعة؟! فقد طلب مني قبل أيام أنا والدكتور علوان والدكتور أبشر، وأحد مشايخ الوهابية، إقامة ندوة عن الشيعة في الجامعة ولكني اعتذرت وعلى ما يبدو اعتذر الدكتور علوان، والدكتور أبشر، وقلت لهم بأي حقٍ أتحدث عن الشيعة فأكون الحاكم، والقاضي، والجلاد،
وأيضاً ليس ما يقوله الوهابية في جماعتنا التجانية بحق، وأذكر أن أحد مشايخنا وعلماءنا الكبار وهو الحافظ المصري إلتقى بأحد الوهابية فسأله الوهابي عن مذهبه فقال تجاني.
فقال الوهابي: أعوذ بالله.
قال: كيف، ألستم تقولون أن صلاة الفاتح أفضل من القرآن.
قال: لا.
ألستم تقولون كذا، قال: لا، ألستم تقولون كذا وكذا وكذا.
قال: لا.
فتعجب، فقال له: إنكم تحملون صورة في أذهانكم لا تمت إلى الواقع بصلة.
كما أنه ذكر لي قصة مفصلة عن لقاءاته مع المسيحية وقال إنه أستدعي إلى الخرطوم، لمناقشة مجموعة من علماء المسيحية، الذين حضروا من الغرب، وأنه كيف عجز الآخرين عن ردهم لأنهم لم يسألوهم عن اعتقاداتهم، بل كانوا يهاجموهم وهم ينفون الاتهام.
ولم يفحموا إلا بعد ما طلبت منهم أن يتحدثوا عن أنفسهم.
وقد فصل كثيراً في منهجية التعامل مع الأطراف المخالفة، ولم يطرح في هذه الجلسة
وبعد هذه الجلسة، ذهبت معه في سيارته إلى مدينة عطبره حيث يوجد مجموعة من إخواننا الشيعة حتى أنقل لهم هذه الأخبار السارة.
ولكن سرعان ما صدمت عندما أخبروني أن هنالك مناظرة، بينهم وبين الدكتور عمر مسعود، وموضوع المناظرة عصمة الأئمة.
قلت: نحن مستعدون أن نناظر في أي مبحث من عقائدنا، ونفحم أي طرف بالدليل، ولكن الذي يحيرني أنه مضت ساعات من لقاءي مع الدكتور، ولم يذكر لي هذا الأمر فلعله لا يدري؟!.
قالوا: لا، بل هو الذي دعا، وقد وزعت الإعلانات في كل مكان، ومكتوب عليها (حوار ساخن بين الشيعة والدكتور عمر مسعود).
فصممنا أن نستوفي كل الأدلة، عن عصمة
وبعد ما حان وقت الموعد، انطلقنا إلى دار التيجانية، وقد إكتظت بالحضور، وما إن رآني الدكتور حتى بدت علامات التردد عليه، فقال لي: هل جاء الأخوة الذين سوف يحاورونني، وكأنه لا يريدني أن أتدخل، بل هو كذلك، والدليل عليه إننا أول ما جلسنا كنا بمحاذاته من الجهة اليمنى، فقال لا يمكن أن ألتفت على يميني دائماً، فالذي يريد مناقشتي فليجلس أمامي، فقمنا ولكنه أمسك بيدي، وقال أجلس أنت بالقرب مني، وكأنني لم أكن مقصوداً بالنقاش.
وبعد تلاوة من آيات الذكر الحكيم، قدموا ممثل الشيعة للحديث عن عصمة الأئمة.
فحمدت الله، وصليت على خاتم الأنبياء، وأهل بيته الطاهرين، فأظهر الدكتور عدم ارتياحه من تدخلي.
قلت: قبل أن أبدأ حديثي، عن مسألة العصمة وأدلتها من القرآن، والسنة، والعقل، أحب أن ابدي هذه الملاحظة، وهي من الذي دعا إلى هذا الحوار؟
بدأ حديثه بعد الحمد، والصلاة قائلاً: أنا من طبيعتي الذاتية وتكوين شخصيتي، إنسان يمكن أن تسميني منعزل، ومنطوي فليس أنا من دعاة المناظرات، ولا الحوارات، والمحاضرات(1)، والدليل على ذلك أن الأستاذ معتصم جلس معي هذا اليوم أربع ساعات، ثم ذكر ما دار بيننا، وقال إنني لم أتخيل أن الأستاذ معتصم سيتدخل في هذا الحوار، لأنه لا توجد بيننا حواجز ومكتبي مفتوحٌ له طول
____________
1- مع العلم أنه في نفس تلك الأيام دارت بينه وبين الوهابية مجموعة من المناظرات بعنوان (ابن تيمية صوفي).
فشكرته، وقلت نحن أيضاً ليس من عادتنا أن نطرق الأبواب، وندعو أهلها للمناظرات، وما دمت دعوت لرفع الجلسة فنحن لا نصر عليها.
وفي هذا الحين تدخل أحد الحضور، ووجه لي سؤالاً قائلاً: أسألك سؤال مستفهم مستفسر وليس مناظر عن رأي الشيعة في مسألة العصمة وأدلتهم على ذلك.
قلت: له إن الأدلة متعددة، ولكن ليس المكان مكاني، ولا المجلس مجلسي، فإذا أذن لي الدكتور.. فقاطعني الدكتور قائلاً لقد دعوتكم لرفع هذه الجلسة.
وبهذا انتهت المناظرة ورفعت الجلسة.
حوار مـع شيخ الـوهابيـة
وبعد تلك الأحداث مباشرةً، سافرت إلى شمال السودان مدينة (مروي)، وأول ما لاحظته في تلك المنطقة النشاط الوهابي المتزايد، وبعد ما استطلعت الأمر وجدت إن المؤثر الأول في ذلك النشاط هو شيخ يسمى (مصطفى دنقلا)، وهو يسكن في منطقة بالقرب من مروي، تسمى (الدبيبة) فسعيت للوصول إليه، وذات مرة ذهبت إلى سوق شعبي في منطقة تسمى (تنقاسي) فأشار لي أحد الأخوان وكان مرافقاً لي، أن ذلك الرجل هو (مصطفى دنقلا) الذي تسأل عنه، فأسرعت إليه، وبعد السلام قلت له: أنا شخص غريب عن هذه المنطقة، وهدفي الوحيد في هذه الحياة هو البحث عن الحقيقة، وسمعت أنك من أكبر المشايخ في المنطقة، فأحببت أن استفيد من علمك، فاستبشر بذلك وأمسك يدي وقال: تعال ولا داعي للمواعيد، وجلسنا في منطقة هادئة من السوق.
فقلت له قبل الدخول في البحث في أي موضوع، يجب أن نتفق على أساليب الحوار، والأخذ
قاطعني قائلاً: وهذا ما ندعو إليه.
فقلت: إذاً ما هي نظرة الإنسان الباحث للإسلام؟.
هل يعتبر أن الإسلام هو ذلك الذي يكون في بيئته ومجتمعه؟.
أم أنه أوسع من ذلك فيشمل الإسلام بشتى مدارسه ومذاهبه الحاضرة أو التي كانت في التاريخ؟.
وهذه النظرة الشاملة، هي التي تكسب الإنسان نوعاً من الحرية، تمكنه من معرفة الطائفة المحقة، لأنها المقدمة للتحرر من كل قيود البيئة والمجتمع، كما أن هذه النظرة تكسب الإنسان نوعاً من الأنصاف، في التعاطي مع الأطراف المتعددة، ومن هنا أطلب منك أن لا تحاكمني بمسلماتك باعتبار أنها حقيقة، لأنها لابد أن تثبت بالدليل أولاً، ثم تكون صالحة للمحاكمة، كما يقولون (ثبت العرش، ثم أنقش
إذاً لابد أن نحدد مقاييس ثابتة تكون هي مدار حجتنا وملزمة للطرفين، وعلى ما يبدو أننا يمكن أن نتفق على القرآن والسنة والعقل، رغم أن السُنة حجيتها ليست مكتملة، لأننا سوف نعتمد على مرويات مدرسة واحدة، وهم أهل السنة مع العلم، أن هناك مدارس أخرى لها مروياتها الخاصة، ولكن من أجل الوصول إلى الفائدة، يمكن أن نعتمد على مصادرهم.
استغرب الوهابي كثيراً من هذا الكلام، وهو لا يدري إلى أي طريق أسلك به، ولكنه وافق على ما قلت مع علمي الكامل أنه لا يلتزم به.
فقلت له: إذاً نبدأ البحث، وسوف ينحصر في التوحيد وصفات الله، ثم في الطريق الذي يجب أن
فأبتدأ الشيخ قائلاً: إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، وإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد، وعلى أهله، واصحابه أجمعين، وبعد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (افترقت اليهود، إلى إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى إلى اثنين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي إلى ثلاثة وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، فقيل ما هي يا رسول الله، قال ما كنت عليها أنا وأصحابي).
وقد بين الرسول (صلى الله عليه وسلم) بهذا الحديث إن الفرقة الناجية هي واحدة، وباقي الفرق كلها في ضلال، وإلى النار، وكما بين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن الفرقة الناجية، هي ما كان عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) واصحابه، وهذا بيان صريح من الرسول على أن الفرقة الناجية هم السلف الصالح، ومن تبع نهجهم، وهذا كافي لنا كمكلفين أن نتبع منهج
أما صفات الله سبحانه وتعالى، فعلى حسب قول الطائفة المحقة، إن هذه الصفات التي أخبر بها القرآن، نجريها كما جاءت من غير تأويل، فمثلاً قوله تعالى: (يد الله فوق أيديهم) فلا يمكن أن تؤول معنى اليد، وفي الوقت نفسه لا نثبت لها معنى خاص، فلا تقول إن يد الله تعني قدرته، لأنه لا دليل على ذلك، وإنما نثبت لله يداً من غير كيف، وهذا ما قال به السلف الصالح، فلم يُروى منهم على الإطلاق، رأي مخالف لما قلناه، وهذا دليل على صواب هذا الرأي، لأن السلف أقرب الناس إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأعلم الناس بالقرآن، وعدم اختلافهم دليل على صدق قولهم، أما الطوائف الأخرى فقد ذهبت بعيداً في آيات الصفات، فكل طائفة تؤولها على حسب
استفزتني هذه الكلمة، فقاطعته قائلاً:
ــ أولاً: إن الطائفة المحقة هم أهل السنة، لأنهم ساروا على منهج السلف، وذلك لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الفرقة الناجية (ما كنت عليه أنا وأصحابي)، فإن الموضوع أوسع من المدعي، وبصورة أخرى إن الصغرى غير تامة، فمن الذي يقول إن الذي عليه أنتم هو نفس ما كان عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه؟!!.
وكون أهل السنة هم الطائفة الوحيدة، التي جسدت ما كان عليه رسول الله وأصحابه، هذه مصادره من غير دليل. لأن كل الطوائف تدعي وصلاً بليلى.
أما كلامك في الصفات الإلهية، فيكتنفه نوع من الغموض، فما معنى أن نثبت لله ما أثبته لنفسه من غير كيف؟! فهذا التبرير لا يقبله صاحب عقل سليم، لأن الجهل بالكيفية، لا يغير عنوان القضية، وهو لا يتعدى أن يكون إبهامٌ وألغاز، لأن إثبات هذه الألفاظ، هو عين إثبات معانيها الحقيقية، وصرفها عن معناها الحقيقي هو عين التأويل الذي أنكرته، وإثبات المعنى الحقيقي لها لا ينسجم مع عدم الكيفية، لأن الألفاظ قائمة بمعانيها، والمعاني قائمة بالكيفية، وإجراء هذه الصفات بمعانيها المتعارفة هو عين التجسيم،
وإنما مشكلتكم هي التقليد في العقائد من غير تفكير، مع أن التقليد في باب العقائد لا يجوز، فإذا فكرت جيداً في ما نسبته للسلف، من قولهم (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعه) تجد أن هذا الكلام متهافت لأبعد الحدود، لأن الاستواء إذا كان معلوماً، فالكيف بالتالي يكون معلوماً، وإذا كان الكيف مجهولاً، فكذلك الاستواء يكون مجهولاً، ولا ينفصل عنه فالعلم بالاستواء، هو عين العلم بالكيفية، والعقل لا يفرق بين وصف الشيء، وبين كيفيته، لأنهما شيء واحد، فإذا قلت فلان جالس فعلمك بجلوسه، هو علمك بكيفيته، فعندما تقول الاستواء
قاطعني قائلاً: ماذا نفهم من هذا الكلام، هل تخالف السلف الصالح (رضوان الله عليهم)، وتؤول هذه الآيات.
قلت: أولاً إن مجرد نسبة هذه الأفكار إلى السلف، لا يكسبها قدسية يمنعها من النقاش.
ثانياً: إن السلف الذين تدعي إتباعهم، لم يقولوا ما قلت، بل كانوا يوجهون تلك الآيات القرآنية، التي جاءت في باب الصفات غير توجيهكم، وفي الواقع أن نسبة هذه الأفكار إلى ابن تيميه وابن عبد الوهاب أقرب وأصدق من نسبتها إلى السلف، وحتى تتأكد من ذلك، إرجع إلى أي تفسير من التفاسير المأثورة في باب الصفات، لتجد تأويلات السلف واضحة لهذه
جاء في تفسير الطبري، في تفسير قوله تعالى {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} (سورة البقرة: آية /255)، التي إعتبرها ابن تيميه من أعظم آيات الصفات، نجد أن الطبري يروي حديثين بإسناد إلى ابن عباس قال: أختلف أهل التأويل في معنى الكرسي، فقال بعضهم هو علم الله تعالى ذكره، وذكر من قال ذلك بإسناده، إن ابن عباس قال كرسيه علمه ـ ورواية أخرى بإسناده عن أبن عباس قال كرسيه علمه ألا ترى (ولا يؤده حفظهما)(1).
وفي تفسير الطبري نفسه، ينقل في تفسير قوله تعالى {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} يقول (اختلف أهل البحث في معنى قوله) وهو العلي العظيم، فقال بعضهم يعني بتلك هو عليٌّ عن النظير والأشباه، وأنكروا أن يكون معنى ذلك هو العلي: المكان: وقالوا غير جائز أن يخلو منه مكان، ولا يعني بوصفه بعلو المكان لأن ذلك وصف بأنه في مكان دون مكان.
____________
1- الحقيقة الضائعة ص282 نقلاً من تفسير الطبري ج3 ص927.
أستغفر الله ذنباً لست محصيه | رب العباد إليه الوجه والعمل |
وقال البغوي: إلا وجهه أي إلا هو، وقيل إلا ملكه.
قال أبو العالية: إلا ما أريد به وجهه(1).
وفي الدر المنثور للسيوطي عن أبن عباس قال: المعنى إلا ما يريد به وجهه.
وعن مجاهد: إلا ما أريد به وجهه.
وعن سفيان: إلا ما أريد به وجهه من الأعمال الصالحة.
هذا قول السلف، وأنا لم أخالف قولهم بل أنتم الذين تخالفونهم وتنسبون لهم ما ليس فيهم.
ثالثاً: نحن لا ندعو إلى التأويل في مثل هذه الآيات، فلا يجوز صرف ظاهر الكتاب والسنة بحجة أنها تخالف العقل فلا يوجد في القرآن والسنة ما يخالف العقل، وما يتبادر من الظاهر أنه مخالف ليس
____________
1- الحقيقة الضائعة ص383.