الصفحة 85
وهنا تثور أكبر المشكلات وهي: كيف يمكن تذكر أقوال صدرت من صاحب الرسالة قبل 95 عاما!!؟ كيف يمكن نقل هذه الأقوال باللفظ والمعنى معا؟!! يتعذر عمليا ذلك!! بل ويستحيل، لكن حملة التذكر والتدوين تدعمها السلطة نفسها، ومن المستحيل أن تتوقف، لأن قرار السلطة بالتدوين قد صدر، وتغلب الناس على سنة المنع التي دامت 95 عاما.

10 - كيف سد قادة التاريخ السياسي الفراغ الحقوقي

من المسلمات أن المنظومة الحقوقية الإلهية تتكون من مقطعين: كتاب الله المنزل.

ونبي الله المرسل بذاته وقوله وفعله وتقريره.

وهنا يثور سؤال كبيرة: كيف أمكن تطبيق الشرع الإسلامي بشقيه هذين في غياب أحاديث النبي؟ ألم يشعر الخلفاء بالفراغ القانوني؟ كيف أمكنهم وضع قواعد حقوقية بدلا من القواعد القولية النبوية؟ خاصة مع حالة الإبعاد التي فرضوها على آل محمد، فغاب الآل الكرام عن مسرح الحياة السياسية عمليا.

ولكن التعجب يزول، وحدة التساؤلات تخف إذا أدركنا أن الخليفة هو القائم مقام النبي من الناحية الفعلية، فما يقوله الخليفة نافذ سياسيا وحقوقيا! إن ولاية العهد شرعت ووضعت موضوع التنفيذ رسميا وأصبحت شرعية بفعل أبي بكر وعمر، فالسلطة طوال التاريخ أنكرت أن رسول الله قد عهد لأحد، ولكن الذي جعل ولاية العهد مشروعة هو فعل أبي بكر عندما عهد لعمر، وفعل عمر عندما عهد عمليا لعثمان، ثم أصبح العهد عملا شرعيا بسبب فعل هذين الخليفتين!

قال ابن خلدون في مقدمته صفحة 177: إن الإمام الخليفة ينظر للناس في حال حياته، وتبع ذلك أن ينظر لهم بعد وفاته، ويقيم لهم من يتولى أمرهم... إلخ. لكن ابن خلدون لا يبين لنا لماذا لم ينظر رسول الله للناس بعد وفاته، ولم يقم لهم من يتولى أمرهم؟!!!


الصفحة 86
ولقد أدركت السلطة وشيعتها خطورة مثل هذه التساؤلات فدعمت فعل الخلفاء بما سمي إجماعا. وعهد أبو بكر لعمر أمام الصحابة ولم يعترض عليه أحد، بمعنى أن فعل أبي بكر يسنده الإجماع، علاوة على حقه الثابت بأن يقيم للناس من يتولى أمره، فمن يشك بهذا الحق فإن الإجماع يدخله اليقين، وقول الرسول حق: لا تجتمع أمتي على ضلالة ويد الله مع الجماعة... إلخ.

وسترى أن بإمكان الخليفة أن يبين القرآن، وأن يضع هذا البيان موضع التطبيق بغض النظر عن كون هذا البيان قائما على الظن والتخمين أو الجزم واليقين، بل وبإمكانه أن يعمل عكس ما عمل الرسول، فإذا وزع الرسول بين الناس بالتساوي، فبإمكان الخليفة أن يعطي الناس حسب منازلهم لا بالتساوي، وإذا حدد القرآن وجوه صرف الصدقات فبإمكان الخليفة أن يلغي وجها من هذه الوجوه، كما فعل الفاروق حيث ألغى نهائيا سهم المؤلفة قلوبهم، بحجة أن الله أعز دينه ولا حاجة لتأليف القلوب بالمال... إلخ. فمن هذه الناحية وأمام قدرة الخليفة على التصرف والإبداع، فلن يكون هنالك فراغ حقوقي أو قانوني.

ولكن مع ذلك وبالضرورة ستحدث تصرفات، أو أفعال، أو حالات تحتاج للحكم الشرعي، فإذا عرف أولو الأمر الحكم الشرعي حكموا به، وإن لم يعرفوا فإن الأحداث لن تتوقف حتى يعرفوا الحكم الشرعي، فبالضرورة أيضا لا بد من حكم يتصدى لهذه الحادثة أو تلك، فيصبح لزاما على أولي الأمر وشيعتهم أن يجدوا حكما ما، وطالما أنهم لم يهتدوا إلى الحكم الشرعي الإلهي، فلا بديل أمامهم من خيارين:

1 - إما أن يرجعوا إلى علي بن أبي طالب بوصفه (مدينة العلم اللدني) وبوصفه (وليهم وولي كل مؤمن ومؤمنة) ورجوعهم إليه لمعرفة الحكم الشرعي تأكيد لحقه بالولاية، وهز من الأعماق لنظام الدولة وهذا ما لا يقبله حاكم عاقل ولا يرضاه لأمره، لأنه لو فعل ذلك لسحب بساط الشرعية من تحت أقدامه!


الصفحة 87
2 - أو أن يعملوا بالرأي حسب مبلغهم من العلم بروح الشريعة. وقد سموا العمل بالرأي تأويلا، ثم سموه اجتهادا، وبقدرة قادر صار العمل بالرأي مصدرا من مصادر الشريعة!

11 - اثنان من علماء الأردن

الأستاذ فتحي الدريني عالم جليل، كتب سلسلة من المقالات انتهى فيها إلى أن الاجتهاد فرض تكافلي، فتصديت بمقال نشرته جريدة اللواء الغراء الأردنية بعددها رقم 1018 بعنوان (مداخلة في ما أسماه الدريني بفرض الاجتهاد) وانتظرت، وطال انتظاري، فأحجم فضيلته عن الرد.

وبعد طول انتظار كتب معالي الأستاذ رائف نجم مقالا عن الاجتهاد لم يخرج فيه عن ما ذكره الدريني، والأستاذ النجم وزير أوقاف أردني سابق، ومن المحسوبين على علماء الإسلام، فتصديت لمعاليه وكتبت مقالا نشرته جريدة اللواء الأردنية بعددها رقم 1026، وطال انتظارنا ولم يرد معاليه، وفسرنا أن سكوتهم في معرض الحاجة إلى البيان، بيان وزيادة في الفائدة، وتكملة للموضوع أضع بين يدي عشاق الحقيقة النص الحرفي لمقالينا. بعد ذلك سيعرف طالبوا الحقائق أية أوهام يتمسك بها علماء شيعة السلطة، ويتضح كيف أمكن سد الفراغ القانوني بالرأي.

12 - المقال الأول مداخلة في ما أسماه الدريني بفرض الاجتهاد

إن لم تخني الذاكرة فالأستاذ الفاضل الدكتور محمد الدريني أحد أساتذتي ومشايخي الكرام، فقد تتلمذت على يديه قبل أكثر من عشرين عاما في جامعة دمشق، وحديثا على صفحات جريدة اللواء الغراء قرأت له الكثير من حلقات بحوثه المتعمقة، والتي يتابعها بإصرار.


الصفحة 88

أسباب المداخلة

وأخيرا قرأت مقالة أستاذي الفاضل في عدد اللواء الغراء الصادر بتاريخ 28 / 10 / 93

والتي تناولت ما أسماه بفرض الاجتهاد، ومع عميق تقديري لمنهجية الأستاذ بالبحث، وترتيب الأفكار، مع كرم الجمل إلا أن لي ملاحظات جوهرية غالبتني فغلبتني، ولو اهتديت لعنوانه لهاتفته، ووضعت تلك الملاحظات بين يديه لعله يستفيد منها إذا ما لاح له على بصيص نورها أن يعدل من رؤيته حول هذا الموضوع.

وقد جمعت - بتشديد الميم - هذه الملاحظات على عجل من مؤلفات علماء مدرسة أهل البيت الكرام، ومن علماء مدرسة الخلفاء. وها أنا أضعها بين يديك وتحت تصرف القراء الكرام لغايات محددة وهي الوقوف على المقصود الشرعي.

معنى الاجتهاد لغة

قال ابن الأثير تحت مادة جهد: الإجتهاد بذل الجهد في طلب لأمر، وهو افتعال من الجهد لطاقة، وقال أبو حامد الغزالي: الإجتهاد هو عبارة عن بذل جهد، واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال، ولا يستعمل إلا في ما له كلفة وجهد. راجع المستصفى من أصول الفقه مجلد 2 صفحة 101، والأحكام للآمدي مجلد 4 صفحة 141.

معنى الاجتهاد في الشرع الحنيف

معنى الاجتهاد شرعا هو عين المعنى اللغوي فقد ورد عن رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله... (أما السجود فاجتهدوا بالدعاء الجامع) صحيح مسلم كتاب الصلاة مجلد 207، ومسند أحمد مجلد 1 صفحة 219 وقوله (صلوا علي واجتهدوا بالدعاء). راجع سنن النسائي مجلد 1 صفحة 190 باب الأمر بالصلاة على النبي، ومسند أحمد صفحة 199 وقوله (فضل العالم على المجتهد ماءة درجة). راجع سنن الدارمي مجلد 1 صفحة 100... إلخ.

خلاصة معنى الاجتهاد في اللغة والشريعة

يلاحظ أستاذي الكريم أنه طوال عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بل وحتى بعد وفاته، وامتدادا حتى آخر القرن الأول الهجري كان الاجتهاد يعني بذل الجهد عموما واستفراغه، ولا

الصفحة 89
يخفى على مثلكم أن عهد النبي الزاهر هو عهد التشريع فإذا كان الأمر كذلك، فمن الذي جعل الاجتهاد فريضة؟

ولو تركنا التقليد جانبا لوجدنا أن الاجتهاد في اصطلاح المسلمين هو الذي فرض الاجتهاد، حيث صار لفظ الاجتهاد في عرف العلماء مخصوصا ببذل المجتهد وسعة في طلب العلم بأحكام الشريعة، كما ذكر أبو حامد الغزالي في المستصفى، والآمدي في الأحكام مجلد 4 صفحة 141، وقد شاع هذا الاصطلاح لدى علماء مدرسة أهل البيت الكرام بعد القرن الخامس، كما ورد في كتاب مبادئ الأصول للعلامة الحلي.

انعدام الحاجة إلى الاجتهاد

مثل أستاذي الكريم يعلم علم اليقين أن الله تبارك وتعالى قد أنزل القرآن تبيانا لكل شئ على الإطلاق، وإذا كنا لم نلمس ذلك فلأن تغطية القرآن بالبيان لكل شئ عملية فنية تماما، فبالرغم من تبحرك في علوم معينة إلا أنك لا تستطيع أن تجري جراحة للعين، ومن هنا اقتضت حكمته تعالى وجود (عبد) ليبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم، ولينقل الكتاب من الكلمة إلى الحركة، ومن النظر إلى التطبيق، نقلا قائما على الجزم واليقين لا على الفرض والتخمين.

وبالفعل قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه العملية عبر دعوة قادها بنفسه، ومن خلال دولة ترأسها بنفسه. وبعد أن تم ذلك أعلن الله كمال الدين وتمام النعمة، ولأن عملية البيان مستمرة إلى يوم القيامة عين الله مرجعية فردية، ومرجعية جماعية تساعد المرجعية الفردية، وأمر الناس باتباع المرجعية الفردية المختصة بالبيان، وأمر المرجعية الجماعية بمساعدة المرجعية الفردية، ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى.

ومن هنا يتبين لأستاذي الفاضل أن الإسلام يتلخص شكلا ومضمونا بكلمتين كتاب الله المنزل، وبيان النبي لهذا الكتاب. والقياس الموضوعي لمعرفة المتقيدين بالإسلام هو الموالاة، فلو زعم زاعم أنه مؤمن بالقرآن، ومتبع لبيان النبي، ولكنه لا يريد أن يوالي النبي فزعمه مردود عليه.


الصفحة 90

والخلاصة

أن عهد النبي عهد جزم ويقين، لا فرض وتخمين. وإن كتاب الله، وبيان رسوله غطيا ساحة كل شئ، والرسول نفسه لا ينطق عن الهوى، وقد عصمه الله. بينما الاجتهاد قائم على الفرض والتخمين، والمجتهد يخطئ ويصيب، وهذا غير وارد في حقه (صلى الله عليه وآله وسلم).

أسباب ظهور الاجتهاد

والنبي على فراش الموت أراد أن يلخص الموقف لأصحابه، وأن يؤمنهم ضد الضلالة تأمينا شاملا فاجتهد بعض الصحابة، وقالوا: إن القرآن وحده يكفيهم، وأنهم ليسوا بحاجة لهذا التأمين. وهكذا فصل الكتاب عن البيان، ولو كان هذا الفصل منتجا لما كان هنالك داع لابتعاث الرسل، ولسد مسدهم نسخ من الكتب السماوية ترسل بطريقة ما إلى المكلفين، هذا الفصل استدعى وجود مؤسسة للبيان فكان الاجتهاد، والحاكم هو الذي ينظر، فيختار منها ما يريد، والحاكم على الغالب كان هو الغالب بغض النظر عن دينه، أو علمه، أو سابقته!

وحادثة الحيلولة بين النبي وبين كتابة ما أراد من الوضوح، والثبات، والتواتر بحيث لا يقوى أستاذي الفاضل على إنكارها، فضلا عن الاعتذار عنها، وقد رواها أصحاب الصحاح.

تعميق مؤسسة الاجتهاد

وتعمقت مؤسسة الاجتهاد يوم أن أعلن رسميا منع الحديث عن الرسول، وأن القرآن وحده يكفي. فقد ذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ بترجمة أبي بكر (رضي الله عنه) مجلد 1 صفحة 2 - 3 أن أبا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيهم، فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلوا حلاله، وحرموا حرامه!


الصفحة 91
وسار الفاروق (رضي الله عنه) على هذه السياسة، فقد روى ابن سعد في طبقاته أن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب، فأنشد الناس أن يأتوه بها، فلما أتوه بها أمر بتمزيقها. راجع مجلد 5 صفحة 140 من طبقات ابن سعد بترجمة القاسم بن محمد بين أبي بكر، وروى الذهبي في تذكرة الحفاظ مجلد 1 صفحة 7 ترجمة عمر أن عمر (رضي الله عنه) حبس ثلاثة لأنهم أكثروا الحديث عن رسول الله.

ويجدر بالذكر أن قريشا كانت تنهى عن كتابة أحاديث رسول الله حتى وهو حي، كما روى عبد الله بن عمرو بن العاص، وجاء عثمان (رضي الله عنه) فسلك نفس النهج حيث صعد على المنبر وقال: لا يحل لأحد يروي حديثا لم يسمع به في عهد أبي بكر، ولا في عهد عمر، راجع منتخب الكنز بهامش مسند الإمام أحمد مجلد 4 صفحة 64

ولا يخفى على أستاذي الفاضل بأن أول من دون الحديث رسميا، هو ابن شهاب الزهري بأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز.

التأويل هو الغطاء الذي أضفى على الاجتهاد ثم اختفى التأويل، وورثه الاجتهاد وحتى لا يطول بنا المقام أتمنى على أستاذي الكريم أن يقرأ في لسان العرب مادة أول، ومادة أول في الصحاح، ومادة أول في نهاية اللغة لابن الأثير، وأن يراجع صحيح البخاري كتاب الآداب - باب من أكفر أخاه من غير تأويل، على هامش فتح الباري مجلد 13 صفحة 129 - 130 وأن يطلع على شرح باب ما جاء في المتأولين من فتح الباري، عندهما سيتقن أستاذي الكريم أن التأويل سابق بوجوده للاجتهاد، وسيلاحظ القاعدة التي وضعوها، قال العلماء: كل متأول معذور بتأويله وليس بآثم، إذا كان تأويله سائغا في لسان العرب، وكان له وجه في العلم.

النتائج المذهلة للاجتهاد

القاتل في الجنة، والمقتول في الجنة كلاهما على حق! قال ابن حزم في الفصل مجلد 4 صفحة 161 عمار بن ياسر قتله أبو الفادية، فأبو الفادية الذي قتل عمارا متأول مجتهد مأجور أجرا واحدا!


الصفحة 92
وقال ابن حجر في الإصابة مجلد 4 صفحة 151 في ترجمة أبي الفادية: قاتل عمار والظن بالصحابة في كل تلك الحروب أنهم كانوا متأولين، وللمجتهد المخطئ أجر!

وقال ابن حزم في المحلى وابن التركماني في الجوهر النقي: ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن عبد الرحمن بن ملجم قاتل الإمام علي لم يقتل عليا إلا متأولا مجتهدا! مع أن ابن ملجم هذا ليس من الصحابة، ووفق هذا الخريج فإن قاتل الإمام علي مأجور أجرا واحدا!

وفي هامش الصواعق المحرقة صفحة 206 قال الشيخ عبد اللطيف: المقاتل مع علي، أو عليه، أو المعتزل لا يخرج بما وقع منه عن العدالة!

وقال ابن كثير في تاريخه مجلد 8 صفحة 228 ما ملخصه: أن يزيد تأول فأخطأ! مع أن يزيد هذا هدم الكعبة المشرفة، وأباد الذرية المباركة!

وقال ابن تيمية عن معاوية: إنه كعلي بن أبي طالب في ذلك، أي مجتهد! راجع منهاج السنة مجلد 3 صفحة 261 و 275 و 366 و 284 و 286 و 290

وقال ابن كثير: معاوية مجتهد مأجور إن شاء الله! راجع تاريخ ابن كثير مجلد 7 صفحة 279... إلخ.

وغيرها من مئات الاجتهاد التي تضيق بها المجلدات.

معالم على طريق البحث

لا يخفى على أستاذي الكريم أنه كان في تاريخ هذه لأمة حكم وحكام قد تغلبوا، وطالت أزمان غلبتهم، وأصبحت الغلبة هي السند الشرعي لوجودهم، بحكم الاجتهاد، فشايعتهم أكثرية الأمة، وابتغت مرضاتهم رغبة أو رهبة، فبررت فعلهم بحكم الغلبة والتبعية، وبحكم الاجتهاد، ونتيجة ذلك كله: تكونت رؤى وتأويلات واجتهادات استقرت بحكم التكرار، وزينة الإعلام، وضغط الحادثات التاريخية، ولاحت تلك الرؤى والتأويلات كأنها جزء من المنظومة الحقوقية الإلهية، وقد سخر الحكام ومن شايعهم كل وسائل الإعلام الرسمية لترسيخها وإثباتها، فتقبلناها بعد مئات السنين بقبول حسن، لأنها من تركة الغالب الذي قهر كل خصومة!


الصفحة 93
وواكب ذلك بالضرورة وجود معارضة لهذا التيار الهادر بغض النظر عن قلتها أو كثرتها، وكانت محجمة بالضرورة، لأن زورقها يجري ضد التيار العام والتلميح عن ذلك يغني أستاذي الفاضل عن التصريح وأخطر ما يتعرض له الباحث عن الحقيقة هو الركون التام لأحد هذين الموردين، فلا بد من أخذ وجهة نظر كل منهما بحذر، وعناية، ودقة، وموضوعية تامة في كل مسألة من المسائل، تمهيدا لتكوين رؤية علمية عامة، ودقيقة، ومتكاملة. وبعد ذلك وزنهما بميزان الشرع الحنيف بمعناه الدقيق تمهيدا لاستجلاء كليات وتفاصيل تغطية البيان الإلهي لكل شئ وعلى الإطلاق.

ما لا بد منه

حتى لا نبحث عن الحلقة في صحراء، أو عن النجم في سماء، لا بد من البحث عن المرجعية لأنها توفر بتوجيهاتها عناء البحث عن هذه الحلقة، وترشد مسيرة العقل البشري، وتدلنا على أقصر الطرق للوقوف على الحقيقة المجردة، وتقدم لنا كل ذلك أجوبة قائمة على الجزم واليقين، ويكفي مؤسسة المرجعية شرفا أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) كان هو المرجعية الأولى في الإسلام، وقد لا يخفى على أستاذي الكريم أن أسباب فرقة الأمة تكمن في تعدد المرجعيات، وتعدد اجتهاداتها القائمة على الفرض والتخمين. وهذا موضوع لطول غربته يتصوره العلماء العرب مع خطورته كأنه ضرب من الأوهام.

استنفار

وأستاذي الكريم بحكم تعدد شهاداته العلمية، وبحكم تفرغه للبحث والدراسة والتدريس، وبحكم إصراره على ذلك، ومتابعته له مؤهل لبحث هذا الموضوع تفصيلا بسلسلة من الحلقات يحدد إطارها العام، وتأخذ شكل المداخلات مع حوار متحضر منتظم يستفيد منه العامة والخاصة، واللواء برئاستها الجليلة المتبصرة لن تضيق بذلك بل ستفتح صدرها الرحيب له، وترضعه من أثدائها الدارة، وتحشد لإنجاحه صفوة العلماء.


الصفحة 94
وبالختام أعبر عن عاطر تقديري، وأخفض جناحي لأستاذي الكريم، والحمد لله أولا وآخرا والصلاة والسلام على النبي وآله.

13 - المقال الثاني الاجتهاد بين الاختلاف والائتلاف

الاجتهاد عند الدريني ونجم قبل أسابيع قرأت في جريدة اللواء الغراء مقالا للأستاذ فتحي الدريني رأى فيه أن الاجتهاد فرض وضرورة فتح أبواب الفرج والائتلاف على المسلمين، ورددت عليه بمقال قلت له فيه قولا لينا، لعله يبين لنا كيف أصبح الاجتهاد فرضا، ومن الذي فرضه، ومتى فرض، وقدمنا بين يديه معنى الاجتهاد لغة، ومعناه اصطلاحا، ولمحنا له بأن المنظومة الحقوقية الإلهية غطت ببيانها مساحة كل شئ، تبيانا لكل شئ، ووثقنا المعنيين بالمراجع اللغوية التي تثبت صحة ما ذهبنا إليه. ولم أكتف بذلك، إنما سقت من النصوص الشرعية ما يؤكد وحدة المعنيين اللغوي والاصطلاحي، وأثبت أن اصطلاح الاجتهاد بالمعنى المتعارف عليه بين علماء المسلمين لا سند له ولا أساس له في الشرع الحنيف، وبالتالي فإن الاجتهاد هو بعينه الذي فرض اصطلاح الاجتهاد.

وبعدد جريدة اللواء الغراء الصادر بتاريخ 23 / 12 / 1992 وعلى الصفحة الرابعة منها قرأت مقال معالي الأستاذ رائف نجم حول الاجتهاد، ومعاليه أشهر من أن يعرف، فقد استوزر أكثر من مرة، وكان في إحدى المرات وزيرا للأوقاف، تلك الوزارة التي أخذت على عاتقها - وبدون تفويض قانوني - مهمة قيادة الفكر الإسلامي وترشيده، ثم أصبحت هذه المهمة حقا مكتسبا لها من دون الناس.

وأخلص إلى القول أن رأي الأستاذ نجم يمثل بالموازين الرسمية أعلى مراتب الفكر الإسلامي في الأردن، مما يجعل للحوار معه نكهة خاصة ذات معنى وفائدة وشمولية، وهو يدعو إلى سعة الصدر والاتساع بالرأي المخالف، ويرى أن الاجتهاد ضرورة لتقارب الحركات الإسلامية... إلخ.


الصفحة 95

أمنية قد لا تتحقق

تمنيت على الأستاذ الدريني لو فتح لنا مغاليق علمه ينتفع الناس بهذا العلم، وليقودهم كما يفعل قادة الفكر، إلى الحقائق الشرعية المجردة، ولكن الدريني أطال الله بقاءه صمت، وطال صمته، حتى ساورتنا الظنون على صحته الغالية، وقد تأكدنا أنها بالكمال والتمام، فلاح لنا أنه يبحث ويدقق ويحقق بالمراجع التي أشرنا إليها...

وأرجو أن لا يطول صمته وأن يخرج علينا، ويضع النقاط على الحروف، فيتحرك مع معالي الأستاذ النجم الذي أعلن الحاجة إلى بحث هذا الموضوع والحوار فيه... إلخ.

حجة معاليه حول شرعية الاجتهاد

يقول الأستاذ النجم بالحرف: وإنني أورد الحقائق التالية التي تثبت ضرورة الاجتهاد... ثم أورد الحديث عن معاذ بن جبل عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) عندما بعثه إلى اليمن...

ونسب فيه إلى النبي أنه سأله كيف تقضي قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال معاذ: أجتهد برأيي، قال النبي: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله...

نسي الأستاذ النجم أن يكرر (رسول) مرة ثانية ثم ذكر الآية الكريمة: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ثم أورد تأكيدات أصحاب المذاهب الأربعة بأن العبرة كتاب الله وسنة رسوله وأنهم بشر، وهذا مبلغهم من العلم، وأنهم نهوا عن التقليد... إلخ.

هذه الأمور برأي معاليه تشكل مستندا شرعيا للاجتهاد، وأتمنى لو يتذكر معاليه أية مستندات شرعية أخرى حتى يكون ردي شاملا.

نسف الحديث

في الإحكام لابن حزم مجلد 5 صفحة 763 - 775 مطبعة العاصمة بالقاهرة ناقش ابن حزم موضوع الاجتهاد ثم قال: وأما خبر معاذ، أي الحديث الذي احتج به معالي

الصفحة 96
النجم، فإنه لا يحل الاحتجاج به لسقوطه، وذلك أنه لم يرو قط إلا من طريق الحارث بن عمرو، والحارث هذا مجهول لم يرو أحد من هو، وقال البخاري في تاريخه الأوسط:

ولا يعرف الحارث إلا بهذا الحديث ولا يصح، ثم إن الحارث هذا روى عن رجال من أهل حمص لا يدري من هم، ثم إنه لم يعرف قط في عصر الصحابة ولا ذكره أحد منهم، ثم إنه لم يعرف في عصر التابعين حتى أدخله أبو عون وحده فيمن لا يدري من هو، فلما وجده أصحاب الرأي عند شعبة طاروا به كل مطار وأشاعوه في الدنيا وهو باطل لا أصل له.

وقال ابن حزم: وبرهان وضع هذا الخبر وبطلانه هو أن من الباطل الممتنع أن يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فإن لم تجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله، وهو يسمع قول ربه تعالى (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) وقوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم) وقوله تعالى (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) مع الثابت عنه عليه السلام من تحريم القول بالرأي في الدين... إنتهى كلام ابن حزم.

وأضيف على ما قاله ابن حزم: ومن الممتنع عقلا أن يصدر هذا عن رسول الله وهو يسمع قوله تعالى (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) 89 النحل، ويسمع قوله تعالى (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) الجاثية آية 18.

وبالرغم من أن رواة هذا الحديث نكرات، ولا وجود لهم على الإطلاق، وبالرغم من أن الحديث موضوع، وباطل ومخالف لكتاب الله وسنة رسوله، لكنه يدرس في المدارس والجامعات الأردنية والعربية، لأنه يخدم ما تهوى الأنفس.

والآية لا تنجد معاليه

والآية الكريمة التي استشهد بها معالي الأستاذ لا علاقة لها بالاجتهاد لا من قريب ولا من بعيد، فقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر

الصفحة 97
ذلك خير وأحسن تأويلا) هذه الآية الكريمة لا علاقة لها بالاجتهاد لا من قريب ولا من بعيد، بل وتفيد عدم ضرورته وعدم جدواه، فعندما يقع التنازع يرجع المتنازعون للحكم الشرعي المبين في كتاب الله الذي أوجد حكما لكل شئ على الإطلاق، وتولى الرسول بيان هذا الكتاب، ونقله من النظر إلى التطبيق ومن الكلمة إلى الحركة.

فالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله وهي المنهج الفرد لحل الخلافات وسيادة الشرعية أو ما يسمى بمبدأ سيادة القانون.

اشتباه على معاليه

ربما تصور الأستاذ الكريم أن أولي الأمر هم المجتهدون، وأنهم هم أهل الذكر، وهذا تصور لا يسعفه إلا الاجتهاد، فأولو الأمر هم أهل البيت الكرام وإن كنت في شك مما ذكرنا فيمكنك الرجوع إلى تفسير هذه الآية في ينابيع المودة للقندوزي الحنفي صفحة 134 و 137 المطبعة الحيدرية وصفحة 114 و 117 مطبعة إسلامبول وشواهد التنزيل للحاكم الحنفي مجلد 1 صفحة 148 حديث 202، 203، 204 وتفسير الرازي مجلد 3 صفحة 357 وإحقاق الحق للتستري مجلد 2 صفحة 424 وفرائد السمطين مجلد 1 صفحة 314 مجلد 25 وهذا كله على سبيل المثال، وإن أردت الزيادة زدناك بسخاء.

أما أهل الذكر فهم أهل البيت الكرام أيضا وليتأكد معاليكم يمكن التلطف بمراجعة شواهد التنزيل للحاكم الحنفي مجلد 1 حديث 459 و 460 و 464 و 465 و 466 وينابيع المودة للقندوزي الحنفي صفحة 51 و 140 المطبعة الحيدرية وصفحة 46 و 119 مطبعة إسلامبول وتفسير القرطبي مجلد 11 صفحة 272 وتفسير الطبري مجلد 14 صفحة 109 وتفسير ابن كثير مجلد 2 صفحة 570 وروح المعاني للآلوسي مجلد 14 صفحة 134 وإحقاق الحق للتستري مجلد 2 صفحة 482... هذا على سبيل المثال أيضا.

وما يؤكد أنهم أولو الأمر، وأهل الذكر أن الهداية لا تدرك بعد النبي إلا بالقرآن وبهم معا، وأن الضلالة لا يمكن تجنبها إلا بالقرآن وبهم معا، فهم أحد الثقلين بالنص، وإن كنت في شك من ذلك فارجع مشكورا إلى صحيح الترمذي مجلد 5 صفحة 328


الصفحة 98
حديث 3874 وجامع الأصول لابن الأثير مجلد 1 صفحة 187 حديث 65 والمعجم الكبير للطبراني صفحة 137 ومشكاة المصابيح مجلد 2 صفحة 258 وإحياء الميت للسيوطي بهامش الإتحاف صفحة 114 والفتح الكبير للنبهاني مجلد 1 صفحة 503 ومجلد 3 صفحة 385 والصواعق المحرقة لابن حجر صفحة 147 و 226 والمعجم الصغير للطبراني مجلد 1 صفحة 135 ومقتل الحسين للخوارزمي مجلد 1 صفحة 104 والطبقات الكبرى لابن سعد مجلد 2 صفحة 194، وخصائص النسائي صفحة 21

ومجمع الزوائد للهيثمي مجلد 5 صفحة 195... ولولا الرغبة بالاختصار لذكرت لك 192 مرجعا.

لا ضرورة للاجتهاد في الإسلام

فالثابت يقينا أن الله قد أنزل الكتاب تبيانا لكل شئ بدليل قوله مخاطبا نبيه (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) والمقصود بكل شئ كل شئ على الإطلاق، والثابت يقينا أن الله قد أكمل الدين وأتم النعمة على المسلمين، والثابت يقينا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة وبين القرآن كله ونقله من النظر إلى التطبيق، ومن الكلمة إلى الحركة بالتصوير الفئي البطئ صوتا وصورة وحركة عبر دعوة قادها بنفسه ومن خلال دولة ترأسها بنفسه، فبيان القرآن هو المهمة الأولى للنبي.

وباختصار فإنه لا خلاف بيني وبينك بأنه لا ضرورة للاجتهاد في عصر النبوة لأن الإسلام - والله المثل الأعلى - بمثابة صيدلية كبرى، تحوي دواء لكل داء على الإطلاق، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) القائم علينا، فهو بفضل الله عليه يشخص تشخيصا يقينا كل داء ويصف وصفا دقيقا قائما على الجزم واليقين كل دواء، أو إن شئت فقل: المنظومة الحقوقية الإلهية، غطت بالكامل مساحة كل شئ، الأهداف العامة والخاصة، ووسائل بلوغ هذه الأهداف وأحاطت بالماضي وتمكنت من الحاضر ورسمت صورة يقينية للمستقبل، فهي كاملة وشاملة ولا تقصير فيها أبدا.


الصفحة 99
وآية ذلك أن مجموعة التشريعات النافذة في الأردن تغطي بالكامل حاجة الأردن كمجتمع وكدولة من الأحكام، فما من قضية على الإطلاق تعرض في محاكم الأردن إلا ولها حكم قانوني، وما من تصرف يقوم به الشخص سواء أكان طبيعيا أو اعتباريا إلا وله حكم في القانون، وكذلك الأمر في كل الدول العربية، ودول العالم الثالث، والدول الكبرى، وأي دولة في العالم كله على الإطلاق، مع أن هذه التشريعات وضعية ومن صنع البشر، والقضاة والحكام لا يحتاجون للاجتهاد إلى ملكات خاصة وقدرة فنية معينة، فهل معنى ذلك أن التشريعات الوضعية أكثر شمولية وكمالا من التشريع الإلهي؟

كيف نشأ الاجتهاد

كانت مهمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منحصرة ببيان القرآن، وتكوين قيادة سياسية مثلى وأمة مثلى تضع تحت تصرف الجنس البشري نموذجا أمثل للحكم الإلهي، وتسعى هذه القيادة ومن ورائها الأمة لتعميم هذا النموذج على الجنس البشري كله، وعبر دعوة دامت 13 عاما قادها النبي بنفسه، تمخضت عن دولة ترأسها النبي بنفسه ودامت عشرة سنوات ونقل الإسلام من الكلمة إلى الحركة.

وانتهت مهمة النبي بعد أن بين كتاب الله، ووضع تحت تصرف الجنس المنظومة الحقوقية الإلهية كاملة غير منقوصة، وهي تتكون من مقطعين: نبي الله بذاته، وقوله، وفعله وتقريره. وكتاب الله المنزل عليه. وكل شئ على الإطلاق مبين، ومضبوط، ومحدد تحديدا دقيقا، وهذه المنظومة هي بمثابة القوانين النافذة في المجتمع، ولأن عملية بيان القرآن واستخراج الأحكام وتطبيقها عمليات فنية واختصاص، فقد عين النبي بأمر من ربه هذه الجهة المختصة بالبيان واستخراج الأحكام وتطبيقها، وقدمها للأمة على أنها الأفضل، والأعلم، والأفهم بالمقاصد الشرعية والأخلص لدين الله، والأرأف بخلق الله، وتلك أمور خفية لا يعلمها إلا الله، وحتى لا يساور العباد شك، فقد جعل الصلاة على هذه الفئة جزءا من الصلاة المفروضة، فلا تقبل صلاة مسلم

الصفحة 100
على الإطلاق ما لم يصل على هذه الفئة في كل صلاة، ونعني بهم آل البيت الكرام:.

فبيان آل البيت، واستخراجهم للأحكام، وتطبيقهم لها قائم على الجزم واليقين.

ولكن هذا الضبط والتحديد والاختصاص يتعارض بالكامل مع الصيغة السياسية الجاهلية التي سكنت واستقرت في النفس العربية قبل الإسلام، والقائمة أصلا على اقتسام مناصب الشرف بين القبائل، فإذا كانت النبوة الهاشمية قدر لا مفر منه ولا محيد عنه، فلا ينبغي أن تكون القيادة الهاشمية والمرجعية الهاشمية للأمة بعد النبي قدرا أيضا، ونتيجة هذا التأثير والتفكير تم استبدال هذه المرجعية الشرعية بديلة تتوفر فيها كل صفات التقوى والفلاح ولكنها باختصار غير مختصة.

وإن كان معاليكم بشك من هذا يمكنه مشكورا مراجعة الكامل في التاريخ لابن الأثير مجلد 3 صفحة 24 وشرح النهج لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد مجلد 3 صفحة 107

وقد أخرجه الإمام أحمد أبو الفضل ابن أبي الطاهر في تاريخ بغداد ومجلد 2 صفحة 67 من شرح النهج ومجلد 2 صفحة 253 - 254 من مروج الذهب للمسعودي وكتابنا المرجعية السياسية في الإسلام طبعة بيروت صفحة 278 - 279... إلخ.

وكان هذا التبديل أول ثمرات الاجتهاد. ودار الزمان دورته وانتقل الأتقياء إلى جوار ربهم فآلت القيادة والمرجعية للغالب! فالغالب هو الذي يبين الدين ويستخرج الأحكام ويطبقها وينظر باجتهادات المجتهدين فيعتمد ما شاء منها.

فالغالب هو المرجع بغض النظر عن دينه أو علمه أو تقواه أو فسوقه. وإن كنت في شك من هذا فاقرأ - مشكورا - على سبيل المثال الأحكام السلطانية صفحة 7 - 11

لقاضي القضاة أبو يعلى حيث تجد فيه بالحرف: من غلب بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين، لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت، ولا يراه إماما برا كان أم فاجرا...

وقال في الإمام يخرج عليه من يطلب الملك فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم:

تكون الجمعة مع من غلب.


الصفحة 101
وقال النووي في مجلد 12 صفحة 229 في شرحه على مسلم وسنن البيهقي مجلد 8 صفحة 158 - 159: قال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: لا ينعزل الإمام بالفسق والظلم وتعطيل الحدود ولا يجوز الخروج عليه بذلك بل تجب طاعته،... والخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كان فسقة ظالمين، انتهى قول النووي والبيهقي.

هذه ثمرة من ثمرات الاجتهاد مع وجود النص، لأن هذا الغالب لا يعرف النص أو لا يتلاءم النص مع ما تهوى نفسه، لذلك فإنه يلجأ إلى القول بالرأي أو الاجتهاد.

أول اجتهاد في التاريخ الإسلامي في بيت النبي والنبي الكريم في بيته مريضا يجلس على فراش الموت، وجبريل الأمين لا ينقطع عن زيارته، والنبي على علم بمستقبل هذه الأمة، وقد أدى دوره كاملا وبلغ رسالات ربه، وبين للمسلمين كل شئ على الإطلاق وهو على علم تام بما يجري حوله، ومدرك أنه السكون الذي يسبق العاصفة، والصمت الذي يسبق الانفجار، فإذا ثارت العاصفة، وحدث الانفجار ستنسف الشرعية السياسية، ونسفها سيجرد الإسلام من سلاحه الجبار ويتعطل المولد الأساسي للدعوة والدولة معا، ولكن مثل النبي لا ينحني أمام العاصفة ولا يسكت حتى يحدث الانفجار، ولا يقعده شئ عن متابعة إحساسه العميق بالرأفة والرحمة لهذه الأمة، وبالرغم من كمال الدين وتمام النعمة والبيان الإلهي الشامل لكل شئ تحتاجه إلا أنه أراد أن يلخص الموقف لأمته حتى تهتدي بعده ولا تضل، وحتى تخرج بسلام من المفاجآت التي تتربص بها وتنتظر موت النبي لتفتح أشداقها، لتعكر صفو الإسلام، وتعيق حركته وتغير مساره.

بيت النبي يغص بعواده من أكابر الصحابة، فاغتنم النبي الفرصة وأراد أن يلخص الموقف لأمته، فقال (قربوا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا).

ما هو الخطأ بهذا العرض النبوي؟ من يرفض التأمين ضد الضلالة؟ ولماذا ولمصلحة من؟


الصفحة 102
ثم إن من حق كل مسلم أن يوصي، ومن حق كل مسلم أن يقول ما يشاء قبل موته، والذين يسمعون أقواله أحرار في ما بعد بإعمال هذا القول أو إهماله.

هذا على افتراض أن النبي مجرد مسلم ومواطن عادي وليس نبيا وقائدا للأمة، وهذا افتراض مرفوض أصلا.

الجواب على العرض النبوي

فاختصم الحاضرون، واختلفوا، قسم يقول قربوا يكتب لكم رسول الله، والقسم الآخر يقول: الرسول قد اشتد به الوجع حسبنا كتاب الله، فصدموا خاطره الشريف بعبارة هجر، يهجر، وقال: قوموا عني، ولا ينبغي عندي تنازع، فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه... فواجه النبي نفسه وخلص بنتيجة أن القرآن وحده يكفي، ولا حاجة لأي شئ آخر حتى من النبي نفسه! وهذا أول اجتهاد في التأريخ الإسلامي.

وقد سمى ابن عباس هذا اليوم بيوم الرزية، وقد أشار لهذه الحادثة البخاري في صحيحه كتاب المرضى - باب قول المريض قوموا عني مجلد 7 صفحة 9 وصحيح مسلم في آخر كتاب الوصية مجلد 5 صفحة 75 الإمام أحمد مجلد 4 صفحة 256 وشرح النهج لابن أبي الحديد مجلد 6 صفحة 51 وصحيح بخاري مجلد 4 صفحة 31 وصحيح مسلم مجلد 2 صفحة 16 ومسند أحمد مجلد 1 صفحة 355 وتاريخ الطبري مجلد 3 صفحة 193 والكامل لابن الأثير مجلد 2 صفحة 220 ومجلد 4 صفحة 65 - 66 ومجلد 8 صفحة 161 وتذكرة الخواص للسبط ابن الجوزي الحنفي صفحة 62، وسر العالمين وكشف ما في الدارين لأبي حامد الغزالي صفحة 21، وشرح النهج لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد مجلد 3 صفحة 114 سطر 27 الطبعة الأولى مصر وبيروت ومجلد 12 صفحة 79 سطر 3 بتحقيق محمد أبو الفضل ومجلد 3 صفحة 803 دار مكتبة الحياة ومجلد 3 صفحة 167 دار الفكر وراجع كتابنا المرجعية السياسية في الإسلام صفحة 287، وما فوق... إلخ.


الصفحة 103

إعتذار وتحد

فهل يتفضل صاحب المعالي وكل علماء الأردن، وأساتذة الجامعات فيها، وقائدة الفئات الإسلامية فينفوا كلمة واحدة مما ذكرت، أو ينكروا مرجعا واحدا من المراجع التي إليها أشرت، أو يعتذروا بأي عذر مقبول عن هذه الحادثة، فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا بإذن الله فأعطوا المقادة إذا لمن أعطاه الله المقادة، وتوقفوا عن التقليد الأعمى، وعن الاجتهاد بالرغم من وجود النص، وعن اختراع المرجعيات البديلة بالرغم من وجود المرجعية الشرعية.

كيف تطور الاجتهاد، وفرض سلطانه على الحياة الإسلامية بعد وفاة النبي، حتى صرح المجتهدون علنا بأن النبي نفسه مجتهد؟

هذا ما سأكشفه لمعاليكم ولعلماء الأردن وأساتذة الجامعات في الحلقات القادمة، وأتمنى على صاحب المعالي إذا كان جادا بدعوته لنبذ التقليد أن يستعين بمن شاء من علمائنا وقادة فئاتنا الدينية عند الرد علينا تركيزا للفائدة وتعميما لها.

اللهم لا نعلم إلا ما علمتنا، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين.

والحمد لله أولا وآخرا والصلاة والسلام على النبي وآله.

14 - التأسيس الأموي لرواية الأحاديث وكتابتها

رفعت السلطة حصارها عن كتابة ورواية أحاديث رسول الله، وأذنت بالكتابة والرواية بعد حصار دام 85 عاما! وبدأ الناس يروون أحاديث رسول الله ويكتبونها بعد مرور 85 عاما على صدورها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ما هو سبب محنة الحديث؟

يقول الإمام علي (عليه السلام) من خطبة له في المجلد الثالث - منشورات دار مكتبة الحياة - من شرح النهج لابن أبي الحديد برقم 203 صفحة 591 ما يلي وبالحرف:

وإنما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس: رجل منافق يظهر الإيمان، متصنع

الصفحة 104
بالإسلام لا يتأثم ولا يتحرج أن يكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) متعمدا، فلو علم الناس أنه منافق كذاب، لم يقبلوا منه ولم يصدقوه، ولكنهم قالوا هذا قد صحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورآه وسمع منه فأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله، وقد أخبره الله عن المنافقين بما أخبره ووصفهم بما وصفهم فقال عز وجل (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم ثم بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان فولوهم الأعمال وحملوهم على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله، فهذا أحد الأربعة.

ورجل سمع من رسول الله شيئا لم يحمله على وجهه ووهم فيه، ولم يتعمد كذبا فهو في يده، يقول به ويعمل به ويرويه فيقول: أنا سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلو علم المسلمون أنه وهم لم يقبلوه، ولو علم هو أنه وهم لرفضه.

ورجل ثالث سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، شيئا أمر به ثم نهى عنه هو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شئ ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ، ولو علم أنه منسوخ لرفضه، ولم علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه.

وآخر الرابع لم يكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، مبغض للكذب خوفا من الله وتعظيما لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، لم ينسه، بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع، لم يزد فيه ولم ينقص منه، وعلم الناسخ من المنسوخ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ فإن أمر النبي (صلى الله عليه وآله) مثل القرآن ناسخ ومنسوخ (وخاص وعام) ومحكم ومتشابه، قد كان يكون من رسول الله (صلى الله عليه وآله) الكلام له وجهان: كلام عام، وكلام خاص، مثل القرآن وقال الله عز وجل في كتابه: ما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عنى الله به ورسوله (صلى الله عليه وآله)، وليس كل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يسأله عن الشئ فيفهم، وكان منهم من يسأله ولا يستفهمه، حتى أن كانوا ليحبون أن يجئ الأعرابي والطاري فيسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى يسمعوا. وقد كنت أدخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) كل يوم دخلة وكل ليلة دخلة... أدور معه حيث دار، وقد علم أصحاب رسول

الصفحة 105
الله (صلى الله عليه وآله) أنه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري، فربما كان في بيتي يأتيني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أكثر ذلك في بيتي، وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عني نسائه، فلا يبقى عنده غيري، وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عني فاطمة ولا أحد من بني، وكنت إذا سألته أجابني، وإذا سكت عنه وفنيت مسائلي ابتدأني، فما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) آية من القرآن إلا قرأنيها وأملاها علي فكتبتها بخطي وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وخاصها وعامها، ودعا الله أن يعطيني فهمها، وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله ولا علما أملاه علي وكتبته، منذ دعا الله لي بما دعا، وما ترك شيئا علمه الله من حلال وحرام، ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلا علمنيه وحفظته، فلم أنس حرفا واحدا، ثم وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملأ قلبي علما وفهما وحكما ونورا، فقلت: يا نبي الله بأبي أنت وأمي منذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئا ولم يفتني شئ لم أكتبه أفتتخوف على النسيان فيما بعد؟ فقال: لا لست أتخوف عليك النسيان والجهل. إنتهى كلام الإمام علي.

وقد وضع الإمام النتيجة المنطقية لكل ذلك في مستهل حديثه، وبين أن الأوراق قد اختلطت تماما، فقال: إن في أيدي الناس حقا وباطلا، وصدقا وكذبا، وناسخا ومنسوخا، وعاما وخاصا، ومحكما ومتشابها، وحفظا ووهما، ولقد كذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عهده حتى قام خطيبا فقال: من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار...

وعندما شب الصراع بين الواقع الذي تسوسه السلطة، وبين الشرعية التي يدافع عنها أهل البيت الكرام ومن والاهم، واستعملت السلطة سلاح الحديث وروايته، لتثبت أنها على الحق وأن مناوئيها على الباطل، فأخذ أعوان السلطة يضعون الحديث لحسابها، وللتشنيع بمعارضيها.


الصفحة 106

15 - الإمام يصف الأمور

قال الإمام الباقر لبعض أصحابه كما يروي ابن أبي الحديد في شرح النهج مجلد 2 صفحة 595 (يا فلان ما لقينا من ظلم قريش إيانا، وتظاهرهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس؟ إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبض وقد أخبر أننا أولى الناس بالناس، فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه، واحتجت على الأنصار بحقنا وحجتنا، ثم تداولتها قريش واحدا بعد واحد، حتى رجعت إلينا فنكثت بيعتنا، ونصبت الحرب لنا، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود حتى قتل، فبويع الحسن ابنه وعوهد، ثم غدر به وأسلم، ووثب عليه أهل العراق، حتى طعن بخنجر في جنبه، ونهبت عسكره، وعولجت خلاخيل أمهات أولاده، فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته وهم قليل حق قليل.

ثم بايع الحسين (عليه السلام) من أهل العراق عشرون ألفا، ثم غدروا به وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم وقتلوه.

ثم لم نزل أهل البيت نستذل ونستضام، ونقصى ونمتهن، ونحرم ونقتل، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا...

إلى أن قال: ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعا يتقربون به إلى أوليائهم وقضاة السوء، وعمال السوء في كل بلدة، فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنا ما لم نقله، وما لم نفعله، ليبغضونا إلى الناس، وكان عظم ذلك وكثره زمن معاوية بعد موت الحسن (عليه السلام)، فقتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة، وكل من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن، أو نهب ماله، أو هدمت داره. ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين (عليه السلام).

ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة، وأخذهم بكل ظنة وتهمة، حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال شيعة علي، وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير

الصفحة 107
ولعله يكون ورعا صدوقا يحدث بأحاديث عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئا منها، ولا كانت ولا وقعت، وهو يحسب أنها حق لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب ولا بقلة ورع. إنتهى كلام الإمام الباقر في هذا المجال، وهو وصف دقيق لما جرى. راجع المجلد الثالث صفحة 595 في معرض شرح كلام الإمام علي (عليه السلام) الوارد في الخطبة 203 من شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي.

16 - خليفة المسلمين معاوية يرعى الرواية والرواة

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج مجلد 3 صفحة 595 روى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني في كتاب الأحداث قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب (يعني الإمام علي) وأهل بيته. (يعني أهل بيت النبوة الكرام) فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون عليا، ويبرؤون منه، ويقعون فيه، وفي أهل بيته، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي (عليه السلام)، فاستعمل عليهم زياد بن سمية وضم إليه البصرة، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي (عليه السلام)، فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشردهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم.

17 - مرسوم آخر لخليفة المسلمين معاوية

ويضيف المدائني بالحرف: وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة! وكتب إليهم: أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان، ومحبيه وأهل ولايته، والذين يروون فضائله ومناقبه، فأدنوا مجالسهم، وقربوهم، وأكرموهم، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته.


الصفحة 108
ففعلوا ذلك حتى أكثروا من فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالى، فكثر ذلك في كل مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجئ أحد من الناس عاملا من عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقربه وشفعه، فلبثوا بذلك حينا.

18 - مرسوم ثالث لخليفة المسلمين معاوية

كتب معاوية إلى عماله: أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر، وفي كل وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوليين، ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإن هذا أحب إلى وأقر لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته، وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله! فقرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى، حتى أشاروا بذكر ذلك على المنابر، وألقي إلى معلمي الكتاتيب، فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن، وحتى علموا بناتهم، ونساءهم، وخدمهم، وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء الله. راجع المجلد 3 صفحة 595 - 596 من شرح النهج لعلامة المعتزلة، كما نقله عن المدائني.

19 - مرسوم رابع لخليفة المسلمين معاوية

ثم كتب معاوية نسخة واحدة إلى جميع البلدان: أنظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه! وشفع ذلك بنسخة أخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به، واهدموا داره، فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق ولا سيما الكوفة، حتى أن الرجل من شيعة علي ليأتيه من يثق به فيدخل بيته، فيلقي إليه سره، ويخاف من خادمه ومملوكه ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه، فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر،