الصفحة 65
فهي تثبت مع الغلبة ودونها. فالنبي (ص) لا يلغي نبوته افتقاره للعصبية والغلبة فهو نبي سواء احتضنه قومه أو رفضوه. والإمامة على ذلك النحو أمر لا يلغيه افتقاد العصبة.

وهذا ما يفهم من روح الشريعة، ومن كلام الرسول (ص) في شأن الحسنين (ع):

" الحسن والحسين إمامان ح قاما أو قعدا " إن الذي جعل بعض علماء العامة يحاولون المستحيل في تأويل حديث الراشدين. لجعله منسجما مع واقع الخلفاء الفعليين. كان بسبب اعتقادهم بالمعيار " العصباني " حسب تعبير بن خلدون.

وعليه، فإن معنى الراشدية ينصرف إلى أوصياء أهل البيت (ع) لما اشتملت عليه سيرتهم من قرائن تعزز المدعى. ولما ثبت لدينا من توافق سيرتهم مع مواصفات الخلفاء الراشدين المقصودين في معنى الحديث السابق.

والسؤال: على أي الأئمة ينصرف معنى حديث الراشدية؟.

هناك أكثر من قرينة تجعل - كما أسلفنا - المعنى ينصرف إلى أئمة أهل البيت الموصى بهم.

وأهم تلك القرائن: العلم، الهداية، العدد.

وسوف نعمل على توضيح هذه القرائن بمزيد من التفصيل والوضوح ليتبين للقارئ العزيز إن كل تلك القرائن دالة على انصراف معنى الحديث إليهم. وأن جل تلك القرائن لا يتوفر عليها تيار الاغتصاب. الذي لم يكن في مستوى مضمون الحديث بل المعنى الذي تعارفت عليه العامة فيما بعد العصر الأموي كان إسقاطا متعسفا وطرحا مفتعلا.

1 / العلم:

العلم شرط من شروط الإمامة. لأن القيادة تتوقف على معرفة الحكم الشرعي وعلى عمق المعرفة العلمية التي تمكن من تيسير أحوال الرعية والبت فيها. ولم

الصفحة 66
ينفصل العلم كشرط ضروري عن الإمامة إلا عندما تحولت هذه الأخيرة إلى خلافة دنيوية تقوم على العصبة وتقررها الغلبة.

وقد رأينا وسوف نرى أيضا. إن ميزة العلم لم تكن من نصيب تيار الاغتصاب.

وربط الرسول (ص) العلم هنا برواية السنة وبث الحديث. وليس المقصود من ذلك أن الالمام بالحديث وروايته يأخذ ذلك المفهوم الجامد الذي تعقل فيه الأحاديث عقل رواية لا عقل دراية.

بل المقصود هذا الأخير. أي حفظ السنة ورواية الحديث بما تتضمنه العملية من تفعيل لهذه الأحاديث وإخراجها من التكلس عبر التأويل الشرعي، الذي تعرض فيه هذه السنة على النص القرآني لينظر فيها. وينسخ متشابهها بتوضيح معناها، أي القدرة على تحريك النص وفهمه فهما ديناميكيا. وهذا ما لا يعلمه إلا الراسخون في العلم من الأئمة ومن ورث علمهم. وعلى هذا الأساس كانت رواية الحديث المذكورة مقرونة بمعرفة القرآن. ذلك أن الرسول (ص) ذكر أن الكذابة ستكثر من بعده. فمن وجد حديثا يناقض كتاب الله، فليضرب به عرض الحائط. وهذا يقتضي معرفة عرض الحديث على القرآن. أي أن ثمة تداخل بين سنة الرسول (ص) ونص القرآن الكريم.

ولهذا ذكر الرسول (ص) أن عليا (ع) سوف يقاتل على التأويل مثلما قاتل الرسول (ص) على التنزيل. وسبق أن عرفنا أن أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا على علم بالقرآن، وكانوا من المحاربين لانتشار سنة الرسول (ص).

فمعروف عن أبي بكر أنه لم يعرف كيف يعرض حديثه المزعوم " الأنبياء لا يورثون " على نص القرآن:

" وورث سليمان داوود " ليتبين له فيما لو كان هذا النص منسجم مع القرآن أم ويمكننا فهم تلك الملابسات فيما جرى بين علي وأبي بكر، حسب ما أخرجه ابن

الصفحة 67
سعد في الطبقات (22). جاءت فاطمة إلى أبي بكر تطلب ميراثها، وجاء العباس بن عبد المطلب يطلب ميراثه، وجاء معهما علي، فقال أبو بكر: قال رسول الله (ص) لا نورث، ما تركناه صدقة، وما كان النبي يعول فعلي، فقال علي: ورث سليمان داود، وقال زكريا، يرثني ويرث من آل يعقوب؟ قال أبو بكر: هو هكذا، وأنت والله تعلم مثل ما أعلم، فقال علي:

" هذا كتاب الله ينطق " الحديث.

واشتهر عنه جهله للقرآن كقوله في الكلالة: " أقول فيها برأي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني " (23) وكجهله ميراث الجدة، إذ ثبت عنه أنه قال لجدة سألته عن إرثها لا أجد لك شيئا في كتاب الله وسنة نبيه (ص) فأخبره المغيرة ومحمد بن سلمه بأن الرسول (ص) أعطاها السدس وقالوا اطعموا الجدات السدس وقطع يسار السارق (24).

أما عمر بن الخطاب فحدث ولا حرج.. فقد بلغ من جهله بالأحكام حدا يستنكره الصبيان، كيف وهو القائل بنفسه، كل الناس أفقه منك يا عمر. حتى ربات الحجال.

لقد سبق أن ذكرنا موقفه من موت الرسول (ص) وأنه شهد على نفسه أنه لم يسمع آية من القرآن ولا يعلم أن الموت حق وأن كل نفس ذائقة الموت. حتى قرأت عليه الآية " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " وحسبك من ذلك جهله آيات من القرآن فقد سألوه عن قوله تعالى: " فاكهة وأبا " فقال:

نهينا عن التعمق والتكلف (25) ".

وأنه أمر برجم حامل، وكذا مجنونة (26).

____________

(22) طبقات بن سعد 2 / 315.

(23) شرح النهج لابن أبي الحديد - السيوطي ص 71.

(24) الصواعق المحرقة، مسند أحمد، شرح النهج / ج ص 21 / 25.

(25) مستدرك الحاكم 2 ص 514 - الشاطبي / الموافقات ج ا ص 21 / 25.

- السيوطي / الدر المنثور 6 ص 317.

(26) مستدرك الحاكم ص 59 ج 2.

الصفحة 68
وقد اشتهر بتلونه في الأحكام. وقيل " إنه كان يتلون في الأحكام حتى رووا أنه قضى في الجدة بسبعين قضية (27) ".

أما عثمان، فإنه أضاف إلى جهله بالأحكام، استهزاءه بالشريعة، وعدم التزامه بقوانينها.

وقد ثبت أن عليا (ع) يومها هو الوحيد الذي كان يحكم بالجزم، ويقول:

* اسألوني قبل أن تفقدوني (28) ".

وكان أعلم بكتاب الله، لا يرد من سأله ولا ينهر من قصد استفساره.. وهو القائل:

" سلوني عن كتاب الله فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار في سهل نزلت أم في جبل " (29).

ولم يثبت في التاريخ أن عليا (ع) أو أحدا من الأئمة رجع إلى رجل آخر لأخذ العلم عنه. بل كانوا هم منارات الهدى. والمورد الذي ينهل منه الناس العلم في مختلف الأزمنة التي عاصروها.

ونحن سبق أن عرفنا الشرط الذي جعله الرسول (ص) صفة وقرينة على خلفاءه، وهو العلم المتجلي في روايتهم الحديث ونشرهم السنة وهداية الناس.

فرواية الحديث بذاك اللحاظ، والإلمام بالقرآن وتأويله. كان علما مختصا بالأئمة. ودعنا هنا نسرد بعضا من تلكم الأدلة التي تثبت أعلمية الإمام علي (ع) وأئمة أهل البيت (ع) عموما من خلال النص وشهادة الواقع للوقوف عند قيمتهم في ميزان خالقهم وفي حساب رسول الإنسانية.

____________

(27) كنز العمال، شرح النهج، ص 181 ج 1 ط 1385 ه‍ دار الكتب العربية.

(28) ينابيع المودة ص 65 ج 1 الطبعة الأولى - اسطنبول.

- تهذيب التهذيب.

- ص 338.

- فتح الباري 8 ص 485.

(29) القندوزي الحنفي / ينابيع المودة ص 68.

الصفحة 69

أهل البيت والأعلمية!

1 - قال رسول الله: " أنا مدينة العلم وعلي بابها " (30).

2 - " يا علي أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيه من بعدي " (31).

3 - " علي مع القرآن والقرآن مع علي، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض " (32).

4 - " من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه.، وإلى نوح في فهمه، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في زهده، فلينظر إلى علي بن أبي طالب " (33).

5 - " أقضاكم علي " (34).

وقال عن نفسه: " سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن كتاب الله عز وجل، فما من آية إلا وأعلم حيث نزلت بحضيض جبل أو سهل أرض، سلوني عن

____________

(30) مستدرك الحاكم / ج 3 ص 124.

- ج 4 ص 22.

- الصواعق المحرقة / ابن حجر الهيثمي ص 73.

- تهذيب التهذيب ج 6 ص 2203. (31) مستدرك الحاكم، ص 122 ج 3 / دار المعرفة - بيروت.

(32) نفس المصدر.

(33) الحاكم المستدرك ص 124 ج 3 وأيضا ينابيع المودة ص 88 مؤسسة الأعلمي - بيروت.

(34) الصواعق المحرقة ص 123 - الطبعة الثانية / 1385 - 195 م مكتبة القاهرة.

الصفحة 70
الفتن، فما فتنة إلا وقد علمت كبشها، ومن يقتل فيها " (35).

وقال: " علمني رسول الله (ص) ألف باب من العلم، في كل باب ألف باب " (36) واشتهر عنه رجوع الصحابة إليه وكذلك الخلفاء فيما عجزوا عن إدراكه من أمر الشريعة. ولهم في ذلك شهادات، كما قال عمر بن الخطاب: " لولا علي لهلك عمر " (37).

وذكر أحمد بن حنبل في مسنده: " لم يكن أحد من أصحاب النبي يقول:

سلوني إلا علي بن أبي طالب " (38).

وكذلك حال الأئمة من أهل البيت (ع) كانوا على تلك الدرجة من النبوغ.

شهد لهم بذلك أشد خصومهم. وقد ثبت في شأنهم من النصوص ما يعزز أعلميتهم. وحسبك أن الرسول (ص) جعلهم إلى جنب القرآن. في حديث الثقلين، إذ قال (ص):

" إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض " (39).

وبقوا منارات مشعة وقلل شامخة.

لقد ذكر بعض أعلام العامة ما جاء في حق الأئمة من بعد علي (ع) مثل الذي ذكره صاحب الصواعق المحرقة: قال رسول الله (ص) لجابر: " أنت تدرك

____________

(35) ينابيع المودة ص ا شرح النهج ج 2 ص 235.

(36) ينابيع المودة، الصواعق المحرقة.

(37) المناقب للخوارزمي ص 48.

- الأربعين للفخر الرازي ص 466.

(38) الصواعق المحرقة لابن حجر ص 76.

- المحب الطبري / الرياض النظرة ج 2 ص 198.

(39) صحيح مسلم باب فضائل علي (ع) ج 5 ص 122.

- مسند ابن حنبل ج 3 ص 17.

- الترمذي - الصحيح - ج 5 ص 328..

الصفحة 71
ولدي محمد الباقر، إنه يبقر العلم بقرا، فإذا رأيته، فاقرأه عني السلام " (40).

وذلك كلام منسوب إلى الإمام الباقر (ع) وهو محمد بن علي بن الحسين بن علي (ع) الإمام الخامس سمي الباقر، لبقره العلم كما تقدم.

أما الإمام الصادق (ع) فهو ممن اشتهر اسمه رغما عن أنف أعداءه من النواصب والخلفاء وذكره الجميع بفضائل يقل لها نظير. وامتدحه جمع غفير من العلماء الذين اختلفوا إليه طلبا للعلم. لقد قال فيه مالك: " جعفر بن محمد اختلفت إليه زمانا فما كنت أراه إلا على إحدى ثلاث خصال، إما مصل، وإما صائم وإما يقرأ القرآن، وما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علما وعبادة وورعا " (41).

وقال عنه الجاحظ: " جعفر بن محمد، الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه، ويقال:

إن أبا حنيفة من تلامذته وكذلك سفيان الثوري، وحسبك بهما في هذا الباب " (42).

وقال عنه بن حجر في الصواعق: " جعفر الصادق نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في جميع البلدان، وروى عنه الأئمة الأكابر كيحيى بن سعيد وابن جريح ومالك والسفيانين وأبو حنيفة وشعبة وأيوب السجستاني ".

وذكره بن خلكان في وفياته على هذا الشكل: " أبو عبد الله جعفر بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين أحد الأئمة الاثنا عشر على مذهب الإمامية وكان من سادات آل البيت، ولقب بالصادق لصدقه وفضله أشهر من أن يذكر ".

هذا وكثير منه مما فاضت به كتب العامة وقد تبين أنهم لا يذكرون في هذا المقام

____________

(40) الصواعق المحرقة ص 201 ط 1385 - 1965 م مكتبة القاهرة.

(41) التوسل والوسيلة / ابن تيمية ص 52 ط 2.

- تهذيب التهذيب ص 104 ج 2.

(42) رسائل الجاحظ - السندوبي ص 106.

الصفحة 72
إلا بما يشير إلى أعلميتهم. فإذا كان دؤوبهم على العلم مما اشتهر في التاريخ وأن جهل الخلفاء بأبسط الأحكام مما اعترف به أتباعهم. فعلام يتم هذا التفضيل وهذا الأخيار المتعسف.

هذه باختصار أولى القرائن التي تصرف معنى حديث الراشدية عن الخلفاء.

وتثبت انسجامه مع أئمة أهل البيت (ع) وتقويض ذلك الطرح المفتعل، الذي يجعل الخلافة فيمن لم يرو الحديث ولا يعلم الكتاب إلا أماني!.

ولمزيد من الإيضاح يجدر بنا الإشارة إلى مدى ارتباط سنة الأئمة من أهل البيت (ع) بسنة الرسول (ص) وبصريح القرآن وذلك بتزكية من شهادة الرسول (ص) في حديث الثقلين المتقدم وما دام إنهم كذلك، فدعنا نرى وجهة نظرهم في قضية الأحكام.

" سأل رجل أبا عبد الله الإمام الصادق عن مسألة فأجابه فيها فقال الرجل:

أرأيت إن كان كذا وكذا ما يكون القول فيها؟ فقال له: صه، ما أجبتك فيه من شئ فهو عن رسول الله لسنا من (أرأيت) في شئ " (43).

وقال (ع): بينة من ربنا بينها لنبيه (ص) فبينها نبيه لنا فلولا ذلك كنا كهؤلاء الناس (44).

وقال أيضا: " إنا لو كنا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنا من الهالكين ولكنها آثار من رسول الله أصل علم نتوارثها كابر عن كابر نكنزها كما يكنز الناس ذهبهم وفضتهم (45) ".

أقول: أين ذلك من تجرء الخلفاء على أحكام الله فهذا أبو بكر يأمر بحرق الفجاءة، ولا يقود خالد بن الوليد بمالك بن نويرة، ويمنع إرث فاطمة (ع) وذاك فاروقه، يقر بشرعية التمتع في الحج والزواج، فيخالفه، ويأتي بما تشتهيه ذائقته من أحكام تخالف سنة الرسول (ص) ونص القرآن وهكذا يتبين أي الفريقين

____________

(43) الكافي / الكليني.

(44) بصائر الدرجات.

(45) بصائر الدرجات.

الصفحة 73
أقرب إلى سنة الرسول (ص)، وألصق بكتابه. وإذا كان الاختلاف بين الراشدين الأربعة المزعومين، كاختلاف اليهود عن النصارى فإن الانسجام في سنة أئمة أهل البيت الاثني عشر كان مما أخرس السنة النواصب وحير دهاقنتهم ولا يحصل الانسجام إلا مع سنة موحدة المصدر ومعينة النبع وتلك شهادة من رسول الله (ص) يوم أوصى بالتمسك بالثقلين وهو ما شهد به واقعهم.

2 / الهداية

جاءت الهداية كقرينة على الخلفاء الراشدين الذين قيل في حقهم: " المهديين من بعدي ".

والواقع التاريخي للخلفاء المزعومين يخالف منطوق الحديث، بل ويناقضه من أساسه.

فالملاك من جعل الإمامة ضرورة، ولطفا. هو من هذه الحيثية أي توفير الهداية اللازمة التي يترتب عليها إقامة الحجة على الخلائق. والحجة لا تقوم على هداية ناقصة، أو على هداية محتملة. والخلفاء المفتعلون لم يكونوا في حجم ذاك الملاك. ليكونوا أئمة حقيقيين.

لقد كانوا في أكثر من حال يضلون الأمة ويبعدونها عن العلم الحقيقي بل ويهددون ويجلدون الناس إذا أتوهم مستفسرين عما يفيدهم في معرفة أحكام الله.

وضبط تكاليفهم الشرعية.

فهناك غياب كامل لعنصر الهداية من سلوك وتوجيهات الخلفاء المزعومين، لأنهم كما تقدم - لم يكونوا علماء - فالهداية تقوم على العلم. فأعلم الناس كانوا هم أئمة أهل البيت (ع) وهم تبعا لذلك أهدى عباد الله.

والهداية كما يظهر منها. لها أساس تقوم عليه، وغاية توصى إليها. فأما، الأساس فهو العلم كما سبق القول. إذ أن الهداية للإرشاد إلى الحق. ولن ينال الإنسان رشده إلى الحق، حتى يكتشفه. والكشف عن الحق هو العلم فلا هدي بلا علم وفاقد العلم لا يهدي. " أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى ما لكم كيف تحكمون.


الصفحة 74
أما الغاية من ذلك فهو إقامة الحجة على الخلائق بما يشد ظهر المكلف ومعلوم حسب مباني الأصول، أن الحجة يترتب عليها المنجزية والمعذرية.

فإذا لم يكن الهدى مما يترتب عليه عذر المكلف، وتكليفه لن يكون ذلك الهدي حجة. وغاية القول أن المكلف بالمعذرية له الحق في أن يحتج على المشرع، في كونه نقد ما أمر به.

فلا يحاسب على تركه، ولا على ما سكت عنه لما في الأمر من قبح عقلي لوقوعه في مسألة قبح العقاب بلا بيان كما يترتب عليه الحساب والعقاب في حالة رفضه أو عدم خضوعه لذلك التكليف. وعليه، فإن غير الأئمة (ع) لم يكونوا مشرعين ولا هداة بل كانوا مكلفين فقط. وذاك هو حال من بايعهم. فهناك من الصحابة من كان يخالف الخلفاء، ولا يعتبر كلامهم حجة كما هو الشأن في زواج المتعة، عندما قبلوا الشهادة ورفضوا التحريم. وإذا قال القائل فعلوا مثل ذلك مع الأئمة قلنا إنهم أيضا فعلوه مع الرسول (ص) ووجه المفارقة هناك إن فعله مع الرسول (ص) والأئمة (ع) موجب للعقاب لمكان المنجزية ومقام التكليف.

فسعد بن عبادة لم يرتكب ذنبا بخروجه عن أبي بكر. بل إنه مثاب إذا ثبت أنه توخى منها صرف الإمامة إلى أهلها غير أن ابن عمر مثلا هو ممن خالف التكليف بخروجه عن علي (ع) والحسين (ع). فأساس الحجة هو إثبات المنجزية والمعذرية.

وعليها لم يكن أحد يرسل الكلام على الوجه المنجز غير الأئمة من أهل البيت (ع).

وحسبك من صرف معنى الراشدية عن الخلفاء المغتصبين، أفهم كانوا يرجعون في مشكلاتهم إلى الأئمة (ع) والحاجة هنا تنفي عنهم الهداية لأنهم فاقدين لها فمن ذلك أن يقول أبو بكر عن نفسه (أنا الخالفة) - كما تقدم - وهو ما لا يفيد الهداية وقوله:

" إن لي شيطان يعتريني، فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني (46) ".

____________

(46) الصواعق المحرقة ص 7 / الإمامة والسياسة، / ج 1 ص 2 / شرح النهج ج 2 ص 8.


الصفحة 75
وهو هنا يقر حاجته إلى هداية الآخرين فكيف تقوم الحجة على الناس بإمام فاقد للهداية وأي ضمان أن يكون قوله واقعا في اللحظة التي يعتريه فيها شيطانه.

وقوله أقيلوني فلست بخيركم (47).

وقول عمر عنه " كانت بيعة أبي بكر فلتة، وقى الله المسلمين شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه " (48).

فكل هذه تدل على أن الحجة ليست من شأن الخلفاء وفرقة السقيفة.

في مقابل ذلك يبقى أئمة أهل البيت (ع) هم المنارات الوحيدة للهداية فإذا كان أبو بكر وعمر وعثمان يصرفون المسائل عن التكاليف الشرعية ويصدونه أو يضلونه في الحكم فإن عليا (ع) كان يقول: اسألوني قبل أن تفقدوني وحتى قال عمر: لولا علي لهلك عمر.

وإليكم الآن ما يدل على صفة الهداية في أشخاص أهل البيت (ع) تاركين للقارئ فرصة الاستقراء الحر:

1 - روى أحمد بن موسى بن مردويه، عن عائشة: أن رسول الله (ص) قال " الحق مع علي وعلي مع الحق لن يفترقا حتى يردا علي الحوض (49) ".

2 - قال الرسول (ص) " رحم الله عليا، اللهم أدر الحق معه حيث دار (50) ".

3 - يا عمار، إن طاعة علي من طاعتي وطاعتي من طاعة الله تعالى " (51).

4 - عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله (ص) " إني قد تركت فيكم ما إن

____________

(47) الإمامة والسياسة، / ج 1 ص 14.

- شرح النهج / ج 1 ص 58.

- كنز العمال ج 3 ص 132 - 135 ص 141 من كتاب ا

(48) صحيح البخاري، الصواعق المحرقة، تاريخ الطبري.

(49) مستدرك الحاكم، كنز العمال، تاريخ بغداد.

(50) صحيح الترمذي، مستدرك الحاكم (51) أسد الغابة، ج 5 ص 287.

- ينابيع المودة، ص 128.


الصفحة 76
تمسكتم به لن تضلوا بعدي:

الثقلين، وأحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله، حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض (52) ".

5 - روى الزمخشري عن الرسول ص: " فاطمة مهجة قلبي وابناها ثمرة فؤادي وبعلها نور بصري والأئمة من ولدها أمناء ربي، وحبل ممدود بينه وبين خلقه، من اعتصم بهم نجا، ومن تخلف عنهم هوى (53) ".

6 - قال (ص) " من أراد أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويسكن جنة الخلد التي وعدني ربي فليتول علي بن أبي طالب فإنه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلالة (54) ".

7 - قوله (ص): " فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم " (55) ".

8 - قوله (ص): " مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق " (56) ".

9 - قوله (ص): " يا أيها الناس إن الفضل والشرف والمنزلة والولاية لرسول الله وذريته فلا تذهب بكم الأباطيل " (57).

10 - قوله (ص): " في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين " (58).

____________

(52) مسند أحمد بن حنبل ج 5 ص 181.

- صحيح مسلم ج 4 ص 110.

(53) الزمخشري، ينابيع المودة، فرائد السبطين.

(54) كنز العمال، مسند أحمد.

(55) تاريخ الطبري، الصواعق المحرقة.

(56) الصواعق المحرقة، ص 186 (57) نفس المصدر.

(58) نفس المصدر والطبراني في حديث الثقلين.

الصفحة 77
11 - قوله (ص): " أنا المنذر وعلي الهاد وبك يا علي يهتدي المهتدون " (59).

12 - قوله (ص): " أنا وهذا - يعني عليا - حجة على أمتي يوم القيامة " (60).

هذا غيض من فيض مما رزحت به أسفار العامة على ما فعلوه من منع الرواية عن أئمة أهل البيت (ع) ناهيك عما وضح في مرويات أهل البيت وأتباعهم كلها تثبت بصريح العبارة حجية أهل البيت (ع) على الناس مما يثبت لهم صفة الهداية وهي من لوازم الراشدية التي نحن بصدد الحديث عن مفهومها فأين الخلفاء المزعومين من هذا العبق المنعش وأين هم من هذه الرياض النضرة وأي صهوة بقيت لركوب مجدهم فلا يدعي ذلك بعد أئمة البيت الهاشمي إلا كاذب. دعهم في غيهم يعمهون!.

3 / العدد

ذكرنا آنفا، أن منطوق حديث الراشدين أوسع من المدعى فالخلفاء المفتعلون لا ينسجمون عددا مع عدد الخلفاء المذكورين في أحاديث الرسول (ص) الذين هم اثنا عشر من قريش.

ولم يدع ذلك إلا الأئمة من أهل البيت (ع).

وإذا تبين سابقا أن الأئمة والخلفاء هم اثنا عشر دعنا نرى هل ذلك ينطبق على الاثني عشر من أهل البيت المتعارف عليهم عند شيعتهم؟.

إن مجرد ادعاء الاثني عشرية في غياب أي مدع لها، دليل على أن مقصود الرواية منصرف إلى المدعي. وأن مجرد ادعاء أهل البيت (ع) لها كاف للاعتراف بها لأنه ليس ثمة حي هو أشرف وأنبل في قريش منها. إن إطلاق قريش في الحديث لا وجه يعضده، إذ في قريش من هو من صناديد الشرك. وفيهم من غير طهارة المولد. ولا أحد يشك في أن بني هاشم هي من أشرف بطون قريش وأشهرها في خدمة الدين. وقد عززهم القرآن بقوله تعالى: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " فإذا اجتمعت طهارة المولد

____________

(59) (60) كنز العمال.

الصفحة 78
ورفعة الشرف مع صفة العلم والهداية. كان من العقل ترجيح الأفضل على المفضول، ولا ينعكس ذلك لما فيه من مناقضة لمباني العقلاء وصريح النصوص.

هذا فيما لو ثبت أن الرسول (ص) قد أطلق لفظة قريش وإلا فإن بعض الطرق التي روي بها حديث الاثني عشر يشتم منها عنصر التدليس والتلبيس. إذ هناك من لمح ببني هاشم والرواية في صحيح البخاري من طريق جابر بن سمرة هي قوله: سمعت رسول الله (ص) يقول: يكونوا اثنا عشر أميرا، فقال كلمة لم أسمعها فقال أبي: كلهم من قريش فالكلمة التي لم يسمعها هي على طريقة والثالثة لم أسمعها. وهي مما اعتاد عليه المحدثون والرواة في التلبيس.

يقول صاحب ينابيع المودة: " قال بعض المحققين: إن الأحاديث الدالة على كون الخلفاء بعده (ص) اثنا عشر، قد اشتهرت من طرق كثيرة فبشرح الزمان، وتعرف الكون والمكان، علم أن مراد رسول الله (ص) من حديثه هذا: الأئمة الاثنا عشر من أهل بيته وعترته، إذ لا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه، لقلتهم عن اثني عشر (وهم أربعة) ولا يمكن أن يحمله على ملوك الأموية، لزيادتهم على اثني عشر (وهو ثلاثة عشر)، ولظلمهم الفاحش، إلا عمر بن عبد العزيز ولكونهم غير بني هاشم، لأن النبي (ص) قال " كلهم من بي هاشم " في رواية عن عبد الملك (61) ".

ونجد في نهج البلاغة شرحا مبينا لمعنى الأئمة من قريش، يقول الإمام علي (ع):

" إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم ولا يصلح الولاة من غيرهم ".

وروى الحمويني الشافعي في فرائد السمطين، عن بن عباس قال رسول الله:

" أنا سيد النبيين وعلي بن أبي طالب سيد الوصيين وأن أوصيائي بعدي اثنا عشر، أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم المهدي ".

وهكذا تدل القرائن على أن إطلاق حديث الخلفاء الراشدين على الأربعة

____________

(61) ينابيع المودة.

الصفحة 79
لا وجه له وأن أهل البيت هم المرشحون لهذا الوصف لما دلت عليه آثارهم والنصوص المستفيضة من حولهم فيحق لنا بعدها اعتبار الخلفاء الراشدين المزعومين مجرد ادعاء مفتعل لا دليل عليه من النصوص ولا من التاريخ ولا من العقل.


الصفحة 80

الخلفاء ما داموا مارسوا الخلافة

في عرضنا ودراستنا الخلفية التاريخية لتيار الاغتصاب وفرقة السقيفة على وجه الخصوص، تبين لنا ذلك التعسف المهول الذي سار عليه العامة والتشوه الكبير الذي لف نظرية الإمامة عندهم وما دام قد مارس هذا التيار الخلافة بمنظور الغلبة وما دام أنه من جانب آخر ينتمي إلى فرقة الصحابة لمعاصرتهم الرسالة فإنه واجب علينا في هذه الرحلة الدراساتية أن نتعرض لواقع الخلافة كما مارسها هذا التيار فنجعل ذلك شقا أوليا للبحث ثم نثني بشق آخر يتعلق بموقع هذا التيار من الصحبة مع التطرق إلى هذا الموضوع بمزيد من الايضاح.

تيار الاغتصاب والخلافة

من الأمور التي تعارف عليها بعض أهل السنة كون الخلافة خاضعة لمفهوم الشورى وإنها ما دامت شأنا دنيويا فإنها تبقى حقا للناس يتواضعونه فيما بينهم على الخليفة الجدير الذي يجتمع عليه اختيارهم ولأن واقع حال الخلافة كما مارسها هذا التيار كانت خاضعة لأكثر من معيار إذ تارة تثبت بالوصية وطورا بما يشبه الاستخلاف كان هناك اضطراب كبير يلف نظرية الخلافة عندهم.

إن الواقع التاريخي أوضح بأن الشورى في مقام الخلافة أول ما كانت في عهد عمر بن الخطاب. إذ زعم أنه تارك الأمر في حدود الستة الذين تستشير الأمة في شأنهم. ولم تكن قضية الشورى تقليدا متعارفا عليه في العهد الأول للخلافة.

وذلك ما يبدو من ظاهر نصوص الخلفاء أنفسهم واعترافهم بذلك الاضطراب.


الصفحة 81
وحتى لا نخرج عن إطار السقيفة، لا بد أن نلقي نظرة عن الأسلوب الذي تم فيه الاختيار.

إن ما نتج من صراعات ومشادات عنيفة في السقيفة، كان دليلا كافيا على أن الخلافة اتخذت مجرى معاكسا لقضية الشورى، ذلك بأن جمعا غفيرا من الصحابة امتنعوا عن البيعة. فمنهم من بقي على تلك الحالة حتى قتل. كسعد بن عبادة الخزرجي (رض) ومنهم من تأخر حتى أجبر عليها بالسيف وقيد إليها بالعنف.

وتبين بعد ذلك كيف أن فترة خلافة أبي بكر التي لم تتجاوز مدتها سنتين. كيف عرفت قلائل كثيرة واهتزازات عنيفة كان أهمها وأخطرها تمرد القبائل العربية وامتناع الكثير عن إعطاء الزكاة تعبيرا منها عن رفض خلافة أبي بكر. وذلك فيما أسموه بحرب الردة.

لقد انطلق أبو بكر وعمر على حين غفلة ممن كانوا في انشغال بتجهيز رسول الله (ص) وانطلقوا إلى السقيفة ليواجهوا باقي التيارات الأخرى. فمنطق الشورى يقتضي وجود سلطة عليا سابقة، ليتحاكم إليها الجميع في الأمر. أما أن يفرض تيار معين نفسه مسؤولا عن تنظيم الشورى، فهذا أمر يناقض أساسيات الشورى، وعلى ذلك المبنى يتبين مدى " الدور " الذي سقط فيه الأمر، إذ لا بد من جهة عليا تتحدد سلفا عن طريق النص.

ويذكر براء بن عازب (62) " لم أزل لبني هاشم محبا، فلما قبض رسول الله (ص) خفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر عنهم، فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول مع ما في نفسي من الحزن، لوفاة رسول الله (ص) فكنت أتردد إلى بني هاشم، وهم عند النبي (ص) في الحجرة، وأتفقد وجوه قريش فإني كذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر وإذا قائل يقول القوم في سقيفة بني ساعدة.

وإذا قائل آخر يقول: قد بويع أبو بكر، فلم ألبث وإذا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة، وهم محتجزون بالازر الصنعانية لا يمرون بأحد إلا خبطوه وقدموه فمدوا يده، فمسحوها على يد أبي بكر، يبايعه

____________

(62) شرح النهج ص 73.

الصفحة 82
شاء ذلك أو أبى.

فهل رأيت عزيزي القارئ كيف أن البيعة اتجهت صوب الغلبة وأن جمعا لم يروا أبا بكر وعمر حتى رجعوا إليهم بالقرار النهائي لا ليطرحوا الأمر أمامهم ليتشاوروا فيه ويأخذوا رأي من منعه الاهتمام بتجهيز رسول الله من حضور السقيفة بل جاءوا بالأمر محمولا على السيوف " لا يمرون بأحد إلا خبطوه وقدموه فمدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر ".

إمعانا منهم في كسب البيعة بالإجبار ليتم الأمر ويبايع بالعنف " شاء ذلك أو أبى (63) ".

وهذا هو ما دفع عمر نفسه إلى القول بأن بيعة أبي بكر فلتة وقاهم الله شرها، وهي إن دلت على شئ فإنما تدل على عدم شرعية هذه البيعة.

ولا بد هنا من تقويض ما ذهب إليه الذاهبون في شأن ما كان شورى بين المسلمين. لنعرض رأي أحد كبار المعارضين لخلافة أبي بكر والذي بايع كرها.

وهو الإمام علي (ع)، لنتعرف على وجهة نظره عليه السلام فيما ادعوه من أمر الشورى:

فعندما بويع أبو بكر في السقيفة وجددت له البيعة يوم الثلاثاء خرج علي فقال:

" أفسدت علينا أمورنا ولم تستشر ولم ترع لنا حقا ".

فقال أبو بكر: بلى ولكنني خشيت الفتنة (64).

وجاء في نهج البلاغة كلام للإمام علي (ع) فيه رد على مزعومة الشورى بمنطق واضح وجلي.

لما انتهت إلى أمير المؤمنين أنباء السقيفة بعد وفاة الرسول (ص) قال:

ما قالت الأنصار؟.

____________

(63) البخاري، الصواعق المحرقة.

(64) مروج الذهب، الإمامة والسياسة.

الصفحة 83
قالوا: قالت منا أمير ومنكم أمير.

قال: فهلا احتججتم عليهم بوصية الرسول (ص) بأن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم؟.

قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم؟.

فقال: بلى لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصية بهم!.

ثم قال: فماذا قالت قريش؟.

قالوا: قالت نحن شجرة الرسول (ص).

قال: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة.

ثم قال:

فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم * فكيف هذا والمشيرون غيب
وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم * فغيرك أولى بالنبي وأقرب

وجاء في نهج البلاغة أيضا قوله:

" أرى تراثي نهبا حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى فلان بعده، ثم تمثل بقول الأعشى:

شتان ما يومي على كورها * ويوم حيان أخي جابر

فيا عجبا! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشد ما تشطرا ضرعيها ".

لقد تبين أن الخلافة في السقيفة وما بعدها كانت تقوم على منطق الاجبار، لا منطق الشورى. وعلى أساس الاغتصاب لا على أساس الشرعية. تجلى ذلك العنف في البداية في إجبار الإمام علي (ع) والذين معه على البيعة، وفي السقيفة تجلى في موقفهم من بعض الأنصار. ولهذا كانت هناك جماعة من الصحابة الكبار الذين نالهم التهديد والضرب لرفضهم البيعة. وكانوا ضحايا لها.


الصفحة 84

السقيفة والمعارضة

بعد إتمام دفن الرسول (ص) اعتزل قوم من الصحابة ورفضوا بيعة أبي بكر وطرحوا عليا (ع) خليفة فتحصنوا ببيت فاطمة الزهراء (ع) وبقوا على ذلك الحال حتى اقتحم عليهم جمع كبير بقيادة عمر الدار. وعزموا على حرقها. فأجبروهم على البيعة.

يقول اليعقوبي: " وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ومالوا مع علي بن أبي طالب منهم العباس بن عبد المطلب والفضل بن العباس، والزبير بن العوام، وخالد بن سعد، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب وأبي بن كعب. فأرسل أبو بكر إلى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح، والمغيرة ابن شعبة، فقال:

ما الرأي؟ ".

وذكر البلاذري إن أبا بكر بعث عمر بن الخطاب إلى علي (ع) حين قعد عن بيعته وقال: إئتني به بأعنف العنف فلما أتاه جرى بينهما كلام فقال: " إحلب حلبا لك شطره والله ما حرصك على إمارته اليوم إلا ليؤثرك غدا (65) ".

وذكر بن عبد ربه " أقبل عمر بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار، فلقيتهم فاطمة فقالت يا ابن الخطاب أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم أو تدخلوا

____________

(65) الأنساب 1 / 587.

الصفحة 85
فيما دخلت فيه الأمة (66) ".

ولا يهمنا هنا ما دار من كلام بين فاطمة (ع) وابن الخطاب. ولا بين المتحصنين ومقتحمي الدار. ما نريد التأكيد عليه هنا، هو أسماء المعارضين الكبار للسقيفة، ورأيهم في الخلافة. والآن إليك ما جاء في كلام المعارضة:

1 / الإمام علي (ع)

" أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وهو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير، فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا وطفقت ارتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طغية عمياء يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى أرى تراثي نهبا حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده ثم تمثل بقول الأعشى: شتان ما يومي على كورها ويوم حيان أخي جابر (67).

فيا عجبا بينا يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته. لشد ما تشطرا ضرعيها ".

2 / العباس بن عبد المطلب (رض)

إن الله بعث محمدا كما وصفت نبيا وللمؤمنين وليا فمن على أمته به حتى قبضه الله إليه واختار له ما عنده فخلى على المسلمين أمورهم ليختاروا لأنفسهم مصيبين الحق لا مائلين بزيغ الهوى فإن كنت برسول الله طلبت فحقنا أخذت وإن كنت بالمؤمنين أخذت فنحن منهم. فما تقدمنا في أمرك فرطا، ولا حللنا وسطا، ولا برحنا سخطا، وإن كان هذا الأمر وجب لك بالمؤمنين، فما وجب إذ كنا كارهين. ما أبعد قولك من أنهم طعنوا عليك من قولك أنهم اختاروك ومالوا إليك، وما أبعد تسميتك خليفة رسول الله من قولك خلى على الناس أمورهم ليختاروك. فأما ما قلت، إنك تجعله لي، فإن كان حقا للمؤمنين فليس لك أن

____________

(66) العقد الفريد.

(67) نهج البلاغة / الخطبة الشقشقية.

الصفحة 86
تحكم فيه، وإن كان لنا فلم نرض ببعضه دون بعض وعلى رسلك، فإن رسول الله من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها (68) ".

3 / الفضل بن العباس (رض)

" يا معشر قريش إنه ما حقت لكم الخلافة بالتمويه ونحن أهلها دونكم وصاحبنا أولى بها منكم " (69).

4 / خالد بن سعد (رض)

" إنكم - أي بني هاشم - لطوال الشجر طيبوا الثمر نحن تبع لكم " (70).

هلم أبايعك - يقصد عليا - فوالله ما في الناس أحد أولى بمقام محمد منك " (71).

5 / المقداد بن الأسود الكندي (رض)

" واعجبا لقريش ودفعهم هذا الأمر عن أهل بيت نبيهم وفيهم أول المؤمنين " (72).

6 / سلمان الفارسي (رض)

" أصبتم الخيرة وأخطأتم المعدن " (73).

" كرداد وناكرداد أي عملتم وما عملتم، لو بايعوا عليا لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " (74).

7 / أبو ذر الغفاري (رض)

" أصبتم قناعة وتركتم قرابة لو جعلتم هذا الأمر في أهل بيت نبيكم ما اختلف

____________

(68) شرح النهج لابن أبي الحديد، الإمامة والسياسة.

(69) اليعقوبي، شرح النهج.

(70) شرح النهج، الطبري، أسد الغابة.

(71) شرح النهج، أسد الغابة.

(72) اليعقوبي.

(73) أبو بكر الجوهري، السقيفة في ابن أبي الحديد.

(74) أنساب الأشراف للبلاذري.

الصفحة 87
عليكم اثنان " (75).

" أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها أما لو قدمتم من قدم الله وأخرتم من أخر الله، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم، ولما عال ولي الله ولا طاش سهم من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله إلا وجدتم على ذلك عندهم من كتاب الله وسنة نبيه فأما إذا فعلتم ما فعلتم فذوقوا وبال أمركم وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (76) ".

8 / عتبة بن أبي لهب

ما كنت أحسب هذا الأمر منصرفا * عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن
عن أول الناس إيمانا وسابقة * وأعلم الناس بالقرآن والسنن
وآخر الناس عهدا بالنبي ومن * جبريل عون له في الغسل والكفن

هذا إضافة إلى مواقف كثير من المعارضين، الذين لم يتحصنوا ببيت فاطمة (ع) والذين حصلت بينهم وأبي بكر وعمر مشادات انتهت إما بإجبارهم على البيعة وإما قتلهم كما هو حال سعد بن عبادة كما سنرى وأسماءهم حسب إجماع المؤرخين كالتالي:

علي (ع).

فاطمة (ع).

العباس بن عبد المطلب.

الفضل بن العباس.

الزبير بن العوام.

طلحة بن عبيد الله.

سعد بن أبي وقاص.

____________

(75) شرح النهج.

(76) تاريخ اليعقوبي.

الصفحة 88
المقداد بن الأسود.

سلمان الفارسي.

أبو ذر الغفاري.

عمار بن ياسر.

البراء بن عازب.

أبان بن سعيد.

أبي بن كعب.

سعد بن عبادة.

الحباب بن المنذر.

هذه الأسماء وردت في مصادر التاريخ الكبرى كتاريخ الأسر والملوك لجعفر الطبري، والكامل لابن الأثير وتاريخ اليعقوبي، وأسد الغابة، وتاريخ بن كثير وسيرة بن هشام.

والمطلع على سيرة هذا الفريق من الصحابة، يدرك أهمية المعارضة.


الصفحة 89

الخلفاء ما داموا صحابة

وما دام ممثلو هذا التيار قد عرفوا بالصحابة، وحتى لا تمسي هذه الميزة عائقا في فهم طبيعة الاغتصاب، ولا تتحول " الصحبة " إلى أمر يضبب الرؤية في خلفيات التحريف. كان لا بد من الوقوف عند هذا الموضوع لتبيان حقيقته، وهدم ما علق به من تداعيات أسطورية تعيق أي محاولة لفهم حقيقة وملابسات الواقعة.

لم يكن للصحبة مفهوم على عهد رسول الله (ص) بالمعنى الاصطلاحي للكلمة وكل ما في الأمر إنها تعبير لغوي عن مجموعة من الناس تختلف أهواءهم وتتنوع نزعاتهم اجتمعوا حول رسول الله (ص) وصاحبوه في رحلته كل وفق هواه ولم تكن الصحبة تعني صك غفران يعوض امتناع الصحابي عن العمل الصالح، أو تعصمه عن الارتداد.

ولعل ما يجعل الحديث عن الصحبة صعب مستصعب، لا يستحمله إلا ذووا الألباب النيرة وأصحاب الحكم المتعالية.. إن اقترن وصف الصحابة بضروب من المواقف والوقائع شكلت في ذهن الجمهور قرينة على عصمتهم. وأهم تلك القرائن إنهم حضروا بيعة الرضوان التي ذكرها القرآن ومدح أهلها، وبعضهم ذهب بعيدا حين ذكر عشرة منهم من المبشرين بالجنة، وآخرون ذكروا أن أهل بدر مغفور لهم ما تقدم وما تأخر من ذنوبهم لحديث حاطب بن أبي بلتعة، وهلم جرا.

لقد اختلف مفهوم الصحابي من جيل إلى جيل، ومن مبنى إلى آخر، ففي جيل الصحابة الأوائل لم تكن للصحبة كما ذكرنا غير ذلك المفهوم اللغوي، بينما

الصفحة 90
بدأ هذا المفهوم يتبلور في صور اصطلاحية في عصر التدوين، وفي ضوء علم الحديث الذي بدأت قضية الجرح والتعديل فيه تقف عند رواة الأخبار. وهو عصر متأخر عن جيل الصحابة. وكانت له دوافع معينة اقتضتها عمليات الجرح والتعديل. وهي تنزيه الصحابة عن كل تجريح والأخذ بعد التهم مطلقا. وسبق الأخذ بعدالتهم، كلام عن تعريفهم، بشكل يبرر مذهب المحدثين، ويضفي عليهم مسحة اصطلاحية معينة. فالصحبة كمصطلح شرعي هو من وضع المتأخرين من رجال الحديث.

كما أن مفهوم الصحبة يختلف معه مبنى النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وسيرة الصحابة، ومبنى المحدثين المتأخرين. ولتوضيح ذلك، نرى من الأجدر التطرق إلى مفهوم الصحابي من هذه الزوايا المتفرقة.

تعريف الصحابي وعدالته عند المتأخرين، والرد عليهم

عرف المتأخرون الصحابي تعريفا مناقضا لروح الشريعة الإسلامية، ومنافيا للبناء العقلائي. فهم من جهة اعتبروا الصحابي هو كل من رأى الرسول (ص)، سواء أكان كبيرا أم طفلا صغيرا. بل حتى من لم يره من العمي لتعذر الرؤية عليهم. بل ويعد صحابيا من رآه الرسول (ص) ولو عن بعد، سواء جالسه أم لم يجالسه، غزا معه أو لم يغز. وعلى ذلك استقر رأي الجمهور.

يقول في ذلك بن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة:

" الصحابي من لقي النبي (ص) مؤمنا به، ومات على الإسلام فيدخل في من لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو، ومن غزا معه أو لم يغز. ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى ".

ويتبين من خلال هذا التعريف، انحراف بالمفهوم من إطاره اللغوي الظاهر إلى دائرة الاصطلاح، وهذا ما جعل بن حجر العسقلاني يقول: " إن اسم صحبة النبي (ص) مستحق لمن صحبه أقل ما يطلق على اسم صحبة لغة وإن كان العرف يخص ذلك ببعض الملازمة ".

وطبيعي، إن هذا التحديد يخالفه العقلاء من حيث كونه متجاوزا للغة

الصفحة 91
والعرف، ومتقوما بتواضع المتأخرين واصطلاحهم من دون قرينة تنهض بما يخالف اللغة والعرف.

وحكموا بعد إطلاق تعريفهم على عدالتهم جميعا، واعتبروا أغلاطهم غير منافيه لعدالتهم.

وبهذا انتهى بالبعض إلى اعتبار الصحبة أقوى من الإيمان وفي ذلك خروج صريح عن منطق الإسلام الذي لا يعطي صكوكا بقدر ما يحكم على الأعمال الصالحة.

ذكر صاحب الإصابة: " اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول، ولم يخالف ذلك إلا شذوذ من المبتدعة (77) ".

وذكر النووي في التقريب: " الصحابة كلهم عدول، من لابس الفتنة وغيرهم ".

ويبدو من خلال ما اتفقوا عليه، أن العدالة شئ ملازم للصحبة. بينما العدالة شأن اصطلاحي يختلف عن الصحبة. فالعدالة لها ضوابط محددة، وشرائط مسطرة. فلا لزوم بينها والصحبة. إلا من جهة التعسف الذي جرد عليه المزورون والمتحجرون. لأن تلك الملازمة لم يكن متعارف عليها في زمن الصحابة أنفسهم، وفيما أدركوه من القرآن وسنة رسول الله (ص).

فالصحابة عاشوا فترة طويلة من الصراع بعد وفاة الرسول (ص) عملوا فيها السيف على رقاب بعضهم البعض. وبيتوا لبعضهم البعض. وتقاتلوا فرقا فرقا.

ولو كان للصحبة مفهوم غير لغوي أو أن العدالة كانت من لوازمها. إذن لكان هذا الرهط أولى بالالتزام بهذا الأمر. وإذا كان التجريح لا يطال، الصحابة. فكان أولى بهؤلاء أن لا يجرحوا بعضهم بعضا. ترى فهل كانت الصحبة عاصمة للصحابة من النار كما أدرك ذلك الصحابي نفسه، وهل أن الصحبة ملازمة للعدالة في رأي الصحابي نفسه؟.

روى البخاري عن زيد بن ثابت: " لما خرج النبي (ص) إلى أحد رجع ناس

____________

(77) الإصابة / 1 / 2217.

الصفحة 92
من أصحابه فقالت فرقة منهم: نقتلهم، وقالت فرقة: لا نقتلهم، نزلت الآية الكريمة: " فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا ".

وحكم كل من عمار وبن مسعود بالكفر على عثمان وثاروا ضده مع جمع من الصحابة " وقالت عائشة اقتلوا نعثلا - تعني عثمان - فقد كفر (78) ".

وفي ذلك قال لها ابن أم كلاب:

وأنت أمرت بقتل الإمام * وقلت لنا أنه قد كفر (79)

ويوم السقيفة عندما قال أناس: إتقوا سعدا، لا تطؤوه: قال عمر:

اقتلوه، قتله الله.

وإذا تبين أن الصحابة لم يكونوا يفهمون الصحبة بذاك المعنى الذي اصطلح عليه أهل الحديث المتأخرين. أدركنا إذ ذاك أنهم رجال كباقي الرجال مرهونون هم أيضا بذنوبهم، ومطالبون بالعمل الصالح، وموعودون بنار جهنم. فإذا كان هذا هو موقف الصحابي من أخيه الصحابي، ترى أي موقف كان للرسول (ص) منهم؟.

كان رسول الله (ص) يسكت عمن حوله، ويسمي كل من حوله صاحب.

وكان ذلك تساهلا منه وتأدبا. وكانت كلمة صحابي تقال في مواقع مختلفة. فتارة يذكرها في السفر وأخرى في الحضر، مرة يعني بها من صاحبه في الطريق. وأحيانا يقولها عمن صاحبه في قضيته. وأخرى لمن أحاط به وسمع كلامه. ولهذا سمى الذين هموا بقتله ب‍ " أصحابي "، يوم تبوك كما تقدم.

إن كلمة صحابي في عهد رسول الله (ص) كانت تأخذ طابعا أدبيا يشترك فيها البر والفاجر، المؤمن والمنافق. ولم تكن العدالة منحة رخيصة عند الصحابي في عهد رسول الله (ص) بل هي أمر له صلة بعمل الإنسان، لذا قال لهم مرة:

" ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحثه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه فالمعصوم من عصمه الله (80) ".

____________

(78) الطبري ابن الأثير.

(79) الطبري ابن الأثير.