الصفحة 129

يروي البخاري عن أبي هريرة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء.

فإن يكن من أمتي منهم أحد فعمر (16)..

إ المتابع لسيرة عمر الفقهية يتبين له مدى اختلاق هذه الرواية. فلم يكن عمر من متكلمي القوم ولا كان من فلاسفتهم. ولو كانت هذه المكانة حقا له لكان أجدر به أن يتولى الخلافة بعد رسول الله لا أن يفسح الطريق لأبي بكر ويعلن الحرب على خصومه من الأنصار وغيرهم..

ويروي أحمد والترمذي وابن حبان قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): لو كان بعدي نبي لكان عمر..

ويقول ابن حجر: والسبب في تخصيص عمر بالذكر لكثرة ما وقع له في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الموافقات ولكن ما الذي جعل أبا بكر يتقدم على عمر؟..

وهل يجوز للرسول أن يفترض وجود نبي بعده وهو خاتم الأنبياء؟..

يروي مسلم على لسان عمر قوله: وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم.

وفي الحجاب. وفي أسارى بدر (18)..

ويقول ابن حجر: والمعنى وافقني ربي فأنزل القرآن على وفق ما رأيت. ولكن لرعاية الأدب أسند الموافقة إلى نفسه (19)..

إن مثل هذا القول لا يعني إلا شيئا واحدا وهو أن القرآن كان يتنزل على رأي عمر. وهذا يعني أن عمر تفوق على الرسول. وهو يشكك من جهة أخرى في القرآن. الذي كان يتنزل على حسب رأي عمر..

والنصوص لا تقول بذلك فالقرآن كان يتنزل بأمر الله ليبلغه رسوله إلى الناس. فلم يكن الرسول يعلم ما سوف ينزل عليه. وإذا كانت هناك موافقة حقا فإن الحقيقة بها هو الرسول وليس عمر..

يروي مسلم أنه لما توفي عبد الله بن أبي سلول جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه.


الصفحة 130
ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليصلي عليه. فقام عمر فأخذ بثوب الرسول. فقال يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه. فقال الرسول: إنما خيرني الله فقال استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة وسأزيد على سبعين. قال - أي عمر - إنه منافق.

فصلى عليه رسول الله وأنزل الله عز وجل ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم علي قبره (20)..

وهذا الحديث يشير إلى دلالات خطيرة ليست في صالح عمر بل تضعه في موقف محرج شرعا. فالقوم أرادوا أن يثبتوا له منقبة الفقه فطعنوا في الرسول..

وأرادوا أن يثبتوا له الموافقة مع القرآن فأوقعوه في الرسول..

أما الدلالات التي يشير إليها الحديث فهي:

- أن الرسول كان يجهل النهي وذكره به عمر..

- أن الرسول أصر على موقفه المخالف للقرآن..

- أن عمر جذبه من ثوبه كي يمنعه من ارتكاب هذه المخالفة..

- أن الرسول تحايل على النص القرآني بمنع الاستغفار للمنافقين..

- أن القرآن نزل يوافق عمر..

وما يثير الشك في هذا الحديث هو أن آية النهي عن الصلاة على المنافقين نزلت بعد صدام عمر مع الرسول. بينما عمر يقول للرسول: أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه قبل نزولها. فهل كان عمر يعلم الغيب؟ أم كان على اتصال بالوحي؟..

إن مثل هذا الموقف من عمر - على فرض التسليم بصحة هذه الرواية - يضعه في زمرة المنافقين إذ كيف لصحابي أن يعترض على الرسول بهذه الطريقة ويخاطبه بهذا القول الذي هو من أخص خصائصه وهو الحي. وكأن الرسول لا يعرف الأمر والنهي ثم هو يجذبه من ثوبه. أليس مثل هذا الموقف يشكك في مصداقية الرسول ويقلل من هيبته أمام المسلمين؟ وكيف تبارك السماء مثل هذا السلوك من عمر مع رسول الله وتنزل القرآن موافقة لموقفه. ألا يعني هذا أن ثقة السماء قد

الصفحة 131
ضعفت برسول الله؟..

ويروي مسلم عن عائشة قالت: أن أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح. وكان عمر يقول لرسول الله أحجب نساءك فلم يكن رسول الله يفعل. فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر ألا قد عرفناك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب. قالت عائشة: فأنزل الله الحجاب.. (21) وفي رواية يقول عمر لسودة: والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين.

فرجعت سودة وأخبرت الرسول بقول عمر.. (22) قال القسطلاني: فيه - أي في الحديث - منقبة عظيمة ظاهرة لعمر. وفيه تنبيه أهل الفضل والكبار على مصالحهم ونصيحتهم وتكرار ذلك.. (23) وقال ابن حجر: والحاصل أن عمر وقع في قلبه نفرة من اطلاع الأجانب على الحريم النبوي. حتى صرح بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): أحجب نساءك. وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب.. (24) وهذا الحديث كسابقه يضع عمر في موضع الحرج في محاولة لصنع منقبة له وإثبات موافقة القرآن لرأيه. فهو قد تطاول على الرسول وتطاول على نسائه.

وبالتأمل فيه نخرج بالنتائج التالية:

- أن عمر كان يأمر الرسول بأن يحجب نساءه..

- أن الرسول كان يهمل أمر الحجاب..

- أن عمر كان يعرض بامرأة الرسول..

- أن عمر كان يرصد حركات نساء الرسول ليلا..

- أن الوحي نزل مؤيدا لموقف عمر..

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل كان عمر حريصا على نزول الأحكام من السماء إلى هذا الحد الذي يجعله يتربص بنساء النبي ليلا وينادي عليهم ليحرجهم كي لا يخرجن من بيوتهن ثم يظل يلح على النبي بالحجاب حتى ينزل أمر

الصفحة 132
الله به؟..

إن مثل هذا الأمر لأكبر مهانة لرسول الله. إذ يصوره بلا غيرة على نساءه وأن غيرة عمر عليهن أكبر من غيرته. حتى أنه وقع في قلبه نفرة من هذا الوضع كما يعبر ابن حجر - من كشف نساء النبي أمام الأجانب. بينما الرسول لا يبالي بشئ..

ويبدو أن الذين اخترعوا هذه الرواية أحسنوا حبكها بوصفهم سودة بأنها كانت امرأة طويلة أو امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها حسب نص الروايات. ولو لم يقولوا ذلك لشك القوم فيها إذ كيف لعمر أن يحدد في الليل البهيم شخصية زوجة النبي؟..

____________

(1) - البخاري كتاب فضائل الصحابة. باب مناقب عمر بن الخطاب.

(2) - أنظر كتب التاريخ. وأنظر كتابنا السيف والسياسة.

(3) - هذا الكلام قاله أبو بكر في خطبة له حين تولى الخلافة. أنظر كتب التاريخ.

(4) - أنظر كتب التاريخ.

(5) - أنظر كتابنا السيف والسياسة.

(6) - البخاري. باب مناقب عمر.

(7) - المرجع السابق.

(8) - أنظر كتاب النص والاجتهاد ط بيروت. وأنظر كتابنا فقه الهزيمة.

(9) - البخاري. باب فضل أبي بكر.

(10) - أنظر تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي. وأنظر طبقات ابن سعد (ح 2 / 339). وكان عمر يقول: علي أقضانا. وعن سعيد بن المسيب قال: كان عمر يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن.

(11) - أنظر تاريخ الخلفاء للسيوطي وكتب التاريخ.

(12) - كان عمر قد وضع كبار الصحابة تحت الإقامة الجبرية في المدينة بحجة المشورة. ويبدو أنه كانت هناك أهدافا أخرى لهذا الاحتجاز. أنظر تاريخ عمر لابن الجوزي وكتب التاريخ.

(13) - البخاري. باب مناقب عمر.

(14) - المرجع السابق.

الصفحة 133

____________

(15) - مسلم كتاب صفة القيامة والجنة والنار. باب تحريش الشيطان.

(16) - البخاري. مناقب عمر.

(17) - فتح الباري (ج 7).

(18) - مسلم. كتاب فضائل الصحابة. باب من فضائل عمر بن الخطاب.

(19) - أنظر فتح الباري (ج 7) مناقب عمر.

(20) - مسلم. فضائل عمر.

(21) - مسلم. كتاب السلام. باب إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان.

(22) - المرجع السابق.

(23) - المرجع السابق (ص 7).

(24) - أنظر فتح الباري.

الصفحة 134

الصفحة 135

عثمان

ونكتفي بهذا القدر من الروايات القوم في تضخيم عمر ونتجه إلى عثمان..

يروي مسلم: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مضطجعا في بيت عائشة كاشفا عن فخذيه أو ساقيه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك. فتحدث. ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله وسوى ثيابه. فسألته عائشة عن ذلك.؟..

فقال: ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة؟.. (1)..

مرة أخرى يحاول القوم تضخيم شخصية فيحطون من الرسول ويمتهنونه.

ويصورونه كاشفا فخذيه أمام الناس دون حياء حتى إذا جاء عثمان استحيا منه.

فهل يعني هذا أن الرسول لم يكن يضع اعتبارا لأبي بكر وعمر الجالسين إلى جواره ويضع هذا الاعتبار لعثمان؟ ألا يشير ذلك إلى أن مكانة عثمان أكبر من مكانة الشيخين؟..

ويروي البخاري أن رجلا من أهل مصر سأل ابن عمر عن عثمان. فقال:

هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ قال ابن عمر: نعم. فقال الرجل: تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد؟ قال: نعم. قال الرجل: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم قال الرجل: الله أكبر. فقال ابن عمر:

تعال أبين لك. أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له. وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحت بنت رسول الله وكانت مريضة. فقال له الرسول: إن لك

الصفحة 136
أجر من شهد بدر وسهمه. وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه. فبعث رسول الله عثمان وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة. فقال رسول الله بيده اليمني: هذه يد عثمان فضرب بها على يده فقال: هذه لعثمان. فقال ابن عمر للرجل: اذهب بها الآن معك (2)..

إن مثل هذه الرواية إنما تكشف أمامنا عدة حقائق:

- أن المدافع عن عثمان هو ابن عمر..

- أن الأسئلة الثلاثة تكشف أن هناك مواقف عدائية من عثمان..

- أن ابن عمر قد أقر بفرار عثمان يوم أحد..

- أن ابن عمر لم يأت بالدليل على أن الله قد غفر له فعلته هذه..

- أن راوي الحديث قد أخطأ في ترتيب الأحداث وكان يجب أن يسأله عن تغيبه عن بدر أولا ثم يسأله عن أحد. لأن أحدا بعد بدر.. وأمر مثل هذا ما كان يجب أن يخفى عن البخاري وفقهاء القوم فهو يشكك في الرواية..

- أن الثابت تاريخيا أن الرسول لم يكن له بنات سوى فاطمة. وأن رقية وأم كلثوم وزينب ربائبه..

- أن زواج عثمان من رقية وأم كلثوم فيه خلاف والأرجح عدم حدوثه..

- أنه لم يثبت أن الرسول بعث عثمان إلى أهل مكة وقت بيعة الرضوان..

وينقل ابن حجر رواية للبزار أن عثمان عاتب عبد الرحمن بن عوف فقال له: لم ترفع صوتك علي؟ فذكر الأمور الثلاثة غيابه عن بدر وفراره من أحد وتخلفه عن بيعة الرضوان. فأجابه عثمان بمثل ما أجاب به ابن عمر (3)..

ورواية البزار هذه إنما تؤكد التهم الموجهة لعثمان إذ أن الذي يتهمه بها واحد من أنصاره وحلفائه وهو الذي مهد له للوصول إلى الحكم. فهو ممن يعرفون تاريخ. عثمان جيدا.. ويلاحظ في كتب الأحاديث خاصة البخاري ومسلم تكرار الأحاديث التي تربط الخلفاء الثلاثة ببعضهم عند الحديث عن مناقب وفضائل كل خليفة على حده..


الصفحة 137
فحديث: أثبت أحد فإن عليك نبيا وصديقا وشهيدين..

وحديث: إئذن له وبشره بالجنة..

وحديث: كنا في زمن النبي لا نعدل بأبي بكر أحدا ثم عمر ثم عثمان ثم نترك أصحاب رسول الله..

وحديث ابن الحنفية: أي الناس خير بعد رسول الله..

وحديث: إني لكنت أرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك..

وتكرار مثل هذه الأحاديث التي تجمع الثلاثة إنما يؤكد أن هناك محاولات متعمدة لربط الثلاثة ببعضهم بصورة تجعل من الصعب التفريق بينهم. وإذا ما تطرق الشك إلى أحدهم فإن الآخر سوف يدعمه ويبدد هذا الشك عنه. وغالبا ما سوف يتجه الشك لعثمان إذ أن تاريخه لا يبرر له هذه المكانة التي وضعوه فيها فمن ثم فإن ربطه بأبي بكر وعمر سوف يقوي من موقفه ويغطي على مساوئه..

ولما كانت محاولة المساس بعثمان سوف تكون نتيجتها المساس بأبي بكر وعمر.

فقد وضع القوم المحاذير الصارمة التي تحول دون الخوض في عثمان والتي هي نفس المحاذير التي تمنع من الخوض في أبي بكر وعمر..

ومن هنا فقد أحاط القوم الخلفاء الثلاثة بهالة من القداسة وكم هائل من النصوص التي تشكل حاجزا منيعا يحول دون الخوض أو حتى مجرد التفكير في نقدهم..

أما الإمام علي فإنهم وإن كانوا قد وضعوه رابع الخلفاء فهم لم يوقروه ويعظموه كما عظموا الثلاثة ويكفي أن وضعوه رابعهم ونقلوا الكثير من الروايات التي تحط من قدره وتشكك في علمه ومكانته وتبرر وضعه في مؤخرة الخلفاء على ما سوف نبين عند عرض مناقب الإمام في روايات القوم..

ومثل هذا الأمر إنما يؤكد أن مسألة الخلفاء إنما هي مسألة مخترعة من قبل السياسة وأن القوم يتخبطون في محاولة دعم هذه المسألة بالنصوص..

يروي مسلم: سئلت عائشة من كان رسول الله مستخلفا لو استخلف.

قالت: أبو بكر فقيل لها ثم من بعد أبي بكر. قالت: عمر. ثم قيل لها من بعد

الصفحة 138
عمر. قالت: أبو عبيدة بن الجراح وكما يظهر من هذه الرواية أن عائشة أطاحت بعثمان من بين الثلاثة الذين أجمع عليهم القوم ووضعت مكانه أبي عبيدة مناقضة بذلك كل النصوص الأخرى التي تضع عثمان من وراء عمر. فمن نصدق:

عائشة أم القوم؟..

يروي الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة قال: دخلت رقية بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) امرأة عثمان وبيدها مشط. فقالت: خرج رسول الله من عندي آنفا رجلت شعره فقال لي: كيف تجدين أبا عبد الله عثمان؟

قلت: قال: أكرميه فإنه من أشبه أصحابي بي خلقا (4)..

ويعلق الحاكم على هذه الرواية بقوله: هذا حديث صحيح الإسناد واهي المتن. فإن رقية ماتت سنة ثلاث من الهجرة عند فتح بدر وأبو هريرة إنما أسلم بعد فتح خيبر سنة سبع (5)..

وقال الذهبي: هذا حديث منكر المتن. فإن رقية ماتت وقت بدر وأبو هريرة أسلم وقت خيبر (6) ومثل هذه الرواية التي نجد منها كثيرا في كتب القوم إنما تدل على محاولات الوضع والتضخيم لشخصيات مهزوزة. وتخبط القوم فيها إنما يعود سببه إلى حيرتهم بين نكران السند ونكران المتن. فهم قد أنكروا المتن هذه المرة ولم ينكروا السند كما جرت على ذلك عادتهم. وهذا قمة التناقض. وليتهم ساروا على هذا النهج مع الروايات الأخرى لكان من الممكن أن يريحونا من كم كبير من الروايات المخترعة لتضخيم الرجال. ولكنها السياسة..

أما ما يتعلق ببقية العشرة فقد جاء القوم بروايات تسهم في زيادة الحيرة وترفع من درجة الشك في المسألة من أساسها.

فعن الزبير بن العوام أحد العشرة يروي البخاري، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة عن مروان بن الحكم قوله: كنت عند عثمان إذ أتاه رجل فقال:

استخلف؟ قال: وقيل ذلك؟ قال: نعم. الزبير. قال: أما والله إنكم لتعلمون أنه خيركم. ثلاثا..

ومثل هذه الرواية لا تدل عن منقبة ولا شئ. وليست سوى شهادة من عثمان لصالحه. وهي شهادة لا ترفع من قدره لكونها صادرة ممن يحتاج إلى من يرفع

الصفحة 139
قدره..

ويكفي أن الراوي هو مروان بن الحكم الذي لعنه الرسول وهو في صلب أبيه..

ويروي البخاري قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أن لكل نبي حواريا. وأن حواريي الزبير بن العوام..

كما يروي أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال للزبير: فداك أبي وأمي..

وبالطبع فإن المقصود من جعل الزبير من حواريي الرسول هو منازعة الإمام علي في مكانته الخاصة القريبة من الرسول. ثم إن تعميم هذه الفضائل من شأنه أن ينفي الشك عن أن تكون الفضائل خاصة بفئة محددة..

ويروي مسلم أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لكل أمة أمينا وإن أميننا أيتها الأمة أو عبيدة بن الجراح..

ويروي مسلم عن سعد بن أبي وقاص: قالت عائشة أرق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات ليلة فقال ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة. قالت وسمعنا صوت السلاح. فقال الرسول من هذا؟ قال سعد بن أبي وقاص يا رسول الله جئت أحرسك. قالت عائشة فنام رسول الله حتى سمعت غطيطه..

ومثل هذه الرواية إنما تثير عدة تساؤلات..

الأول: هل كان الرسول يخاف من شئ ما؟ وما هو هذا الشئ؟..

الثاني: أين بقية الصحابة ولماذا تركوا الرسول بلا حواسة؟..

الثالث: وجود عائشة معه هل يعني أنه كان في بيته أم في غزوة من الغزوات؟

فإذا كان في بيته فلماذا يخاف؟ وإذا كان في غزوة أين الصحابة..

الرابع: لماذا سعد بالذات الذي تطوع لحراسة الرسول؟ هل يعني هذا أن الإمام عليا تقاعس عن حراسته؟..

ويروي البخاري أن أناسا وشوا به - إي بسعد - إلى عمر. قالوا: لا يحسن

الصفحة 140
أن يصلي..

وعن طلحة يروي البخاري قول عمر: توفي النبي وهو عنه راض..

ويروي عن أبي حازم قوله: رأيت يد طلحة التي وقى بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد شلت..

أما بقية العشرة سعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف فلم يرو البخاري أو مسلم شيئا عن مناقبهما. فإذا كانا بلا مناقب فكيف يوضعان ضمن العشرة المبشرين بالجنة؟..

وإذا ما تطرقنا إلى الآخرين من الصحابة أتباع الإمام مثل بلال وسلمان وعمار وحذيفة والمقداد وأبي ذر فإن القوم قد مروا عليهم مرور الكرام وكأن هؤلاء ليس لهم دور في الإسلام وليست لهم مكانة..

لقد جعل البخاري لمعاوية بابا أسماه باب ذكر معاوية في الوقت الذي لم يذكر شيئا عن مناقب أبي ذر الغفاري. وجمع عمارا وحذيفة في باب واحد وبرواية واحدة..

يروي البخاري عن عمار وحذيفة وأن علقمة قال: قدمت الشام فصليت ركعتين ثم قلت اللهم يسر لي جليسا صالحا فأتيت قوما فجلست إليهم فإذا شيخ قد جاء حتى جلس إلى جنبي. قلت من هذا؟ قالوا: أبو الدرداء. فقلت: أني قلت من أهل الكوفة. قال أو ليس عندكم ابن أم عبد صاحب النعلين والوسادة المطهرة؟ أو ليس فيكم الذي أجاره الله من الشيطان عمار يعني على لسان نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم). أو ليس فيكم صاحب سر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي لا يعلم أسماء المنافقين أحد غيره حذيفة (7)..

وعن بلال يروي البخاري عن عمر قوله: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا يعني بلالا (8)..

ويروي أيضا أن بلالا قال لأبي بكر: أن كنت اشتريتني لنفسك فأمسكني.

وإن كنت إنما اشتريتني لله فدعني أعمل لله (9)..

ويروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله في بلال: سمعت دف

الصفحة 141
نعليك بين يدي في الجنة (10)..

أما مسلم فقد روى في بلال الرواية السابقة بينما روى في أبي ذر رواية واحدة هي قصة إسلامه ولقائه الرسول بمكة ولم يرو شيئا من فضائل حذيفة أو عمار أو غيره من أصحاب الإمام بينما جعل بابا في فضائل أبي هريرة وابن عمر وأبي سفيان (11)..

ويروي مسلم عن بلال وسلمان وصهيب الرواية التي ذكرناها سابقا حين اصطدم بهم أبو بكر لمهاجمتهم أبي سفيان وقال له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك وما نخرج به من هذه الروايات هو ما يلي:

- أن حذيفة وعمارا لهما مكانة خاصة فالأول صاحب سر النبي والثاني مجار من الشيطان..

- أن هذه المكانة لم تضعهما في المكان الصحيح والملائم لهما عند القوم..

- أن القوم لم يبينوا لنا لماذا اختص حذيفة دون غيره بسر النبي عن المنافقين؟..

- أن رواية البخاري في بلال على لسان عمر لا تعطي قدرا له فإنما هي شهادة لصالح أبي بكر أكثر منها لصالح بلال..

- أن قول بلال لأبي بكر يشير إلى صدام وقع بينهما بعد وفاة الرسول (12)..

- أن قول الرسول في بلال يؤكد أنه من المبشرين بالجنة. وهذا يفرض طرح السؤال التالي: لماذا لم يوضع بلال ضمن العشرة المبشرين بالجنة؟..

- أن رواية مسلم عن بلال وسلمان وصهيب تؤكد أن مكانتهم أعلى من مكانة أبي بكر..


الصفحة 142

____________

(1) - مسلم. كتاب فضائل الصحابة. باب من فضائل عثمان.

(2) - البخاري. كتاب فضائل الصحابة. باب مناقب عثمان.

(3) - فتح الباري (ج 7 / 59).

(4) - مستدرك الحاكم (ج 4).

(5) - المرجع السابق.

(6) - تلخيص المستدرك.

(7) - البخاري. كتاب فضائل الصحابة. باب مناقب عمار وحذيفة.

(8) - البخاري. كتاب فضائل الصحابة. باب مناقب بلال.

(9) - المرجع السابق.

(10) - المرجع السابق. ومسلم كتاب الفضائل باب من فضائل بلال.

(11) - أنظر كتاب الفضائل.

(12) - كان هذا الصدام في خلافة أبي بكر حين رفض بلال أن يؤذن لأحد بعد الرسول وقرر الرحيل من المدينة وأراد أبو بكر منعه. ومثل هذا الحدث يدل على أصحاب الإمام كانت لهم مواقف من أبي بكر ومن عمر.. أنظر فتح الباري (ج 7 / 99). وكتب التاريخ.

الصفحة 143

الطرح الشيعي

عوامل الجذب

الصفحة 144

الصفحة 145
هناك عدة عوامل جذبتني لخط آل البيت وللأطروحة الشيعية. وهذه العوامل منها ما يتعلق بالأطروحة السنية..

ومنها ما يتعلق بالواقع الإسلامي..

ومنها ما يتعلق بشخصي.. ومنها ما يتعلق بالأطروحة الشيعية..

أما ما يتعلق بالأطروحة السنية فهو ما قد بيناه من أن هذه الأطروحة إنما هي وليدة السياسة وتقديم فقه الرجال على فقه النصوص وهذا الخلل الحقيقي فيها والذي يتجنب القوم علاجه وأما ما يتعلق بالواقع الإسلامي فهو يتمثل في تلك التجربة الطويلة التي عشتها مع التيارات الإسلامية ولمست فيها عن قرب مدى المأزق الفكري والحركي الذي تعيشه هذه التيارات بسبب هذه الأطروحة وبالنسبة لشخصي فقد عشت فترتي السنية رافعا شعار العقل فلم أجد لي مكانا بين القوم ولاحقتني الإشاعات والاتهامات وأدركت فيما بعد أن أستخدام العقل عند القوم يعني الزندقة والضلال ولقد كنت أدرك جيدا أن التنازل عن العقل يعني الذوبان في الماضي وبالتالي يصبح المرء بلا شخصية يواجه بها الواقع..

وأذكر عند ما كنت رهن الاعتقال في أوائل الثمانيات أن عرض على بعض قادة تيار الجهاد مشاركتهم في النشاط الفكري الذي يجري داخل المعتقل تحت إشرافهم. فرفضت هذه الطلب متعللا بما يلي:

إنني لن أعرض ما أعرض دون تمحيص ودون إعمال العقل فيه وهذا لن

الصفحة 146
يرضيكم..

إنني في حالة الموافقة بين أمرين..

إما أن أصطدم بكم بطرحي المتناقض مع طرحكم..

وإما أن أستسلم لأطروحتكم وأتكلم بلسانكم وفي هذه الحالة لن أضيف جديدا. إن التسلح بالعقل سوف يمنح المرء القدرة على الاختيار. ومن ثم فقد كان تسلحي بالعقل العامل الأساس في دفعي نحو خط آل البيت واختياره. ولم يكن هذا ليتم لولا تسلحي بالعقل الذي أعانني على تحطيم الأغلال التي كان يكبلني بها الخط السني (1)..

أما ما جذبني لخط آل البيت ودفعني نحو التشيع فيما يتعلق بالأطروحة الشيعية فهو ما يلي:

القرآن والعقل.

أنزل الله القرآن ليحكم بين الناس ويكون دستورا لحياتهم. إلا أن الناس مع مرور الزمن وطول الأمد ورثوا الكثير من الروايات والاجتهادات التي غلبت على حياتهم فاستسهلوها وتناولوا منها دينهم وبالتالي أهملوا القرآن. وقد ساعد على نمو هذه الحالة ودعم هذا الوضع الحكام إذ وجدوا فيه وسيلة لتخدير المسلمين وإلزامهم بطاعتهم. فهذا الكم من الروايات التي توجب طاعتهم تتناقض مع القرآن ولذا عملوا على عزل القرآن عن واقع المسلمين..

أما من شذ عن هذا الوضع وأعمل عقله فكانت تلصق به تهمة الزندقة لتبرير الخلاص منه والقضاء على دعوته..

وكم سقط من شهداء على هذا الطريق بأيدي الحكام وبأيدي الفقهاء (2). ولو كان القرآن والعقل قد أخذا دورهما في مسيرة الإسلام ما كانت قد وصلت الأمة إلى ما وصلت إليه من الخنوع والتشرذم وعبادة الرجال..

ففي غيبة القرآن اخترعت الكثير من الروايات المضللة..

وفي غيبة العقل سادت هذه الروايات وحلت محل القرآن..

في غيبة القرآن اخترع إسلام جديد..


الصفحة 147
وفي غيبة العقل برره الفقهاء..

في غيبة القرآن أصبح التراث هو الدين..

وفي غيبة العقل بارك الفقهاء هذا التراث..

في غيبة القرآن والعقل أصبحنا أسارى للحاكم ولفقه الماضي..

إن تحكيم القرآن والعقل في دائرة الأطروحة الشيعية قد منحها القدرة على تجديد محتوياتها ومواكبة الواقع والمتغيرات. بينما بقيت الأطروحة السنية جامدة منغلقة لرفضها الخضوع لحكم القرآن والعقل مما ولد قداسة غير مباشرة لجميع محتوياتها وفي مقدماتها كتب الأحاديث خاصة كتابا البخاري ومسلم اللذان حظيا بقداسة خاصة من دون الكتب الأخرى..

في الوسط السني يشهر سلاح التكفير في وجه أية محاولة للمساس بروايات البخاري ومسلم وقد حاول بعض عقلاء القوم نقد أحاديث سحر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الواردة في البخاري فلاقى من التهديد والوعيد وأحكام الزيغ والضلال ما دفع بهم إلى التراجع. وقد قامت جامعة الأزهر بفصل واحد من مدرسيها بسبب خوضه في بعض هذه الأحاديث وإنكاره لها..

ويرفض أهل السنة تحكيم القرآن في الأحاديث كما أشرنا سابقا. وهم بهذا يبتدعون قاعدة خطيرة تنزل الرواية منزلة القرآن. إذ يعتمدون الحديث ولو خالف القرآن ما دام صحيحا حسب قواعدهم. وكأنهم أيضا أنزلوا هذه القواعد منزلة النصوص. ولو كان للعقل دور عندهم لنبذت مثل هذه القواعد والآراء..

من هنا فقد تميز الطرح الشيعي بهذه القاعدة: قاعدة تحكيم القرآن والعقل واحترامه ومنحه الدور الشرعي الذي أوجبته نصوص القرآن. وسرني تطبيق هذه القاعدة على كتب الحديث وجميع ما ورد من أقوال وروايات عن الرسول أو أئمة آل البيت أو فقهاء الشيعة (3).


الصفحة 148
الإمام علي لفت نظري أثناء قراءتي لكتب التراث السني قول ابن حنبل: أن عليا كثير الأعداء ففتش أعداؤه له عيبا فلم يجدوا فعمدوا إلى رجل قد حاربه فأطروه كيادا منهم لعلي. فهذا القول يلخص حركة التاريخ. الخاص بالصراع بين آل البيت والقوى المتربصة بهم. وإن كان ابن حنبل قد خص بقوله معاوية، فالرجل من جهة أخرى أدان التاريخ السني بأكمله وإن كان لا يقصد ذلك. فتاريخ السنة إنما يقوم على أساس مباركة حكام بني أمية وبني العباس الذين قضوا على خط آل البيت وبطشوا بأئمته. وعلى أساس مباركة التراث الذي تولد من حالة التعايش بينهم وبين هؤلاء الحكام ذلك التراث الذي يقوم على الحط من قدر الإمام علي وتشويه آل البيت. إن ارتباط أهل السنة بخط الحكام فرض عليهم تبني وجهة معادية للإمام علي ولآل البيت وذلك هو الموقف الطبيعي لهم إذ أن هؤلاء الحكام هم أعداء علي وآل البيت..

فهم قد عملوا على رفع أبي بكر وعمر وعثمان عليه..

وهم قد أعلوا من مقام أبي سفيان وولده معاوية وساووه بالإمام علي..

وهم قد قاموا بتأويل النصوص الواردة في الإمام وآل البيت على غير معناها..

وهم قد برروا كل المواقف والحوادث التي وقعت بين الإمام والصحابة بما يخدم خط الحكام..

وهم قد عتموا على أئمة آل البيت من بعد الإمام علي وشوهوا شيعتهم..

ومثل هذه المواقف إنما تنم عن انحياز كامل لجانب أعداء الإمام وآل البيت..

لقد كنت أتأمل مثل هذه المواقف من القوم وأتساءل: ما سر هذه المواقف؟

وما هو الدافع من ورائها ولماذا يحظى الإمام بهذا التركيز من خصومه؟..

لم يكن كلام ابن حنبل سوى إجابة على طرف السؤال. أما الإجابة الكاملة التي لم يستطع النطق بها فهي أن القوم قد تآمروا على الإمام من بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسام) وأن هذا التآمر قد اضطرهم إلى تحريف النصوص الواردة فيه وفي آل البيت وطمس معالمها بل واختراع نصوص

الصفحة 149
تناقضها..

إلا أن القوم على الرغم من موقفهم هذا نطق لسانهم بما يفيد الشبهة فيهم.

فقد لاحظت أنهم يطلقون لفظة " إمام " على علي وحده من دون بقية الصحابة.

ثم أنهم يدعون أن الإمام عليا قام بتحريق أناس قالوا بألوهيته. وكنت كلما مررت على هذين الأمرين تساءلت: لماذا يطلق القوم هذه اللفظة على الإمام خاصة.

ولماذا قال هؤلاء بألوهية الإمام دون غيره؟..

إن الإجابة على هذين السؤالين قد كلفتني الكثير من الوقت في البحث والتأمل حتى اهتديت أن هناك من النصوص ما يعطي للإمام علي خاصية ترفعه فوق الجميع. وأن هذه الخاصية كان يتنزل بها القرآن ويبشر بها الرسول. وهذه الخاصية هي الطهارة من الرجس لتسلم مهمة الإمامة من بعد الرسول. وهذا هو ما توارثه القوم عن علي وحجبته السياسة وما بقي منه سوى وصفهم له بالإمام.

وهذا هو ما دفع بالبعض للقول بألوهيته لما يرون من تحقق المعجزات على يديه.

إن سلمنا بصحة هذه الرواية (4)..

إن القوم لم يخبرونا لماذا أله علي؟ فهم على الرغم من تبنيهم هذه الرواية لا يقصدون من ورائها سوى الطعن في شيعة الإمام ونبذ أي تصور يطرأ على ذهن المسلم حول خصوصيته وكأنهم يريدون أن يثبتوا من وراء هذه الرواية أن الإمام كان يبارك الخط السائد وأن من حاول الانشقاق عن هذا الخط ومنحه خصوصية تميزه عن القوم فقد أحرقه بيده. فدعوى ألوهية الإمام قضي عليها في مهدها على يده ولم تظهر بعدها أية دعاوى أخرى لتمييز الإمام أما الشيعة هؤلاء ففرقة مختلقة لا أصل لها ويقف من ورائها أعداء الإسلام (5)..

ثم إن القوم بعد هذا لا يذكرون الإمام إلا ويقولون كرم الله وجهه. وعندما سألت عن معنى هذه الكلمة قالوا: إنه لم يسجد لصنم بينما جميع الصحابة قد وقعوا في هذا. فقلت في نفسي إن هذه الخاصية التي جاءت على لسان القوم إنما تؤكد مكانة الإمام وموقعه الشرعي كما أكدته رواية إدعاء ألوهيته ونعتهم له بالإمام..

لقد استفزتني كثيرا تلك المكانة المتواضعة جدا التي يضع أهل السنة فيها الإمام عليا

الصفحة 150
واستفزني تقديم عثمان عليه على الرغم من أفاعيله ومنكراته..

واستفزني مساواته بمعاوية الطليق الذي لا وزن له..

واستفزني ما يلصقون به من صغائر وموبقات..

وكان هذا كله مبررا للنفور من فقه القوم وأطروحتهم والبحث عن الحقيقة في دائرة الأطروحات الأخرى حتى اهتديت للأطروحة الشيعية ووجدت فيها ما أراح عقلي وطمأن نفسي بخصوص الإمام علي..

وجدت فيها مكانته وخصوصيته..

ووجدت فيها علمه الذي دثره القوم..

وجدت عليا الإمام المعصوم وهي الصفة التي تعكس خصوصيته وتميزه والتي فسرت على ضوئها جميع الأمور التي استشكلت علي في فقه القوم حول الموقف من الإمام..

فسرت لماذا يقولون عنه إمام..؟.

ولماذا يقولون كرم الله وجهه..؟.

ولماذا حاول تأليهه البعض..؟.

إن مكانة الإمام كانت ساطعة سطوع الشمس بحيث لم يتمكن القوم من حجبها عن أعين المسلمين بتأويلاتهم وتبريراتهم. وقد كنت واحدا من هؤلاء الذين سطعت عليهم شمس الحقيقة فأضاءت لي الطريق نحو الصراط المستقيم خط آل البيت محطما من طريقي جميع القواعد والأغلال التي صنعها القوم لتكبيل العقل وحجب الحقائق.

الاجتهاد.

وما لفت نظري في الطرح الشيعي أيضا قضية فتح باب الاجتهاد الذي ظل مغلقا منذ قرون طويلة لدى الطرف الآخر ولا يزال..

وتميزت المؤسسة الدينية المعاصرة عند الشيعة بوجود عدد من المجتهدين البارزين الذين اجتهدوا في كثير من القضايا الملحة والعاجلة والتي لا زال يتخبط

الصفحة 151
فيها الطرف السني. وعلى رأس هذه القضايا قضية الربا والبنوك..

والاجتهاد عند الشيعة إنما هو محكوم بالنص لا يصطدم به ولا يخرج عليه. كما هو حال الطرف السني الذي تبنى قاعدة: لا اجتهاد مع النص. ثم ناقضها بتبنيه جميع اجتهادات عمر بن الخطاب على النصوص معتبرا هذا التبني نوعا من الخصوصية لعمر لكونه من الراشدين المهديين الذين نص عليهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (6)..

وأدلة الاستنباط عند الشيعة الكتاب والسنة (الصحيحة) والعقل. وهم بهذا يرفضون المصادر الأخرى التي أضافها أهل السنة كمصادر للتشريع مثل الاجماع والقياس والاستحسان وخلافه. هذه المصادر التي فتحت الأبواب لاختراع الكثير من الأحكام التي أسهمت وما زالت تسهم في تشويه صورة الإسلام..

وعوام الناس عند الشيعة عليهم أن يلتزموا بتقليد المجتهدين حسب قاعدة:

تقليد الأعلم. فمن ثم لا تجد فردا شيعيا لا يقلد مرجعا من مراجع المجتهدين (7)..

والتقليد يعني الإتباع في الأمور الفقهية ولا يعني الإتباع المطلق للمجتهد. كما يلزم المقلد بتسليم زكاة المال وخمسه إلى المرجع الذي يقلده..

والأمور الفقهية عند الشيعة إنما هي حكر على المجتهدين والفقهاء ولا يجوز لعوام الناس أن يخوضوا فيها. وقد شكلت هذه المسألة نوعا من النظام والانضباط في الوسط الشيعي وحالت دون ظهور الشطحات والبدع والتيارات الشاذة كما هو الحال عند الطرف السني الذي أصبح يعاني من ظاهرة تعدد الجماعات وكثرة التيارات وتصاعد الخلافات بسبب أنه لا توجد هناك ضوابط للتلقي والإتباع وبسبب فقدان ثقة المسلمين بفقهاء السنة وهو ما ليس موجودا عند الشيعة إذ المجتهد على الدوام محل ثقة الناس..

ومن الطريف أن هذا التقليد إنما هو مرتبط بحياة المجتهد فإذا مات فعلى المقلد أن ينتقل لتقليد الأعلم من بين المجتهدين الأحياء. وهذا يعني ارتباط المقلد بقضاياه المعاشة والمعاصرة ويجعل نظرته على الدوام نحو اليوم والغد. فتقليد الميت يعني التحجر على خط ثابت ويورث الانغلاق والتعصب وهو ما نراه واقعا عند

الصفحة 152
الطرف السني الذي لا زال يعيش على استفتاء أهل القبور ومن أهم نتائج فتح باب الاجتهاد عند الشيعة المرونة في مواجهة الواقع والارتباط به فلم أجد عند الشيعة تلك القضايا الهامشية والسطحية التي ينشغل بها الواقع السني مثل قضية اللحية والجلباب وغطاء الوجه بالنسبة للمرأة وتحريم الفن والثقافة وتجنب السياسة ومحاربة المسيحيين وغير ذلك من القضايا التي يعود سببها إلى الانعزال عن الواقع والكفر به..

المؤسسة الدينية وما يميز المؤسسة الدينية عند الشيعة هو استقلالها عن الحكام وبعدها عن سيطرتهم مما أكسبها مواقف سياسية شجاعة أسهمت في إحداث تغييرات فعالة في مجتمعاتها..

وهذه الاستقلالية إنما يعود سببها إلى ارتباط المؤسسة الدينية بالشارع والجماهير التي تدين لها بالطاعة والولاء وتسلمها أموالها وتذعن لأحكامها..

أن رجال الدين عند الشيعة إنما يتقاضون أجورهم من الجماهير لا من الدولة.

فمن ثم فإن المؤسسة الدينية إنما تعتمد على الجماهير وتعبر عنهم ولا تخشى الحاكم لكونه لا سلطان له عليها..

وعلى وجه المثال لا يمكن أن تجد مجتهدا يجلس في بيته أو مكتبه تعلوه صورة حاكم من الحكام فإن هذا الأمر لا يفعله حتى طالب من طلاب العلم الشيعة..

ومن الأمور التي تعكس ارتباط المؤسسة الدينية بالشارع عند الشيعة ثورة التبغ حين أصدر أحد المراجع فتوى بتحريم التبغ بهدف ضرب الشركات الأجنبية فانصاعت الجماهير لهذا الحكم وضربت المصالح الأجنبية بهذه الفتوى البسيطة (8)..

هناك ثورة الدستور التي قادها عدد كبير من الفقهاء عام 1906 م والتي انتهت بصدور دستور في إيران تقيد بالشريعة الإسلامية ومنح الفقهاء سلطة مراقبة القوانين (9)..

وما نجاح الثورة الإسلامية في إيران إلا بهذه الخاصية. ولو لم يكن هناك

الصفحة 153
ارتباط بين الجماهير والفقهاء ما نجحت الثورة التي كانوا يقودونها ويحركونها بأنفسهم..

وهذا الارتباط الروحي بين الجماهير والمراجع إنما يعود سببه إلى قضية الإمامة.

فالجماهير الشيعية تعتبر المرجع نائب الإمام الغائب الواجب الطاعة فمن ثم فإن طاعته واجبة..

وحال المؤسسة الدينية عند السنة على العكس من ذلك. فهي مؤسسة مرتبطة بالحكام وواقعة في دائرة نفوذهم ويتقاضى منهم الفقهاء أجورهم. فمن ثم فإن ولاءهم يتجه على الدوام نحو الحاكم وليس نحو الجماهير. وفتاواهم إنما تصدر لحساب الحاكم لا لحساب الجماهير.. وهذا ما دفع بالجماعات الإسلامية وتيارات الحركة الإسلامية المختلفة إلى نبذ المؤسسة الدينية باعتبارها مؤسسة حكومية في خدمة الحاكم لا في خدمة الإسلام..

من هنا فأن المؤسسة الدينية السنية تعيش مأزقا خطيرا يهدد وجودها ومستقبلها فهي قد فقدت ثقة الجماهير المسلمة والتيارات الإسلامية بها من جهة. ومن جهة أخرى فقدت القدرة على المبادرة وهي أسيرة الحكم وأسيرة فقه الماضي..

____________

(1) - أنظر كتابنا العقل المسلم بين أغلال السلف وأوهام الخلف.

(2) - أنظر لنا شهداء الرأي في التاريخ الإسلامي.

(3) - صدرت في الفترة الأخيرة كتب تلخص كتاب الكافي وهو كتاب الحديث الأول عند الشيعة مستبعدة منه الأحاديث الضعيفة والموضوعة. كما صدر كتاب يلخص من لا يحضره الفقيه وهو كتاب الحديث الثاني. ولفقهاء الشيعة الكثير من الكتب والبحوث حول هذا الأمر.

(4) - روى البخاري في باب حكم المرتد والمرتدة: أتي علي بزنادقة فأحرقهم. فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تعذبوا بعذاب الله.

ولقتلتهم لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من بدل دينه فاقتلوه.. ورواه أحمد في مسنده (ج 1 / 217). ومن الواضح أن هذه الرواية تضرب عليا بابن عباس. وتشكك في فقه علي وعلمه. فهل يعقل أن يجهل علي حكما صريحا بالنهي وارد عن الرسول؟ وهل ابن عباس أفقه من علي؟.

الصفحة 154

____________

(5) - اخترع القوم شخصية تحت اسم " عبد الله بن سبأ " يهودي الأصل. وربطوها بالشيعة بهدف التشكيك في أطروحتهم وتاريخهم. أنظر كتب التاريخ. وكتاب عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى للسيد مرتضى العسكري. ولا يزال القوم يلصقون ابن سبأ بالشيعة حتى اليوم. أنظر كتاب السبئية والسبئيون.

(6) - أنظر كتاب النص والاجتهاد للسيد عبد الحسين شرف الدين ط بيروت.

(7) لكل مرجع وكلاء ينوبون عنه في شتى البقاع التي يتواجد بها الشيعة. كما أن لكل مرجع رسالة عملية وهي عبارة عن كتاب يحوي كل ما يتعلق بالعبادات والمعاملات يتناول منها المقلد. وهذه الرسائل تكاد تكون متشابهة إلا في الأمور المحدثة المعاصرة والتي هي محل خلاف لاختلاف الاجتهادات حولها مثل قضية الربا والبنوك.

(8) - لا يقول فقهاء الشيعة بحرمة الدخان. وهذه الفتوى كانت لها ظروفها الخاصة بها وقد صدرت عام 1891 م على لسان الميرزا الشيرازي وقد نصت على أن التدخين الآن حرام وبمثابة محاربة لإمام الزمان المهدي المنتظر.. وكان السبب في هذه الثورة هو منح شركة بريطانية حق استغلال التبغ الإيراني لمدة خمسين عاما.

(9) - انتزع هذا الحق بعد مظاهرات ومصادمات وقتلى واضطر الشاه مظفر الدين تحت ضغط الفقهاء والجماهير التي تقف من ورائهم إلى إصدار فرمان في 15 / 8 / 1906 م بإعلان الدستور واعتبار المذهب الشيعي هو المذهب الرسمي للدولة.