الصفحة 388

3 - لبطون قريش تصور آخر

بطون قريش وعلى رأسها عمر (رضي الله عنه) كأن لها رأي آخر، فقد اعتقدت أن هذه الترتيبات لا يعقل أن تكون من عند الله، فهل يعقل أن يعطى الهاشميون النبوة والخلافة ويحوزوا الفضلين معا، ولا ينال بطون قريش منها شيئا؟

تصوروا ذلك وهم يعلمون أن الله آتى آل إبراهيم الكتاب والحكمة والنبوة والملك وهم يعلمون أن محمدا أفضل من إبراهيم، وأن آل محمد هم أفضل من آل إبراهيم، ولكنهم لم يستكثروا على آل إبراهيم ذلك واستكثروا أن يجمع الآل الكرام كل ذلك.

4 - القرابة كانت هي الحجة الأولى لأبي بكر وعمر

قال أبو بكر في سقيفة بني ساعدة (نحن عشيرة رسول الله). راجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة صفحة 6

وقال عمر مخاطبا الأنصار (والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا ينبغي أن تولي هذا الأمر إلا من كانت النبوة فيهم، لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ينازعنا سلطان محمد وميراثه ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة) الإمامة والسياسة صفحة 7 - 8

5 - التسليم للحق

ما قاله أبو بكر وعمر حق، فقالت الأنصار لا نبايع إلا عليا، وقال بعض الأنصار لا نبايع إلا عليا. راجع تاريخ الطبري مجلد 3 صفحة 198، وراجع الإمامة والسياسة صفحة 8، وراجع مجلد 2 صفحة 269 من شرح النهج، على اعتبار أن عليا هو أقرب المقربين للرسول، وعلى اعتبار أن الولي الذي أعلن الرسول ولايته للمؤمنين أمام جمع يزيد على ماءة ألف مسلم، وعلى اعتبار أنه الأعلم والأفهم والأفضل بالنص الشرعي.


الصفحة 389

6 - لأبي بكر وعمر وأبي عبيدة رأي آخر

أبو بكر من بني تيم، وعمر من بني عدي، ومحمد من بني هاشم، احتجوا بأنهم قرابة النبي، فقالت الأنصار نحن مع قرابة النبي فعلا، ونبايع عليا لأنه سيد القرابة، وأقرب القرابة للنبي، فلم يرق هذا الجواب للثلاثة، خاصة لأبي بكر ولعمر لأنهما أرادا من الأنصار أن يوافقوهم القول بأنهما قرابة النبي والأولى به!!

7 - الإلتفاف على الحجة

لما اقتنعت الأنصار بأن أهل محمد وقرابته أولى بسلطانه، واقترحت البيعة لعلي التف أبو بكر وعمر على هذا الاقتراح، فقال أبو بكر: هذا عمر، وهذا أبو عبيدة، بايعوا من شئتم!! فقالا نبايعك أنت، فانقض بشير بن سعد وبايع أبا بكر! ثم بايعه عمر وأبو عبيدة، وتوالى المبايعون. ويبدو واضحا أن الترتيب هو أن يكون أبو بكر الخليفة الأول، وأن يكون عمر هو الخليفة الثاني، وأن يكون أبو عبيدة هو الخليفة الثالث، فطالما قال عمر لو كان أبو عبيدة حيا لوليته واستخلفته!!

ويبدو واضحا أن بشير بن سعد وأسيد بن حضير من أركان الذين اشتركوا بهذا الترتيب!

وعندما انتقل رسول الله إلى جوار ربه لم يكن أبو بكر حاضرا فأخذ عمر يهدد بتقطيع أطراف من يزعم بأن الرسول قد مات، واجتمع الناس حوله وأخذوا يسمعون له، فلما حضر أبو بكر استفاق عمر كأن لم يكن به شئ، فكان غاية عمر أن يلهي الناس ريثما يحضر أبو بكر، ويرتبا معا ويخططا معا.

وقد أشار ابن أبي الحديد لهذه الناحية، وبين أن قصد عمر كان كسب الوقت ليحضر أبو بكر.


الصفحة 390

8 - القصد ابتزاز الحق باسم القرابة أو بأي اسم

عرف الجميع أن قرابة محمد أولى بميراثه وسلطانه، وأن سيد القرابة والمعلنة ولايته هو علي، وأنه هو صاحب الحق بالميراث وسلطان النبي.

هذا الترتيب لم يرق لا لعمر ولا لأبي بكر ولا لبطون قريش، فأرادت وصممت أن تبتز الحق من أهله، فلوحت بالقرابة ورفعت هذا الشعار، حتى أصغى الحاضرون لها، لأن الجموع المسلمة مسكونة بمبدأ القرابة، وعندما أصغوا لهما رفعا شعار البيعة، ثم صار الاستيلاء على السلطة أمرا واقعيا، وأدرك الناس أن أقواتهم ومستقبلهم مع الغالب، وأن الشرعية قد هزمت فعلا، وأن الضربة لمن يضربها فعلا!!

9 - بعد الخروج من السقيفة

الذين بايعوا أبا بكر تحولوا إلى جيش يحميه ويدافع عنه وينفذ أوامره، وتحول عمر إلى نائب أول للخليفة، وأبو عبيدة إلى نائب ثاني للخليفة، فخرجوا معا وزفوا الخليفة زفا حتى جاءوا به إلى آل محمد، ولم يكن هناك داع للاحتجاج بالقرابة على آل محمد فاحتج الخليفة بأن الأنصار قد بايعته بالشورى، ونسي أمر القرابة!!!

10 - التذكير بالحجة الأولى

قال علي احتججتم على الأنصار بالقرابة من رسول الله، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، نحن أولى برسول الله حيا وميتا فأنصفونا إن كنتم مؤمنين وإلا فبوؤا بالظلم وأنتم تعلمون! فقيل لعلي لقد اختار الأنصار أبا بكر بالشورى، فقال علي:

فإن كنت بالقربى ملكت أمورهم * فغيرك أولى بالنبي وأقرب
وإن كنت بالشورى ملكت أمورهم * فكيف بذلك والمشيرون غيب

الصفحة 391

11 - السلطة تصب جام غضبها مع أهل البيت

استقامت أمور العاصمة، لأن أبا بكر وعمر لم يأخذ حق أحد من سكان العاصمة، إنما أخذا حق أهل البيت فقط، وابتزا هذا الحق على حد تعبير معاوية برسالته التي ذكرناها أكثر من مرة.

فمن الطبيعي أن صاحب الحق سيبذل جهده ليسترد حقه السليب، ومن الطبيعي الذي ابتز الحق لن ينام قرير العين، ما دام للحق صاحب يطلبه!!

لماذا يطالبون بحقهم، لماذا لم يسلموا للغالب الذي ابتز هذا الحق على حد تعبير معاوية، لماذا يقلقون السلطة التي أخذت هذا الحق، كيف تفعل السلطة بهم؟

الحل أن يهدد علي بالقتل فإذا قتل علي قطع رأس المعارضة؟

وفعلا هددوه بالقتل، ولكن مثل ولي الله لا يرهب التهديد بالقتل!

الحل الثاني هو تفتيت أهل البيت، فذهبوا إلى العباس ووعدوه بجزء من الأمر له ولعقبه إن تخلى عن دعم الإمام علي، فرفض العباس هذا العرض رفضا قاطعا!

إذا لا حل أمام السلطة سوى أن تحرق بيت علي بن أبي طالب على فاطمة والحسن والحسين معا، أو تهدد على الأقل بحرق البيت، فيعلم سكان العاصمة أن هذا البيت مشبوه، وأن من يتردد عليه غير آمن فتنقطع الصلة بين هذا البيت وبين سكان العاصمة، ويحاصر سكان البيت ويعزلون!

وبالفعل أمر عمر بن الخطاب بجمع الحطب ووضعه حول البيت، وقال إنه إن لم يخرج من في البيت فإنه سيحرقه على ما فيه، فقيل له: إن فيه فاطمة والحسن والحسين فقال وإن!!!

وهذه رسالة ضمنية لكل من تسول له نفسه بمعارضة السلطة الجديدة فهو لن يكون أعظم من فاطمة ولا من علي ولا من الحسن ولا من الحسين، ومع هذا فالسلطة قادرة على حرق بيت هؤلاء على من فيه!!


الصفحة 392
وعندما اكتشفت السلطة أن هذه الإجراءات لم تردع أهل البيت الكرام عن طلب حقه، صادرت على الفور المنح التي منحها الرسول لهم كفدك، وقررت حرمان أهل البيت من تركة الرسول وميراثه وأعطت أهل البيت حذاء الرسول ودابته وآلته فقط، وبنفس الوقت ألغت الخمس المخصص لهم بآية محكمة.

عندئذ توقف أهل البيت عن المطالبة بحقهم موقتا، لأنهم لو استمروا بالمطالبة فإن السلطة الجديدة ستمنع عنهم الأكل والشرب وسيموتون جوعا!! وقد وثقنا ذلك أكثر من مرة.

فاستقامت أمور السلطة تماما عندما اضطر صاحب الحق على السكوت، وعدم إزعاج الذين ابتزوا حقه.

12 - الآثار التي ترتبت على مطالبة صاحب الحق بحقه

انزعج أبو بكر وانزعجت معه بنو تيم، وانزعج عمر وانزعجت معه بنو عدي وانزعجت لانزعاجهم بطون قريش، فاعتبروا أن معارضة أهل البيت الكرام لملك بني تيم وملك بني عدي هو معارضة لحق البطون في السلطة، وأضمروا في نفوسهم معارضة أهل البيت انتقاما لمعارضتهم، وتأخير أهل البيت لأنهم رفضوا التقدم الذي أحرزته البطون.

وأخذت كل البطون تنظر نظرة حذر وامتعاض لأهل البيت خاصة، ولبني هاشم عامة!!

13 - افتخار قريش على العرب بالقرابة من الرسول

خرج علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وجعل يمشي في أسواق دمشق بعد مجزرة كربلاء (فاستقبله المنهال بن عمرو الصحابي فقال له: كيف أمسيت يا ابن رسول الله؟ فقال زين العابدين (عليه السلام): أمسينا كبني إسرائيل في آل فرعون، يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم! يا منهال أمست العرب تفتخر على العجم بأن محمدا منهم،

الصفحة 393
وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأن محمدا منها، وأمسينا أهل بيت محمد ونحن مغصوبون، مظلومون مقهورون، مثبورون مطرودون! فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أمسينا فيه يا منهال!). راجع فتوح بن أعثم مجلد 5 صفحة 247 - 249 ومقتل الخوارزمي مجلد 2 صفحة 69 - 71 ومعالم المدرسين للعسكري مجلد 3 صفحة 166 - 167

قالوا إن رسول الله قال (بأن الأئمة من قريش) لماذا لأن قريشا عشيرة النبي، وقفزوا عن البطن الهاشمي مع أنهم الأقرب، واعتبروا أن الأئمة من قريش مع أنها الأبعد!

ثم احتجوا في ما بعد بحجة ابن خلدون لأن قريشا مركز القوة والعصبية فطوقوا العصبية مع القرابة! لكن ابن خلدون ينسى بأن عصبية قريش لم تغن عنها شيئا يوم حاربت دعوة النبي ودولته 21 عاما!

وباختصار فإن المبرر لزعامة قريش على العرب هو أن النبي من قريش، وبالتالي فقريش عشيرته وهم الأولى بميراثه وسلطانه، ولكنهم ورثوا البعيد، وحرموا القريب.

إن الغالب يتشبث بكل شئ ليبرر غلبته، والذين يبتزون الحقوق يتذرعون بكل وسيلة للحفاظ على ما ابتزوه.

14 - أبو جعفر محمد بن علي الباقر يلخص قصة القرابة

قال أبو جعفر لبعض أصحابه يا فلان، ما لقينا من ظلم قريش إيانا وتظاهرهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبض، وقد أخبرنا أننا أولى الناس بالناس، فتمالأت علينا قريش، حتى أخرجت الأمر من معدنه، واحتجت على الأنصار بحجتنا، ثم تداولتها قريش، واحد بعد واحد حتى رجعت إلينا فنكثت بيعتنا، ونصبت الحرب لنا، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود حتى قتل، فبويع الحسن ابنه، وعوهد ثم غدر به وأسلم، ووثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه، ونهبت عسكره، وعولجت خلاخيل أمهات أولاده، فوادع معاوية وحقن دماء أهل بيته وهم قليل حق قليل.


الصفحة 394
ثم بايع الحسين من أهل العراق عشرون ألفا، ثم غدروا به وخرجوا عليه، وبيعته في أعناقهم!

ثم لم نزل أهل البيت نستذل ونستظام، ونقصى ونمتهن، ونحرم، ونقتل ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعا يتقربون به إلى أوليائهم وقضاة السوء في كل بلدة، فحدثوا بالأحاديث الموضوعة المكذوبة وزوروا علينا ما لم نقله ليبغضونا إلى الناس، وكان عظم ذلك وكبره في زمن معاوية بعد موت الحسن، فقتلت شيعتنا في كل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره!

ثم لم يزل البلاء يشتد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين.

ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة، وأخذهم بكل ظنة وتهمة، حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال شيعة علي... راجع المجلد 3 صفحة 595 من شرح النهج.

15 - القرابة شعار للوصول إلى السلطة أو لتثبيت السلطة

بطون قريش التي ادعت في ما بعد أنها الأولى بالخلافة لأن محمدا منها، والتي افتخرت على العرب بكون النبي منها وأنها الأولى بميراثه وسلطانه، لأنها قرابة الرسول... هذه البطون هي نفسها التي قاومت دعوة النبي 13 سنة في مكة، وهي نفسها التي اشتركت بمؤامرة لقتل النبي، وهي نفسها التي أرغمت النبي على الخروج من مكة، وهي نفسها التي حاربت النبي ثماني سنوات بعد إخراجه، ولم تتوقف عن حربه إلا بعد أن هزمت عسكريا وأحيط بها وحصرت تماما، فدخلت في دين الله كارهة! ثم رفعت في ما بعد شعار القرابة لتولى على السلطة، ولتأخذ الحق من أهله الذين هم القرابة الحقيقية.


الصفحة 395
والقرابة الحقيقية هي قرابة بني هاشم الذين حموا الدعوة، وحموا الداعية أثناء وجوده في مكة، ووقفوا إلى جانبه يوم وقفت بطون قريش ضده، والقرابة الحقيقية هي التي حوصرت في شعاب أبي طالب ثلاث سنوات حتى أكلوا ورق الشجر من الجوع، وهم بنو هاشم، وبنو المطلب!

القرابة الحقيقية هم الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل نصرة النبي، ونصرة دينه، وهم الذين أخضعوا العرب برماحهم وتنمرهم في ذات الله!!

16 - كل سلطة استهلت حكمها بإذلال أهل البيت

أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهما فريق واحد ومن حزب واحد، وهي سلسلة في حلقة واحدة، ابتدأت بأبي بكر، وقد بينا كيف هدد الإمام بالقتل، وهدد بيت فاطمة بالحريق، وبينا كيف حرموا أهل البيت من ميراث النبي، وكيف صودرت المنح التي أعطاها النبي لهم، وكيف حرموا من 1 / 5 الخمس الوارد في آية محكمة، وكيف جردوا من أموالهم، واضطروا لأن يكونوا عالة على الحاكم الذي تعهد بتقديم المأكل لهم.

17 - وفي عهد معاوية

استهل عهده بأنه كتب نسخة واحدة إلى كل عماله بأن برئت الذمة ممن روى شيئا في فضل أبي تراب (يعني عليا) وأهل بيته! فقام الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون عليا، ويبرؤون منه ويقعون فيه!

وكتب نسخة واحدة إلى كل عماله بأن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي (محبيه وأعوانه) وأهل بيته شهادة!

ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة أن انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا رزقه وعطاءه!

وشفع ذلك بنسخة أخرى (من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم (أي أهل البيت) فنكلوا به واهدموا داره! راجع شرح النهج لابن أبي الحديد كما نقلها عن المدائني في كتابه الأحداث مجلد 3 صفحة 595 - 596 من الشرح.


الصفحة 396

18 - وفي عهد يزيد

وبعد موت معاوية جاء ابنه يزيد، الذي تآمر مع سفلة العراق على قتل آخر سبط للنبي ومنعوا عنه وعن أهل بيته ماء الفرات، ثم أبادوهم عن بكرة أبيهم ولم ينج إلا النساء وقليل من الأطفال، وقصة كربلاء ومأساتها لا تخفى على عاقل.

19 - وفي المقابل عبد الله بن الزبير

وعبد الله بن الزبير الذي كان يتصارع مع يزيد على السلطة، جمع الهاشميين ووضعهم في مغارة وملأها بالحطب، وهم أن يحرقهم عن بكرة أبيهم باعتبارهم قوم سوء، وألغى الصلاة على النبي حتى لا يضطر أن يصلي على آل النبي (لأن له - أي للرسول - أهل سوء، إذا ذكرته اشرأبت أعناقهم، فأحببت أن أكبتهم كما روى ابن أبي الحديد عن ابن الزبير!!

20 - طلحة والزبير

وعندما طمع طلحة والزبير بالملك وضعا أيديهما بأيدي أم المؤمنين، نكثا بيعة الخليفة الشرعي وكونوا جيشا وهاجموا البصرة، وأشعلوا على الإمام حرب الجمل، ولكنهم هزموا.

21 - كل سلطة غالبة زينت غلبتها بقرابة الرسول

أخذ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما الأمر من الأنصار بحجة أنهما قرابة النبي وأنهما أولى بسلطانه، قالوا هذا الكلام بالرغم من وجود القرابة الحقيقية!

وعندما استقامت أمورهما وغلبا على السلطة لم تتغير حجتهما، بل زينا حكمها بالقول بأنهما من قريش، وقريش هي عشيرة النبي!

ثم جاء الأمويون ونكلوا بالقرابة الطاهرة ولعنوها على كل منبر وفي كل بلدة، ومع هذا سخروا وسائل إعلامهم، لإقناع أهل الشام بأن الأمويين هم قرابة الرسول، ولا قرابة للرسول سواهم! واقتنع أهل الشام بذلك!


الصفحة 397
وعندما انتصر أول خليفة عباسي على الأمويين حلف له أمراء الشام بإيمان البيعة وبطلاق نسائهم أنهم لا يعلمون أن للرسول أقارب غير بني أمية!!

ثم جاء العباسيون فقبضوا على مقاليد السلطة بالقوة، وهزموا الأمويين، ثم نكلوا بقرابة النبي القريبة، وزينوا غلبتهم بالقول بأنهم قرابة النبي فهم من بني هاشم!!

وتقاسم ولاة الأقاليم ملك بني العباس، وغلب المماليك ثم غلب العثمانيون، فزينوا غلبتهم بالقول بأنهم قرابة الرسول بحجة أن الرسول قال (أنا جد التقي ولو كان عبدا حبشيا!) وبما أن المماليك والعثمانيون أتقياء فإن الرسول جدهم وهم أولى بسلطانه، لأن الرسول حسب هذا التخريج قريبهم، فزينوا غلبتهم بالقرابة!

ثم سقطت دولة الخلافة التاريخية، وقامت الأحزاب السياسية الدينية بهدف إعادة نظام الخلافة، وأخذ كل حزب يدعو لقائده، فدعى الوهابيون لابن عبد الوهاب، والأخوان لحسن البنا، والتحرير للنبهاني... إلخ.

واحتجت الأحزاب بحجة المماليك والعثمانيين، فزعمت أنها أولى بالحكم لأنها قرابة الرسول الله! ووجه القرابة أن رسول جد كل تقي! وبما أن قادة الأحزاب وأتباعهم أتقياء، فإن الرسول جدهم كما زعموا!

22 - إذلال أهل البيت

صار إذلال أهل البيت الجزء البارز من مراسيم كل غالب لاستلام السلطة!

فالغالب كان يستهل عهده بغارة خاطفة على من حوله من أهل البيت، وقد ألفت الأمة ذلك، واعتبرته جزءا لا يتجزأ من الاحتفال باستلام الغالب للسلطة.

فبعد نجاح أبي بكر ومبايعة الأنصار له، هدد عليا بالقتل وثم وضع الحطب حول بيت فاطمة بنت محمد لإحراقه، وتمت مصادرة منح أهل البيت وحرمانهم من ميراث النبي، ثم حرموا من الخمس!


الصفحة 398
وجاء الأمويون فجعلوا لعن أهل البيت فريضة، فلعنوهم في كل بلدة وعلى كل منبر، ولم يقبلوا لمحبهم شهادة، وقرروا هدم دار كل من يحبهم، ثم جاء يزيد فقاد مذبحة كربلاء.

ثم جاء العباسيون، وليشعروا الجموع المسلمة بأنهم على درب الذين خلوا من قبلهم، نكلوا بأبناء الرسول، حتى أن أحد خلفائهم عندما لم يجد من ينكل به هدم ضريح الحسين وسواه مع الأرض!!

23 - صبت عليهم مصائب لو أنها صبت على الأيام عدن لياليا

المصائب التي أنزلها الحكام بأهل بيت محمد لو أنها نزلت بالجبال لزالت، لقد سئم أهل البيت أفاعيل الحكام المتغلبين وتغلب فئات الأمة فأنزوا عن مسرح الحياة لينجو من بقي منهم وهم قليل وأخفوا قرابتهم للنبي، ولم يظهر منهم إلا الأئمة الكرام فقتلوا واحدا بعد الآخر، وواجهوا الموت بنفوس راضية.

كان أهل البيت هم الشبح المرعب لكل أولئك الذين ابتزوا حقهم وقهروا الأمة بالقوة، وكان أهل البيت هم موضع نقمة الحكام المتغلبين طوال التاريخ، فانسحبوا من مسرح الحدث وقصروا همهم على المحافظة على نقاء الدين وتوضيحه للراغبين من الأمة.

24 - واستقامت الأمة بعد ذهول

فأدركت أن الهدى لا يمكن تحصيله إلا بالتمسك بالثقلين كتاب الله وعترة النبي أهل بيته، وأن الضلالة لا يمكن تجنبها إلا بالتمسك بالثقلين أيضا كتاب الله وعترة النبي أهل بيته. وأن الأمة وقعت ضحية غفلتها عن ألاعيب الحكام المتغلبين وأساليبهم الملتوية!

وهال الأمة ما لحق بأهل البيت طوال التاريخ من ظلم وعذاب وتقتيل وتشريد، واكتشفت عدالة قضية أهل البيت، فبدأت تعيد حساباتها من جديد وترتب أوراقها،

الصفحة 399
ورأت فئات من الأمة أن النجاة من الغرق لا تتحقق إلا بالركوب بسفينة نوح، وهم أهل البيت، وأن الخلاص من التيه لا يدرك إلا بنجوم الهدى وهم أهل البيت، ولا يكفي الحب المجرد لأهل البيت، بل إن الموالاة هي الطريق الفرد للتعبير عن هذا الحب، والموالاة تعني أن الأمة لن تقبل إلا قيادة أهل البيت، فهم القيادة بالنص الشرعي وقد تبنت الشيعة هذه الأطر.

وأدركت السلطة خطورة هذه الدعوة، فصبت جام غضبها على من يحب أهل بيت محمد ومن يوالي أهل البيت، وأشاعت أن الذين ينادون بولاية أهل البيت هم الذين شقوا عصا الطاعة، وفرقوا الجماعة! وأن هؤلاء القوم مجوس وكفرة، فنفر الناس من كلمة التشيع حتى ليقال للإنسان أنه كافر أخف وأهون عليه من أن يقال أنه متشيع وموال لأهل بيت محمد، فكلمة الشيعة ترادفت في أذهان العامة من المسلمين مع أسوء الصفات البشرية، فالعامة من المسلمين لا يستغربون أن يكون الإنسان مسيحيا أو يهوديا أو بوذيا أو قوميا أو شيوعيا لكنهم يستغربون أن يكون الإنسان من شيعة أهل البيت!!

والسبب في ذلك أن الحكام المتغلبين قد قهروا أهل البيت بعد ابتزاز حقهم طول التاريخ، ومع أن أهل البيت لا يشكلون خطرا على الحكام، لكنهم قدروا أن الخطر الحقيقي يأتي من أولئك الذين آمنوا بعدالة قضية أهل البيت وهم الشيعة، فسخر الحكام كل وسائل إعلامهم، وكل موارد الدولة لتشويه سمعة أولئك الذين يوالون أهل البيت، واختلق الحكام وأعوانهم الأكاذيب، وصوروا من يوالي أهل البيت وكأنه العدو اللدود لدين الإسلام، وأحيانا كان الحكام يدسون عملاءهم في صفوف الشيعة، ويختلق هؤلاء العملاء الأحاديث والقصص الكاذبة، وينسبونها لأهل البيت لتنفير الناس من أهل البيت!!

لقد استطاعت وسائل الدعاية والتربية أن تخلق قناعة كاذبة، وأن تغرس هذه القناعة بالعقل الباطن لعامة المسلمين، ولكن مع جو الانفتاح والتحرر الذي ساد العالم

الصفحة 400
الحديث، فإن الإطلاع على فكر أهل البيت أصبح من ضرورات تقدم المسلمين، خاصة وأن الأمة قد جربت كل شئ لنهضتها ففشلت، ولكنها لم تجرب فكر أهل البيت الكرام!

وما الذي يمنعنا من أن نطلع الناس على فكر أهل بيت محمد بالوقت الذي ندرس فيه بجامعاتنا النظرية الشيوعية والنظرية التحررية الرأسمالية، فهل يعقل أن كارل ماركس وانجلز وبناة التحررية الرأسمالية، هم أنفع لنا من أهل بيت محمد؟ ما لكم كيف تحكمون!!

نماذج من غارات الحكام على أهل البيت

1 - الغارة الأولى

بالأمس أي قبل يوم واحد دفن علي ابن عمه وصهره وأخاه رسول الله، ودفنت فاطمة أباها رسول الله، ودفن الحسن والحسين أباهم وجدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورجع الأربعة كسيرة خواطرهم إلى بيتهم، فتوافد المعزون على بيت هؤلاء الأربعة، المتصل ببيت النبي والمعروف أنه جزء منه وأنه بيت فاطمة، أو بيت علي.

وفجأة وبدون مقدمات تحركت سرية عسكرية برئاسة عمر بن الخطاب وطلبوا من أصحاب الدار ومن المعزين أن يخرجوا ليبايعوا الحاكم الجديد أبا بكر!

ولما توانوا عن الخروج أصدر عمر بن الخطاب أمرا بإحضار الحطب ووضعه حول البيت استعدادا لإحراق البيت على من فيه!

وبعد أن تم وضع الحطب نادى عمر: إني قد وضعت الحطب حول البيت وكل شئ جاهز لإحراقه! أخرجوا جميعا وبايعوا، وإلا أحرقت الدار على من فيها!

فقيل له إن في الدار فاطمة وعليا والحسن والحسين! فقال عمر: وإن!!

فخرج من في الدار، وخرجت فاطمة ونادت بأعلى صوتها: يا أبت يا رسول الله ما لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن قحافة!!


الصفحة 401
لم يعبأ عمر بصراخ فاطمة، إنما أمر السرية بجر علي إلى أبي بكر!

ولما حضر علي قيل له: بايع. قال علي: وإن لم أبايع فمه؟ قالوا إذا والله نضرب عنقك!!!

راجع تفاصيل الغارة في الإمامة والسياسة لابن قتيبة صفحة 6 وما فوق على سبيل المثال، وراجع توثيقاتنا السابقة، وراجع قصيدة حافظ إبراهيم التي يشيد فيها بشجاعة عمر يوم هم بحرق بيت فاطمة!

2 - للبيان فقط

من عادة العرب، من عادة أبناء آدم أن يحترموا أهل الميت وأن يشاركوهم مصابهم خلال ثلاثة أيام على الأقل، وأن يحترموا مشاعر ذوي الميت ويمتنعوا عن الإتيان بما يؤذيهم، تلك عادة البشر بالتعامل مع الميت أي ميت!!

فكيف بربك إذا كان الميت رسول الله!! وإذا كان أهله هم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا!!!

وقبل أن يمضي أسبوع على دفن الرسول أحيط أهل البيت علما بأنهم قد حرموا من تركة الرسول، وأن المنح التي منحها الرسول لهم قد صودرت، وأن الخمس المخصص لهم بآية محكمة قد منع عنهم، وأنه ليس لهم من كل ذلك إلا الأكل، والحاكم هو الذي يزودهم بالطعام!!!

3 - غارة ثانية

معاوية يستعد للموت، وقد صمم أن يعهد بالملك لابنه يزيد، ويزيد هذا رعديد وفاجر، ومن غير الممكن عقلا أن يكون خليفة الرسول، ولكن معاوية سخر جيشه وكل موارد الدولة لأخذ البيعة ليزيد ونجح!

ليس أمام الحسين إلا أن يبايع أو يموت!

إذا كانت الأمة قد ركعت بالتهديد فإن ابن رسول الله وسليل الزهراء وشبل علي لم

الصفحة 402
ركع، فخرج من المدينة خائفا يترقب ومعه أهل بيته الكرام وذراريهم، وانتهى مسيرهم إلى كربلاء.

كان مع الحسين 72 رجلا فوجدوا بانتظارهم جيشا لجبا قوامه على أقل الروايات أربعة آلاف مقاتل بقيادة عمر بن سعد بن أبي وقاص!

ماء الفرات حلال للطير وللإنسان وللحيوان، ولكن عمر بن سعد أصدر أمرا بمحاصرة الحسين ومن معه ومنعهم من الشرب من ماء الفرات! وأصروا إما أن يسلم الحسين تسليم الذليل وينزل على حكم بن مرجانة، أو يموت!

4 - الحسين يخطب بجيش أمير المؤمنين يزيد

أما بعد: فانسبوني فانظروا من أنا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم فانظروا هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي، ألست ابن بنت نبيكم؟ وابن وصيه وابن عمه؟ وأول المؤمنين بالله؟ والمصدق لرسول الله بما جاء به من عند ربه؟

أوليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟

أوليس جعفر الشهيد ذو الجناحين عمي؟

أولم يبلغكم قول مستفيض فيكم أن رسول الله قال لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة؟

فإن صدقتموني بما أقول وهو الحق، والله ما تعمدت كذبا مذ علمت أن الله يمقت عليه أهله، ويغر به من اختلقه...

فإن فيكم من إذا سألتموه عن ذلك أخبركم!

سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي.

أفي هذا حاجزكم عن سفك دمي!!؟....


الصفحة 403

5 - لا وقت مع جيش أمير المؤمنين لسماع الخطب

هجم الأربعة آلاف على ال 73، وصنع جيش أمير المؤمنين المذبحة وقتل الحسين ومن معه، وقطعت رؤوسهم، وبعد ذلك أصدر عمر بن سعد بن أبي وقاص أمرا لكوكبة من فرسانه لتطأ جثة الحسين وكل الذين قتلوا معه!

وعاد جيش أمير المؤمنين منتصرا، وعاد القتلة ومعهم رؤوس ال‍ 73 رجلا، وأقيمت الأفراح ونصبت أقواس الزينة والنصر، وأخذت بنات الرسول سبايا واقتيد الركب إلى أمير المؤمنين يزيد! على أنهم خوارج خرجوا على الأمير ونصر الله الأمير عليهم!!

وانتهت الغارة بإبادة من حضر من أهل البيت!!

6 - من ينكر؟ ومن يعتذر؟

من ينكر هذه الغارة،؟ ومن يتنكر لوقائعها المخجلة؟ ومن يعتذر عنها؟

وكيف لو أن الحسين ومن معه اصطدموا بجيش من بني إسرائيل، أو بجيش أمريكي أو إنكليزي، أو بجيش من همج ما قبل التاريخ، فهل تفعل هذه الجيوش بالحسين وأهله الطيبين ما فعله جيش أمير المؤمنين بهم!!!

ثم لنفترض أن الحسين نصراني، أو حبر يهودي اصطدم مع جيش مسلم فهل يفعل الجيش المسلم باليهود والنصارى ما فعله بأهل بيت النبوة!!!

لو لم يفعل شيعة الحكام من المخازي غير هذه لكفاهم خجلا ومبررا لتبقى رؤوسهم منكسة إلى الأرض!!!!

7 - غارة ثالثة

كان عبد الله بن الزبير يتغالب مع يزيد على الملك، واستولى على بعض الأقاليم، وسمى نفسه بأمير المؤمنين، وطلب من بني هاشم مبايعته بإمارة المؤمنين، فتردد الهاشميون، فوضعهم عبد الله بن الزبير في مغارة وملأها بالحطب وهم أن يحرقهم جميعا أحياء، لولا وصول نجدة من العراق!


الصفحة 404
وامتنع عبد الله بن الزبير عن الصلاة على النبي في خطبه، حتى لا يضطر أن يصلي على آل النبي!!

وعندما سألته بطانته عن ذلك قال (إن له أهل سوء إذا ذكرته اشرأبت أعناقهم، فأحببت أن أكبتهم) كما يروي ابن أبي الحديد!!!!

8 - غارات لم تتوقف

إن غارات الحكام المتسلطين المتغلبين على أهل البيت لم تتوقف، ولا حصر لها، ولكنا سقنا هذه الغارات الثلاث من باب (فذكر إن نفعت الذكرى). وإن الذكرى تنفع المؤمنين.

* *

الصفحة 405

الأثر الثالث: تقديس الخليفة الغالب

1 - تميز وعلو شأن الخليفة الغالب

لما انتقل النبي إلى جوار ربه شغر منصبه، وحل الفارس الغالب محله، بعد أن تجاهل الناس الولي الشرعي المعين من قبل الله ورسوله، فأخذ هذا الفارس الغالب يمارس سلطات النبي، فهو ولي الأمر الفعلي، وهو الخليفة الفعلي، وهو أمير المؤمنين الفعلي، وهو السلطان الفعلي، وهو الإمام أو قدوة المؤمنين الفعلي، وهو الذي يبين القرآن الكريم أو يعين من يبينه نيابة عنه، وهو الذي يفهم النص ويطبق هذا الفهم على الحادثات.

ولماذا لا؟ أليس هو القائم مقام النبي؟ والمحتل لمكانه؟ والمتصدي لمهامه وصلاحياته.

2 - القائم مقام النبي

هذا الخليفة الغالب القائم مقام النبي، والمحتل لمكانه، والمتصدي لمهامه وصلاحياته، لم يعينه الله، ولم يعينه النبي، ولم تختره الجماعة المسلمة، وإنما هو فارس ذكي، طمع بالسلطة فخطط ودبر، واستقطب حوله طائفة من الطامعين بالتعاون معه، فحقق الغلبة، وقهر صاحب الحق، وقهر أفراد الجماعة المسلمة، ثم جلس مكان النبي بالتغلب والقوة، وأخذ يمارس مهام النبي وصلاحياته بحماية القوة والتغلب، فمن أقر لهذا المتغلب بشرعية احتلاله لمكان النبي، وابتزازه لحق أولي الأمر الشرعيين، فهو من المقربين له حتى وإن كان كاذبا ومنافقا بالنص الشرعي، ومن عارضه فهو من المغضوب عليهم، حتى وإن كان ولي المؤمنين بالنص الشرعي!


الصفحة 406
فالحكم بن العاص، ومروان ابنه لعنهما رسول الله كما وثقنا أكثر من مرة، والحكم بن العاص كان محرما عليه أن يدخل المدينة، ومع هذا وعندما استلم عثمان الخلافة أدخل الحكم دخول الفاتحين، وزوج مروان ابنته وعينه رئيسا فعليا لوزرائه!

وعبد الله بن أبي سرح هو نفسه الذي افترى على الله الكذب، بآية محكمة، وهو الذي أعلن الله في كتابه بأنه لن يهديه لأنه ظالم وكاذب، ومع هذا كان أبرز ولاة عثمان، فقد كان واليه على مصر تاج الولايات الإسلامية.

لماذا؟! لأنهم موضع ثقة الخليفة الغالب!

3 - دور الأمة

يتصارع الفرسان المرشحون للفوز والغلبة، والأمة تتفرج... فإذا غلب أحد الفرسان واستقامت أموره، يطلب هذا الفارس الغالب وحاشيته من الأمة أن تبايع، أي أن توافق بأن يكون هذا الفارس الغالب ولي أمرها، وإمامها، وخليفة نبيها، فمن بايع فقد أفلح، وتولى سبيل المؤمنين، ويحق له أن ينتظر عطاءه ورزقه، ومن أبى المبايعة فلا عطاء له ولا رزق، وليس بينه وبين الفارس الغالب الذي قبض على مقاليد الحكم ودوخ كل الفرسان إلا القوة، فيسحقه الفارس الغالب بلا رحمة، ويندم الذي لم يبايع ولات حين مندم، فتركع الأمة وتقدم الولاء للغالب رغبة أو رهبة!

فدور الأمة هو مبايعة الغالب وتأييده، وإن أبت فليس بينها وبين الغالب إلا الحرب والسيف. راجع الأحكام السلطانية لأبي يعلى، والأحكام السلطانية للماوردي من 1 - 15 واطلع على القواعد التي وضعها علماء الدولة وجعلوها فضفاضة بحيث تتسع لكل حالة، واطلع على توثيقنا لما قاله إمام الحرمين الجويني، وابن العربي، وأبو المعالي وعضد الدين الإيجي.


الصفحة 407

4 - المتغلب غير المؤهل

عندما اختار الله تعالى نبيه للنبوة أهله وأعده لذلك، وعندما نصره وأقام دولته أهله وأعده لقيادة الدولة، فلم يختر الله نبيا أو يعين رئيس دولة دون تأهيل وإعداد.

وقبل أن يعلن النبي ولاية علي أهله وأعده للولاية من بعده وصنع على عينه، فالأهلية الشرعية والإعداد للقيام بهذا العمل أو ذلك، ضرورة من ضرورات الإتقان والنجاح، فالهندسة والطب والفلاحة والنجارة وأي مهنة، لا بد لها من أهلية وإعداد لممارستها.

فحتى يستطيع الطبيب أن يجري العملية الجراحية يجب أن يدرس الطب في جامعة عدد سنين، ثم يتدرب عمليا عدد سنين، وحتى يستطيع الشخص أن يكون محاميا يجب أن يدرس القانون عدد سنين، وأن يتمرس عمليا تحت إشراف محام أستاذ عدد سنين.

فإذا كان من يمارس هذه المهن وأمثالها بحاجة إلى إعداد وأهلية، فمن باب أولى أن يحتاج من يتصدى لقيادة الأمة وإمامتها وخلافة الرسول إلى إعداد وأهلية وتأهيل.

ولما لا، فهو الذي سيكون مرجع القضاة ومعين الولاة، وهو القائد الأعلى للجيوش، وهو المبلغ لدين الله نيابة عن رسوله، وهو المبين لأحكام القرآن، وهو أفهم الناس بما أنزل إليهم من ربهم، وهو القدوة لأنه الجالس محل الرسول والقائم مقامه، فإن لم يكن كذلك فهو هالك لا محالة ومهلك للأمة التي سيقودها.

الفارس الغالب المحتل لمكان النبي ليس له هذا التأهيل، ولم يعد هذا الإعداد!

ومؤهلاته وإعداده وشهادته العلمية تتلخص بكلمة واحدة أنه غالب وقاهر ومتفوق على الأمة بالقوة والغلبة والقهر.

5 - من كانت هذه مؤهلاته كيف يدير شؤون الدولة؟

الغالب يسخر موارد الدولة وإمكانياتها لتثبيت غلبته، فيعطي من أطاعه ويرفعه، ويحرم من عصاه ويضعه، ثم يسلط الذين أطاعوه على الذين عصوه ويذيق بعض الأمة بأس بعض، حتى تلقي تماما عصا المقاومة والمعارضة، وينصرف كل إنسان إلى

الصفحة 408
معاشه اليومي، فلا يسأل الغالب عما يفعل! فيصبح الخليفة الغالب هو الحاكم والحكم معا على من أطاعه فرفعه وعلى من عصاه فوضعه، فيوكل المطيع له بالعاصي لحكمه وتستقيم أموره.

أما ما يشجر بين المحكومين من خلافات، فإذا عرف الغالب الحكم الشرعي - ونادرا ما يعرفه - وعرف أن تطبيق الحكم الشرعي لا يضر أهل طاعته ولا ينفع أهل معصيته، طبقه، أو أمر بتطبيقه!

أما إذا كان لا يعرف، فإنه يسأل أهل طاعته فإن عرفوا عرفوا، وإن لم يعرفوا يجتهد برأيه، فإن كان هذا الاجتهاد صوابا فهو من عند الله وفضله لله وللخليفة الغالب معا، وإن هذا الاجتهاد خطأ فهو من الشيطان ووزره على الشيطان وحده، وللخليفة الغالب أجر واحد، لأنه قد أخطأ باجتهاده!!

6 - نماذج من اجتهادات الخلفاء

الفجاءة السلمي عينه أبو بكر أميرا وأمره، فبلغت عنه لأبي بكر أنباء، فأمر أبو بكر طريفة أن يلقي الفجاءة، فقال الفجاءة لطريفة: ما أنت بأولى مني، أنا أمير لأبي بكر، وأنت؟ فقال طريفة: إن كنت صادقا فضع السلاح وانطلق معي إلى أبي بكر، فخرج الفجاءة معه بعد أن وضع سلاحه، فلما أجاء الفجاءة كما في رواية الطبري (فأوقد له أبو بكر نارا في مصلى المدينة على حطب كثير، ثم رمي فيها مقموطا، وفي لفظ ابن كثير: فجمعت يداه إلى قفاه وألقي في النار فحرقه وهو مقموط)!!. راجع تاريخ الطبري مجلد 3 صفحة 234 - 235 ومجلد 4 صفحة 52 في ذكر حوادث السنة 13، وراجع ابن الأثير مجلد 2 صفحة 146 وابن كثير مجلد 6 صفحة 319 حوادث سنة 11

أما الحكم الشرعي الصحيح - إن صح جرم الفجاءة - فهو في الآية 33 من سورة المائدة (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم).


الصفحة 409
أما التعذيب بالنار فهو غير جائز. قال رسول الله: لا يعذب بالنار إلا رب النار.

راجع صحيح بخاري مجلد 4 صفحة 325 باب لا يعذب بعذاب الله - كتاب الجهاد، ومسند أحمد مجلد 2 صفحة 207 ومجلد 3 صفحة 494، وراجع سنن أبي داود - كتاب الجهاد - باب كراهية حرق العدو بالنار مجلد 3 صفحة 55 و 56، وراجع سنن البيهقي مجلد 9 صفحة 71 و 72

واعتذر العلماء عن هذه المخالفة للنص الصريح بقولهم (حرق فجاءة السلمي من غلطة في اجتهاده، فلم يتفق مثله للمجتهدين.

7 - ندم المجتهد

وندم أبو بكر على فعله في مرض موته وقال: ثلاث فعلتهن وددت أني تركتهن وددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شئ، وإن كانوا قد غلقوه على الحرب، وودت أني لم أحرق الفجاءة السلمي وأني كنت قتلته تسريحا أو خليته نجيحا، وودت أني يوم السقيفة كنت قد قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين عمر وأبي عبيدة. راجع تاريخ الطبري مجلد 2 صفحة 52 حوادث سنة 13

8 - اجتهاد بمالك بن نويرة

مالك بن نويرة كان شاعرا وفارسا من فرسان بني يربوع في الجاهلية، ومن أشرافهم، فلما أسلم مالك عينه رسول الله أميرا على صدقات قومه، ومات الرسول وهو على إمارته، فلما توفي النبي أمسك الصدقة ووزعها على قومه وقال:

فقلت خذوا أموالكم غير خائف * ولا ناظر في ما يجئ من الغد
فإن قام بالدين المخوف قائم * أطعنا وقلنا الدين دين محمد

فغزاه خالد بن الوليد، وقال له ولقومه: ضعوا السلاح فوضعوا سلاحهم، وقالوا لخالد نحن مسلمون.


الصفحة 410
وفي وفيات الأعيان وفوات الوفيات وتاريخ أبي الفداء وابن شحنة أن مالك قال لخالد يا خالد ابعثنا لأبي بكر فيكون هو الذي يحكم بنا وفينا، فإنك بعثت إليه غيرنا من جرمه أكبر من جرمنا! فقال خالد: لا أقالني الله إن أقتلك! ثم أمر ضرار بن الأزور ليضرب عنقه! فقال مالك: أنا على الإسلام! فقال خالد: يا ضرار اضرب عنقه!! وتزوج خالد امرأة مالك بن نويرة بنفس الليلة.

وفي رواية الطبري عن عبد الرحمن بن أبي بكر فلما بلغ عمر بن الخطاب تكلم فيه عند أبي بكر وقال عمر (عدو الله، عدا على امرئ مسلم فقتله ثم نزا على امرأته!!

فلما أقبل خالد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من لامته وحطمها ثم قال: أرياء قتلت امرءا مسلما ثم نزوت على امرأته! والله لأرجمنك بأحجارك!

فدخل خالد فاعتذر لأبي بكر فقبل عذره، واعتبر خالد مجتهدا ومأجورا لأنه قتل صاحب رسول الله وأميره.

أما مالك فلا أجر له مع أنه صحابي لأن قاتله خالد بن الوليد من أهل الطاعة!

راجع معالم المدرسين صفحة 83 وما فوق مجلد 2

قال ابن حزم في مجلد 4 صفحة 161 في الفصل في الملل والأهواء والنحل: إن معاوية ومن معه مخطئون مجتهدون مأجورون أجرا واحدا!

وقال ابن حزم في مجلد 4 صفحة 161 (وعمار (رضي الله عنه) شهد بيعة الرضوان وشهد الله له بأنه علم مما في قلبه فأنزل السكينة عليه ورضي عنه، ومع هذا قتله أبو الفادية يسار بن سبع السلمي، فأبو الفادية متأول مجتهد مخطئ مأجور أجرا واحدا...!

قال ابن تيمية في منهاج السنة مجلد 3 صفحة 19: وأكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوبا، وتجعلها من موارد الاجتهاد التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد....!

وقال ابن حزم في المحلى وابن التركماني في الجوهر النقي: لا خلاف بين أحد من الأمة بأن عبد الرحمن بن ملجم لم يقتل عليا إلا متأولا مجتهدا مقدرا أنه على صواب!!


الصفحة 411
وهكذا فإن المقتول علي مثل القاتل عبد الرحمن بن ملجم، وكلاهما مأجور، لأن كليهما مجتهد!!!

والقاتل أبو لؤلؤة مثل المقتول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وكلاهما مأجور لأنه مجتهد!!

9 - اجتهادات الخلفاء الغالبين تراكمت وتكاثرت فأصبحت منظومة حقوقية كاملة

اجتهد الخلفاء المتغلبون وأهل طاعتهم في ما لا يعرفونه من الشرع أو في ما لا يرغبون بتطبيقه، وتراكمت الاجتهادات وتكاثرت حتى كونت منظومة حقوقية كاملة ، سارت على قدم المساواة مع المنظومة الحقوقية التي أنزلها الله، بل وتقدمت عليها، فطبقت كل اجتهادات الخلفاء المتغلبين وأهل طاعتهم، وعطلت الشريعة في ما يتعارض مع هذه الاجتهادات!!! وسنعالج هذه الناحية بالتفصيل في ما بعد.

10 - الإجتهاد ثمرة طبيعية لعدم الإعداد والتأهيل

الخليفة المتغلب، غير معد وغير مؤهل لقيادة الأمة.

وإعداده الأوحد وأهليته العظمى، وشهادته الكبرى هو أنه القوي المتغلب! فمن الطبيعي أن لا يعرف الحكم الشرعي، ومن الطبيعي أنه لن يقف مكتوف اليدين أمام الحادثات، ومن غير المعقول إنه يقول إنه لا يعرف، ومن غير المعقول أن يسأل أهل الذكر - أهل بيت النبوة - لأنه لو سألهم لكان في ذلك رفع لشأنهم، واعترافا منه بعلو منزلتهم أمام المحكومين!

فمن الطبيعي أن الأمر المتاح الوحيد أمامه هو الاجتهاد أو القول برأيه، فإن أصاب وهو مصيب حتما لأنه غالب، فذلك بفضل الله وعبقريته، وهو مأجور أجران لأنه مجتهد، وإن أخطأ فالوزر على الشيطان وحده، إنه للإنسان عدو مبين، ومع هذا فالخليفة الغالب لن يعود خاوي الوفاض فهو مأجور أجرا واحدا في حالة الخطأ!!!

فالغالب كالمنشار يأكل بالاتجاهين!!


الصفحة 412
قد تقول شيعة الغالبين: إنه لا يوجد في الشريعة حكم! ونحن نقول لهم: إن الله نزل الكتاب تبيانا لكل شئ، فالله أولى بالتصديق منكم!

11 - مكافأة الخليفة الغالب

علاوة على أن الغالب كالمنشار يأكل في الاتجاهين ويؤجر في صوابه وخطئه، فإن الجموع المسلمة تقديرا لعبقريته وجرأته واجتهاده لاستخراج أحكام الله تعالى من رأيه وعقله للحادثات يتوجب عليها أن تكافئه فتعطيه الطاعة بغير حدود، مهما كانت نتائج اجتهاداته، سيان أكانت طاعة لله أو معصية!!

لماذا؟ لأنه خليفة المسلمين، لأنه القائم مقام النبي، لأنه الغالب!!

يمكن للخليفة الغالب أن يضرب أي مسلم، وأن يأخذ حق أي مسلم، وأن يستولي على مال أي مسلم!!!

يمكن لهذا الغالب أن يكون فاسقا أو ظالما أو معطلا للحدود... يمكنه أن يجور... إلخ.

يمكنه أن يهدم الكعبة كما فعل يزيد، يمكنه أن يستبيح مدينة رسول الله، وأن يولد جيشه ألف عذراء من غير زوج كما فعل قائد جيش يزيد!!

يمكنه أن يقتل ويبيد أهل بيت النبوة كما فعل يزيد!!

ومكافأة لهذا الخليفة الغالب يتوجب على المسلمين كافة أن يطيعوه وأن لا يعصوا له أمرا، فهو مجتهد ومأجور على الخطأ والصواب!!

12 - هذا ليس خيالا وإليك الإثبات

روى مسلم في صحيحه مجلد 6 صفحة 20 - 22 باب لزوم الجماعة، أن الرسول قال (يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين جثمان إنس! قال حذيفة، قلت: كيف أصنع يا رسول الله؟

قال (تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع).