المقدمة
كان البحث عن حقيقة الإسلام وسط ركام من الأقوال والفتاوى والأحاديث وأحداث التاريخ أمرا شاقا وعسيرا. فمنذ أن توفي الرسول صلى الله عليه وآله وحتى اليوم علقت بالإسلام الكثير والكثير من الشوائب التي غطت على معالمه وموهت على حقيقته وقضت على ملامحه حتى أنه تحول إلى إسلام آخر غير ذاك الإسلام الذي ورثه الرسول للأمة. وبدأ وكأن الأمر يحتاج إلى رسول جديد لبعث الإسلام مرة أخرى.
هذا ما توصلت إليه من خلال بحثي وقراءاتي وتجاربي الطويلة في دائرة الواقع الإسلامي بمصر والتي استمرت أكثر من عشرين عاما.
إن ما عايشته وواجهته من قبل التيارات الإسلامية في مصر كان الدافع الأول والأساس الذي أدى بي للغوص من التراث الإسلامي المصدر الأساس لهذه التيارات كمحاولة للوصول إلى الخلل الذي أوجد التناحر والتكاثر بين هذه التيارات.
لم أجد هذا الخلل من الحاضر بل وجدته من الماضي.
وأعترف أن البحث عن هذا الخلل يتطلب شرطا أساسيا لم يكن متوافرا من بداية ألا وهو التجرد من قدسية الأشخاص أي وجود الشخصية الفكرية المستقلة المتحررة من عبادة الرجال. فقد كنت أغوص في التراث وأنا أحمل بين جنبي رهبة وقدسية لرموز السلف بداية من الصحابة ونهاية بالفقهاء.
عندما بدأت أتتبع النصوص وأحداث التاريخ بمعزل عن الرجال. أو بمعنى أدق عندما وضعت النصوص فوق الرجال عرفت الحق.
لقد طبقت القاعدة التي ذكرها الشاطبي في كتابه الاعتصام عن الحق والرجال. هل يعرف الرجال بالحق. أم يعرف الحق بالرجال؟.
وإن كان الفقهاء قد أجمعوا أن الرجال يعرفون بالحق إلا أن هذه القاعدة في الحقيقة لا وجود لا من واقعهم وتراثهم. فهم قد رفعوها شعارا لهم في الظاهر وفي الحقيقة طبقوا عكسها ولقد كان أمر التفريق بين النص والرجال ومحاولة فهم النص بمعزل عنهم هو الذي أوصلني لحقيقة الإسلام. وما كان لي أن أصل لهذه الحقيقة لو التزمت باعتماد أقوالهم وتفسيراتهم للنصوص. هذه الأقوال والتفسيرات التي تفوح منها رائحة السياسة في الغالب لقد اكتشفت الحقيقة وخرجت من دائرة الوهم إلى دائرة الحقيقة عندما تتبعت مسيرة الإسلام من بعد الرسول صلى الله عليه وآله وأعدت قراءته من جديد.
واستراحت نفسي من بعد سنوات طويلة من التيه والحيرة عندما وقع بصري على الطرف المغيب من تأريخ الإسلام وواقع المسلمين واستقرت قدماي على الطريق.
وتبددت الغشاوة فور أن سطع أمامي نور آل البيت وظهرت لي معالم الصراط المستقيم وتيقنت أنني على طريق الإسلام الصحيح.
وما خططته من هذا الكتاب ليس سيرة ذاتية أو تجارب شخصية بقدر ما هو عرض لواقع وتفنيد لحجج وكشف لحقائق غائبة عن المسلمين.
صالح الورداني - القاهرة.
في العاشر من جمادي الآخرة عام 1415 ه.
العنوان البريدي.
ص. ب: 163 / 11794.
رمسيس - القاهرة.
كل مسرح فكري يستمد أضواءه وقبساته من العقيدة، لأنها القاعدة التي يبتني عليها الفكر، وبناء بلا قاعدة رصينة لا ريب صائر إلى زوال.. والثقافات المنتشرة على ربوع المعمورة مهما تعددت مناحيها وتشعبت اتجاهاتها فإنها لا بد وأن تعود لجذورها العقدية..
فتتضاءل لتنحصر في كلياتها وأصولها.. والصراع عقدي بين الثقافات قبل أن يكون فكريا وثقافيا..
أننا حينما نرى استبسالا من بعض المجاميع لتكوين العلاقة الودية بين الحاكم والمحكوم وتأييدها باسم الانفتاح والعقلنة وإشاعة الإيجابية في دائرة الوسط الحركي والجماهيري وإلى ما هنا لك من المصطلحات والمسميات ففي الواقع أن هذه العناوين ترجع إلى فكرة محورية وهي الحاكمية.. وكذلك حينما نشاهد هجوما مستميتا على الحاكم لأنه مستبد وأن العقل لا يؤيد علاقة كهذه فإن فكرة الحاكمية عند أمثال هؤلاء مرفوضة.. فالصراع محوري وعميق..
إن الثقافة ليس بمقدورها أن تنهض لتشكيل جماعات دينية متماسكة وفعالة لولا اللبنات العقدية، الثقافة تظل عاجزة عن اغتيال أنور السادات لعدم تمكنها من صنع رجل كخالد الإسلامبولي، نعم العقيدة وفتوى ابن تيمية هي التي دفعتة لإطلاق النار..
الثقافة تولد مثقفين ليس أكثر بينما تصهر العقائد البشر وتجعلهم رهن الانقياد ولو أدى ذلك للموت.. فخالد ليس رجلا حركيا أملت عليه ثقافته أن يغتال خصمه بل العقيدة دفعته وثقافته للمواجهة..
وبلد كمصر تتجاذب فيه الصراعات، وتمتد على مساحته الحركات الدينية لتنبثق إشعاعاتها لكثير من الدول العربية والإسلامية يجدر بنا أن ننطلق - لنفهم الحقيقة - من الظاهر إلى الجوهر، من الثقافة إلى العقيدة، ستتألف لدينا قهرا علاقة جدلية بين الحاضر والماضي، نرحل للماضي ونسبر أغواره لنصل إلى العقيدة التي تضخ أفكارها بأشكال وتصاوير ثقافية ثم نرتد للحاضر لفهم أعمق للظواهر المتألقة في سماء الفكر..
إننا اعتدنا في البحوث العقائدية أن نبدأ مع بدء الزمن، زمن الرسالة ثم خلافة الخلفاء فالدولة الأموية فالعباسية لكن المذاق هذه المرة جديد، سننطلق من النتائج إلى الأسباب، من الحاضر إلى الماضي، سيكون البحث تطبيقا وملموسا...
إن التوجهات السياسية التي كان لها تأثيرها العميق في تمويه الحقائق وتبرير الوقائع وتغطيه وبعض الأحداث لتسخير التاريخ لصالحها - كما يوضح الكتاب - هي ذاتها موجدة في هذا العصر فلكي نصل لا بد أن نتحرر منها ومن جميع المؤثرات الخارجية.. كذلك النفس المؤثر الداخلي الأكبر نحذرها كيلا تحول بيننا والحقيقة التائهة في أروقة الزمن البائس.. وقد أكد القرآن الكريم على ذلك في قوله: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم).
الأوراق الصفراء والأقلام المأجورة لا تحتاج لمزيد تأمل وكثير تدقيق من أجل اكتشافها، وأن نظرة صادقة كفيلة لتقصي جميع أو أغلب الحقائق المزيفة أو المغطاة بين أسطر الكتب التاريخية..
وأخيرا وليس بآخر إن مثل هذه الكتب العقائدية لا تعني سوى تأكيد أواصر المحبة وتهيئة الطرق المعبدة للوصول لنتائج يبحث عنها كل المخلصين من أبناء أمتنا الإسلامية..
أننا في سجالاتنا العقائدية نتوخى الأمة الواحدة التي تقف على ركائز عقدية واضحة المعالم ليس عليها ضباب أو غيوم وهذه هي الوحدة التي نرومها.. وحدة حقيقية قائمة على أسس متينة وواضحة.
أقدم جزيل شكري للأخوة القائمين على دار النخيل لأنهم بتقديمهم هذه الكتب يرجون تقدما للأمة ووعيا ناضجا.. حفظهم الله جميعا ووفقهم لما فيه الخبر والصلاح.
أقدم شكري لهم ثانيا لإتاحة فرصة التقديم. ولمؤسسة عاشوراء التي قامت بطباعة الكتاب في إيران.
عبد الهادي سلمان
أول الطريق
ومن خلال هذه الفترة عايشت ظهور تيارات ونهاية تيارات. ونمو ظواهر ووقوع أحداث وبروز شخصيات واختفاء أخرى.
ولقد عايشت ذلك كله دون أن تحتويني فكرة أو تيار من التيارات السائدة في الوسط الإسلامي آنذاك لأنني كنت أحمل من رصيد الفكر والتجربة ما يؤهلني لأكون مستقلا عنها.
وكانت هناك محاولات كثيرة لاستقطابي من قبل تيار الأخوان وتيار التكفير وتيار الجهاد. إلا أنني كنت أفضل التعاون مع التيارات الإسلامية من الخارج على الرغم من كون هذا الأمر لم يكن يريح هذه التيارات. من هنا فقد حصرت تعاوني في حدود تيار الأخوان وتيار الجهاد فقط أما بقية التيارات الأخرى فقد كانت ترفض مبدأ التعاون.
وبالإضافة إلى معايشتي هذه التيارات. عايشت أيضا الأطروحة التي تتبناها والتي يتعبد بها الجميع. تلك الأطروحة التي كانت تعتمد على فقه الماضي ولا تعطي للحاضر أهميته المطلوبة.
ولم أكن مستريحا لممارسات هذه التيارات ومواقفها وتصوراتها. كما لم أكن مستريحا لأطروحة الماضي التي تتبناها وتقيم على أساسها تصوراتها ومناهجها..
ومثل هذا الموقف كان يشكل استفزازا كبيرا لهذه التيارات وقد أدى في النهاية إلى عزلي ومقاطعتي وصدور أحكام بالزندقة والزيغ والضلال علي.
صدر هذا الحكم وأنا لا أزال في دائرة الخط السني. وكان صدوره قد فرض علي عدة تساؤلات:
هل مثل هذا الحكم هو وليد التعصب؟.
وهل هو قائم على حجج شرعية؟.
وهل موقفي من أطروحتهم يعد خروجا على الإسلام؟.
ومنذ ذلك الحين بدأت رحلة الشك التي قادتني في النهاية نحو خط آل البيت (عليه السلام).
تشريح الواقع
كان الواقع الإسلامي في مصر أوائل السبعينات تسيطر عليه الجمعيات الأهلية والطرق الصوفية وهما الخطان الباقيان من العهد الناصري. وكان كثير من الشباب الذين جذبتهم موجة التدين يلجأ إلى هذه الجمعيات ويمارس نشاطه من خلالها فلم تكن الطرق الصوفية تشكل جاذبية له (1).
ومن بين الجمعيات التي جذبت القطاع الأكبر من الشباب المسلم آنذاك جماعة أنصار السنة المحمدية والجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية. إلا أن جاذبية الأولى كانت أكبر بسبب تبنيها فكرة الحاكمية والتوحيد بينما كانت الثانية تركز على العبادات ولا تهتم بالسياسة ولها ميول صوفية وإن كانت هي الأكثر انتشارا في الشارع المصري ومساجدها تفوق مساجد الدولة (2).
وجماعة أنصار السنة هي التي قامت بالدور الرئيسي في نقل الفكر الوهابي إلى صفوف الشباب حيث تبنت هذه الجماعة الطرح الوهابي منذ نشأتها في أواخر العشرينات (3).
وعندما أصدر السادات قراره بتفريغ المعتقلات. خرجت منه ثلاثة تيارات انتقلت على الفور إلى ساحة الواقع وأخذت مكانها فيها. وهذه التيارات هي تيار
واستطاع تيار التكفير أن يشكل جاذبية كبيرة للشباب ويستقطب الكثير منهم وأصبح ينافس الأخوان داخل الجامعة وخارجها إلا أنه بدأ في التراجع بعد حادثة مصرع الشيخ الذهبي (5).
أما التيار القطبي فقد التزم السرية ولم تجد أطروحته ذلك الرواج الذي وجدته أطروحة الأخوان وأطروحة التكفير حتى تم ضربه في إطار الضربة الشاملة التي وجهت للحركة الإسلامية عام 1981 م (6) وبالإضافة إلى هذه التيارات الثلاثة برز تيار رابع تفرخ من خلال الفكر الوهابي الذي كانت تبثه جماعة أنصار السنة ومن خلال حركة الغزو الفكري الخارجي الذي كان يعتمد على عدد من دور النشر المصرية التي كانت تقوم بطبع ونشر كتب ابن تيمية وابن عبد الوهاب...
وتوزيعها مجانا على طلبة الجامعات والشباب المسلم في جميع أنحاء مصر. وهذا التيار اصطدم بهذه التيارات الثلاثة ونابذها العداء (7).
وفي عام 1974 م برزت أول طليعة جهادية في مصر بقيادة صالح سرية واصطدمت بنظام الحكم فيما عرف بحركة الفنية العسكرية. وكانت تلك الحركة هي النبتة التي نما على أساسها تيار الجهاد (8).
وفي وسط هذه التيارات كان هناك التيار الإسلامي الحكومي المتمثل في الأزهر والأوقاف. وكان هذا التيار قد نبذ من الجميع وعجز عن اختراق صفوف الشباب مما دفع السادات إلى الاعتماد على الأخوان لمواجهة التيارات الإسلامية المتشددة والتيارات السياسية الأخرى التي تناصبه العداء (9).
وقد احتدم الصراع بين هذه التيارات واشتدت الخلافات وكثرت المنازعات وتكررت الصدامات بين أفراد هذه التيارات داخل محيط الجامعة وخارجها.
وكان كثيرا ما يعتدي أفراد التيار السلفي والتيار الجهادي على عناصر الأخوان. ثم تطور الأمر وأصبح تيار التكفير يعتدي على المخالفين له والمنشقين
والتيار الإسلامي كان يتهمهما بالكفر والإلحاد..
وبالنسبة لي فإن موقعي بين هذه التيارات كان متميزا إلى حد كبير حيث أنني كنت من المستقلين ولي نشاطي الخاص بي وطرحي المختلف عن طرحهم. وكنت أعطي للعقل مكانه وأتيح له القيام بدوره فمن ثم كنت أتميز بالمرونة والتجاوب مع المتغيرات والارتباط بالواقع..
وكانت لي جولاتي المختلفة بين مدن وقرى مصر شمالا وجنوبا. أخطب في مساجدها وألتقي بشبابها وأتحاور مع تياراتها. وكنت وقتها على هيئة القوم مطلقا لحيتي ومرتديا الجلباب التقصير.
إلا أن حواراتي ومناقشاتي مع هذه التيارات لم تأت بنتيجة. فقد كان القوم يرفضون العقل ولا يتيحون لأحد فرصة للخروج عن خط الماضي ونقد رجاله..
والتيار الوحيد الذي خاض في الماضي ونقد رجاله هو تيار التكفير الذي كان يرفض أية مقولة تصطدم بالنصوص حتى أنه تجرأ على عمر وهاجمه بسبب اجتهاده على النصوص. غير أن هذا التيار قد أخضع هذا النقد لنظريته وطرحه فقط سيرا مع القاعدة التي كان ينادي بها وهي من قلد كفر.. وهذه القاعدة كان لها دورها البارز في تحري عناصره من التقيد بالماضي واتباع رموزه. كما كان لها دورها في لفت نظري إلى قضية النص والرجال والتي كان لها دورها في دفعي نحو خط آل البيت (10).
الأخلاق
كانت التيارات الإسلامية. وباستثناء تيار الأخوان - يقودها شباب لا خبرة لهم ولا علم. وتكاد تنحصر محصلته العلمية في محيط كتب معدودة محدودة بحدود الفكر الوهابي.
فمن ثم فإن الصدامات التي كانت تقع بين هذه التيارات وبعضها كانت تتجاوز حدود الأخلاق بصورة تجعل المشاهد يحكم على أن هذا الصراع إنما هو بين فرقتين جاهليتين لا صلة لهما بالإسلام وعند ما كنت رهن الاعتقال في الفترة من عام 1981 م - 1984 م لم أستطع تحمل خلافات عناصر هذه التيارات وسلوكياتها المنحطة ومعاركها التي لا تنتهي. مما دفعني إلى الاستقلال عنهم في حجرة وحدي تارة ومع العناصر الجنائية المحكوم عليها في قضايا إجرامية تارة أخرى (11).
ومع الأسف كنت أجد راحتي وسط هؤلاء ولم أكن أجدها وسط عناصر التيارات الإسلامية مما دفع بهم إلى النقمة علي خاصة أنهم كانوا ينظرون إلى هؤلاء المساجين نظرة ازدراء واحتقار نابعة من عقيدة الاستعلاء على الجماهير التي يعتنقونها.
ولقد كانت عقدة الاستعلاء هذه من أخطر الأمور التي أدت إلى عزل الحركة الإسلامية عن الجماهير وعن الواقع بأكمله. فالهوة التي تفصل بين التيارات الإسلامية والجماهير في مصر إنما يعود سببها لهذه العقد...
وما كان يراه هؤلاء المساجين من العناصر الإسلامية داخل المعتقل من معاملة جافة وقاسية وما كانوا يرونه من سلوكياتهم المعوجة قد دفع بهم إلى الكفر بهذه العناصر وتياراتها وباعد بينهم وبين الإسلام. فقد كنت استيقظ وكذلك السجن بأكمله كل صباح على صوت المعارك الضارية بين أنصار عمر عبد الرحمن وأنصار عبود الزمر. الأول يتعصب له أبناء الصعيد والثاني يتعصب له أبناء الوجه البحري. تلك المعارك التي كانت تستخدم فيها كل الأدوات الممكنة والمتاحة من قطع الأخشاب التي كانوا ينتزعونها من شبابيك الغرف إلى المواسير التي كانوا ينتزعونها من دورات المياه. بالإضافة إلى استخدام أقبح الألفاظ (12).
وإذا كان هذا السلوك يحدث بين أبناء التيار الواحد وهو تيار الجهاد. فماذا من الممكن أن يحدث بين عناصر التيارات المختلفة..؟.
إن مثل هذه الحوادث كانت تدفع بي إلى التساؤل: هل مثل هذه المواقف يعود
لقد تبين لي بعد فترة تأمل أن المسألة ليست مسألة أخلاق وإنما هناك دوافع فكرية وعقائدية تقف من وراء هذا الخلق السئ. دوافع تنبع من الأطروحة التي تتبناها هذه التيارات وتبرر لهذه العناصر مثل هذه الخلق.
وأثناء قراءاتي التأريخية لفتت نظري ظاهرة الخوارج ومواقفهم وصفاتهم. وكم كانت دهشتي عندما تبين لي أن مواقف وصفات هؤلاء العناصر وأخلاقهم هي نفس مواقف وصفات وأخلاق الخوارج الذين وردت النصوص بذمهم وتحذير الأمة منهم (13)...
والخوارج إنما كان تصورهم وأطروحتهم هي التي تبرز لهم هذا الخلق والسلوك السئ المعوج. وكذلك عناصر هذه التيارات.
والخوارج إنما كانوا يتميزون بالغلظة وقسوة القلوب وهذه صفة عناصر هذه التيارات. والخوارج إنما كانت سيوفهم مسلطة على المسلمين يستحلون دماءهم وأموالهم. كذلك عناصر هذه التيارات.
وتفسير هذه الظاهرة على هذا النحو إنما يؤكده التيار الوهابي الذي ارتوت منه هذه التيارات فالتيار الوهابي قام على أكتاف قوم غلاظ متحجرين أورثوا الغلظة والتحجر لاتباعهم فكانوا بهذا نموذجا معاصرا للخوارج الذين انشقوا عن الإمام علي...
والتيار الوهابي يحكم بالشرك والاستحلال على المخالفين له من المسلمين وقد أورث التيارات الإسلامية هذه النزعة.
والتيار الوهابي يعتقد أنه رافع راية التوحيد وممثل الإسلام في الأرض وقد أورث التيارات الإسلامية هذا الاعتقاد الذي نبعت منه عقدة الاستعلاء.
وهكذا كانت الأخلاق أحد العوامل التي دفعت بي إلى إعادة النظر في أطروحة التيارات الإسلامية وكانت واحدة من المنبهات التي نبهتني إلى أنني لا أسير في الطريق الصحيح...
رحلات بين العراق والكويت
كانت لي علاقات كثيرة بالطلبة العرب المقيمين في مصر لغرض الدراسة وكان من بينهم عدد من الشيعة العراقيين. وقد سببت لي هذه العلاقات الكثير من الحرج في الوسط الإسلامي إذ سرت الشائعات تقول أنني أقوم بدور الوساطة بين العناصر الشيعية وعائلات مصرية بغرض تطبيق زواج المتعة.
ولم تكن تعنيني تلك الشائعات على الرغم مما ترتب عليها من الوقيعة بيني وبين كثير من الإسلاميين فقد استفدت كثيرا من تلك العلاقات في التعرف على فكر الشيعة عن قرب وأمكن لي أن أقوم برحلة إلى العراق بدعوة من صديق لي تعرفت عليه في مصر وكان على درجة كبيرة من الثقافة ويقوم بتحضير دراسات عليا في القاهرة وذلك عام 1977 م وهو الدكتور علي القرش (14).
وفي العراق استضافتني عائلته مدة طويلة استمرت أكثر من عشرين يوما وكانت عائلة شيعية كريمة تتكون من أب وأم وثلاثة أشقاء غير صديقي. وكان والد صديقي كثيرا ما يؤمنا في الصلاة بحديقة المنزل حيث كنا نسجد على الحشائش وقد زارني بعض الأخوة من مصر ممن يتحلون بالمرونة وصلوا معنا..
ووالد صديقي هذا كان شخصية ظريفة بها دعابة ويقوم بعرض الخلاف بين السنة والشيعة بصورة مبسطة ومضحكة أحيانا...
ومن خلال تواجدي بالعراق قمت بزيارة مراقد آل البيت ببغداد والطواف على مساجد الشيعة وسماع الدروس والمحاضرات والحوار مع الشباب الشيعي من أصدقاء صديقي..
ونتيجة لهذا كله تبددت من ذهني الكثير من الأوهام والتصورات غير الصحيحة التي كنت أحملها عن الشيعة.. وكانت لي بالإضافة إلى ذلك بعض الملاحظات السلبية إلا أنني نحيتها جانبا لاعتقادي أن الرؤية التي يجب أن تبنى تجاه أي تصور أو أطروحة سائدة إنما تقوم على أساس ما تتبناه هذه الأطروحة من معتقدات لا على أساس سلوك الأفراد وممارساتهم... وانتقلت بعد ذلك إلى الكويت بدعوة من أحد الأصدقاء السنة وهناك قمت بسياحة واسعة بين قطاعات الإسلاميين المختلفة وخرجت بنفس الانطباع الذي خرجت به من مصر. إن ما
وقد عاصرت أثناء تواجدي في الكويت أحد أجنحة تيار جهيمان العتيبي الذي قامت مجموعته باقتحام الحرم المكي عام 1979 م. وكانت عناصره غاية من السفاهة والإنغلاق فقد كانوا يغدون على الصلاة بالنعال في المساجد ويحرمون قراءة الصحف والمجلات وحمل البطاقات وجوازات السفر والنقود لأنها تحوي صورا (15).
وأذكر أن مجموعة منهم قامت بعبور الحدود الكويتية - السعودية بهدف العمرة دون أن يكون معها ما يثبت شخصيتها وتم القبض على أفرادها من قبل السعوديين وترحيلهم إلى الكويت.. وكم كنت ضائقا بهذه الأوضاع والممارسات وأحاول التفلت من الوسط السني لأجل الوصول إلى الشيعة في الكويت والتعرف عليهم وقد كنت أجهل سبل الوصول إليهم. إلا أنني استطعت في النهاية اكتشاف جمعية لهم تحت اسم " جمعية الثقافة الاجتماعية " كنت أتردد عليها وتعرفت من خلالها على بعض الشباب الشيعي وحصلت على عدد من الكتب أذكر منها كتاب السقيفة. وكتاب عقائد الإمامية وكتاب المراجعات. وكنت في تلك الفترة أعمل كمحرر لمجلة البلاغ الإسلامية الأسبوعية ثم تركتها وعملت محررا ميدانيا لمجلة الرسالة الأسبوعية أيضا... والتي تركتها فيما بعد لارتباطها بالعراق وتعمل لحسابه حيث تتلقى التمويل المالي منه.
وقد ربطتني علاقة بصديق شيعي من عناصر جمعية الثقافة الاجتماعية ويدعى " سعيد " وقد قام بجهد كبير لتعريفي بواقع الشيعة في الكويت وكافة أنشطتها.
كما قام بتعريفي ببعض الرموز الشيعية العاملة في الكويت.
وعلى الرغم من حالة الاندماج مع التيار الشيعي بالكويت كانت لي صلاتي بالتيار السني وجماعاته المختلفة وخاصة جماعة الأخوان بقطاعيها المصري والكويتي. كما كانت لي علاقة بحزب التحرير الإسلامي الذي كان له نشاط واسع بالكويت آنذاك. وكنت أداوم على حضور الجلسات الخاصة بالأخوان
لقد كانت الثورة الإسلامية في إيران بمثابة ضربة موجعة للتيار السني الذي ظل لسنوات طويلة ينادي بإقامة الخلافة ويعد ويمني بها. وفي الوقت نفسه كانت بمثابة دفعة قوية لي نحو الالتزام بخط آل البيت. إن نجاح هذه الثورة كان في الحقيقة نجاحا للأطروحة الشيعية. ونجاح الأطروحة الشيعية يعني رسوب الأطروحة السنية (16).
____________
(1) - دفع التيار الوهابي بالشباب إلى نبذ الصوفية ومحاربتها. ويذكر أن في مصر أكثر من ثمانين طريقة صوفية قلة منها غير معترف به من قبل الدولة..
(2) - أنظر كتابنا الحركة الأمية في مصر رؤية واقعية لمرحلة السبعينات وقد كنت من بين أعضاء هذه الجمعية في منتصف السبعينات..
(3) - لا تزال هذه الجماعة تمارس نشاطها حتى اليوم بدعم الوهابية وتصدر مجلة شهرية تحت اسم التوحيد. وتركز في هجومها على الشيعة والصوفية..
(4) - أنظر كتابنا الحركة الإسلامية..
(5) - أدين في حادثة مصرع الدكتور الذهبي وزير الأوقاف خمسة من قيادات تيار التكفير على رأسهم مؤسس التيار شكري مصطفى وحكم عليهم بالإعدام. أنظر كتابنا الحركة الإسلامية..
(6) - أنظر كتابنا الحركة الإسلامية..
(7) - خرج هذا التيار من تحت عباءة الأخوان أيضا. أنظر المرجع السابق..
(8) - المرجع السابق..
(9) - المرجع السابق..
(10) - أنظر فصل التحرر من الماضي. والدين والتراث..
(11) - أنظر كتابنا مذكرات معتقل سياسي ط القاهرة..
(12) - أنظر المرجع السابق..
(13) - أنظر المرجع السابق..
(14) - أنهى الدكتور علي القرش دراسته في مصر وحصل على رسالة الدكتوراه ثم أنتقل إلى الجزائر حيث يعمل هناك في إحدى جامعاتها..
(15) - أنظر كتابنا فقهاء النفط ط القاهرة..
(16) - كتبت الكثير من المقالات عن الثورة الإسلامية في مجلة البلاغ التي كنت أديرها آنذاك.
التحرر من الماضي
لم أكن راضيا عن تلك الأطروحات السلفية التي تلقتها التيارات الإسلامية بالقبول ولم أكن راض عن مثالية السلف.
إن مثل هذا التصور إنما هو ضد العقل فضلا عن كونه ضد الواقع والطبائع البشرية. وتبينه سوف يؤدي إلى جعل العقل المسلم أسير الماضي. بالإضافة إلى جعله أسيرا لتصورات وهمية من شأنها أن تنعكس على واقعه محدثة تناقضا في السلوك والمواقف وسلبية في الأداء. وهو ما يشهد به واقع العمل الإسلامي.. (1).
من هنا فقد كنت دائم الصدام مع الأطروحة السلفية منذ بداية نشأتي في الوسط الإسلامي وكانت النتيجة أن حكم علي بالزندقة وفساد العقيدة من قبل الرموز السلفية السائدة فترة معايشتي للتيارات الإسلامية. كما صدرت تحذيرات لشباب الجماعات مني وتوصيات بوجوب مقاطعتي واعتزالي ولم تكن تعنيني تلك التحذيرات والإشاعات والأحكام التي صدرت في شخصي والتي تطورت فيما بعد إلى حملات هجومية تتبنى سلاح الطعن والتشويه. فقد كان يشغلني أمر البحث عن مخرج لما أنا فيه من تيه بعد أن تيقنت أن هناك خللا ما في الأطروحة الإسلامية المعاصرة.. السائدة طوال تلك الفترة. من بداية السبعينات وحتى منتصفها تقريبا كنت قد أصدرت عدة أحكام في كثير من كتب التراث المتداولة بين أيدينا وعلى رأسها كتاب العقيدة الطحاوية الذي يعد ركيزة التأسيس العقائدي لشباب
وبالإضافة إلى هذين الكتابين كانت هناك كتب المدرسة الحنبلية وفي مقدمتها كتب ابن تيمية والتي أغرق الوسط الإسلامي بها وكانت في أغلبها توزع مجانا وخاصة على طلبة الجامعات ومعها كانت توزع كتب محمد بن عبد الوهاب (3).
ولم تكن الرموز البارزة في الوسط الإسلامي آنذاك وعلى رأسها رموز الأزهر والأخوان المسلمين على الرغم مما كانت تشكله من قدسية في نفوس شباب التيارات الإسلامية - لم تكن تملك المقدرة على التصدي لهذا الزحف الفكري القادم من الصحراء والذي كان يختطف النشأ المسلم من عالم الحاضر ليلقي به في متاهات الماضي. بل استسلمت تماما لهذا الزحف ووقفت أمامه موقف المتفرج.
تيار التكفير
وعندما برز تيار التكفير على الساحة أحدث هزة كبيرة للخط السلفي ولأطروحة الماضي وأسهم بشكل غير مباشر في تعويق مسيرة الخط الوهابي والتيارات المتحالفة معه. فقد قام هذا التيار ينادي برفض فكرة التقليد والتمسك بأقوال الرجال وبهذه الأطروحة الجريئة منح معتنقيه حرية التلقي المباشر من الكتاب والسنة أو بمعنى أدق منحهم حرية إعمال العقل في النصوص بمعزل عن الرجال...
وإن كان تيار التكفير قد اعتبر أن من قلد كفر استنادا إلى قوله تعالى (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) (التوبة: 31) ونبذ الصحابة والفقهاء الذين يراهم قد تجاوزوا النصوص واجتهدوا عليها إلا أنه استسلم استسلاما مطلقا لرجال السنة وعلى رأسهم البخاري ومسلم وأصحاب السنن وانطلق يتلقى منهم النصوص النبوية وفق مقاييسهم وقواعدهم فصحح ما صححوه وضعف ما ضعفوه ونبذ ما نبذوه. وبالتالي وقع في متاهة الرجال من طريق آخر. وأوجد في أطروحته ثغرة وشرخا أسهم فيما بعد في القضاء عليه وتمزيقه ودعم مواقف خصومه من التيارات الإسلامية الأخرى.
إن تيار التكفير قد أسهم في دفعي نحو الاسراع في عملية التحرر من الماضي خاصة بعد ما اكتشفت أن فكر التكفير لا يخرج في محتواه ومضمونه عن فكر الخوارج الذين حاربوا الإمام عليا وانشقوا عن الخط الإسلامي السائد خاصة فرقة الأزراقة منهم (5).
وكنت قد عقدت مقارنة بين أطروحة تيار التكفير وأطروحة فرقة الأزراقة وقمت بنشرها وتوزيعها في الوسط الإسلامي وأحدثت أثرا كبيرا وكانت بمثابة مفاجأة للكثيرين الذين كانوا يتصورون أن أطروحة التكفير أطروحة اجتهادية جديدة خالية من رواسب الماضي...
وقمت أيضا بتأليف كتاب تحت عنوان: الحق. هل ينحصر في جماعة واحدة؟ ردا على إدعاء تيار التكفير أن الحق ينحصر في دائرته (6).
ورغم الهزة الشديدة التي أحدثها تيار التكفير في الواقع الإسلامي بمصر وكشفه للجانب السلبي في التراث وتشكيكه في الماضي ورجاله إلا أن ذلك لم يغير شيئا في شخصيات الذين انتموا إليه ثم ارتدوا عنه ولم يدفعهم إلى محاولة التحرر من الماضي أو فقد الثقة في أشخاص السلف بل أحدث في نفوسهم رد فعل دفعهم إلى التمسك والتشدد في أطروحة السلف وبدا وكأن هذا الموقف من قبلهم بمثابة شعور بالندم على نبذهم لخط السلف.
ومن خلال احتكاكاتي بعناصر تيار التكفير اكتشفت أن هذه العناصر ليست مجرد عناصر انتمت لتيار إسلامي حاله كحال التيارات الإسلامية الأخرى ويحمل أطروحة للنهوض بالإسلام ومواجهة الواقع. إنما كان تصور هذه العناصر أنها انتمت للحق أو للإسلام في صورته الحقيقية. فلم تكن قضية نصرة الإسلام وتمكينه تشغلهم كما تشغل التيارات الأخرى وإنما ما كان يشغلهم هو كيفية دعم ما هم عليه من حق والثبات عليه.
ومثل هذا التصور إنما يعكس بصورة مباشرة فقدان هؤلاء الشباب الثقة فيما بين أيديهم من أطروحات تنطق بلسان الإسلام وتتسمى بمسمياته.
ولا تزال لهذا التيار بقايا في الوسط الإسلامي بمصر وقد انتقل منها إلى بقاع أخرى من العالم العربي والإسلامي.. (7)
فكرة الحاكمية
ومثلما كان تيار التكفير أحد العوامل التي دفعتني نحو التحرر من الماضي كانت أيضا فكرة الحاكمية دافعا آخر لا يقل أهمية عن سابقه. فقد شكلت الحيرة الكبيرة التي كان يعيشها تيار الجهاد في مواجهة الحكومة وتأرجحه ما بين الخروج والطاعة. استفزازا كبيرا لي دفع بي إلى البحث في مسألة الحاكمية والمواقف من الحكومات في فقه السلف وكانت النتيجة التي خرجت بها قد بررت في نظري حيرة هذا التيار وتذبذبه بين ضرورة المنابذة ورفع راية الجهاد وبين الاستسلام للواقع.
إذ وجدت الأطروحة السلفية منحازة بالكامل للقوى الحاكمة داعمة موقفها بكثير من النصوص النبوية التي تبرر هذا الانحياز وتضفي المشروعية عليه.. (8) وبالطبع فقد كشفت عملية البحث هذه الكثير من الأمور والقضايا التي زادتني يقينا بأن هناك أيد خفية عبثت بالإسلام وطوعت قواعده ومفاهيمه لأغراض سياسية..
وفكرة الحاكمية التي هي محل جدل بين التيارات الإسلامية حتى وقتنا الراهن وتتفاوت مواقف هذه التيارات منها ما بين رافض لها كالتيار السلفي وتيار الأخوان ومتبن لها كتيار الجهاد وتيار القطبيين. هذه الفكرة تعد المتسبب الأول في انتكاسة الحركة الإسلامية المعاصرة وفشلها في الانتشار والتمكن على ساحة الواقع. بل فشلها في ممارسة العمل السياسي (9).
وسر ذلك يكمن في اعتماد الحركة على فقه الماضي كمستند ومصدر وحيد لتفسير هذه الفكرة. فتيار السلفيين والأخوان اعتمد على رؤية فقهاء السلف المنحازة
ومثل هذا التخبط في تحديد ماهية الحاكمية بين التيارات الإسلامية المعاصرة إنما يعود إلى تخبط فقهاء السلف في تحديد ماهيتها حيث وقفوا أمام قوله تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (المائدة: 44) موقفا تبريريا يطوع النص لغير غرضه الظاهر حيث قالوا: كفرا دون كفر ولم يجرؤ أحد منهم على توجيه هذا النص نحو حكام زمانه. وقد انتقلت هذه الرؤية إلى التيارات الإسلامية المعاصرة وتبناها تيار الأخوان والسلفيين بينما نبذها تيار الجهاد والقطبيين على أساس أن حكام اليوم غير حكام الأمس. وإذا لم يكن حكام الأمس قد تجاوزوا حدود الإسلام فإن حكام اليوم تجاوزوها ودخلوا دائرة الكفر البواح التي جعلها فقهاء الأمس شرطا أساسيا لوجوب الخروج على الحكام حسبما نص الحديث النبوي.. (12) مثل هذه المواقف التي تبناها فقهاء الأمس من الحكام والتي بنيت في مجملها على أساس مجموعة من الأحاديث المنسوبة للرسول (صلى الله عليه وآله) والتي لا يستريح لها قلب المؤمن ولا عقله، أثارت الشك في نفسي وزكت نزعة الاعتقاد بأن السياسة تدخلت في صياغة الإسلام. وإذا كان الرسول من الممكن أن يقول هذا الكلام فما هو دور الإسلام إذن. وهل جاء ليقر الظلم ويمنح الحاكم سلطة استعباد الناس والاستيلاء على أموالهم.. (13) إن مواقف فقهاء الأمس السلبية من الحكام والمبررة لأفعالهم وممارساتهم المتناقضة مع الإسلام قد انعكست على واقع الحركة الإسلامية اليوم وعلى تصوراتها
ولا شك أن مثل هذا الأمر كان من الصعب بل ومن الخطورة الجهر به في تلك الفترة وكان أقل ما يمكن أن يحدث لي هو منحي رتبة كافر أو زنديق.
إلا أنني حاولت نقد هذه النصوص وضربها بصورة لا تثير الشك ولا تدفع إلى نبذي آنذاك وهذه الصورة تمثلت في معارضة هذه النصوص بنصوص أخرى واردة على لسان الرسول (صلى الله عليه وآله) وتقول بعكس ما تقول هذه النصوص التي تقول بوجوب طاعة الحكام وهي النصوص التي تقول بوجوب الخروج عليهم والتي لم يجد هؤلاء الفقهاء من حل في مواجهتها سوى العمل على تقييدها.. (15) ولعل أبرز صورة للتخبط والحيرة التي سببتها هذه النصوص للحركة الإسلامية تجلت في تيار الجهاد بمصر ذلك التيار الذي عجز عن اتخاذ الموقف الشرعي من نظام السادات والحكم عليه بالكفر البواح وتاه بين مقولات السلف وتفسيراتهم لهذه النصوص حتى اهتدى لفتوى ابن تيمية الخاصة بوجوب قتال معطلي الشرائع فبنى عليها موقفه من السادات وقام بتطبيقها عليه خاصة بعد أن أعلن علمانيته وهاجم الحجاب وأظهر عداءة للتيار الإسلامي في أواخر عهده.. (16) وكأن القوم كانوا ينتظرون من السادات أن يعلن الكفر البواح حتى يعلنوا الخروج عليه ويقرروا استباحة دمه. أو بمعنى أدق كانوا يريدون تطبيق قواعد السلف حول مسألة الخروج وجهاد الحاكم على السادات حتى ينفوا عن أنفسهم الحرج الشرعي..
إن القاتل الحقيقي للسادات هو ابن تيمية ولم يكن خالد الإسلامبولي سوى
ولكنه فقه الماضي الذي حال دون تمكن الحركة في الحاضر ولا يزال يحول.
كتب العقائد
انتشرت بين شباب التيارات الإسلامية في فترة السبعينات كتب العقائد بتوجيه من قيادات هذه التيارات وعلى رأس هذه الكتب كتاب " العقيدة الطحاوية " للطحاوي المصري. وكتاب " العقيدة الواسطية " لابن تيمية. وكتاب " التوحيد الذي هو حق الله على العبيد " لمحمد بن عبد الوهاب. ومثل هذه الكتب كانت تركز على القضايا المتعلقة بالأسماء والصفات والإيمان والشرك موهمة الشباب أن عدم معرفة هذه الأمور من شأنه أن يضيع إسلامه ويحبط عمله..
وكتب العقائد هذه تحوي الكثير من الأطروحات السياسية والفكرية والاجتهادية التي لا صلة لها بمسألة العقيدة والإيمان والكفر. لكن القوم حشروها في هذه الكتب حتى يدفعوا المسلمين إلى الاعتقاد بها والذود عنها وبالتالي يتقيدون بالخط الذي رسموه لهم.. (17).
ولقد كنت أتأمل هذه الكتب وأطرح على نفسي التساؤلات التالية:
ما صلة مسألة الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بالعقيدة..؟
ولماذا يصر فقهاء السلف على ضرورة الاعتقاد بهم بهذا الترتيب الرباعي..؟
وما هو الدليل الشرعي على ذلك..؟
وما صلة الحكام بالعقيدة. وكيف يجعل أمر طاعتهم والصلاة خلفهم والحج معهم والجهاد تحت رايتهم من العقيدة؟ ولماذا يحاول الفقهاء إجبار الأمة على الاعتقاد بضرورة الصلاة وراء كل بر وفاجر..؟ ولماذا تحيز فقهاء السلف لرأي يناقص القرآن والعقل حول هذه القضية..؟ (18).
ولماذا يصر الفقهاء على تلقين الأمة مفهوما محددا عن آل البيت ويجعلونه عقيدة..؟.
ولماذا يسمون كتب العقائد بأسماء أصحابها كالعقيدة الطحاوية. والعقيدة