أليست هذه التسميات تشبه تسميات النصارى لأناجيلهم المختلفة: إنجيل متى. وإنجيل لوقا. وإنجيل يوحنا. وإنجيل مرقس وخلافه..؟ (20).
لقد خرجت من هذه التأملات بنتيجة مفادها أن جميع هذه الأمور لا صلة لها بالعقيدة وأن العقيدة الحقيقية هي شئ آخر غير هذه المفاهيم والأطروحات التي لا تخرج عن كونها أطروحات فرضتها السياسة وباركها الفقهاء (21).
إلا أن هذه النتيجة لم ترح عقلي فقد كنت أشك أن هناك سرا أو دافعا قويا وراء حشو كتب العقائد بمثل هذه الأمور..
وهذا التفسير كما هو واضح لا يحسم الأمر ويرجح كفة أهل السنة. ففضلا عن كون هذا الحديث (22) هو الدليل الوحيد الذي يتمسكون به لإثبات هذا الادعاء.
فهو من جهة أخرى ظني الدلالة ولا يفيد معنى قطعيا من هذه المسألة.. (23) وإن صح التسليم بمنطق أهل السنة فهذا يعني كفر جميع الفرق الأخرى.
وانحصار الحق في دائرتهم. وهذا أمر يرفضه العقل فهم لا يتميزون عن الآخرين بشئ وما يطرحونه لا يخرج عن كونه اجتهادا يحتمل الخطأ والصواب.. (24) ولقد كانت كتب العقائد تزكي في نفوس الشباب مفهوم أهل السنة للفرقة الناجية مما كان يدفع بهؤلاء الشباب إلى الاستسلام المطلق لأطروحتهم وقبول محتوياتها دون قيد أو شرط وقد عشت طويلا في هذا الوهم حتى هداني عقلي إلى التحرر منه بفضل الله تعالى..
إن فكرة الفرقة الناجية لم تكن لتتوافق مع اتجاه يوالي بني أمية وبني العباس وغيرهم من الحكام أصحاب التاريخ المسطر بدماء المسلمين..
ولم تكن لتتوافق مع فقهاء يبررون مواقف وممارسات هؤلاء الحكام (25)..
لم تكن لتتوافق مع أناس يهينون الرسول ويفضحونه (26)..
وكيف يقبل العقل وتستريح النفس إلى أن شخصا مثل يزيد بن معاوية يمكن أن يكون من الفرقة الناجية..؟
إن قوما بهذه العورات يغرقون في هذه الانحرافات لا يمكن أن يكونوا من
إن التحرر من وهم الفرقة الناجية كان من أهم العوامل التي ساعدتني في التحرر الكامل من الماضي برموزه وأطروحاته. فهذا الوهم كان يفرض سياجا حول العقل ويحول بينه وبين أية محاولة للشك أو النظر في محتويات الأطروحة السنية. وكذلك إخضاع رجال السلف صحابة وفقهاء لدائرة النقد. وبحث مواقفهم وأقوالهم. فما دام العقل يعيش حالة من الاستسلام المطلق للماضي المقدس على أساس كونه يمثل أهل الفرقة الناجية فمن الصعب أن يصدر حكما فيه دون أن يتحرر من وهم القداسة النابع من مفهوم الفرقة الناجية..
ولقد شكل مفهوم الفرقة الناجية حالة من التعصب لدى الشباب المسلم الذي تشبع بهذه الفكرة وبني على أساسها موقفا عدائيا من الآخرين خاصة من الشيعة حال بينه وبين المرونة في مواجهة الواقع والأحداث وانعكس هذا الموقف بالتالي على واقع الحركة الإسلامية وتصوراتها..
الإتباع..
كان مما يثيرني في الوسط الإسلامي بمصر قضية حصر دائرة الإتباع في محيط مدرسة ابن تيمية وأتباعه. وكنت كلما تأملت هذا الأمر تطرأ على ذهني التساؤلات التالية: لماذا حصر الإتباع في دائرة ابن تيمية وأتباعه..؟.
وأين دور المدارس السلفية الأخرى..؟.
ولماذا تبرز مسألة رفض المذهبية بقوة بين أوساط الشباب المسلم..؟.
لقد بدأت أشك أن هناك قوى خفية تستدرج هذا الشباب إلى خط محدد يجعلهم صيدا سهلا لتيارات مشبوهة..
وعندما برز أمامي الدور الوهابي المشبوه وجدت الإجابة على هذه التساؤلات جاهزة. فقد تكشف لي أن هذا الخط الذي اخترق صفوف الشباب والجماعات هو منبع هذا الموقف وهو الذي يغذي مثل هذه التصورات التي تقوم على الاستخفاف
وقد اكتشفت أن هؤلاء الذين ينادون برفض المذهبية من الشباب ورموز التيارات الإسلامية هم متمذهبون دون أن يعلموا. فهم إن كانوا يرفضون الالتزام بمذاهب الفقهاء الأربعة المعروفة هم في الحقيقة يتبعون مذهب الحنابلة بل ويلتزمون بالشق المتطرف منه الذي تبناه ابن تيمية وبعثه محمد بن عبد الوهاب.. (27) لقد تبين لي أن أية محاولة لنبذ الإتباع والتقليد إنما هي في حقيقتها محاولة لنقل المرء من إتباع إلى إتباع ومن تقليد إلى تقليد. فهؤلاء الذين ينادون برفض المذهبية والتقليد إنما تمذهبوا بمذهب ابن تيمية بطريق غير مباشر بل ومذهب باعث أفكاره وأطروحته محمد بن عبد الوهاب فهم قد انتقلوا من تقليد وإتباع أبي حنفية والشافعي ومالك وابن حنبل إلى اتباع وتقليد ابن تيمية وهم بهذا لم يأتوا بجديد سوى أنهم غرروا بالشباب المسلم وعزلوه عن المدارس الإسلامية المتنوعة وحصروه في دائرة مدرسة محددة شاذة عن المسلمين.. (28) وفريق التكفير عندما نادى بنبذ التقليد إنما وقع في نفس المتاهة وانتقل بأتباعه من تقليد أهل الفقه المعروفين إلى تقليد شكري مصطفى مؤسس تيار التكفير وصاحب أطروحته وبالبحث والدراسة فيما يتعلق بالمذاهب والمدارس الإسلامية المختلفة توصلت إلى الحقائق التالية:
أن هناك مدرسة منبوذة بين مدارس السلف وهي مدرسة آل البيت (ع)..
أن نبذ هذه المدرسة وعزلها كان لأغراض سياسة..
أن هذه المدرسة تتلمذ عليها الكثير من الفقهاء على رأسهم مالك وأبو حنفية والشافعي..
أن الشيعة هم الطائفة الوحيدة من بين المسلمين الذين يتقيدون بهذه المدرسة ويتلقون منها..
أن ابن تيمية هو أبرز فقهاء السنة وأكثرهم عداء للشيعة ومحاربة لها.
بعد هذه النتائج بدت المسألة لي أكثر وضوحا. هناك مجموعة من الخطوط التي عبثت بها السياسة وهناك خط معادي من الجميع.. (29) الخطوط هي المذاهب..
والخط الآخر هو خط آل البيت (ع)..
والسؤال الذي فرض نفسه علي بعد هذا كله هو: لماذا يعادى خط آل البيت (ع). وما هي معالم هذا الخط. وأين هي أطروحته..؟.
وبالطبع لم أجد الجواب عند القوم. فقد محت السياسة كل شئ يتعلق بآل البيت من تراثهم ولم تبقى إلا على القشور وما يخدم مآرب وتوجهات ومصالح الحكام. فمنذ أن برز معاوية وساد الخط الأموي وبدأت الأمة تسير في خط آخر معاد لآل البيت بدأ بسب الإمام علي على المنابر وانتهى بذبح وتصفية أبناءه وأشياعهم ومحو تراثهم وعلومهم.. (30) منذ ذلك الحين برزت عائشة وابن عمر وأبو هريرة لينطقوا بلسان الرسول (صلى الله عليه وآله) ويكونوا المتحدثين الرسميين باسم الإسلام لتتبعهم الأمة وتسير على هداهم..
من هنا فقد تكشف لي أن عملية حصر دائرة الإتباع في مدرسة محددة إنما هي وليدة مراحل سابقة لمرحلة ظهور المذاهب. أنها وليدة عصر ما بعد وفاة الرسول.
وبرزت بصورة أكبر على يد الأمويين بقيادة معاوية الذي وجه الأمة نحو صحابة ورموز تدعم شرعيته ولا تتناقض مع خطه وقام بنبذ الصحابة والرموز الذين يوالون خط آل البيت بقيادة الإمام علي والتعتيم عليهم.. (31) وهكذا تبين لي أن الإتباع والتلقي قد قام على أساس الانحياز لخط معين من الحكام. وأن الأمة سارت في ذلك الخط على حساب مدرسة آل البيت وخطهم.
وأن هذا الانحياز كان بتخطيط وتوجيه من الحكام. وأن الأمة سارت على هذا
وكان علي بعد هذا كله وبعد أن تبين لي هذا الخلل وتكشف لي هذا التناقص وأفاق عقلي من وهم الفرقة الناجية ودخل الشك نفسي في مسألة الإتباع والتلقي من مدرسة أهل السنة، كان علي أن أتحرر من هذا الماضي وأرفع أغلاله عن عنقي لأتمكن من البحث في حرية عن دائرة الإتباع والتلقي الشرعية متبنيا منهج الشك فيما بين يدي من أطروحات سلفية على ما سوف أبين في الفصل القادم..
____________
(1) - أنظر كتابنا العقل المسلم بين أغلال السلف وأوهام الخلف.
(2) - أنظر مناقشة هذه الكتب في كتابنا فقه الهزيمة وأنظر المرجع السابق. وكتاب العقيدة الطحاوية هدفه إلزام المسلم بعقيدة تخدم الخط السائد. والعواصم كتاب هدفه منع المسلم من الخوض في الأحداث المتعلقة بالصحابة حتى لا يزيغ بزعمهم وهو يحقق الهدف أيضا..
(3) - كان شباب الجامعات في مصر ركيزة الحركة الإسلامية في مصر. وكانت الكتب السلفية والوهابية تطبع في مصر عن طريق دور نشر سلفية وإخوانية. أنظر كتابنا الحركة الإسلامية في مصر.
(4) - كان كثيرا ما يكتشف عناصر التكفير الكثير من النصوص النبوية التي تشكل حرجا لأفكارهم وتكون بمثابة مشكل لهم. وكانوا في مواجهتها بين أمرين: إما أن يؤولوها وهذا يجعلهم متساوين مع رجال السلف الذين كفروا مقلديهم. وإما أن يرفضوا هذه النصوص وهذا يوقعهم في حرج أكبر وقد اضطروا لتبني نهج التأويل في مواجهة حملات الخصوم مما دفع بالكثير من عناصر التيار إلى التململ والارتداد عن التيار.. أنظر كتابنا الحركة الإسلامية..
(5) - أنظر تاريخ فرقة الخوارج.
(6) - هذا الكتاب كان يتداول مخطوطا وقد فقد مني بعد انقطاع صلتي بالوسط السني.
(7) - وقد أنتقل تيار التكفير إلى اليمن والأردن والسعودية والجزائر وحتى أوروبا.
(8) - سوف نعرض لهذه النصوص في باب رحلة الشك.
(9) - أنظر هذا الأمر بتوسع في كتابنا عقائد السنة وعقائد الشيعة. وكتابنا الإسلام والعمل السياسي.
(10) - أنظر كتابنا الحركة الإسلامية في مصر. ولابن تيمية فتوى شهيرة تجيز مقاتلة معطلي الشرائع من الحكام وقد بناها على أساس حكام التتر الذين أسلموا وحكموا فيما بينهم كتاب " الياثق " وهو كتاب من وضع جنكيز خان ويحوي أحكاما من التوراة والإنجيل والقرآن ومن عنده. وقد اعتمد تيار الجهاد على هذه الفتوى في تبرير صدامه مع الحكومة المصرية. أنظر فتاوى ابن تيمية. وكتاب الفريضة الغائبة لمحمد عبد السلام فرج أحد الخمسة الذين أعدموا في قضية اغتيال السادات..
____________
(11) - أنظر الحركة الإسلامية. والإسلام والعمل السياسي. وقد صدرت عدة منشورات من التيار السلفي والتيار الجهادي تهاجم الذين يمارسون العمل السياسي من الإسلاميين. منشور صدر عن التيار السلفي تحت عنوان: القول السديد من أن دخول مجلس الشعب مناف للتوحيد. وأصدر تيار الجهاد منشورا تحت عنوان: أإله مع الله. إعلان الحرب على مجلس الشعب..
(12) - ربط الحديث في إباحة الخروج على الحكام بقيد: إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان. وهذا يعني استحالة الخروج وقطع السبيل على الخارجين. أنظر مسلم..
(13) - أنظر باب رحلة الشك.
(14) - أدت هذه الروايات إلى حدوث انشقاقات وصدامات فكرية بين التيارات الإسلامية وبعضها خاصة بين تيار الجهاد وتيار الأخوان والسلفيين.
(15) - أنظر باب رحلة الشك.
(16) - القاتل الحقيقي للسادات هو ابن تيمية فلولا فتواه ما وجد هؤلاء الفتية مبررا لقتله.
(17) - أنظر باب رحلة الشك.
(18) - يتبنى فقهاء السنة الكثير من الروايات والآراء التي تفيد التجسيم والتشبيه. أنظر عقائد السنة وعقائد الشيعة..
(19) - أنظر مناقشة هذه الكتب في كتابنا فقه الهزيمة. وهذه الكتب عدا كتاب العقيدة النسفية. تقوم بطبعها وتوزيعها بعض الدول مجانا على المسلمين في كل مكان..
(20) - أنظر عرض هذه النصوص في باب رحلة الشك.
(21) - من هذه الكتب كتاب الفرق بين الفرق للبغدادي. وكتاب الملل والنحل للشهرستاني. وكتاب مقالات الإسلاميين للأشعري.
(22) - رواه أبو داود وأحمد وابن ماجة. والحديث من رواية معاوية.. تأمل. وقد انتقد الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الراحل هذا الحديث في كتابه التفكير الفلسفي في الإسلام. كما انتقده الشيخ الغزالي في كتابه المستشرقون.
(23) - أنظر مناقشة هذا الحديث في كتابنا فقه الهزيمة. وأنظر المراجع السابقة.
(24) - أنظر عقائد السنة وعقائد الشيعة.
(25) - أنظر فصل التبرير والتأويل من الكتاب.
(26) - أنظر فصل الرسول والنساء.
(27) - غرر بالحركة الإسلامية والرموز الإسلامية المعاصرة الذي توهموا بأن الخط الوهابي يمثل أطروحة السلف بينما هو في الحقيقة يمثل خط ابن تيمية المنبثق عن الحنابلة الذين كانوا في شقاق وصدام دائم مع المسلمين المخالفين.
(28) - يعتبر طرح ابن تيمية شاذا في الفقه السني وقد عودي من علماء عصره وحكم بكفره وحبس بتحريض من الفقهاء حتى مات في الحبس. أنظر الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (ج 1 / 152).
(29) - دعم العباسيون المذاهب وكذلك صلاح الدين والظاهر بيبرس. وكان الهدف من دعم هذه الخطوط هو ضرب خط آل البيت المتمثل في الشيعة.
____________
(30) - أنظر كتابنا السيف والسياسة في الإسلام.
(31) - أنظر باب تضخيم الرجال من هذا الكتاب..
الدين والتراث
كان العرف السائد أن ما بين أيدينا هو الدين. وهكذا كنت أتصور لفترة من الزمن. هي فترة نشأتي الفكرية. إلا أنه مع مرور الزمن وحصولي على قدر من الوعي والخبرة أمكن لي أن أتبين الفروق بين التراث والدين..
وتجلت أمام عيني حقيقة ساطعة وهي أن الصراع الفكري المحتدم بين المسلمين إنما هو صراع يقوم على أساس التراث وليس على أساس الدين..
وتبين لي أن الجماعات والتيارات الإسلامية إنما بنت تصوراتها وأصولها الفكرية على أساس أطروحات تراثية وليس على أساس نصوص دينية.
وقد تجلى هذا الأمر بوضوح في الأصول الفكرية التي يقوم عليها تيار الأخوان والتيار السلفي وتيار الجهاد وحتى التيار الحكومي. ويبدو أكثر وضوحا في ردود هذه التيارات على الجماعات المنشقة عنها والمناوئة لها مثل تيار التكفير. (1) كما يبدو في كم الفتاوي والخطب والمؤلفات السائدة في الوسط الإسلامي والتي تعكس نتاجات واجتهادات ومواقف لفقهاء السلف أكثر من كونها تعكس نصوصا..
من هنا فإن إحساسي بالخديعة وحكمي بالزيف على الأطروحة الإسلامية
وينبغي قبل الخوض في التفاصيل أن نعمل على تعريف مفهوم التراث ومفهوم الدين حتى يمكن التفريق بينهما. فمن دون هذا التفريق يحدث الخلط وتضيع حقيقة الدين..
ما هو الدين..؟
إن الدين هو مجموعة النصوص التي جاء بها الرسول وبلغها للناس. الدين هو حركة اتصال بين الله والإنسان ينتج عنها الالتزام بعقائد وشرائع إلهية..
والكتاب الذي يأتي به الرسول إلى قومه إنما يحوي أصول وقواعد هذا الدين.
فمن ثم تعد مخالفته والطعن فيه خروجا عن الدين وكفرا به.
التوراة تحوي دين اليهود..
والإنجيل يحوي دين النصارى..
والقرآن كما بلغه وبينه يحوي دين المسلمين..
وما دام القرآن يحوي دين المسلمين فهو كما بينه الرسول يعد المصدر الوحيد لهذا الدين وأية محاولة للجوء إلى مصادر أخرى معناه تشوه هذا الدين وضياع معالمه..
وقديما أفتى ابن تيمية بكفر التتار الذين أسلموا لأنهم حكموا في حياتهم " الياثق " بجوار القرآن كما أشرنا في الباب السابق..
والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تنحصر مهمته في تبليغ القرآن وتبيينه للناس (وما على الرسول إلا البلاغ) (سورة النور: 54) وهذا التبيين إنما يكون ضمن حدود القرآن. وحتى يكون هناك التزام من الرسول بهذه الحدود ضبطت حركة نطقه وقيدت بالوحي (وما ينطق عن الهوي إن هو إلا وحي يوحى) (سورة النجم: 3 - 4) وذلك من أجل الحفاظ على شكل الدين وقواعده كما أراد الله سبحانه..
إن فهم دور الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مقدمة لفهم القرآن.
وفهم القرآن هو معرفة الدين والإحاطة به. ودور الرسول في البلاغ والبيان ينتهي
والقرآن هو المصدر الوحيد الذي نمسك به بين أيدينا وليس محل خلاف وما دونه من المصادر هي محل خلاف بين المسلمين. وعلى رأسها مصدر السنة أو الأحاديث..
إلا أنه مع المتغيرات والخلافات والسياسات أصبح الذين ينادون بالقرآن متهمون من قبل الفقهاء بالتآمر على الإسلام..
وحيث أن السنة هي تبيين للقرآن فإن هذا التبيين إنما يكون في حدود القرآن ولا يتجاوزه. وعلى هذا الأساس ينبذ كل ما ينسب للرسول مما يخالف نصوص القرآن..
لكن القوم اعتبروا أن كل ما يقوله الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتثبت - في نظرهم وعلى حسب قواعدهم - صحته يجب أن يلتزم به المسلمون ويتعبدوا به حتى وإن خالف القرآن..
وثبوت صحة الحديث إنما تقوم على أساس السند عندهم وليس على أي أساس آخر أي ما دام الرواة الذين نقلوا الحديث عدولا ولا غبار عليهم حسب مقاييسهم يكون الحديث صحيحا وتبقى مسألة مخالفته للقرآن إشكالية ظاهرية أو لفظية يمكن التغلب عليها. حتى أن بعض الفقهاء اعتبروا جواز نسخ القرآن بالحديث..
ومثال ذلك أن الفقهاء اعتمدوا عدم جواز نكاح المرأة على عمتها واعتبروا ذلك من المحرمات على أساس حديث وارد عندهم أثبتوا صحته. في حين أن القرآن ذكر المحرمات من النساء بالتفصيل ولم يذكر من بينهم عمة أو خالة الزوجة (2)..
ولا شك إن تبني مثل هذه الرؤية سوف ينعكس على مفهوم الدين ويجعل المسلمين مشتتين بين أحكام القرآن وأحكام الرسول المبينة له وبين أحكام المرويات عن الرسول مما هو مناقض للقرآن ومخالف لأحكامه..
وإذا ما تبين لنا أن مهمة الرسول صلى الله عليه وآله هي تبليغ ما يوحي إليه من ربه.
فيتحدد لنا الدين بالتالي في حدود ولا يجوز للرسول أن يضيف أحكاما فوق أحكام القرآن...
ما هو التراث؟
إن التراث هو مجموعة الاجتهادات الحادثة على الدين من أقوال وروايات وتفسيرات ويدخل في دائرته الحديث والتأريخ والفقه والتفسير وشتى النتاجات التي تمخض عنها العقل على ضوء الدين..
إن الدين هو الحق..
والتراث هو متعلقات هذا الحق..
الدين ثابت..
والتراث متغير..
الدين لا يؤخذ فيه ويرد..
والتراث محل أخذ ورد..
الدين بلاغ من الله إلى الإنسان..
والتراث اجتهاد بين الفرد والنص..
ومن خالف الاجتهاد لا يكون بالضرورة قد خالف النص..
من هنا ينبغي علينا أن نفرق بين النص. وبين الاجتهاد الحادث عليه..
بين الدين وأقوال الرجال..
بين النصوص القرآنية الشرعية..
وبين النصوص الوضعية الاجتهادية..
وبدون ذلك لن نصل إلى حقيقة الدين..
ولن نعبد الله عبادة صحيحة..
وعندما نتوقف في قبول ما روي عن الرسول مما هو مخالف للقرآن نكون بذلك قد فرقنا بين النص وبين أقوال الرجال..
ولو أنزلنا أقوال الرجال منزلة النصوص نكون قد عبدناهم كما عبد اليهود والنصارى الأحبار والرهبان..
وهذا ما وقعت فيه التيارات الإسلامية اليوم خاصة تيار التكفير عندما بنت تصورات وأحكاما بالتكفير والحرمة والاستحلال على أساس اجتهادات تراثية وأحاديث نبوية هي محل خلاف ونتج عن هذه التصورات ما نتج من انتكاسات فكرية وحركية للحركة الإسلامية بشكل عام..
وهنا يطرح السؤال التالي: هل النص يسبق الاجتهاد أم الاجتهاد يسبق النص..؟
وتكون الإجابة بالطبع أن النص يسبق الاجتهاد والاجتهاد هو الحادث عليه..
وإذا ما طبقنا هذه القاعدة على جميع الأطروحات الإسلامية على مستوى الماضي والحاضر فإننا سوف نتوصل إلى معرفة الحق بسهولة..
وسوف نضرب على ذلك مثالا من خلال محاوراتنا مع تيار التكفير في فترة السبعينات. كان تيار التكفير يقول بتكفير المصر على المعصية..
وكان يقول بكفر مرتكب الكبيرة..
وكان يقول بكفر المقلد..
وكان يقول بانحصار الحق في دائرته..
ويقول بوجوب الهجرة..
وأمام هذه الأقوال طرحنا السؤال التالي:
هل هذه الأقوال نصوص. أم اجتهادات على ضوء النصوص..؟
فإن زعم المكفرون أنها نصوص يكونون بذلك قد كفروا وخرجوا من دائرة الإسلام. فليست هناك نصوص قرآنية أو حتى نبوية تقول بذلك..
وإن زعموا أنها اجتهادات. فمعنى ذلك أنها تدور في مجال القبول والرفض.
وتخضع للأخذ والرد. فمن ثم هي ليست ملزمة للمسلمين..
والتكفير أو حتى التحريم على أساس الاجتهاد إنما ينزل هذا الاجتهاد منزلة
وهذه هي متاهة الأحبار والرهبان التي أضاعت اليهود والنصارى من قبل وقد وقع فيها المسلمون اليوم بتبنيهم أقوال الرجال بدلا من تبنيهم النصوص..
فتيار التكفير عندما حاول أن يحرر أتباعه من إتباع أقوال الرجال وتقليدهم وقع في الإتباع والتقليد من باب آخر. إذ نقل أتباعه من تقليد المذاهب وفقهاء السلف إلى تقليد مذهبه واتباع اجتهادات شكري مصطفى مؤسس التيار وباعث أطروحته..
كل ما في الأمر أن مجموعة من المسلمين انتقلت من إتباع فقهاء يقولون بأن المصر على المعصية ومرتكب الكبيرة والمقلد ورافض الهجرة ليس بكافر. إلى اتباع من يقول بكفر مرتكب ذلك..
والتزاما بالقاعدة التي ابتدعها تيار التكفير وهي: من قلد كفر. يكون هذا التيار قد كفر وارتدت أطروحته في نحره..
وفقهاء السلف لم يقل أحد منهم أن قوله أو اجتهاده ملزم للمسلمين. وأن مخالفته تدخل المسلم في دائرة الكفر. بينما قال هذا الكلام تيار التكفير اعتقادا منه أن كلامه هو النص..
ولو تبنى المسلمون قضية الفصل بين النصوص وأقوال الرجال معتبرين أن النصوص هي الأصل وأن الاجتهاد حادث عليها مع جميع أطروحات التراث لأمكن جلاء الحقيقة وإظهار الدين في صورته النقية الصافية. إلا أن هذه القاعدة لا يمكن تطبيقها والرجال فقهاء وساسة متربصون بالنصوص وبكل محاولة لتحريرها من قيودهم.
الحق والباطل
ليس في الإسلام مذهبية..
ليس هناك ما يسمى بشيعة أو سنة أو شافعية أو مالكية أو أحناف أو حنابلة..
فكل هذه تسميات تأريخية من اختراع السياسة (3)..
إسلام رباني وإسلام حكومي..
والذي ساد على مر التاريخ هو الإسلام الحكومي..
والذي ضرب واختفى هو الإسلام الرباني..
إن الأسماء والمسميات لا مجال لها هنا. فالمهم هو الحق. وأمام الحق تتلاشى الأسماء والمسميات ويبدأ التركيز على الجوهر..
والبحث عن الحق يوجب تتبع النص لا تتبع أقوال الرجال..
تتبع النص سوف يقود إلى الحق..
وتتبع الرجال سوف يجعل هناك وسائط بين الباحث والنص. وسوف يجعل الباحث رهين الرجال لا رهين النص..
إن النص هو المعيار وهو مناط التكليف. والمسؤولية إنما تقع على كاهل المسلم بالنص. وحسابه يقوم على النص. ونجاته من النار كذلك..
والنص هنا يقصد به النص القرآني أو النبوي الصحيح الموافق للقرآن والعقل فيما يتعلق بمجال الغيبيات والإتباع والسياسة والأخلاق وأصول الدين والولاء والبراءة وخلاف ذلك غير النصوص المتعلقة بالأحكام فهذه محل اجتهاد وتتباين أمامها الأفهام ولها أهلها ممن تتوافر فيهم القدرات العلمية وشروط الاجتهاد..
النصوص المتعلقة بقضايا الدعوة ومستقبل الدين، وأصوله والولاء والبراء وتحديد مصدر التلقي والقدوة والسلوك الإنساني والنجاة من النار لا يجوز التقليد فيها. ومن حق المسلمين أن يعملوا فيها عقولهم من أجل الوصول إلى الحق..
وما ضلت الأمة إلا بتعطيل العقل وتسليم زمامها لفقهاء الماضي وفقهاء الحكومات من المعاصرين لتتلقى منهم دينها دون أن تميز بين ما يجب فيه التقليد وما لا يجب فيه التقليد..
ولو أتيحت الفرصة للمسلمين ليفهموا النصوص المتعلقة بالجهاد والسياسة والحكام ومستقبل الدعوة والقدوة الحقة بمعزل عن الفقهاء لكان من الممكن أن تتكون في أذهانهم صورة الإسلام الحقة التي سوف يجعلونها مقياس الحكم على
من هنا فإن التحرر من هذا الخط هو الخطوة الأولى للوصول إلى الحق. ولن يتحقق هذا التحرر إلا عن طريق النصوص. فهذه النصوص هي التي سوف تحدد لنا القدوة الحسنة التي يجب أن نتبعها ونتلقى منها ديننا من القدوة السيئة التي من الممكن أن نسقط في حبائلها فيما لو نحينا النصوص جانبا وعطلنا العقل..
وعندما تحدد النصوص من هم القدوة ومصدر التلقي تحسم القضية وينتهي الخلاف ويتوجب الالتزام. فهذه القدوة سوف تكون مناط الحق والمعبرة عنه والناطقة بلسانه..
ومن خلال بحثي وتأملاتي تبين لي أن هناك قدوة سيئة سادت الأمة من بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) ومنها برزت جميع الأطروحات التي موهت على حقيقة الإسلام وزيفت النصوص وحجبت بأقوالها وتفسيراتها حقيقتها عن الأمة. وبالتالي أسهمت في تمكين الباطل وإضعاف الحق واختراع سبل متفرقة أضلت الأمة عن سبيل الله..
وعندما يتم الكشف عن القدوة الحقة سوف تتضح أمامنا القدوة الباطلة والحكم في ذلك إنما يكون للنصوص وليس للرجال..
وتبرز لنا أهمية القدوة وكونها قضية مصيرية حين يتبين لنا أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو خاتم الرسل وأن هذا الختم يفرض وجود قدوة حسنة تحفظ الدين من بعده وتسد الفراغ الذي أحدثه غيابه في واقع الأمة. وهذه القدوة يجب أن تتوافر بها مؤهلات خاصة لتأدية هذه المهمة تميزها عن الآخرين حتى لا يقع النزاع وتستقطب الأمة قدوات أخرى تقودها نحو الباطل..
وقد شغلتني هذه المسألة كثيرا أو شكلت حيرة كبيرة بالنسبة لي. في وسط هذه الحيرة كانت هناك تساؤلات كثيرة لا أجد لها إجابة في الأطروحة أو في التراث الذي بين أيدينا أول هذه التساؤلات كان في تحديد ماهية الحق بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟.
وإذا كان ينحصر في القرآن فأين التفسير الحق لهذا القرآن؟.
ولقد تتبعت تأريخ القرآن فلم أجد جوابا بل زدت شكا وحيرة بسبب الطريقة التي تم بها جمع القرآن. والخلافات التي وقعت بين الصحابة حول جمعه وتفسيره (5)..
وزاد الطين بلة تلك الروايات الكثيرة التي تتعلق بآيات من القرآن لم تدون فيه أو تم رفعها وبقي حكمها أو بقى نصها ورفع حكمها (6)..
إن مثل هذا الخلاف حول القرآن قد ولد لدي قناعة بأنه لا بد وأن تكون هناك جهة ما تحسم هذا الخلاف وأن هذه الجهة لا بد وأن تكون هي القدوة الحسنة..
ولكن من هي هذه القدوة؟.
ولماذا لم تبرز لتؤدي دورها في حفظ الدين؟.
إن أمة العرب كأي أمة سابقة لها لا بد وأن ينطبق عليها حال هذه الأمم. ومن المعروف أن الأمم السابقة كانت تمر بحالة تراجع عن الدين (ردة) بعد رحيل الرسول الذي كلف بالدعوة فيها مما كان يقتضي إرسال رسول جديد. فما الذي سوف يقوم هذا الانحراف؟..
لا بد وأن هناك قدوة حسنة تحل محل الرسول من بعده ترجع إليها الأمة؟.
وإذا كان موسى (ع) عندما غاب عن قومه ليأتي بالألواح وضع أخاه هارون مكانه ليخلفه في قومه حتى يعود إليهم. أليس من الأولى بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يفعل نفس الشئ في قومه خاصة وأنه يعلم أنه لا نبي بعده؟.
قد يطرأ على الذهن أن الرسول قد ترك القرآن الذي تكفل الله بحفظه إلى قيام الساعة وهذا وحده كاف لسد الفراغ الذي أحدثه غيابه. والقرآن هو أفضل قدوة..
وأمام هذا الاستنتاج تطرح تساؤلات أخرى:
إن الرسل قد تركوا كتبا بين أقوامهم قبل رحيلهم ومع ذلك انحرفت هذه الأقوام. وبنوا إسرائيل على وجه المثال حرفوا الكلم عن مواضعه. أي أن
هذه القوة هي الفئة المصطفاة من الأمة التي ترث الكتاب من بعد الرسول كما هو حال الأمم السابقة..
وهي ما يتضح من خلال قوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) (فاطر: 32) فلو كان الكتاب وحده يكفي ما أورثه سبحانه للفئة المصطفاة التي هي القدوة من بعد الرسول.
والقرآن لم يحسم الخلاف والردة التي وقعت بعد وفاة الرسول مباشرة وإنما حسم هذا الأمر بواسطة السيف. فالقرآن حاله كحال الكتب السابقة له لا بد وأن تنحرف عنه الأمة. وهو لم يحكم في الخلافات التي وقعت حول مسألة الخلافة.
كما لم يحكم في مواجهة القبائل التي اعتبرت مرتدة وقوتلت على هذا الأساس. ولم يحكم في قضايا أخرى كثيرة (7)..
وبالإضافة إلى الخلاف الذي وقع حول جمعه بين الصحابة. يمكن طرح السؤال التالي:
أن القرآن الذي تركه الرسول لم يحل دون وقوع الردة والخلاف. فهل هذه الردة وقعت بسبب الانحراف عن القرآن أم الانحراف عن القدوة؟..
أن التاريخ يجيب مؤكدا أن السبب المباشر لهذه الردة كان بسبب الانحراف عن القدوة وليس بسبب القرآن..
فالذين منعوا الزكاة كانوا مسلمين..
والرافضون بيعة أبي بكر كانوا مسلمين (8)..
فهم كانوا مسلمين ملتزمين بالقرآن مؤمنين به إلا أن هذا الإيمان وهذا الالتزام لم يحل دون انحرافهم..
من هنا بدأت رحلة البحث عن هذه القدوة المتميزة. وهذه الرحلة كان
إن الحق إنما يعرف بالنص لا بالرجال. والرجال إنما يعرفون بالحق لا العكس. وما دمت معتقدا أن النص فوق الرجال فقد تكشفت أمامي معالم الطريق.
التراث السني والتراث الشيعي
هناك عدة قضايا مشتركة بين التراث السني والشيعي..
وهناك أيضا عدة قضايا تفرض التباعد وعدم التلاقي..
وأثناء رحلتي الطويلة مع التراث كانت تستوقفني الكثير من الروايات والاجتهادات والأقوال التي تبعث الشك في نفسي على مستوى تراث السنة وتراث الشيعة..
كان التراث السني يحمل كما كبيرا من الروايات المختلقة والموضوعة..
والتراث الشيعي كذلك..
وكان التراث السني يحمل داخله عدة أطروحات مختلفة ومتناحرة..
والتراث الشيعي كذلك..
إذن ما الذي يميز تراثا عن الآخر؟..
والإجابة على هذا السؤال تقتضي أن نحدد ملامح الخلاف بين التراثين..
أن التراث السني يعتمد على الصحابة..
بينما التراث الشيعي يعتمد على آل البيت..
والتراث السني يتبنى التعايش مع الحكام..
بينما التراث الشيعي يرفض هذا التعايش..
التراث السني تغلب عليه أقوال الرجال..
بينما التراث الشيعي يغلب عليه النص..
بينما التراث الشيعي في حالة صدام معه..
التراث السني يضيق على العقل..
والتراث الشيعي يحترم العقل..
وبهذه المقارنة يتضح لنا مدى الهوة التي تباعد بين التراثين. إلا أن التراث الشيعي كحال أي تراث لا بد وأن تطرأ عليه متغيرات نتيجة لتراكم الأقوال والاجتهادات النابعة منه بحيث يصبح متشابها إلى حد كبير مع التراث السني..
من هنا برزت الروايات الموضوعة عند الطرفين..
وبرزت المذاهب في إطار الفكر الواحد..
أبرز التراث السني الكثير من الروايات التي ترفع من قدر الصحابة وتضخم بعضهم وأبرز التراث الشيعي الكثير من الروايات التي ترفع من قدر آل البيت وتضخمهم وعند كلا الطرفين ظهر الوضع والاختلاق..
ولقد تبين لي أن القاعدة التي وضعت من قبل الشيعة لضبط حركة الرواية ووقف عملية الوضع والاختلاق هي أدق وأكثر ارتباطا بالنص من قاعدة السنة..
قاعدة الشيعة تنص على أن الحديث الذي يخالف القرآن والعقل يضر ب به عرض الحائط. بينما قاعدة السنة تعتمد على علم الرجال والبحث في سند الرواية..
قاعدة الشيعة تركز على متن الرواية..
بينما قاعدة السنة تركز على سندها..
وعلى ضوء قاعدة الشيعة تم نبذ الكثير من الروايات في التراث الشيعي ومحاكمة الروايات الأخرى ووضعها تحت دائرة الضبط والتنقيح..
وعلى ضوء قاعدة السنة تم اعتماد الكثير من الروايات رغم مخالفتها لنصوص القرآن ومصادمتها للعقل بسبب أن سند هذه الروايات سليم ورجاله رجال الصحيح. أي أنه ما دامت قد ثبتت عدالة الرواة فقد ثبتت صحة الرواية ولو
إن قاعدة الشيعة سوف ينتج عنها غربلة التراث وتنقيحه. بينما قاعدة السنة سوف ينتج عنها إبقاء التراث على حاله وزيادة حدة التباعد بينه وبين القرآن والعقل..
ولقد كان تبني الشيعة لقضية الإمامة قد ميز التراث الشيعي عن التراث السني وأوجد الكثير من الاجتهادات والمواقف التي انعكست على الفقه والعقيدة والتصور الشيعي بشكل عام. ومن أبرز نتائجها حصر مصدر التلقي في دائرة آل البيت المقصودين بالإمامة. ورفض الخطوط الأخرى التي خالفت نهجهم وعلى رأسها خط الصحابة الذي أرسى دعائمه أبو بكر وعمر..
وأهم ما سوف ينبني على قاعدة تحكيم القرآن والعقل هو تحجيم دور الرجال وعزل أقوالهم عن النصوص والحيلولة دون طغيان هذه الأقوال عليها. وهي من أهم مميزات التراث الشيعي على التراث السني الذي بفقده هذه القاعدة تغلب الرجال على النصوص. إن عزل القرآن والعقل عن التراث والحيلولة دون أن يقوما بدورهما كحكمين عليه إنما هي مؤامرة على الإسلام من اختراع السياسة الهدف منها إمرار الروايات المختلقة والموضوعة التي سوف تسهم في صياغة الإسلام وطمس هويته الحقة وإبدالها بهوية زائفة تخدم مصالح الحكام وتضفي المشروعية عليهم..
تحكيم القرآن والعقل يعني الانتماء للنص لا للتراث..
والنص هو الحكم على التراث وليس العكس..
من هنا فإن الرجال عند الشيعة إنما هم تحت النصوص وليسوا فوقها.
وهذا ما استراح إليه عقلي واطمأنت به نفسي إنني عندما تبنيت الأطروحة الشيعية لم أستبدل تراثا بتراث. ولم أنتقل من عبادة رجال إلى عبادة رجال..
عندما التزمت بخط آل البيت (ع) إنما التزمت بخط النص لا بخط الرجال..
____________
(1) - أنظر كتاب دعاة لا قضاء الذي صدر عن جماعة الأخوان في مواجهة تيار التكفير. وانظر كتابنا الحركة الإسلامية في مصر.
(2) - نص الحديث هو (لا تنكح المرأة على عمتها أو خالها) البخاري كتاب النكاح.
(3) - يقف الحكام على الدوام وراء جميع النزعات المذهبية بهدف تشتيت الأمة سيرا مع مبدأ فرق تسد.
(4) - أنظر الفصول القادمة من هذا الكتاب.
(5) - أنظر باب القرآن من هذا الكتاب.
(6) - أنظر باب القرآن.
(7) - أنظر كتابنا السيف والسياسة وكتب التاريخ.
(8) - أنظر المراجع السابقة.
رحلة الشك
من هنا فقد تبنيت منهج الشك وجعلته شعاري وأنا أخوض في كتب التراث بحثا عن الحقيقة ولم يكن البحث بالأمر السهل فقد طغت على النصوص أقوال الرجال بحيث أصبح التفريق بينهما أمرا في غاية الصعوبة. إلا أن صعوبته سرعان ما تتبدد إذا تسلح الباحث بمنهج الشك ذلك المنهج الذي كشف لي الكثير من الحقائق حول التراث والأطروحة الإسلامية المعاصرة والتي يمكن تلخيصها فيما يلي:
- أن أقوال الخليفة الأول والثاني تحولت إلى نصوص قطعة وسنة أبدية في فقه القوم.
- أن الاجماع هو الدعامة الأساسية التي ترتكز عليها أغلب أطروحات التراث إن لم نقل جميعها.
- أن هناك الكثير من النصوص المنسوبة للنبي تفوح منها رائحة السياسة وتصطدم بالعقل وقواعد الإسلام وحقائق ثابته..
- أن هناك تشويها متعمدا لشخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)..
- أن هناك موقفا عدائيا من جميع الأطروحات والاجتهادات والشخصيات التي
- أن هناك تضخيما لمواقف وشخصيات معينة على حساب شخصيات أخرى..
- أن هناك شبهات سياسية تحوم حول رواة الأحاديث وعملية تدوينها وجمعها..
- أن هناك تلميعا دائما للحكام وإخفاء المشروعية عليهم من قبل الفقهاء..
- أن حرية الرأي والحكم الإسلامي الصحيح لم يتحقق طوال فترات التاريخ الإسلامي..
ومثل هذه النتائج تكفي للشك في الأطروحة الإسلامية السائدة وتوجب ضرورة إعادة النظر فيها والعمل على تنقيتها مما علق بها من تراكمات تاريخية هي في مجملها من صنع السياسة ومن خضع لها من الفقهاء ومؤرخين والمحدثين وغيرهم..
وسوف نعرض هنا لبعض النماذج من النصوص التي قادتني إلى الشك واستوقفتني للتأمل فيها والتي بنيت على أساسها موقفي الرافض لهذه الأطروحة وهذا التراث الذي يدين به المسلمون.
بنو أمية
استوقفتني بعض الأحاديث الواردة في كتب السنة عن بني أمية. تلك الأحاديث التي تحذر الأمة من هذه الفئة وتكشف الدور الخطير الذي يهدد مستقبل الأمة والدين الذي سوف يلعبونه في ساحة الإسلام..
وإن كان معظم هذه الأحاديث قد وضعت في دائرة الشك والتضعيف من قبل علماء الحديث إلا أن ما يلفت النظر هنا هو تلك الأحاديث التي صححوها في بني أمية والتي تشير إلى أن لهم فضلا ومكانة ودورا بارزا في نصرة الإسلام..
ومن الأحاديث التي وردت في ذم بني أمية قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): " هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش " (1)..