الاهداء
إلى ريحانتي سعيدة - أم حيدر - على ما وفرته لي في أجواء مشجعة كل البحث والدراسة.. ولما هي حقيقة به من جزيل الشكر وعظيم الفخار.. أهدي هذا الكتاب، خدمة للحسين (ع).
مقدمة
في كتابي السابق - الإنتقال الصعب - كنت قد تجاوزت الكثير من الموضوعات المهمة بسبب السرعة من جهة، وبسبب تجنبي الدخول في مطارحات معقدة من جهة أخرى. ذلك أن كتاب - الإنتقال - لم يكن سوى مجلى لتجربة استمرت رازحة بين أسوار الباطن القاتل والممل، ميدانا لفورة عاطفية أفقدتني كما سبق القول مني " تقنياتي المعرفية " - لذا كان الخطاب فيها ذو نبرة حادة تعبر في ذات الوقت، عن حجم القلق الذي ظل يكتنفني ويتسلط على قريحتي. وهو القلق الذي يعاني من تسلطه كل باحث عن الحقيقة في أغوارها المظلمة، وكل متنقل في ملكوت الاعتقاد، في رحابه الواسعة. ومن جهة أخرى، لأن العنصر الشخصي كان له حضور مكثف في كل زوايا الكتاب، فكان أقرب ما يكون إلى قصة منه إلى كتاب بحث وتحليل!.
أود قبل ولوج أبواب البحث، أن أتحدث عما آثاره كتاب " الإنتقال " من ردود الفعل في بعض الأوساط، وما أثاره من الاعجاب والأريحية في نفوس البعض الآخر. علما أن الكتاب كما سبقت الإشارة إليه، لم يكن يهدف إلى الانتصار لطائفة على أخرى، ولا إنزال فئة مقابل أخرى. كانت الحقيقة هي مدار الكتاب، الحقيقة وحدها!.
كان مما آخذوني عليه، تلك الطريقة العنيفة والطبيعة الخشنة التي تناولت بها الموضوع، ومن جهة ثانية، وجدوا علي فيما ذهبت إليه من مرويات مسقطة
وثالثا، عن تجاوزي مصلحة الوحدة، وسعيي وراء الفتن التاريخية.
ولست واجدا على هؤلاء فيما ادعوه من الأمر، خصوصا بعد أن أثلج صدري انطباع زمرة من العلماء والمشايخ ممن أثق في أهليتهم ونبوغهم.
أرد على من رأى في أسلوبنا عنفا زائدا وجرأة مفرطة. بأنني لم أكتب كتابي إلا بدافع الاحتجاج. فالقضية في تقديري متصلة بمصير الإنسان أمام خالقه وبدينه الذي يشكل ينبوع ممارسته العبادية اليومية عندما ترى نفسك وقد دنوت قاب قوسين أو أدنى من لهيب النار، وفجأة تكتشف حبل النجاة. أفلا يدعوك ذلك إلى الجنون، إلى قول أي شئ في حق من قادك إلى هذه الهوة السحيقة، للهوه ولعبه. ماذا كنت أنوي قوله لربي، لو سألني عمن هو إمام زماني؟!.
أفكنت مجيبا: يا ربي إني لا أدري! ماذا لو قضيت كل حياتي في معرفة كل الرجال، وذهبت إلى ربي وأنا لا أعرف عن أئمة أهل البيت شرو نقير؟!.
أفكنت مجيبا: يا ربي إني قد عرفت مالك وبن حنبل والشافعي، وأبا حنيفة.
وعرفت يا ربي، فولتير ومونتسكيو وفيرلين.. ولم أعرف الإمام زين العابدين، أو الإمام الصادق، أو حتى إمام الزمان؟!.
كيف كان يتهيأ لي إن الرسول، بعدها سيحضنني في جنات الخلد والتمس القرب منه وبرفقة ابنه الحسين (ع) أأقول له - بالله عليك، هأنذا جئتك يا رسول الله بعد أن قربني منك تعبدي واتباعي لرجال ذبحوا وخذلوا ابنك هذا الذي بين جنبيك؟!.
إن القضية إذا نظرنا إليها بمنظار الإيمان، والحق. سوف لا أكون إلا كذلك، عنيفا وجريئا. أما الذين وجدوا في تلك المرويات التي أثرتها في كتابي، تحريضا بالصحابة والراشدين. فإنني لا أجد طريقا يقوى، ولا دليلا تنهض في وجه من يرفض الروايات، لا لضعف سندها ولا لرطانة متنها، وإنما فقط لأجل تعرضها للمقدسين!.
متى رأى الذين يقدسون أشخاصهم بالعيان؟! حتى يقطعوا بأنهم كانوا على حالة أسطورية من التقوى والورع؟! إننا لم نتعرف عليهم إلا من خلال الروايات، فلماذا نقف في وجه الروايات المناقضة علما بأن الرواية هي مصدرنا الوحيد لمعرفة رجال التراث! إنها رواية برواية، واللبيب من يفهم بالعقل والإشارة!.
ثم من هم هؤلاء الذين أسقطتهم؟ أوليسوا هم الذين أسقطوا أنفسهم. أولم يسقطوا رسول الله (ص) عندما خالفوه في حياته واستنكفوا عن تنفيذ وصاياه في مماته. وقتلوا أبناءه وضيقوا على نسله الطاهر. لقد قال عنه عمر: إنه يهجر.
ورفض هو وأبو بكر تجهيز جيش أسامة بن زيد. وتصرف أبو بكر في ماله (ص) بلا حق.
لقد أسقطوه في عين عامة المسلمين، أسقطه عمر وهو ينزله منزلة أبي بكر في الهدى، عندما قال:
لأن لم أستخلف فإن الرسول لم يستخلف، وإن أستخلف فقد استخلف أبو بكر.
لقد أسقطوه - بأمي وأبي - فكيف أجد حرجا في التعرض لهم بحق. إنني لم أرم تسقيطهم، ولكنني حاولت فقط إرجاعهم إلى أحجامهم الطبيعية، أزلت فقط ورقة التوت عنهم لتنكشف عوراتهم أمام أجيال المسلمين. أفهذا يعتبر تسقيطا؟! ثم بالله عليك، متى كانوا كبارا حتى نسقطهم؟! وهل وجودهم كبارا وعمالقة في الأذهان المسحورة بكذب المؤرخين كاف لجعلهم كبارا وعمالقة في واقعهم التاريخي. كيف أكبر من قال عن نفسه:
إن لي شيطانا يعتريني. أو " كل الناس أفقه منك يا عمر ".
نعم.. لقد تعرضت مثلا لنسب عمر بن الخطاب، وذكرت ما علق به من
" وعلى الرغم من أن الخمر كانت من عادة العرب، إلا أن التواريخ والسير، تثبت إن من بين العرب من كان يتورع عنها " وهذا إسراف بدا مني لما بت أحاسب عمر على فعل قام به في الجاهلية. ولكن كان أجدر بمن اعترض على ذلك أن يفهم سياق حديثي، الذي كان يهدف تحليل شخصية عمر النفسية والاجتماعية. ولعل قولة سبقت من ابن خلدون تعزز ما ادعيناه، إذ قال: " وقد كانت حالة الأشراف في العرب الجاهلية في اجتناب الخمر معلومة، ولم يكن الكرم شجرتهم، وكان شربها مذمة عند الكثير منهم " (1).
وهذا يدل على أن عمر الذي كرعها في جاهليته لم يكن من أشراف العرب، حسب هذا الزعم.
أما الذين اعتبروا كتابي واقعا ضد الوحدة، وباعثا على الفتنة التاريخية. فماذا أقول لهم؟.
إن عقلي لم يعد يفهم هذه الفلسفة الوحدوية المجحفة، ولا ذائقتي بالتي تستسيغ هذه النغمة السياسوية. أي وحدة هذه التي تقوم على مذبحة الحق؟!.
وأي فتنة بدأت وانتهت؟! كيف أسكت وأنا أرى مجاميعهم تعقد الجلسات وتؤلف البحوث الطوال في تكفير أهل الولاية ومحاصرة المد العلوي.
لنعد فيما نعود إليه إلى طاولة المفاوضات التاريخية وبعقلية نيرة ومنهجية موضوعية.
وعلى كل حال فأنا لا أروم الفتنة ولا إعاقة الوحدة. وإذا كانت الفتنة هي أن
____________
(1) تاريخ ابن خلدون، ص 18 ج 1.
هناك دائما دواعي تدفع الإنسان إلى مثل هذه المشاريع. هو هذا الجهل العريض والأمية المنتشرة في أرجاء الوطن الإسلامي، هذا الجهل وتلك الأمية لهما رابطة بمجمل المباني المذهبية عند المسلمين، فأصول الفقه وقواعده يتغذى بمنهجية الفقهاء كما تحددها ملكاتهم ومبانيهم، وهذه الملكات وتلك المباني تقوم على علم الحديث، وهذا الأخير يقوم على السند في اتصاله وعدالة رجاله، وهنا تكمن الثغرة الخطيرة أي في عدالة الراوي التي تقوم على المزاج السياسي والإيديولوجي، المزاج الذي لا يمكن فهم حقيقته إلا بإرجاعه إلى سياقه التاريخي، لماذا يتحول أبو هريرة الدوسي الذي رفض عمر بن الخطاب نفسه رواياته، ونعته الإمام علي (ع) بالكذب على رسول الله (ص) إلى رجل صادق الرواية موثق عند أهل السنة والجماعة. أليس هو ذات المزاج السياسي والإيديولوجي لأن أبا هريرة كذب على الرسول (ص) لدعم بني أمية لقاء حطام الدنيا، وماذا كان سيعطيه علي (ع) فيما لو ظل عمره كله يمدحه. وهل إن أبا هريرة الدوسي هذا الذي جمع في ذاكرته مالذ وطاب من مرويات، كيف لا يدعوه ما حفظه من رسول الله (ص) إلى نصرة الحق الذي قاتل من أجله علي (ع) أولا أقل أن لا يروم معسكر معاوية لينصره بأكاذيبه المفضوحة، وإن الذي بشهادته ذاته إنه صاحب الرسول (ص) لإشباع بطنه، كيف لا يصاحب معاوية بعد أن ضمن له وفرة الدنيا بعد أن لم يحلم بها في حياته، علما أن صحبة معاوية لا تقتضي منه سوى مزيدا من الكذب والتجديف.
إن الجهل المطبق، والأمية المنتشرة تجعل من الضروري أن تنهض الأصوات المسؤولة بالدعوة إلى ما يلم شعث الإسلام الحق ويرأب صدعه ويعيد حبك نسيجه المنفوش.
في مناقشاتي الكثيرة مع العامة، كنت أضع هدفا من احتجاجاتي. أن تعالوا جميعا للتباحث الموضوعي الهادف إلى تصحيح ما ينوء به الصرح الإسلامي من متعلقات الماضي، لنجعل من مواد دراساتنا، مادة تعني بالفقه المقارن تكون أساسا للتعريف بمختلف المذاهب الإسلامية، والأسس التي تقوم عليها وتاريخية
فمتى ما لم يتنازل الطرف الآخر عن موقفه الصارم الذي لا يتسع لرأي الآخر، فإن المشكلة ستبقى عالقة إلى الأبد. حتى ولو طال المزمار بطلب الوحدة، إن الرافضي ظلت ولا زالت هي عنوان كل معتصم بولاية الأئمة الطاهرين من أهل البيت، وكان التشيع ولا يزال تهمة مسقطة للسمعة. ففي الماضي المتخلف كانت تهمة التشيع تعني الجريمة التي لا حد فيها غير الإعدام في دولة خلفاء بني أمية والعباس. وعلي تهمة تتلف عدالة الراوي عند المحدثين، ومن هنا كان بينهم والتعرض للإمام النسائي أن ينسبوا له التشيع عندما كتب في خصائص الإمام علي (ع) فنال بها ما شاء له الخلفاء من الشتم والضرب كما أن الشافعي الذي يعد أحد أئمة المذاهب الأربعة كان ممن أتهم بالتشيع لأهل البيت (ع) وكان البخاري يرفض الرواية عنه، ولم يخرج أحاديثه كما ذكر الرازي في مناقبه، وكذلك الطبري المؤرخ الكبير وصاحب أول تفسير جامع عند العامة، لم ينج من هذه التهمة التي رجم من أجلها، في حين لا يجد المحدثين حرجا في أن يخرجوا أحاديث لمن عرف بالنصب لأهل البيت. فقد أخرج البخاري لعمر ابن حطان، وهو خارجي، كما أخرج النسائي لعمر بن سعد قاتل الحسين. إن هذه التهمة أصبحت معنية في حد ذاتها. أن يكون المرء شيعيا كاف لإخراجه من الملة أو الآدمية في عصور الظلام.
وساعد في ذلك بلاغات العرب في تشويه صورة أعدائهم أو أقلياتهم، ولعل الكثير ممن يجهل مغزى هذه التهمة كان ينخرط بسهولة في هذه الجوقة الناصبية، وذلك من باب حشر مع الناس عيد. فكثير من أهل الشام ظلوا يلعنون عليا (ع) في المنابر، ولم يعرفوه عن قرب، حتى إذا جاء الشامي إلى الكوفة ويسأل عن علي (ع) فيقال له إنه بالمسجد، يأخذه العجب، ويدهشه الأمر، معربا عن حالته
وهو حال من انخرط بغباء في هذه الجوقة الناصبية في عصرنا، لقد قال ابن الأثير في كامله:
" قال علي بن عيسى: لو سئل هؤلاء عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه ولا فهموه ".
ويؤسفني جدا أن تستمر الحقيقة في الغياب عن هذه الأمة النائمة، والتي زادها نوما كسلها في التماس عقيدتها الصحيحة، مكتفية بما حملته أقلام التحريف على أديم التاريخ.
وهناك أيضا بعض من صغار القوم الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، ممن راموا تهديدنا بعد سماعهم الكتاب، ويا ليتهم قرأوا ما جاء فيه وتمعنوه، إذن لاستناروا منه ما يرشد ألبابهم في الفجاج المختلفة، وقضوا به على عتمة أذهانهم وجهالاتهم. وبعضهم وجد علينا في اتهامنا جمهورهم بالجهل والأمية. وكأنهم ممن أخذتهم العزة بالجهل.
فترفعنا عن الالتفات إلى. استفزازاتهم الصغيرة، وأحجمنا عن التنغم بأقاويلهم إحجام الساري عن نقيق الضفادع. إنهم حاولوا تسلق مقامات العلماء بجهلهم وصغارهم. هؤلاء رحمة بهم سوف لا نعطي أهمية لما قالوه.
وفي النهاية أود أن أقول إن كتابنا هذا محاولة في استدراك ما فاتنا هناك. عاملين الوسع في مناقشة القضايا الكبرى في الفكر الإسلامي وعقائده وتاريخه. التي لا زالت عالقة في أذهان المسلمين لا يتوفر لديهم فيها حل شاف ولا جواب منطقي.
ولأن الإمامة وما يتصل بها من موضوعات هي مفتاح كل الصراعات التي شهدها التاريخ الإسلامي، وحيث كانت هي الأساس الذي تكاثرت عليه جميع الاتجاهات والمذاهب الكلامية والفقهية، كان لا بد من التطرق إليها بمزيد من البحث والإيضاح. ولأن اختيارنا المنهجي - أيضا - ظل هو التاريخ، لما يمثله هذا الأخير من أهمية قصوى في تسهيل البحث وتيسير الايضاح، تقرر عندي أن يكون هو ميدان الدراسة من دون أن يقودنا ذلك إلى رفض الميادين الأخرى التي تساهم
فإذا كان التاريخ كذلك، ساحة يتحرك فيها وعينا بكل ما له علاقة بالفكر الإسلامي، وإنه ساحة ضرورية لفهم نشوء وتطور وتكامل الظاهرة الفكرية والسياسية والمذهبية كان من الواجب علينا تبني قواعد الممارسة التاريخية والمنهج التاريخي الذي يعطي للسياق دورا أساسيا في الحدود التي تتجلى فيها سلطة السياق التاريخي على الوقائع والأحداث وعلى عملية تفكير هذه الوقائع والأحداث.
وما دام إن المنهج الذي تبنيناه يدعونا إلى إعادة المباني المذهبية إلى طبيعتها البسيطة من جهة تعقدها بفعل الصيرورة التاريخية، وإلى وحدتها من جهة تداخلها بالعناصر الأخرى المتعددة، التي تؤسس المبنى المذهبي. كان لا بد من الرجوع إلى النص النبوي الذي يقع في خط النص القرآني من الناحية البيانية.
وذلك في ضوء السياق التاريخي الذي وقعت فيه محنة النص النبوي وانطلقت سلطة الرأي، لتحل محله. ولأن السقيفة لم تكن سوى المنعطف الأول، أو بؤرة لانعكاس المخبوء والمستتر من واقع المجتمع الإسلامي، بدأنا حديثنا عن ملابساتها محاولين التعرض لمجريات أمرها. لتعيدنا مرة ثانية إلى السقيفة. إذ أن هذه الأخيرة هي بمثابة محطة ضرورية لفهم السيرة النبوية فهما حقيقيا. وكذلك محطة ضرورية في إيضاح تاريخ الخلافة والخلفاء. وحيث أن أول واقع فعلي للخلافة تتجسد فيما أسموه بالخلفاء الراشدين، كان اهتمامي أيضا منصبا على هذا الموضوع للوقوف عند حقيقته، والنهوض بدليل تاريخي، لإعادة المصداقية والاعتبار إلى النص ذي المعنى المغيب، من أجل إعادة تأسيس الفهم والوعي بتاريخنا الإسلامي. ولأن هذه التركيبة " الراشدة " لها علاقة بالصحبة وقضية الصحابة. كان لا بد من التطرق إلى هذا الموضوع الشائك لتوضيح جوانبه.
وبعد ذلك هناك بعض القضايا التي أطلقت عليها اسم " الأصنام " والتي أرى من الضروري هدمها، لأنها تحجب الحقيقة على الإنسان. وهي عبارة عن مسائل كثيرة مثار جدل ونقاش بين المذهبين. وحيث أن الأمور في جريانها لم تكن سوى امتداد لمنعطف السقيفة كنت أود لو أشير إلى أن السقيفة لم تشكل أول منعطف إلا فيما يتعلق بالمرحلة التي توفي فيها الرسول (ص) بينما هناك منعطفات أخرى جرت
غير أن دخول الجموع الغفيرة من مؤلفة قلوبهم وطلقاء. جعل المجتمع الإسلامي يدخل مرحلة جديدة من التحدي، هي مرحلة المنافقين في المجتمع الإسلامي. وأردت هذه المرة أن أجعله منطلقا في تفهم باقي المجريات.
وبعد ذلك حاولت أن أردف بحثي هذا، بطرح قضية الإمامة كما حللها ابن خلدون في تاريخه. مع الرد عليه فيما ذهب إليه من مزاعم، وكان ذلك هو الشق الثاني من البحث.
أسلوب الكتاب واضح جدا. لا محل فيه للتعقيد اللغوي. يعتمد طريقة النظار في الرد على المبطلين، كما يعتمد التحليل في فهم جانب من الظاهرة المدروسة. ميسر للقراءة والفهم والاستيعاب.
ربي يسر لي أمري.
واحلل عقدة من لساني.
يفقهوا قولي.
28 / 4 / 1994
الدار البيضاء - المغرب
مدخل
حركة النفاق في المجتمع الإسلامي
هناك مرحلتان مرت بهما تجربة الرسالة في مقاومة الشرك العربي.
الأولى: تجسدت في مسلسل المعارك والحروب التي قادها الرسول الأعظم (ص) ضد مشركي مكة من أجل الإطاحة بهم.
الثانية: كانت بمد الفتح الإسلامي ودخول أخلاط كثيرة من العرب إلى الإسلام.
لقد كان أصل الصراع الذي جرى في بداية الدعوة، هو ما أسماه. القرآن الكريم مراع الشرك والإيمان.
وكان هدف الإسلام ابتداء هو إخراج الناس من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام. فالجاهلية تمثل كل ما له علاقة بقيم الشرك، مقابل الإسلام الذي يمثل قيم التوحيد. وكان لكل معسكر رموزه وفعالياته. فالجاهلية عرفت رموزها وقياداتها في بني أمية بن حرب بقيادة أبي سفيان. الذي كان وراء أخطر الحروب وأضراها على المسلمين، ولكم كاد الإسلام أن ينتهي ويهلك أهله بتلك الحروب، ولعل أهم تلك المغازي التي كادت تذهب ريح المسلمين، هي غزوة الأحزاب التي وصفها القرآن، قائلا:
وكان مما قاله الرسول (ص) داعيا به ربه في تلك المعارك:
" اللهم إن تهلك هذه العصابة، لن تعبد في الأرض " (3).
فهذه الحروب التي قادها المشركون بقيادة بني أمية. لم تكن حروبا سهلة. بل إنها كلفت المسلمين خسائر كثيرة في الأموال والأرواح. وكان الوحي يعايش هذه المحنة عن كثب. وكثيرا ما لعن وواعد بالنار مشركي قريش. ونزلت آيات كثيرة تبشرهم بعذاب أليم.
وكما كان لمعسكر الشرك رموزه وقياداته، فإن المعسكر الإسلامي تمثلت رموزه وقياداته في بني هاشم وعلى رأسهم الرسول (ص) وعلي (ع). تكرست تلك العداوة بين الفريقين بين أبي سفيان ووزراءه من دهاقنة الشرك، ونبي الله محمد (ص) ووزيره علي (ع) عداوة أشد ما تكون العداوة.
وكان الفتح بمثابة منعطف مهم في حياة الجماعة المسلمة. فالإسلام سوف يتحول من مستوى العصابة والجماعة الثائرة، إلى مستوى الدولة. والشرك سوف يتحول إلى عكس ذلك، من تجمع مركزي إلى حالة ضعيفة وفاشلة. وهذا التحول الكبير في تجربة المسلمين كان له أثران: أحدهما إيجابي تجلى في قوة الإسلام وشمول حاكميته. والثاني نتج عن دخول تلك الاخلاط في الإسلام بمن فيهم الطلقاء الذين عفا عنهم الرسول (ص) بعد أن أمر بقتلهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة.
إن الهزيمة العسكرية للشرك ليست كافية لتحسين إيمانهم، لقد انهزموا بعد أن نفذت كل حيلهم ومكايدهم لتحطيم الإسلام. وبعد أن نصبوا كل ما يملكون من حواجز، وأفرغوا كل ما في كنانتهم حتى الأهزع.
لقد دخل المشركون مرحلة جديدة من العمل وسلكوا استراتيجية الهدم من
____________
(2) 10 / الأحزاب.
(3) سيرة ابن هشام. في معركة بدر، ص 269 ج 2 ط 2 دار الكتاب العربي.
ولم يكن النفاق في حقيقة الأمر سوى امتداد طبيعي ومنطقي للشرك. فهو حلقة من حلقاته التاريخية. ظل بنو أمية على امتداد أحفادهم يمثلونه. في حين استمر التوحيد مع محمد وعلي وبنيه (ع).
إن الطبيعة الامتدادية للشرك، نلمحها في عودته بعد أن استتب الأمر لبني أمية عندما لحقت أهل البيت (ع) أعنف ضربة بقتل الإمام الحسين (ع) تمثلها يزيد وهو يومها مالك لزمام الأمور:
وأوضح الرسول الأعظم (ص) فيما أوضح للمسلمين. من أن سمة النفاق تتجلى في بغض هذا البيت الهاشمي وفي بغض علي (ع) لذلك شاع قوله عليه الصلاة والسلام: (يا علي، لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق " (5).
وعندما جعل القرآن سمة المنافقين في لحن القول، أدرك المسلمون إن ذلك يتم من خلال موقفهم من علي (ع) لقد روى الجمهور، عن أبي سعيد الخدري أنه قال في قوله تعالى:
____________
(4) تاريخ ابن كثير 8 / 204.
(5) كنز العمال / علاء الدين الهندي ص 598 ج 11 مؤسسة الرسالة ط 5 - 1405 ه بيروت. ورواه أيضا أحمد ومسلم والترمذي.
وفي قوله تعالى:
" والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا " الأحزاب / 58.
ذكر جمع من المفسرين إنها نزلت في علي (ع) لأن نفرا من المنافقين كانوا يؤذونه ويكذبون عليه (8).
وكانت أولى إرهاصات النفاق في مجتمع الرسول (ص) هي تلك المحاولة المشؤومة التي استهدفت حياة الرسول الأعظم (ص) وهي محاولة اغتيال قامت بها جماعة من الملثمين المنافقين. فعندما رجع رسول الله (ص) قافلا من تبوك إلى المدينة، وكان ببعض الطريق، مكربه ناس من أصحابه فتآمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق. وأرادوا أن يسلكوها معه. فأخبر رسول الله (ص) خبرهم فقال: من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنه أوسع لكم فأخذ النبي (ص) العقبة وأخذ الناس بطن الوادي إلا النفر أرادوا المكر به استعدوا وتلثموا. وأمر رسول الله (ص) حذيفة بسوقها بينما هم يسيرون إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم قد غشوه فغضب رسول الله (ص) وأمر حذيفة أن يراهم فرجع ومعه محجن فاستقبل وجوه رواحلهم وضربها ضربا بالمجن وأبصر القوم وهم متلثمين فأرعبهم الله حين أبصروا حذيفة وظنوا أن مكرهم قد ظهر فأسرعوا حتى خالطوا الناس وأقبل حذيفة، حتى أدرك رسول الله (ص) فقال اضرب الراحلة يا حذيفة وامش أنت يا عمار. فأسرعوا وخرجوا من العقبة ينتظرون الناس فقال الني (ص) يا حذيفة هل عرفت من هؤلاء الرهط أحدا. فقال حذيفة عرفت راحلة فلان وفلان، وكانت ظلمة الليل غشيتهم وهم متلثمين. فقال عليه السلام: هل علمتم شأن الركب وما أرادوا قالوا:
لا يا رسول الله قال: فإنهم مكروا ليسيروا معي حتى إذا اظلمت لي العقبة
____________
(6) عمد / 3.
(7) الدر المنثور ج 6 ص 66 / أسد الغابة ج 4 ص 29.
(8) تفسير القرطبي / تفسير الخازن.
قالوا: أفلا تأمر بهم يا رسول الله إذا جاءك الناس تضرب أعناقهم، قال:
أكره أن تتحدث الناس وتقول أن محمدا قد وضع يده في أصحابه فسماهم لهما ثم قال اكتماهم " (9).
لقد بلغت خطورة النفاق في المجتمع الإسلامي حدا بات من الضروري معه أن يعمل الرسول (ص) على تركيز المهمات الكبرى في يد وزير له، انتخبته السماء لنصرته وخلافته، وهو علي بن ابن طالب (ع).
لقد كان من الطبيعي أن ينطلق أبو بكر ببراءة ليقرأها على الناس فيما لو كان الأمر في بدايته، ولكن الأمر يتعلق بقضية كبيرة في مرحلة حرجة. بدأت الرسالة تحدد مواقفها مع الداخل بشكل يثير الاستفهام. فكان لا بد أن يؤدي براءة علي (ع) ولو اقتضى الحال أخذها من أبي بكر.
وملخص الحادثة أن النبي (ص) كان قد أنفذ أبا بكر بسورة براءة إلى مكة.
فلما بلغ ذا الحليفة بعث إليه عليا، فرده، فرجع أبو بكر إلى النبي (ص) فقال:
يا رسول الله، أنزل في شئ؟ قال: لا، ولكن جبرائيل جاءني وقال: لا يؤدي عنك إلا أنت، أو رجل منك، (10).
وفي تلك الظروف، اقتفى الاحتياط وضبط المهمات من الرسول (ص) أن يبقي يوم تبوك عليا بالمدينة على أهله، وذلك بعد أن كان الرسول (ص) يبقي فيها في مغازيه الأولى بعض الضعاف من غير ذوي الأهلية، أمثال ابن ام مكتوم الضرير، غير أن الظروف قد تغيرت بعد الفتح، وأصبحت المدينة مكتظة بالعناصر المنافقة، وكان من الضروري الابقاء على رجل ذي خبرة وبأس شديد.
لهذا السبب أبقى الرسول (ص) عليا (ع) وخلفه في المدينة، وزهد في وجوده
____________
(9) ذكره أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة عن عدوة.
(10) رواه الطبري في تفسير لآية براءة، والحاكم في مستدرك الصحيحين 3 / 51 وكذا رواه أحمد والترمذي في المسند والصحيح.
ولكم حاول المنافقون استفزازه كي يبرح المدينة ليخلوا لهم الميدان من مراقب متنمر ذي بأس شديد. ذكر ابن هشام إن المنافقين أرجفوا به وقالوا:
" ما خلفه إلا استثقالا له، وتخففا منه " فأخذ علي (ع) سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله (ص) وهو نازل بالجرف فقال: يا نبي الله، زعم المنافقون أنك إنما خلفتني لأنك استثقلتني وتخففت مني. فقال: كذبوا. ولكن خلفتك لما تركت ورائي. فارجع فأخلفتني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، فرجع علي (ع) إلى المدينة.
بقي النفاق إذن حديث الأيام، تتناقله الألسن، وتحمله الأنباء عبر الأصقاع المفتوحة.
ونزلت يومها سورة بكاملها من القرآن تحت هذا الاسم، وربط القرآن في أكثر من موقع، النفاق بجانب الشرك والكفر:
" إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا " (11).
" وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم " (12).
" يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم " (13).
" يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين " (14).
" ولا تطع الكافرين والمنافقين " (15).
____________
(11) 40 سورة النساء.
(12) 68 سورة التوبة.
(13) 73 - التوبة.
(14) 1 / الأحزاب.
(15) 24 / الأحزاب.
والآيات السابقات تدل على أن النفاق أصبح في مستوى خطورة الكفر. وأنه امتداد للشرك.
ولم تكن هذه الخطورة باليسيرة على الفئة المؤمنة. ولا بالأمر الهين على من انطوى على حسن السريرة. لقد خاطب عمر بن الخطاب الناس بعد وفاة الرسول (ص) بنفس المنطق المنسجم مع ذلك الظرف التاريخي، وبنفس القضية التي يجدونها في أنفسهم وتستسيغها أذهانهم. إذ قال عمر للمغيرة حين قال له: " مات والله رسول الله (ص) فقال عمر كذبت ما مات رسول الله ولكنك رجل تحوسك فتنة ولن يموت رسول الله حتى يفني المنافقين " (17).
ولم يكن هناك من هو أكثر نفاقا وتبييتا للإسلام من أولئك الذين تمسكوا بشركهم حتى زمن الفتح. والذين لم يؤمنوا إذ أسلموا وهم معرضون. إنما كانوا من الطلقاء الذين بدا للرسول (ص) أن يبقيهم على قيد الحياة بعد أن كان أمر بقتلهم. هؤلاء كانوا في طليعة المنافقين الذين شاعت أخبارهم في أصقاع الجزيرة العربية. وقد سبق أن حذر الرسول (ص) المسلمين من خطر الأموية، عندما رأى الرؤيا الشهيرة. فلقد سمعوا منه عليه السلام قوله في الآية " والشجرة الملعونة في القرآن " هم بنو أمية، وذلك عندما رأى بني الحكم ابن أبي العاص ينزلون على منبره فساءه ذلك فنزل قوله تعالى:
" وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس، والشجرة الملعونة في القرآن " (18).
وازدادت خطورة النفاق بعد وفاة الرسول (ص) وبدأوا يتطلعون إلى مشاريع هدامة. فقد روى البخاري عن حذيفة بن اليمان قال:
____________
(16) 1 / الفتح.
(17) رواه أحمد في مسنده ص 118 ج 3 دار اصدار بيروت، وكذا في طبقات ابن سعد.
(18) تفسير الطبري، المجلد 9 ج 112 دار الفكر وكذا في تفسير القرطبي والآلوسي.
كل هذه القرائن تثبت أهمية الموقف، وخطورة الظرف الذي سبق وفاة الرسول الأعظم (ص).
لقد كان هناك أيضا كثيرا من الأمور تقتضي حلا شافيا قبل وفاة الرسول (ص). فالمسلمون قادمون على محاربة الروم وفارس. أمامهم بلاد كثيرة لم تفتح... وفي الداخل هناك حركة النفاق المنتشرة والمتوزعة على المناطق، وذات نفوذ كبير.. والدعوة إلى الله شأن بدأ يعرف هو الآخر نوعا من الصعوبة والتعقيد.. فالأيام التي يستقبلها المسلمون تتطلب منهم منهجا جديدا ودقيقا في الدعوة. إذ أنهم سوف ينفتحون على ديانات وفلسفات لم يكن للعرب سابق عهد بها. ولم يكن أحدهم متمرسا على ضروب المحاججات الكلامية والفلسفية. لقد كان الرسول (ص) هو الوحيد الذي تزعم حركة الاحتجاج على أهل الديانات.
فمن هو هذا الذي أوتي علم الأولين والآخرين ليتصدى لهذه التيارات الدينية وغير الدينية، بلغة العلم ومنطق الجدل وفكرة الوحي؟!.
وهل كان في نية الرسول (ص) أن يترك أمته لتقع على قراءة اساغوجي فورفوريوس، أو ميتافيزقا أرسطو. حتى تتعلم منطق الدفاع عن دينها، وإفحام الخصم والانتصار للعقيدة. بما يعزز إيمان الناس ويزلزل قلوب المناوئين. فلا بد للعلم النبوي أن يجد طريقه إلى خلف معين، تقم تربيته وإنشاءه لهذا الدور الخطير. ولهذا كانت فترة موت الرسول (ص) على جانب من الخطورة. ولحظة حرجة فيما لو أمعنا النظر فيها. إنها اللحظة التي ينتظر فيها الإنسان انفلات الروح من إنسان عزيز. واللحظة التي تضحى فيها الوصية أنفس من الدنيا عند المحيطين به.
لحظة وفاة الرسول وكانت جديرة بأن تشد أنظار القوم إلى الرسول (ص) وتنسيهم أنفسهم، بل التصارع على الخلافة. كانت تلك المصيبة الكبرى جديرة بأن تنسيهم الدنيا لبضعة أيام.
غير أن الواقع يختلف - تماما - عما يفترض من طيبة هذه القلوب واستنارة تلك العقول.
لقد كانت نهاية صامتة ولعمري إنهم جعلوها كذلك حتى لا يثيروا على أنفسهم لومة لائم على حق أضاعوه. وحقيقة سكتوا عنها. مات الرسول (ص) صاحب الأمة العريضة، وصاحب الهموم الكبرى التي كان يركز عليها حتى نهاية عهده كاهتمامه بتجهيز جيش أسامة. مات هذا النبي العظيم وترك أمته مضطربة من دون أدنى وصية أو إشارة تشد ظهر مصيرها. إلى من يخلفه في الأمر وكيف يخلفه فيه. وإذا كانت قضية الخلافة هي منشأ الخلاف عند المسلمين، وبداية التصدع في صرح الأمة. فكيف لا يسمع فيها لرسول الله رأي؟!.
إلا أن الحقيقة المرة ليست كما يحاول عرضها المزورون للأحداث التاريخية، جهلا أو طمعا. الحقيقة المرة هي أن رسول الله (ص) ما فتئ يوصي أمته في نهاية عهد. بمن يخلفه في أمته. غير أن تيار الاغتصاب وجه الأمر إلى وجهة معاكسة تقوم على الرأي الكسير والاغتصاب الجائر. كانت هناك حبكة جميلة، وطبخة لذيذة أعدها هذا التيار. لذلك سوف يتبين لنا كيف كان الرسول (ص) يدبر الأمر وكيف كان تيار الاغتصاب يتتبع هذه التدابير بخطى حثيثة، ويعيق تنفيذها.
التدابير النبوية في تركيز الإمامة
كانت هناك طرق كثيرة ومختلفة. اعتمدها الرسول (ص) في تركيز الإمامة وترسيخها في وجدان المسلمين وهي كالتالي:
1 - العمل على إشاعة الإمامة لعلي بن أبي طالب (ع)
لم يكن الإمام علي (ع) رجلا عاديا كباقي رجالات الرسول (ص) والذين عملوا على جعله كذلك هم ممن يتجاهل على التاريخ. ويتعسف على وقائعه ظلما وعدوانا. فالإمام علي (ع) كان صنوا وأخا وخليفة لرسول الله (ص) في كل أحواله. والذي فهمه المسلمون من اهتمام الرسول (ص) التواصل بهذا الرجل المتميز، هو أنه إمام المستقبل، وخليفة الرسول (ص) من بعده.
لقد اعتاد الأمويون ومن جاء بعدهم، أن يضخموا من شأن الخلفاء حتى لا يبقى لعلي (ع) فضيلة تذكر. ونحن سوف لا نقع فريسة لتلك المرويات التي تكذبها القرائن التاريخية، وتسخر من ابتذالها الألباب الملمة والمحيطة بكل السياق التاريخي الذي نشأ وتحرك فيه هؤلاء الثلاثة. وسوف أفرد لذلك بابا أحاول استيفاء القول فيه عن قيمة هؤلاء الخلفاء إن شاء الله.
وأهم تلك المواقف التي كان يرمي من خلالها الرسول (ص) إلى إظهار إمامة علي (ع) في المستقبل ما يلي:
أ - يوم الدار.
ث - يوم الغدير.
أ - يوم الدار:
وهو موقف جرى تحت سمع وبصر صناديد قريش وكبرائها، وعلي (ع) يومها لا يزال في طور الغرارة والصبا. إذ قرع الرسول (ص) مسامعهم، معلنا اختيار علي (ع) وزيرا له وخليفة من بعده. وملخص الحادثة كالتالي:
إنه عندما نزل قوله تعالى: " وأنذر عشيرتك الأقربين " (19).
قام الرسول (ص) يدعو أقرباءه، وفيهم أبو لهب فقال (ص):
" يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة. وقد أمرني الله عز وجل أن أدعوكم إليه. فأيكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم "؟.
فسكت القوم ولم يجيبوا إلا علي (ع) قال: " أنا يا رسول الله أكون وزيرك على ما بعثك الله. وبعد أن كررها ثلاثا، التفت إليهم وقال:
إن هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم (أو عليكم) فاسمعوا له، وأطيعوا.
فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب، قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع، وجعله عليك أميرا " (20).
كان هذا هو أول موقف رسالي في الدعوة إلى الإسلام. طرح فيه علي (ع) بقوة. وكان الأمر بإنذار العشيرة، وهي أول خطوة للدعوة تزامنت مع طرح إمامة علي (ع)، لما في ذلك من تلازم وتكامل بين الدعوة والإمامة.
ب - أحاديث الوصية الأخرى
____________
(19) الحجر / 94 - 95.
(20) تاريخ الطبري ج 2 ص 319 - 321 ط. دار المعارف - مصر.
" لكل نبي وصي ووارث، وإن وصيي ووارثي علي بن أبي طالب " (21).
وعندما نزل قوله تعالى:
" إني جاعلك للناس إماما، قال: ومن ذريتي " (22).
روى الجمهور عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (ص) " انتهت الدعوة إلي وإلى علي لم يسجد أحدنا قط لصنم، فاتخذني نبيا واتخذ عليا وصيا " (23).
وفي قوله تعالى:
" وقفوهم إنهم مسؤولون " (24).
روى الجمهور أيضا، عن ابن عباس وسعيد الخدري، عن النبي (ص):
" عن ولاية علي بن أبي طالب " (25).
ج - يوم الغدير:
عندما وصل النبي (ص) من حجة الوداع إلى مكان اسمه غدير خم يقع بين قلة والمدينة قرب الجحفة بناحية رابغ. قام خطيبا في المسلمين بعد أن أخذ بيد علي (ع) فقال:
" ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا بلى يا رسول الله!. قال: فمن كنت مولاه، فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ".
____________
(21) أسد الغابة ابن الأثير 1 / 175.
(22) البقرة / 123.
(23) المناقب / ابن المغازلي.
(24) الصافات / 24.
(25) الصواعق المحرقة.
قال: الثقل الأكبر كتاب الله، سبب طرفه بيد الله، وطرف بأيديكم، فاستمسكوا به ولا تضلوا، ولا تبدلوا، وعترتي أهل بيتي " (26).
وهناك أمثلة كثيرة من تلك الفضائل التي كانت تعكس مدى اهتمام الرسول الأعظم (ص) بولاية علي (ع) وسوف نذكر بعضها في مقام آخر.
وكان الرسول (ص) يعمل على تركيزها في أذهان المسلمين، حتى يستقرئوا من خلالها أحقية الإمام علي (ع) في خلافة النبي (ص). وظل عليه الصلاة والسلام يسلك طريقا هادئا في ذلك حتى لا يثير بها حفيظة قوم وتر علي (ع) قلوبهم بقتله أجدادهم على امتداد المعارك التي خاضها مع الرسول (ص) وحتى يتجنب عليه الصلاة والسلام حقد الحاقدين الذين رأوا في تنصيب علي (ع) تفويتا لمصالحهم ومطامعهم الخسيسة.
ولما كان الوحي يراقب عن كثب محنة الرسول (ص) خفف ذلك القلق عنه وأمره بأن يصدع بالحق، إكمالا للدين وختما لشريعته. فكان أن خطب فيهم خطبته الشهيرة بغدير خم. وفيها اكتمل الدين بقوله تعالى:
" اليوم أكملت لكم دينكم وأتمت عليكم نعمي ورضيت لكم الإسلام دينا " (27).
كان هذا هو التدبير الذي انتهى إليه الرسول (ص) هو أن يصدع بالحق، ولا يخفي الأمر وليكن ما يكون، فالأمر إلهي: " يا أيها النبي بلغ ما أنزل
____________
(26) ذكر. المحدثون والمؤرخون بطرق مختلفة ومنهم اليعقوبي والطبري في مؤلفة الخاص والنسائي وبن حنبل وبن حجر في التهذيب والحاكم في المستدرك والطبراني في الأوسط والسيوطي في الدر المنشور.
(27) 3 المائدة.
فلتذهب نفوس حسرة، وليسلك الرافضون مذاهبهم.
فالأمر اليوم أجل من أن يسكت عنه.
لقد كان تلطف الرسول (ص) في الأمر من باب أن المجتمع أصبح غاصا بالمنافقين، وبمن لا زالت في قلوبهم موجدة عليه وعلى علي (ع) وبني هاشم في كل ما جرى لهم. إنه يعلم أن الأغلبية منافقة، ولذلك رفضت الإمامة لعلي (ع) واغتصبت حقه في ذلك انتقاما لماضيها الشركي.
2 - التدبير الثاني / إبعاد المسلمين إلى جهة الخارج:
ذكر ابن سعد في طبقاته، إنه لما كان يوم الأربعاء بدء برسول الله (ص) المرض، فحم وصدع. فلما أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواء بيده ثم قال:.
أغز بسم الله في سبيل الله، فقاتل من كفر بالله فخرج وعسكر بالجرق فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين الأولين والأنصار انتدب في تلك الغزوة فيهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وغيرهم، فتكلم قوم وقالوا يستهل هذا الغلام على المهاجرين الأولين، فغضب رسول الله (ص) غضبا شديدا فخرج وقد عصب على رأسه عصابة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال " أما بعد، أيها الناس، فما مقالة بلغتني عن بعضكم في إمارة أسامة، ولئن طعنتم في إمارة أسامة لقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله إنه كان للإمارة خليق وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة ثم نزل فدخل بيته وذلك يوم السبت لعشرة خلون من ربيع الأول وثقل رسول الله (ص) فجعل يقول انفذوا بعث أسامة ".
إن المدقق في نبرة الخطاب الأخير.. والملابسات التي لفته يدرك إلى أي مدى كان الرسول (ص) يراهن على ذهاب الجيش إلى مهمته وبذلك يتم إجلاءه من المدينة. فالإمعان في تجهيز جيش أسامة زيادة على الابقاء على علي (ع) بجواره في اللحظة التي سيفارق فيها الحياة.. له دلالة قوية على أن الرسول (ص) كان يروم
____________
(28) / المائدة.
فهو من جهة يبين لهم أن أمر الإمارة من اختصاص النص. وأنه عندما أمر عليهم أسامة إنما عمل ذلك من جهة اختياره الذي لا دخل لمشورة فيه. فالمشورة لا مدخلية لها في المسؤولية.. وهو من جهة أخرى يبين لهم إنهم وأسامة وغيره سواء. وإنهم ليسوا ذووا ميزة تناقض تأمير أسامة عليهم.. وإن أسامة على صغر سنه يبقى جدير بها ممن كانوا معه. وكأنه عليه الصلاة والسلام يعلم أن البعض سوف يرفض إمامة علي (ع) لصغر سنه. فبادر إلى هذا النوع من الاختيار لجعله درسا لأمته إلى الأبد!.
لقد حاول الرسول (ص) وبكل إمعان إجلاءهم بعيدا عنه ولو أن وجودهم يومها كان أفضل من غيابهم، إذن، لأبقى عليهم رسول الله (ص) في المدينة وهو يعلم أن وفاته لا شك واقعة!.
لكن ما الذي وقع؟.
كان تيار الاغتصاب من جهة واعيا بمقاصد الرسول (ص) مطلعا على تدابيره فأبو بكر وعمر بن الخطاب يدركان تمام الادراك، أن شيوع إمامة علي (ع) سوف يخلق لهما متاعب كثيرة.. وأن إجلاءهما خارج المدينة قد يفوت الفرصة عليهما، فإن كان أبو بكر وعمر بن الخطاب قد استشكلا تأمير أسامة عليهم فإن ذلك كان محاولة منهم لإفشال خطة الرسول (ص). هم مصممون على طلب الخلافة، فإذا أنزلهم الرسول (ص) تلك المنزلة، فكيف يتسنى لهم الصعود مجددا، بعد أن يرسخ في وجدان المسلمين إن أبا بكر وعمر بن الخطاب، هما كباقي المسلمين، وإنهما وإياهم سواء تحت إمرة أسامة. ومن هنا عملا على إفشال ذينك التدبيرين من خلال رفضهم امتثال الأمر.
إنهم لم يجهزوا جيش أسامة، وبقوا هناك على مقربة من الرسول (ص) يتتبعون مجريات الأمور. كان عمر يسترق السمع عن طريق عائشة في حين هرب أبو بكر إلى منزله بالسنح (29) بل إن عمر بن الخطاب ظل رافضا لإمارة أسامة، على
____________
(29) الكامل / ابن الأثير. ص 323 ج 2 ط 1385 - 1965 م دار بيروت للطباعة والنشر.
وذكر بن جرير الطبري في تاريخه، إن عمر بن الخطاب طلب من أبي بكر أيام خلافة هذا الأخير، عزل أسامة بن زيد. بل إنه أحيانا يواجه بها أسامة وكأنه يجتر شيئا ما وجده في نفسه من ذلك الاختيار عندما كان يلقى أسامة بن زيد فيقول له:
" مات رسول الله وأنت علي أمير " (31).
ولهذا الاعتبار ظل أسامة بن زيد رافضا لبيعة أبي بكر إلى أن مات وقال: " إن رسول الله (ص) أمرني عليكم فمن أمرك علي يا أبا بكر " (32).
لقد كان - إذن - وجودهما في المدينة خطرا علي الرسول (ص) وعلي (ع) لذلك بادر الرسول (ص) إلى محاصرتهم بأسلوب آخر أوضح للعيان بأن يعهد بشكل جلي ونهائي يكشف فيه عن الخليفة الشرعي من بعد.. غير أن عمر بن الخطاب الذي كان يتجسس على كل ما يصدر عن الرسول (ص) بادر إلى منع الناس من إحضار الكتاب والدواة للرسول (ص) لكتابة العهد ولم يكن لمنع عمر للناس عن إحضار الدواة دلالة غير أنه خاف من أن يكون واضحا للجميع ليسهل عليهم بعد ذلك مزاولة التلبيس.
وقد عرف ذلك برزية يوم الخميس كما يقول ابن عباس، لقد قال لهم الرسول (ص):
" إئتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا. فقال عمر بن الخطاب: إن الرسول يهجر " (33).
____________
(30) الملل والنحل ج 1 ص 23 ط مصرية.
(31) ذكره الحلبي في السيرة حول سرية أسامة.
(32) ربيع الأبرار، الزمخشري.
(33) صحيح البخاري، باب قول المريض قوموا عني ومسلم في كتاب الوصية.
ولنبقى الآن في إطار حديثنا عن السياق الذي تحرك فيه تيار الاغتصاب، وكيف أن النفاق كان على ضربين، أحدهما مثله تيار الاغتصاب والآخر مثله التيار الأموي.
وعندما انتقلت روحه الشريفة، وعلي (ع) منهمك في تغسيله.. لم يكن آنئذ أبو بكر في المقام.
لقد ذهب إلى السنح، في حين قام عمر بن الخطاب على عادته ببلبلة الناس.
وأظهر نوعا من الجنون ليدخل الناس في موضوع جانبي، ويثير الغوغاء حتى لا يعطي للناس فرصة في الالتفات إلى من يخلف رسول الله.. ولكم قيل له إن الرسول (ص) قد مات، ولكم قرأت عليه الآية التي قرأها عليه أبو بكر، فما زاده ذلك إلا إصرارا على تظاهره بالجنون وعدم الوعي حتى إذا جاء أبو بكر وذكره بما سبق أن ذكره به الآخرون، استكان بشكل يثير الشك في أمرهما.
أخذ عمر يهدد بالقتل كل من قال إن محمدا قد مات. ويقول: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله توفي. وأن رسول الله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع بعد أن قيل مات، والله ليرجعن رسول الله، فليقطعن أيدي رجال وأرجل من يزعمون أن رسول الله مات.
وعندها قرأ عليه عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم في المسجد:
" وما محمد إلا رسول قد خلت من تبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم. ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا، وسيجزي الله الشاكرين " (34).
ولم يكن ذلك ليرد بن الخطاب عن تشويشه للمسلمين. وقد خرج العباس فيما يرويه بن سعد في طبقاته وكذا أنساب البلاذري، خاطبا في الناس معلنا موته.
____________
(34) ابن سعد في طبقات - ابن كثير في التاريخ.
فلما أقبل أبو بكر جلس عمر بن الخطاب وسكت عندما كان أبو بكر يتلوا الآية التي تليت عليه فما ردته عن تهديده للناس. فقال عندها:
" أيقنت بوفاته الآن، وكأني لم أسمع هذه الآية " (35).
ولا يغيب على حاذق مثل هذه الفبركات. إذ لو أن شدقيه أزبدا لجنة أصابته لفراق النبي (ص) أو مس لحقه حسرة على رحيل الرسول (ص) لما سكت عند قدوم صاحبه أبي بكر. ولما هرع إلى السقيفة لكي لا تفوته الخلافة ولكان أجدر بمن أصابته تلك الجنة ولحقه ذلك المس، أن يحضر جنازة الرسول (ص) وذكر صاحب كنز العمال " وأن أبا بكر وعمر لم يشهدا دفن النبي (ص) ".
وفي حديث عائشة كما نقله بن هشام وابن كثير وأحمد بن حنبل: " ما علمنا بدفن الرسول حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل ليلة الأربعاء ".
لقد احتفظ كل من أبي بكر وعمر بوجودهما في المدينة. ولم يعطوا اهتماما لوفاة الرسول (ص) كما تقدم. بل كان همهما أن يجادلا الأنصار على الخلافة ويطرحا نفسيهما أوصياء على الأمة في غيبة أهل الرأي ورغما عن رغبة كبار الصحابة.
____________
(35) صحيح البخاري / الملل والنحل الشهرستاني ج 1 ص 23.
- طبقات ابن سعد ج 2 ق 2 / 54.
- بن كثير / التاريخ ج 5 / 243.
- ابن أبي الحديد / شرح نهج البلاغة ص 179 ج 1.
- منشورات مكتبة آية الله المرعشي النجفي - قم إيران - 1404 ه.