ويقول ابن تيمية: إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ويثلثون بعثمان ويربعون بعلي واستقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان على علي. ومسألة تقديم عثمان على علي ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبو بكر وعمر ثم عثمان وعلي ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله (2)..
ويقول خليل هراس: وأما مسألة الخلافة فيجب الإعتقاد بأن خلافة عثمان كانت صحيحة لأنها كانت بمشورة من الستة الذين عينهم عمر ليختاروا الخليفة من بعده. فمن زعم أن خلافة عثمان كانت باطلة وأن عليا كان أحق بالخلافة منه فهو مبتدع ضال يغلب عليه التشيع مع ما في قوله من إزراء بالمهاجرين والأنصار (3)..
وقد تحصن القوم بحديث منسوب للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ (4)..
ولقد بحثت كثيرا في هذه المسألة وتتبعت جذورها حتى توصلت إلى النتائج التالية:
أن هذا الترتيب الرباعي من اختراع السياسة وليس له ما يدعمه من النصوص...
أن وضع الإمام علي وراء الثلاثة كان بهدف التستر به حتى لا يشك في هذا الاعتقاد..
أن الخلفاء الثلاثة ليسوا أصحاب سنة واحدة وإنما كل منهم له سنته المختلفة عن الآخر..
أن القوم اقتدوا بالثلاثة دون الإمام علي..
أن الخلفاء الثلاثة قد مهدوا لبني أمية..
أن المحافظة على هذا الترتيب الرباعي هو محافظة على خط بني أمية..
ومن هنا يتبين لنا أن محاولة هدم هذا الإعتقاد سوف يؤدي إلى ضرب شرعية بني أمية حيث أن ضرب أبي بكر سوف يؤدي إلى ضرب عمر. وضرب الثاني سوف يؤدي إلى ضرب الثالث عثمان. وضرب عثمان سوف يؤدي إلى ضرب معاوية. فكل منهم يستمد شرعيته من الآخر. فأبو بكر عين عمر وعمر عين معاوية ومهد لعثمان وعثمان دعم معاوية وقواه أن ضرب هؤلاء الثلاثة سوف يؤدي إلى نصرة آل البيت فهم بديل هؤلاء لأنه سوف يؤدي إلى نقض فكرة العدالة وفكرة الاجماع وبالتالي سقوط أطروحة القوم بأكملها ومن ورائها يتساقط الحكام الذين ارتبطت مصائرهم بها..
وعلى فرض صحة حديث " عليكم بسنتي " وهو ما يتحصن به القوم في تبرير هذا الإعتقاد. فإننا نوجه إلى القوم السؤال التالي: أين سنة علي؟..
إن سنة علي لا وجود لها في أطروحة القوم وهذا وحده كاف للشك في هذه الرواية وسبب آخر من أسباب الشك هو أن هذه الرواية لم يروها البخاري أو مسلم وهما الكتابان محل إجماع القوم. واعتمادهم على هذه الرواية يعد نقضا لإجماعهم هذا. كما نقضوا إجماعهم من قبل بالاعتماد على حديث الفرقة الناجية الذي طبقوه على أنفسهم فهو لم يرو من البخاري أو من مسلم..
إن رفع مكانة هؤلاء الثلاثة إنما كانت على حساب الإمام علي. ومحاولة رفع الإمام على إنما سوف تكون على حساب الثلاثة..
ومن هنا كانت المفاصلة فالذين ساروا على نهج الثلاثة تحالفوا مع بني أمية..
والذين ساروا على نهج الإمام نبذوا بني أمية..
وهناك رواية في البخاري تدعم رؤيتنا هذه في مسألة الخلفاء الثلاثة تقول الرواية: كنا نخير بين الناس في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنخير أبا
وفي رواية أخرى: كنا لا نعدل بأبي بكر أحدا ثم عمر ثم عثمان ثم نزل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلا نفاضل بينهم (6)..
وهذه الرواية الأخيرة لا تحتاج إلى تعليق..
ويبدو أن القوم تبين لهم أن الاجماع غير كاف لإقناع المسلمين بهذا المعتقد فقرروا استنطاق الإمام علي نفسه والحصول على إقرار شخصي منه بصحة هذا الإعتقاد..
يروي البخاري عن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال:
عمر. وخشيت أن يقول عثمان. قلت ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين (7)..
وبالطبع لا بد للقوم أن يضيفوا لمعتقداتهم الإعتقاد بصحة روايات البخاري ومسلم من دون بقية كتب السنن والإجماع على ذلك حتى يتم تبرير هذا الموقف.
فأي محاولة للمساس بالبخاري ومسلم سوف تهدم معتقدات القوم التي هي من الأساسي مستمدة من هذين الكتابين.. ومن هنا تبرز لنا سر الحرب الضروس التي شنت على من يحاول التشكيك في البخاري أو مسلم في الماضي والتي لا تزال تشن حتى اليوم (8)..
ومن أبرز عوامل الشك في فكرة الاجماع. إجماع القوم على طاعة الحكام وعدم منابذتهم والخروج عليهم على الرغم من مفاسدهم وانحرافاتهم وكفرهم في أحيان كثيرة. فهذا الاجماع تفوح منه رائحة السياسة بشكل فاضح. وهو يدفع إلى الإعتقاد بأن جميع صور الاجماع الأخرى هي من صنع السياسة أيضا. كذلك الروايات التي تدور حول هذه المسألة..
ولقد حذر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الكذب عليه واختلاق الأحاديث على لسانه وهذا التحذير إن دل على شئ فإنما يدل على أن هذا الأمر سوف يحدث في واقع الأمة..
يروي مسلم عن علي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا
وهذا الحديث الذي بلغ درجة التواتر عند القوم كم يدفع بهم إلى إعادة النظر وتمحيص هذا الكم من الروايات المنسوبة للرسول. فهم يعتقدون سبرا مع مبدأ الاجماع بعدالة جميع الصحابة فمن ثم فإن مسألة الكذب لا تطولهم وأنما تطول من بعدهم من الرواة من التابعين أو تابعي التابعين. هؤلاء فقط الذين من الممكن أن ينطبق عليهم الكذب على الرسول.. ومثل هذا المبدأ قد شكل حاجزا يحول دون نقد الأحاديث حتى عن طريق السند. فما دامت قاعدة الجرح والتعديل لا تطول الصحابي فمن ثم يمكن وقف كثير من الأحاديث عليهم وتبني كل ما ينسبونه للرسول من قول أو فعل أو تقرير دون حرج. ومن جهة أخرى سوف ينعكس هذا المبدأ على الرواة بصورة إيجابية إذ سوف يجعل التعديل مقدما على الجرح. إذ أن الصحابة على الرغم مما فعلوه من فتن وما وقعوا فيه من خلاف وصدامات وانحرافات هم عدول. فكيف يكون حال الرواة إذن على ضوء هذا التصور؟..
لا شك أنه سوف يكون هناك تساهل في تمحيصهم..
ومن هنا يتبين لنا سر عدم تركيز القوم على السلوك السياسي كالتعامل مع الحكام وقتل المسلمين والسلوك الاجتماعي كالبخل والخلق المعوج وسرعة الغضب في حياة الراوي وحصر دائرة التركيز في محيط الصدق والأمانة وحدها. وذلك لكون التركيز على السلوك السياسي والاجتماعي سوف يتناقض مع عدم التركيز على هذا السلوك في حياة الصحابة..
لقد ألقت السياسة بظلالها على علم الحديث عند القوم. وأصبحت الأمة تتلقى أحاديث الرسول من الخوارج والفساق وقتلة أبناء الرسول..
____________
(1) - العقيدة الطحاوية.
(2) - العقيدة الواسطية.
(3) - شرح العقيدة الواسطية.
(4) - رواه الحاكم.
(5) - البخاري كتاب فضائل الصحابة. باب فضل أبي بكر.
(6) - المرجع السابق.
(7) - المرجع السابق.
(8) - أنظر كتاب السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي للسباعي. وكتاب أبو هريرة راوية الإسلام لعجاج. وكتاب: أبو هريرة وأقلام الحاقدين وغيره. وهي كتب كتبت للرد على من تعرض للأحاديث النبوية.
(9) - مسلم (ج 1).
تضخيم الرجال
ولولا أن أبا بكر كانت له هذه المكانة التي رفعوه بها فوق جميع رجال الأمة..
ولولا المكانة التي اخترعوها لعمر والتي تعلو في أحيان كثيرة فوق مكانة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولولا مكانة عائشة..
ولولا أبو هريرة وابن عمر..
ولولا فكر العدالة والعشرة المبشرون بالجنة..
لولا كل هؤلاء ما تضاءل حجم الإمام علي..
وما تضاءل حجم أبو ذر وسلمان وعمار وحذيفة وغيرهم ممن ناصروا الإمام وشايعوه. وإذا ما أردنا وضع مقارنة بين هؤلاء وبين الإمام فسوف تكون كفة الإمام هي الأرجح لأن الإمام تدعمه النصوص أما الآخرون فتدعمهم أقوال الرجال..
إن النصوص الواردة في الإمام علي تبدد جميع الأقوال والروايات المختلفة في أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وغيرهم..
من هنا فقد اضطر القوم أن يسدوا هذا النقص في النصوص التي تدعم رجالهم باختراع فكرة الاجماع وفكرة العدالة..
لقد كان الهدف من وراء فكرة التضخيم هو دفع الأمة إلى الاقتداء برموز محددة تخدم الخط السائد وتضفي عليه المشروعية. ومن جهة أخرى دفع الأمة إلى إهمال ونسيان رموز معينة تعادي هذا الخط وتشكل خطرا عليه وهو ما تحقق بالفعل..
والباحث في سيرة هذه الشخصيات المضخمة يكتشف بسهولة أن هذه الشخصيات انحرفت عن الإمام علي وخاصمته ومهدت لبني أمية وناصرتهم.
تجريح الإمام علي
ولم يكتف القوم بعملة التضخيم هذه بل سعوا إلى طعن وتشويه الإمام والتشكيك فيه والتقليل من شأنه عن طريق اختراع الروايات على لسان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) التي تحط من قدره وتقنع الأمة بالمنزلة التي وضعوه فيها..
يروي البخاري أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال وهو على المنبر:
إن بني هشام بن المغيرة استأذنوا في أن ينكحوا ابنتهم عليا بن أبي طالب فلا آذن.
ثم لا آذن. ثم لا آذن. إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم فإنما هي بضعة مني يريبني ما أرا بها ويؤذيني ما آذاها (1)..
وفي رواية أخرى: أن عليا خطب بنت أبي جهل على فاطمة (2)..
وفي رواية مسلم: وأن فاطمة بضعة مني وإنما أكره أن يفتنوها وإنها والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدا.. قال - أي الراوي - فترك علي الخطبة (3) وينقل ابن حجر قولهم: أصح ما تحمل عليه هذه القصة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حرم على علي أن يجمع بين ابنته وبين ابنة أبي جهل لأنه علل بأن ذلك يؤذيه وأذيته حرام بالاتفاق (4)..
ويروي أحمد: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على علي وفاطمة فأيقظهما للصلاة. ثم رجع إلى بيته فصلى هويا من الليل فلم يسمع لهما حسا. فرجع فأيقظهما وقال: قوما فصليا. - قال أي علي - فجلست وأنا أعرك
ويروي الترمذي عن علي قال: كنت رجلا مذاء. فسألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أما المني ففيه الغسل. وأما المذي ففيه الوضوء (6)..
وفي رواية أخرى يقول علي: كنت رجلا مذاء فكنت أستحي أن أسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمكان ابنته فأمرت المقداد فسأله. فقال: يغسل ذكره ويتوضأ (7)..
ويروي أحمد عن علي قوله: كنت أرى أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يمسح ظاهرهما (8)..
ويروي البخاري أن عليا سئل: هل عندكم شئ من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر (9)..
وقد ذكرنا فيما سبق حديث البخاري على لسان الإمام علي: ما أنا إلا رجل من المسلمين..
ويروي البخاري أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صعد أحدا وأبا بكر وعمر وعثمان فرجف بهم. فقال: اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان (10)..
ويروي البخاري على لسان عمر قوله عن علي: توفي رسول الله وهو عنه راض (11)..
ويروي أيضا عن علي قوله بعد أن تولى الخلافة: أقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الاختلاف حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي (12)..
ويروى أن عليا والعباس دخلا على عمر. فلما دخلا. قال عباس: يا أمير المؤمنين إقض بيني وبين هذا - وهما يختصمان في الذي أفاء الله على رسوله (صلى
ويروى عن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي أي الناس خير بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أبو بكر. قلت ثم من؟ قال: ثم عمر.
وخشيت أن يقول عثمان قلت ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين (14)..
ومن خلال هذه الروايات وغيرها مما لا يتسع المجال لذكره هنا نخرج بالنتائج التالية:..
- أن الإمام عليا تعمد إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يسمع لقوله حين طلب منه النهوض للصلاة..
- أن الإمام عليا عاند الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يسمع لقوله حين طلب منه النهوض للصلاة..
- أن الإمام عليا تغلب عليه الشهوة الجنسية..
- أن الإمام عليا كان يجهل أحكام الوضوء..
- أن الإمام عليا لم يرث شيئا من علم الرسول..
- أن الإمام عليا يقر بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان..
- أن الإمام عليا ليس شهيدا..
- أن شرعية علي مستمدة من عمر..
- أن الإمام عليا يلتزم بسنة الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه..
- أن الإمام عليا سب العباس عم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بسبب المال..
- أن الإمام عليا يقر بأفضلية أبي بكر وعمر وعثمان عليه وهذا يعني اعترافا منه بشرعية خلافتهم. وهذا يناقض روايات القوم الأخرى ووقائع التاريخ (15)..
وليس هناك من هدف وراء هذه الروايات سوى هدم الصورة المثالية للإمام علي في أذهان المسلمين وهز مكانته الرفيعة في قلوبهم.
العشرة المبشرون بالجنة
وقد روى القوم حديث العشرة المبشرين بالجنة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وليس فيهم أحد من أنصار الإمام من صحابة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد وضع القوم عليا وسطهم من باب دعم موقفهم لا أكثر وحتى لا تكون المسألة فجة ومفضوحة تماما كما وضعوه في مؤخرة الخلفاء الأربعة.
وقد اتفق أهل السنة على تعظيم هؤلاء العشرة وتقديمهم (16).
ومن الواضح أن التسعة المذكورين مع الإمام هم من خصومه وليس بينهم أحد كان من أنصاره يوما..
وهذا الحديث المثير للشك لم يروه البخاري أو مسلم إنما رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة فمن ثم فإن حال كحال الحديثين السابقين: حديث الفرقة الناجية وحديث كتاب الله وسنتي وسوف نعرض لنص حديث العشرة لنرى مدى تخبط القوم حتى في تحديد أصحاب الجنة من بين العناصر التي ضخموها..
يروي أبو داود عن سعيد بن زيد قال: أشهد على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أني سمعته يقول: عشرة في الجنة: النبي في الجنة. وأبو بكر في الجنة. وطلحة في الجنة. وعمر في الجنة. وعثمان في الجنة. وسعد بن مالك في الجنة. وعبد الرحمن بن عوف في الجنة. ولو شئت لسميت العاشر. قال:
فقالوا: من هو؟ قال: سعيد بن زيد.. (17)..
إن أول ما يدفع للشك في هذه الروايات ويدفع لليقين أنها إنما اخترعت لتضخيم خصوم الإمام وآل البيت الحقائق التالية:
- إن القوم يتخبطون في تحديد من هم العشرة فتارة يدخلون سعد بن أبي وقاص وتارة يضعون مكانه سعد بن مالك..
- إن الرواية الأولى لم تذكر الإمام عليا ولا ابن الجراح وبهذا يكون المبشرون بالجنة سبعة فقط بعد إخراج الرسول من هذه الحسبة بالطبع..
- إن وضعهم النبي من ضمن المبشرين بالجنة أمر يؤكد الوضع والاختلاق..
- إن سيرة هؤلاء العشرة - إن كانوا عشرة - لا توجب لهم هذا الفضل..
- أن راوي الحديث هو أحد المبشرين بالجنة وهو هكذا يبشر نفسه..
- أن البخاري ومسلم لم يذكرا شيئا في باب الفضائل والمناقب عن سعد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف..
- أن العشرة الذين اتفق أهل السنة على تعظيمهم وتكريمهم ليس فيهم سعد بن مالك..
- أن الرواية الثانية ذكرت تسعة فقط واستثنت سعد بن أبي وقاص..
ومما يدل على هذا التخبط والاختلاق وأن الأمر تفوح منه رائحة السياسة رواية البخاري التي تحدد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بشر ثلاثة بالجنة هم أبو بكر وعمر وعثمان..
تقول الرواية: إن أبا موسى الأشعري قال: لأكونن بواب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اليوم فجاء أبو بكر فدفع الباب..
فقلت: من هذا؟..
فقال: أبو بكر..
فقال: أئذن له وبشره بالجنة..
فأقبلت حتى قلت لأبي بكر: أدخل ورسول الله يبشرك بالجنة..
ثم رجعت فإذا إنسان يحرك الباب فقلت من هذا؟..
فقال: عمر بن الخطاب..
فقلت على رسلك. ثم جئت إلى رسول الله فسلمت عليه فقلت هذا عمر بن الخطاب يستأذن..
فقال: أئذن له وبشره بالجنة..
فجئت فقلت أدخل وبشرك رسول الله بالجنة..
ثم رجعت فجلست فقلت: إن يرد الله بفلان خيرا يأت به. فجاء إنسان يحرك الباب..
فقلت: من هذا؟..
فقال: عثمان بن عفان..
فقلت: على رسلك. فجئت رسول الله فأخبرته..
فقال: أئذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه..
فجئته فقلت له: أدخل وبشرك رسول الله بالجنة على بلوى تصيبك (19)..
ومثل هذه الرواية إنما تؤكد أن عليا ليس من المبشرين بالجنة وأن وضعه ضمن العشرة من باب الخطأ..
إن إقدام القوم على إهانة الإمام علي إلى هذا الحد والعمل على التقليل من شأنه لا يشكل أدنى حرج عند القوم. فما داموا قد تجاسروا على الرسول وأهانوه فمن السهل أن يتجاسروا على أهل بيته..
وما دام قد توطن في ذهن المسلم أمر مهانة الرسول ولم يجد حرجا في نسبة ما نسب إليه عن طريق الروايات فإنه بالتالي سوف يتقبل ما يمكن أن يقال وينسب
وما دام هذا هو حال الرسول وأل البيت فكيف يكون حال شيعتهم من الصحابة؟..
ومما يؤكد تناقض القوم وأن الهدف من وراء مثل هذه الروايات هو تضخيم أناس لا وزن لهم رواية مسلم التي تقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة. قالوا: ولا أنت يا رسول الله. قال:
ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة (20)..
وفي رواية أخرى: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قاربوا وسددوا واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله. قالوا يا رسول الله ولا أنت. قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل (21)..
وفي رواية: لا يدخل أحد منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار ولا أنا إلا برحمة من الله (22)..
فإذا كان رسول الله يشك في دخوله الجنة فكيف يوقن هؤلاء بدخولها؟..
ويروي البخاري أن عمر لما طعن كان يقول: والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبا لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه (23)..
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا يقول عمر هذا الكلام وهو من المبشرين بالجنة؟ ويروي مسلم أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قام خطيبا فقال: يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا، كما بدأنا أول خلق نعيده وحدا علينا إنا كنا فاعلين. ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم (عليه السلام) ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي. فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح. قال فيقال لي أنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ أن فارقتهم (24)..
فهؤلاء الذين ارتدوا بعد وفاة الرسول كيف يكونون عدولا. وكيف يدخلون الجنة؟..
ويروي البخاري حديث أبواب الجنة: باب الصلاة وباب الجهاد وباب الصدقة وباب الصيام. فقال أبو بكر للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):
وهل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال نعم وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر (26)..
قال ابن حجر نقلا عن الفقهاء: الرجاء من الله ومن نبيه واقع. وبهذا التقرير يدخل الحديث في فضائل أبي بكر (27)..
إن فقهاء القوم يحاولون لي عنق النص وتفسير الرجاء بمعنى اليقين حتى ينفوا عن أبي بكر شبهة عدم دخوله الجنة. وإذا كانت مكانة أبي بكر عند الرسول كما يصفون فلما ذا لم يقل الرسول: نعم وأنت منهم يا أبا بكر. حتى ينفي الشك من صدور السامعين..
وينبغي لنا هنا أن نعرض لمناقب العشرة المذكورين حتى يتبين لنا كيف تتم عملية التضخيم على حساب الآخرين. ثم نقارن هذه الفضائل والمناقب بمناقب وفضائل من لم يذكروا ضمن العشرة وذلك من أجل وضوح الرؤيا..
يروي البخاري قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): إن أحسن الناس على في صحبته وما له أبو بكر. ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته. لا يبقين في المسجد باب إلا سد. إلا باب أبي بكر (28)..
ومثل هذه المنقبة التي جاء بها البخاري لأبي بكر محل جدل كبير بين فقهاء القوم. إذ أن أكثر الفقهاء يشك في أن أبا بكر كان له دار مجاورة لمسجد الرسول.
بل الثابت أن بيته كان بالسنح على أطراف المدينة. وهذا دفع ببعضهم إلى تفسير الحديث على الوجه المجازي. وادعاء أن المقصود بالباب الخلافة والأمر بالسد كناية عن طلبها. والمقصود بهذا التأويل هو دفع الشك عن متن الحديث أولا.
وقطع الطريق على خصوم أبي بكر ثانيا..
وينقل ابن حجر قول ابن حبان عن هذا الحديث: في هذا دليل على أنه
ومن حيث السند فهذا الحديث فيه شك إذ أن البخاري رواه من طريقين:
طريق فليج ابن سليمان عن أبي سعيد الخدري (30)..
وطريق عكرمة عن ابن عباس (31)..
وكلاهما فليج وعكرمة من الخوارج المكفرين للمسلمين المعادين لجميع الصحابة. وقد ذمهم فقهاء القوم ورجال الحديث (32)..
إلا أن الشك في هذه الرواية سوف يزداد إذا ما تبين لنا أن هناك روايات صحيحة بشهادة القوم تنص على أن الرسول أمر بسد جميع الأبواب إلا باب علي (33)..
ومن هذه الروايات يتبين لنا أن الهدف من صنع هذه الفضيلة لأبي بكر هو التمويه على الإمام علي ومعارضة فضائله بفضائل مصطنعة..
ويروي البخاري عن عمرو بن العاص قوله للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة فقلت من الرجال؟ قال:
أبوها. قلت ثم من؟ قال: عمر. فعد رجالا (34)..
ويكفي للرد على هذه الرواية أن راويها عمرو بن العاص حليف معاوية ومدبر أمره في الصراع مع الإمام علي وصاحب فكرة رفع المصاحف على أسنة الرماح في وقعة صفين (35)..
وهل يعقل أن يسأل الرسول عن أحب الناس إليه فيقول زوجتي؟..
إن هذه الإجابة إنما تضع الرسول بين أمرين أما أن يكون غير متفهم للسؤال.
أو أن يكون شغوفا بعائشة إلى الدرجة التي ينشغل بها خياله..
والمعنى الثاني هو ما يريد القوم توكيده من خلال الرواية إذ أن هذا الحب
ثم ما هي الحكمة من محاولة القوم انتزاع الأفضلية على لسان الرسول بهذا الترتيب الذي يجعل من أبي بكر في المقدمة دائما سوى التقليل من شأن الإمام وتصغيره؟..
أن المتأمل في روايات الفضائل الخاصة بأبي بكر وعمر وعثمان سوف يصعب عليه أن يهضمها وأن يستوعبها عقله وتستريح لها نفسه. إلا أن القوم لما حرموا على المسلمين الخوض في المسند خاصة ما يروى في البخاري ومسلم. سدوا طريق التأمل أمام العقل..
يروي البخاري عن أبي هريرة قوله: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: بينما راع في غنمه عدا عليها الذئب فأخذ منها شاة. فطلبه الراعي فالتفت إليه الذئب فقال: من لها يوم السبع يوم ليس لها راع غيري؟ وبينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها فالتفتت إليه فكلمته فقالت: أني لم أخلق لهذا ولكن خلقت للحرث. فقال الناس: سبحان الله. قال النبي: فإني أؤمن بذلك وأبو بكر وعمر (36)..
وإن العقل ليحتار في مثل هذه الرواية إلى أي شئ تهدف؟..
وما هي فضيلة أبي بكر في هذه الحكاية؟..
هل هي إيمانه بنطق الذئب والبقرة؟..
ولماذا يحصر الرسول الإيمان بهذه الحكاية في دائرته مع أبي بكر وعمر؟..
هل هذا يعني أن الآخرين كفروا بها؟..
إن القوم يحاولون استخلاص فضيلة لأبي بكر من خلال هذه الرواية فكانت النتيجة أن حكموا على المستمعين بتكذيب رواية الرسول ورفضها ما عدا أبو بكر وعمر..
وبالطبع من بين المكذبين الذين رفضوا هذه الحكاية الإمام علي..
والعجيب أنه في رواية مسلم لم يكن أبو بكر وعمر موجودان أثناء رواية هذه الحكاية (37)..
فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر (ثلاثا). ثم إن عمر ندم. فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثم أبو بكر؟ فقالوا: لا. فأتى النبي. فجعل وجه النبي يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه - أي عمر - فقال: يا رسول الله. والله أنا كنت أظلم (مرتين). فقال النبي: إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت. وقال أبو بكر: صدق. وواساني بماله ونفسه. فهل أنتم تاركون لي صاحبي (مرتين) فما أوذي بعدها (38)..
ومثل هذه الرواية إنما تذم أبا بكر وعمر لا تمدحهما. إذ أن الأمر على ما يبدو كان صداما ولم يكن مجرد مشادة كلامية..
وبالطبع لم يخبرنا الرواة حقيقة ما حدث بينهما ولم يشر القوم إلى حقيقة الأمر في تفسيراتهم لهذه الرواية. إلا أن ظاهر الرواية يكشف لنا أن أبا بكر وقع في عمر وعمر وقع في أبي بكر وهذا الأمر في حد ذاته يعد نقصا فيهما..
وعلى ما يبدو من الرواية فإن الرسول كان منحازا لأبي بكر وقاسيا على عمر وهذا الانحياز ليس له ما يبرره سوى أن القوم يريدون رفع مكانة أبي بكر. ولكن الرفع هذه المرة جاء على حساب عمر..
____________
(1) - أنظر البخاري كتاب النكاح. باب ذب الرجل عن ابنته.. ومسلم باب فضائل فاطمة.
(2) - المرجع السابق. وانظر مسلم.
(3) - أنظر مسلم.
(4) - أنظر فتح الباري (ح 9 / 327) وما بعدها.
(5) - أنظر مسند أحمد (ج 2) مسند الإمام علي.
(6) - أنظر البخاري كتاب العلم. وكتاب الوضوء. ومسلم كتاب الحيض.
(7) - أنظر المراجع السابقة.
____________
(8) - أنظر مسند أحمد (ج 2).
(9) - أنظر البخاري. باب كتابة العلم وباب فتاك الأسير. وأنظر أحمد وأصحاب السنن.
(10) - أنظر البخاري. كتاب فضائل الصحابة. باب فضل أبي بكر.
(11) - أنظر المرجع السابق باب فضائل علي.
(12) - المرجع السابق.
(13) - المرجع السابق. كتاب الفرائض باب 3. وانظر كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة باب 5. وكتاب النفقات باب 3. وانظر الترمذي كتاب السير. وأحمد (1 / 49).
(14) - البخاري. كتاب فضائل الصحابة. باب فضل أبي بكر.
(15) - يروي أحمد سئل عبد الرحمن بن عوف: كيف بايعتم عثمان وتركتم عليا؟ قال: وما ذنبي. قد بدأت بعلي فقلت أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة أبي بكر وعمر فقال: فيما استطعت ثم عرضتها على عثمان فقبلها.. أحمد (ج 2). وما يذكر هنا أن عثمان خرج على كتاب الله وسنة رسوله وسنة الشيخين. أنظر وقائع اختيار عثمان من بين الستة الذين حددهم عمر في كتب التاريخ.
(16) - أنظر أبو داود حديث رقم (4649 و 4650) وانظر العقيدة الطحاوية.
(17) - أنظر الترمذي (ج 4 / 334).. وأبو داود.
(18) - أنظر المرجعين السابقين.
(19) - أنظر البخاري ومسلم كتاب فضائل الصحابة. باب فضل أبي بكر ومناقب عمر وعثمان.
(20) - أنظر مسلم كتاب صفة القيامة والجنة والنار. باب لن يدخل أحد الجنة بعمله.
(21) - المرجع السابق.
(22) - المرجع السابق.
(23) - أنظر البخاري. كتاب فضائل الصحابة. باب مناقب عمر.
(24) - أنظر المرجع السابق كتاب الفتن وكتاب الرقاق.
(25) - أنظر الطبري (ج 2) والسيرة النبوية لابن هشام. وكنز العمال (ج 5).
(26) - أنظر البخاري. كتاب فضائل الصحابة. باب فضل أبي بكر.
(27) - أنظر فتح الباري (ج 7 / 29).
(28) - أنظر البخاري باب فضل أبي بكر.
(29) - أنظر فتح الباري (ج 7 / 29).
(30) - أنظر المرجع السابق.
(31) - أنظر المرجع السابق.
(32) - قال ابن معين في فليج: ليس بثقة. وقال أحمد: كان يرى رأي الصفرية من الخوارج. أما عكرمة فقد كذبه ابن عمر وابن المسيب ويحيى بن سعيد وابن سيرين. انظر كتب علم الرجال.
(33) - أنظر الترمذي كتاب المناقب. ومسند أحمد (ج 1 / 175 و / 330).
(34) - أنظر البخاري. باب فضل أبي بكر.
____________
(35) - أنظر كتابنا السيف والسياسة في الإسلام. وانظر ترجمة عمرو بن العاص في كتب التراجم.
(36) - أنظر البخاري. باب فضل أبي بكر.
(37) - أنظر مسلم. كتاب فضائل الصحابة. باب من فضائل أبي بكر.
(38) - البخاري. باب فضل أبي بكر.
عمر
ويروي البخاري عن ابن عباس قوله: إني لواقف في قوم فدعوا الله لعمر بن الخطاب وقد وضع على سريره - حين طعن - إذا رجل من خلفي قد وضع مرفقه على منكبي يقول: رحمك الله إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك لأني كثيرا ما كنت أسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: كنت وأبو بكر وعمر. وفعلت وأبو بكر وعمر. وانطلقت وأبو بكر وعمر. فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما فالتفت أي ابن عباس - فإذا هو علي بن أبي طالب (1)..
وهذه الرواية كحال سابقتها التي نصت على اعتراف الإمام بالخلفاء حين سأله ولده ابن الحنفية الهدف منها هو هدف ساقتها وهو دعم مشروعية خلافة أبي بكر وعمر بعلي. ودعم مكانتهما به. وإثبات أفضليتهما عليه بلسانه..
ويبدو أن القوم يتخيرون إسناد مثل هذه الروايات إلى عناصر موالية للإمام علي حتى يقطعوا دابر الشك فيها ويؤكدوا وقوعها على لسان الإمام..
من هنا فإن مثل هذه الروايات كثيرا ما ينسبونها لابن عباس وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وعمار بن ياسر ومحمد بن الحنفية وغيرهم من شيعة الإمام..
وبخصوص مناقب عمر فحالها كحال مناقب أبي بكر. فمعظم الروايات تربط بينهما في الفضائل وهذا الأمر إن دل على شئ فإنما يدل على أن كليهما مكانته واحدة..
إن محاولة الربط بين أبي بكر وعمر إنما هي من صنع السياسة. فالمتأمل في الأحداث التي وقعت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله، يكتشف أن كليهما لم يكن له ما يميزه عن الصحابة. ولو كان الأمر كذلك لما حدث الصدام معهما في سقيفة بني ساعدة (2).
وحتى إن أبا بكر أعلن أمام الناس حين ولي الخلافة قوله: وليت عليكم ولست بخيركم (3) وكانت ممارسات عمر ومواقفه في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد وفاته قد ولدت جبهة معادية له حتى أن البعض عاتب أبا بكر حين وصى له بالخلافة من بعده وقالوا: أتولي علينا فظا غليظ القلب (4)..
والذي يستريح إليه العقل أن مشروعية كل منهما تعتمد على الآخر. ولولا اتحادهما سويا ما كان من الممكن أن يسود على المسلمين. هذا مع ملاحظة أن شخصيتي أبي بكر وعمر أكثر الشخصيات ملائمة لتبنى عليهما مشروعية بني أمية (5)..
وحتى تتضح لنا الصورة أكثر سوف نعرض لبعض الروايات الخاصة بعمر..
يروي البخاري عن جابر بن عبد الله قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رأيتني دخلت الجنة. فإذا أنا بالرميضاء امرأة أبي طلحة. وسمعت خشفة فقلت من هذا؟ فقال: هذا بلال. ورأيت قصرا بفنائه جارية فقلت لمن هذا؟
فقال: لعمر. فأردت أن أدخله فأنظر إليه. فذكرت غيرتك..
فقال عمر بأبي وأمي يا رسول الله. أعليك أغار (6)..
إن الحقيقة التي تتجلى إمام كل ذي عقل عند قراءته هذه الرواية هي أن عمر أعلى مرتبة من الرسول. إذ حصل على مكان في الجنة دهش الرسول لرؤيته وبهر به حتى أنه أراد أن يدخله فخاف من غيرة عمر..
هل يجوز مثل هذا الكلام في حق الرسول؟..
ألا يعني هذا أن ما حصل عليه عمر في الجنة يفوق نصيب الرسول؟..
ثم هل هناك غيرة في الآخرة؟..
ولنترك هذا الحديث إلى حديث آخر يرويه البخاري أيضا: قال
وهذه الرواية أن صحت فإنها تعني أن عمر أفقه الصحابة وأفقه من أبي بكر.
إلا أن القوم لا يقولون بذلك. أي لا يقولون بتفوقه على أبي بكر ولكن على غيره صحيح..
إلا أن الواقع لا يشهد بذلك. فالثابت أن عمر اجتهد على نصوص كثيرة وأوقع الناس في حرج. كما وقع في أخطاء كثيرة لا تدل على محصلة علمية لديه (8)..
ولو كان عمر فقيها ما طاف في المدينة يهدد الناس حين توفى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زاعما أنه ما مات وأنه سوف يعود ليقطع أيدي رجال وأرجلهم حتى جاء أبو بكر فبين له حقيقة الأمر فسكن (9)..
ولو كان عمر فقيها ما قال لعلي: لولا علي لهلك عمر (10)..
ولو كان فقيها ما صعد المنبر ليتكلم في أمر فيخطئ وترده امرأة. فيقول:
أصابت امرأة وأخطأ عمر (11)..
ولو كان فقيها لاستغنى بفقهه عن الآخرين وما اضطر إلى حجز كبار الصحابة في المدينة ليسترشد بهم ويستفتيهم (12)..
ويروي البخاري عن قيس قال: قال: عبد الله: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر (13)..
ولا شك أن مثل هذه الرواية التي تربط عزة الإسلام بعمر إنما توجه ضربة قاضية للإمام علي وتمحو دوره بالكلية من تاريخ الإسلام. والحمد لله أنها لم تأت على لسان الرسول وإنما وردت على لسان صحابي..
وإن الباحث في سيرة الرسول لا يجد دورا بارزا لعمر يستحق أن تربط عزة الإسلام به. فهو من الذين فروا في أحد. ولم يجرؤ على الخروج لمبارزة عمرو بن ود في غزوة الخندق وخرج إليه الإمام وقتله ولم يفتح الله على يديه في خيبر وفتح
ويروي البخاري أن عمر دخل على الرسول وعنده نسوة من قريش يكلمنه.
فلما ظهر عمر قمن فبادرن الحجاب. فقال عمر: يا عدوات أنفسهن. أتهبنني ولا تهبن رسول الله؟ فقلن نعم. أنت أفظ وأغلظ من رسول الله. فقال الرسول:
إيها يا ابن الخطاب. والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط. إلا وسلك فجا غير فجك (14)..
وهذا الحديث لا ينطق بمدح لعمر بل ينطق بذم له كما هو واضح من قول النسوة: أنت أفظ وأغلظ. ولو كان عمر بهذه المكانة التي تصورها الروايات ما تجرأت النسوة عليه..
ويحتار العقل في محاولة الربط بين حادثة عمر مع النسوة وبين قول الرسول له:
ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط. إلا وسلك فجا غير فجك. ما هي الصلة بين هذه الحادثة وبين الشيطان؟ هل يريد الرسول أن يقول أن النسوة شياطين لما هبن عمر تذكر الرسول عمر وشيطانه؟..
يبدو أن الراوي لم يحسن ضبط الرواية. وكان من الأجدر به أن يفصل الحادثتين عن بعضهما ويجعل كلا منهما في رواية مستقلة..
إلا أن هناك رواية عند مسلم تكذب هذه الرواية وتكشف تناقض القوم في اختلاقهم الأحاديث باسم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)..
يروي مسلم عن عائشة قالت: خرج رسول الله ليلا فغرت عليه. فجاء فرأى ما أصنع فقال: ما لك يا عائشة أغرت؟ فقلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك. فقال: أقد جاءك شيطانك قلت يا رسول الله أو معي شيطان. قال:
نعم. قلت: ومع كل إنسان. قال: نعم. قلت: ومعك يا رسول الله.
قال: نعم ولكن ربي أعانني عليه فأسلم. وفي رواية أخرى: فلا يأمرني إلا بخير (15)..
فإذا كان كل إنسان معه شيطان حتى عائشة أم المؤمنين فلماذا يستثنى عمر من هذا؟ وإذا كان الرسول معه شيطان أعانه الله عليه. فمن الذي أعان عمر على شيطانه بحيث أصبح يفر منه كلما رآه؟..