" محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم، تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ".
فكلمة " منهم " تعبير عن اختصاص فئة معينة بالمغفرة والأجر العظيم. ليس ذلك لقاء تمحورهم وصحبتهم للرسول (ص) وإنما لقاء إيمانهم وعملهم الصالح.
" وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ".
وبمقتفى المفهوم بالمخالفة، يبقى منهم من ليسوا من أهل الإيمان ولا من أصحاب العمل الصالح. وعلى ذلك الأساس يحرمون المغفرة والأجر العظيم.
وكان هذا هو شأن أهل بيعة الرضوان الذين قال فيهم تعالى:
" لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ".
فإن تخصيص فئة منهم بالثواب أمرا اقتضاه الواقع من حالهم. إذ هناك من حضر بيعة الرضوان وهو ليس من ذاك المقام. بل هناك من عرف بالنفاق. وقد حضر بيعة الرضوان فيمن حضرها عبد الله بن أبي رأس النفاق، وأوس بن خولي. فكونهم من أهل بيعة الرضوان يستبطن مغزى عميقا، لا بد من البحث عنه وراء منطوق الآية الكريمة. فالبيعة وحدها لا تكفي للحكم على أصحابها.
فعنصر الزمن الذي يعكس مدى صدق هذه البيعة من خلال استمرارية أصحابها عليها أم تراجعهم عنها. فقيمة البيعة هي في مدى الالتزام بشروطها كلها، وتنحل تلك القيمة مع خروج أصحابها عليها. وكثير ممن حضر بيعة الرضوان لم يلتزم بتلك الشروط كما سنرى.
وكان ذلك متوقفا على مدى صبره واستمرارهم عليه. وقد سمعوا ذلك من الرسول (ص) إذ قال لهم: " إني فرطكم على الحوض من مر علي شرب وشرب لم يظمأ أبدا، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم فأقول أصحابي
وفي هذا النص الصحيح معنى صريح، على أن ما ذهب إليه المتأخرون من تعريف للصحابي أو عدالته، محض أوهام، - فهم هنا - (ص) يقول:
يعرفونني.. ومع هذا لم يشفع لهم ذلك في النجاة من النار.
وعن العلاء بن المسيب عن أبيه قال: لقيت البراء بن عازب (رض) فقلت " طوبى لك صحبت النبي (ص) وبايعته تحت الشجرة، فقال: يا ابن أخي إنك لا تدري ما أحدثنا بعده (82) ".
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند حذيفة، أنه قال:
" قال النبي (ص) في أصحابي اثنا عشر منافقا منهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وأربعة لا أحفظ ما قال فيهم ".
وفي حجة الوداع قال (ص): " أترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ".
هذه وأمثالها وكثير من النصوص القرآنية التي جاءت بعتاب الصحابة ولعن المنافقين منهم. وتحذير المذبذبين وتخويف المؤمنين من خطر الارتداد.
وهكذا يكون مفهوم الصحابي ليس له معنى أكثر مما يفيده لغويا وإن الصحابة مثل باقي المسلمين معرضين للارتداد وقد جاء في السيرة، إن عبد الله بن سعد بن أبي السرح قد أسلم وهاجر إلى المدينة وكتب الوحي للرسول (ص) وارتد في النهاية مشركا (83).
وجاء في كتاب الله: " يا أيها الذين آمنوا من يرتد.. ".
فالخطاب هنا موجه لجيل الصحابة، لأنهم أول المعنيين به.
____________
(80) البخاري ج 4 ص 173، مسند أحمد بن حنبل.
(81) صحيح البخاري ومسلم.
(82) صحيح البخاري.
(83) الإستيعاب / الإصابة.
الفصل الثاني
الخلفاء والواقع التاريخي
موقف الإمام علي (ع) مثالا
- أن يجهز عليهم، فلا يبقى من تيار الاغتصاب رجلا يذكر.
- أو أن يصبر وينتظر حالما تعود الأمور إلى نصابها.
أما الخيار الأول فهو يسير على علي (ع) وهو من أرعب بسيفه العرب واهتز لشجاعته الأبطال. وتيار الاغتصاب كان مدركا لكل ذلك. غير أنهم أدركوا أن أبا الحسن لا يقاتل في أمر لا مصلحة للشرع فيه. أدركوا ذلك على مدى سنوات من الجهاد الذي كان يتزعمه علي (ع). ولذلك تجاسروا عليه وأبدوا بطولاتهم المزيفة. كان الإمام علي (ع) على علم تام بحقيقة هؤلاء الجبناء الذين ما ثبتوا في معركة، ولا نصروا الإسلام. ولكنه اختار البقاء منتظرا.
والإمام علي (ع! وهو ينتظر، لم يكن مكتوف اليدين، لم يكن انتظاره سلبيا كما يبدو للكثير.
كان علي (ع) نشيطا يعمل حسب ما تسمح به الظروف متحركا خلف الحصار المفروض عليه.
ويذكر اليعقوبي إنه اجتمع جماعة إلى علي بن أبي طالب يدعونه إلى البيعة، فقال لهم: " اغدوا علي محلقين الرؤوس فلم يغد إلا ثلاثة نفر (84) ".
وقال علي (ع) في بداية الأمر: " لو وجدت أربعين ذووا عزم لناهضتهم ".
ولما لم يجد من هم كذلك، فضل الصبر " فرأيت الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى ".
علي (ع) إمام شرعي، وأمامه عصابة من المغتصبين لشرع الله. والمفروض إذ ذاك هو النهوض بالوضع بشكل يطيح بهؤلاء مع مراعاة مصلحة الإسلام. والتقية كما يقول بعد ذلك الإمام الصادق (ع):
التقية ديني ودين آبائي. فعلي (ع) أولى بالتقية وهو يعاصر مرحلة خطيرة عليه وعلى الإسلام.
وبالمقابل فإن تيار الاغتصاب راح يعضد بعضه بعضا. ويؤسس له حلفا متماسكا. يتداولونها قهرا وغلبة. فأبو بكر عهد إلى عمر من دون مشورة وهذا الأخير عهد إلى عثمان من خلال فبركة ملتوية. وكلهم وقفوا من علي (ع) موقفا صارما.
ولا بد من أن نشير إلى أن موقفهم من الإمام لم يكن في شأن جدارته، بل كان ذلك فيما يتعلق بالجانب السياسي.
بالإضافة إلى أن كثيرا من الوقائع تشهد على ما كان من صراع حقيقي بين الثلاثة والإمام علي (ع) فالكل يحرص على إزاحة علي (ع) وهذا الأخير يعمل أيضا ما في وسعه لإقصائهم، لترتاح منهم الأمة. ويعود الأمر كما بدأ لأهله الذين يستحقونه.
____________
(84) شرح النهج.
وكان (ع) لا يألوا جهدا إلا وصرفه في طريق الهدم لواقع الاغتصاب، وعند ما، يستشيره أحدهم في أمر لا علاقة له بالأحكام في أمور الرعية، كان يشير عليه بما يؤدي إلى الموت والهلاك. ففي معركة القادسية أشار على عمر بن الخطاب عندما استشاره هذا الأخير، بالمشاركة مع الجيش فنصحوه بعدم فعل ذلك خوفا عليه من الموت.
ذكر المسعودي لما قتل أبو عبيدة الثقفي بالجسر شق ذلك على عمر وعلى المسلمين، فخطب عمر الناس وحثهم على الجهاد، وأمرهم بالتأهب لأرض العراق، وعسكر عمر وهو يريد الشخوص. وقد استعمل على مقدمته طلحة بن عبيد الله وعلى ميمنته الزبير بن العوام وعلى ميسرته عبد الرحمن بن عوف. ودعا الناس فاستشارهم فأشاروا عليه بالمسير، ثم قال لعلي: ما ترى يا أبا الحسن:
أسير أم أبعث؟.
قال: سر بنفسك فإنه أهيب للعدو وأرهب له، فخرج من عنده فدعا العباس في جلة من مشيخة قريش وشاورهم فقالوا: أقم وابعث غيرك ليكون للمسلمين إن انهزموا فئة فدخل إليه عبد الرحمن بن عوف فاستشاره فقال: إن انهزم جيشك فليس ذلك كهزيمتك وإنك إن تهزم أو تقتل يكفر المسلمون ولا يشهدوا أن لا إله إلا الله أبدا قال: أشر علي من أبعث؟ قال قلت: سعد بن أبي وقاص، قال عمر: أعلم أن سعدا رجل شجاع ولكني أخشى أن لا يكون له معرفة بتدبير الحرب ثم خرج فدخل عثمان عليه فقال له: يا أبا عبد الله أشر علي أسير أم أقيم؟ فقال عثمان أقم يا أمير المؤمنين وابعث بالجيوش فإنه لا آمن إن أتى عليك آت أن ترجع العرب عن الإسلام، ولكن ابعث الجيوش وداركها بعضها على بعض وابعث رجلا له تجربة بالحرب.
تحمل هذه الرواية عدة دلالات على مدى اعتزال الإمام علي (ع) عن الخلفاء، فهو يأبى ويكره أن يسير في جيوشهم، فلو كانوا على جانب من الشرعية لكان علي (ع) أولى بكسب ذلك الثواب في الجهاد وفتح البلدان، وأنه أشار على عمر بن الخطاب بالمسير خلافا لباقي الرجال، رغم إن في بعث عمر خطر على حياته.
إن هذه الواقعة تثبت مدى حرص الإمام علي (ع) على عدم الاحتفال بمشاريع ذلك التيار وعدم تزكية أي خطوة من خطواتهم، وذلك عن طريق الامتناع عن تلبية طلباتهم وعدم نصرتهم. والإشارة عليه - إذا استشير - بما يهدد أركان الاغتصاب ويسهل عودة الخلافة إلى وضعها الشرعي. وهذا الخذلان من جانب الإمام علي (ع) هو الذي دعى بنو أمية للتحامل عليه في أمر عثمان. وكان عمر بن الخطاب متوقعا لأي محاولة من محاولات القتل من قبل علي (ع) وذلك ما رأيناه في مقتل عمر بن الخطاب، عندما التبس عليه الأمر، فطلب بي هاشم، ليحقق معهم في الأمر. ذكر بن قتيبة وغيره:
لما طعن عمر قال لابن عباس، أخرج فناد في الناس أعن ملأ ورضى منهم كان هذا؟ فخرج فنادى فقالوا: معاذ الله ما علمنا ولا اطلعنا فقال: يا علي أعن ملأ منكم ورضى كان هذا؟ فقال علي (ع) ما كان عن ملأ منا ولا رضى (86) ".
كان لعلي (ع) أصحاب موالون، وهو من أهل السابقة. وكلهم كان رافضا لبيعة أبي بكر في السقيفة. وقد جاء ذكرهم آنفا، وعلى رأسهم: سلمان الفارسي، أبو ذر الغفاري، عمار بن ياسر، ابن عباس، مالك الأشتر.
هؤلاء كانوا قد تفرقوا في البلدان وأصبحوا يدعون سرا لولاية الإمام علي (87)
____________
(85) مروج الذهب ج 2 ص 318.
(86) الإمامة والسياسة ص 22.
(87) أقول، إن الدعوة إلى قتل عثمان كانت ترافقها بالتوازي الدعوة إلى ولاية علي (ع) وسوف نرى ذلك في حديثنا عن المقتل في تاريخ ابن خلدون!.
يقول بن خلدون: وكان - أي عمار - يكثر الطعن على عثمان ويدعو في السر لأهل البيت، ويقول: " إن محمدا يرجع كما يرجع عيسى (88) ".
وبقوا على ذلك حتى ورد عثمان حيث كان الظرف مناسبا لإثارة الناس عليه بكل وضوح وحيث إن فترة عثمان عرفت نوعا من التهور بحيث تمكن أنصار علي (ع) من تأليب الأمصار عليه. وإنه ليس غريبا أن تتوحد مواقف هؤلاء الأنصار وأن تكون كل حركاتهم بأمر من الإمام علي (ع) كيف ذلك وهم يعترفون له بالإمامة ولا يقومون بشئ دون مشورته.
ولذلك رأينا كيف أن شيعته بالكوفة والبصرة ومصر هم الذين جاؤوا بالوفود فكان مالك الأشتر على رأس الوفد الكوفي بينما حكيم بن جبلة كان على رأس الوفد البصري، في حين تزعم الوفد المصري محمد بن أبي بكر وهؤلاء هم أيضا من اقتحم الدار على عثمان ونفذ فيه عملية القتل. ورأينا أن عليا هو الذي كان يتوسط وبيده أمور الصلح وهو الذي رد الوفود بكلمة قالها. وهو الذي سكت حين رجعوا، فنفذوا حكم القتل في عثمان. ولا عليك من قصة بعث الإمام لابنيه لحراسة عثمان. كيف يبعث ابنيه لصد ثورة عارمة تقف خلفها جماهير جرارة.
وهل الحسن والحسين إلى تلك الدرجة من الصغار حتى يأتي أبوهما فيصفعهما لما قتل عثمان. فهل يعقل من أمير المؤمنين وإمام الأمة أن يؤاخذ سيدا شباب أهل الجنة وأئمة المستقبل، على عدم رد ما لا طاقة لهما به، ولو كان كما صوروه رافضا لقتل عثمان، إذن لكان أحرى أن يأتي إلى باب الدار وهو يعرف أن لا منقذ لعثمان من هؤلاء سوى كلمة قد تصدر عنه، ولما رفض الرجوع إلى عثمان وعدم الاستجابة لنجدته في نهاية المطاف. فكيف يلطم ابنيه وهو يعلم أن هؤلاء من كان ينازع أبا بكر وعمر في عهدهما أمام الناس ويستنزلون من قدرهم. فكان أحرى أن يضربهم على ما فعلوه في الشيخين من قبل. وقد كانوا أصغر من سنهم ذاك. فقد جاء الحسن مرة إلى أبي بكر وهو على منبر رسول الله (ص) فقال: انزل عن مجلس
____________
(88) ص 521، ج 2.
وهل كان من المعقول أن يرفض زعماء الوفود توسط علي (ع) فيما لو أراد عليه السلام ذلك. وهم من كانوا لا يخطون خطوة إلا بإذنه. وبعد مشورته كما يتبين من الوقائع والقرائن المستفيضة. وهم كانوا من خلص شيعته. وكان أحرى به عليه السلام أن يلطم هؤلاء الذين قتلوه أو تزعموا قتله. بدل الثناء عليهم والاهتمام بهم. ودعنا أولا وقبل كل شئ أن نرى كيف كان حال هؤلاء الأنصار، وهل في سيرتهم ما يؤكد على أنهم كانوا متمردين بلا ولاء ولا خلفيات.
كان زعماء الوفود وطلائع التمرد هم محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة بمصر ومالك الأشتر في طليعة الوفد الكوفي وحكيم بن جبلة العبدي كان على رأس الوفد البصري (90).
على أي شئ قاتل هؤلاء وعلى أي مأرب خاضوا كل هذه الثورات.
فأما عمار الذي ثار على عثمان وساهم في قتله، ظل حليفا وفيا للبيت النبوي، ومن أنصار الإمام علي (ع) والذين شاركوا في كل حروبه حتى استشهد في صفين. وكان موقفه على جانب من الحجية.
ذكر المسعودي: (91) وقد كان عمار حين بويع عثمان بلغه قول أبي سفيان صخر بن حرب في دار عثمان عقيب الوقت الذي بويع فيه عثمان ودخل داره ومعه بنو أمية فقال أبو سفيان: أفيكم أحد من غيركم؟.
وقد كان عمي فقالوا: لا، قال: يا بني أمية، تلقفوها تلقف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة، فانتهره عثمان، وساءه ما قال، ونمى هذا القول إلى المهاجرين والأنصار.
(وغير ذلك الكلام) فقام عمار في المسجد فقال: يا معشر قريش، أما إذ صرفتم هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم ههنا مرة فما أنا بآمن من أن ينزعه الله منكم
____________
(89) الصواعق المحرقة / ابن حجر.
(90) الطبري، ابن الأثير تجارب الأمم.
(91) مروج الذهب ج 2، ص 351 - 352.
" أما المقداد الذي جاء اسمه في لائحة المعارضين للسقيفة. فإنه كان من الناقمين أيضا، على عثمان. وكان ذلك على أساس إيمانه بحق الإمام علي (ع) وأهل بيته ". فقال:
" ما رأيت مثل ما أوذي به أهل هذا البيت بعد نبيهم، فقال له عبد الرحمن بن عوف:
وما أنت وذاك يا مقداد فقال: إني والله لأحبهم لحب رسول الله (ص) إياهم، وإن الحق معهم وفيهم، يا عبد الرحمن أعجب من قريش وإنما تطولهم على الناس بفضل أهل هذا البيت - قد اجتمعوا على نزع سلطان رسول الله (ص) بعده من أيديهم أما وأيم الله يا عبد الرحمن لو أجد على قريش أنصارا لقاتلتهم كقتالي إياهم مع النبي (ص) يوم بدر، وجرى بينهم من الكلام خطب طويل " (92).
إن منطق الاصلاح كان هو الذي يوجه هؤلاء جميعا. وكان برنامجهم موحد.
لقد أعطيت لهم الدنيا ودنت منهم أكثر من مرة، ولكنهم رفضوها. فهم لا يقاتلون على مآرب رخيصة. كان سهم منذ السقيفة أن يدمروا بنيان الخلافة الزائف وإقامة صرح الإمامة الشرعية.
ولنعد إلى مجريات الأمور لنتبين كيف أن هؤلاء كانوا قد نفذوا الحكم الثوري على عثمان انطلاقا من مشورة حقيقية للإمام علي (ع).
لقد كان ثمة صراع حقيقي بين علي وعثمان. وبلغ بالإمام أنه بدأ يبدي اعتراضه الصريح على عثمان ولا يأبه بأي تهديد منه، كيف يسكت علي (ع) وهو لم يسكت قبلها إذ سكت إلا مراعاة لحرمة الإسلام وحواريي الرسول (ص). أما وقد بدأ عثمان يختلف في الدين ويستهزئ بشريعته، وينزل من مقام حواريي الرسول (ص) ويرفع من شأن الطلقاء، فلما يكون السكوت أحجا. وليكن ما يكون.
فعلي (ع) كان يريد أن يعيد الأمر بشكل جذري، غير أن الظروف اقتضت أن
____________
(92) مروج الذهب ج 2، ص 352.
ليس لك أن تفعل به هذا.. قال: بل وشرا من هذا إذا فسق ومنع حق الله تعالى أن يؤخذ منه.
وذكر - أيضا - إنه عندما أزمع عثمان على تسيير أبي ذر الغفاري (رض) إلى الربذة، ومنع الناس أن يسيروا معه، فلما طلع عن المدينة ومروان يسير عنها طلع عليه علي بن أبي طالب ومعه ابناه وعقيل أخوه وعبد الله بن جعفر وعمار بن ياسر، فاعترض مروان فقال: يا علي إن أمير المؤمنين قد نهى الناس أن يصحبوا أبا ذر في مسيره ويشيعوه. فإن كنت لم تدر بذلك فقد أعلمتك، فحمل عليه علي بن أبي طالب بالسوط وضرب بين أذني راحلته، وقال: تنح نحاك الله إلى النار.
ومضى مع أبي ذر فشيعه ثم ودعه وانصرف، فلما أراد علي الانصراف بكى أبو ذر، وقال: رحمكم الله أهل البيت، إذا رأيتك يا أبا الحسن وولدك ذكرت بكم رسول الله (ص) فشكا مروان إلى عثمان ما فعل علي بن أبي طالب، فقال عثمان: يا معشر المسلمين من يعذرني من علي؟ رد رسولي عما وجهته له، وفعل كذا، والله لنعطينه حقه فلما رجع علي استقبله الناس، فقالوا له: إن أمير المؤمنين عليك غضبان لتشييعك أبا ذر، فقال، غضب الخيل على اللجم.
هذه الواقعة تثبت أهمية الصراع الدائر بين علي وشيعته وعثمان وبطانته ووصلت تلك الحدة درجة من الخطورة أصبحت فيها الأمور أوضح من الشمس في رائعة النهار.
ذكر المسعودي ما جرى بين علي وعثمان في ذلك الشأن وأظهر ما جرى بينهما من مشادات كلامية تعبر عن حدة ذاك الصراع، يقول: (93) قال عثمان: ما حملك على ما صنعت بمروان ولم اجترأت علي ورددت رسولي
____________
(93) مروج الذهب ج 2، ص 351.
فقال علي: أو كل ما أمرتنا به من شئ نرى طاعة الله والحق في خلافه اتبعنا فيه أمرك؟ بالله لا نفعل، قال عثمان: أقد مروان، قال: ومم أقيده؟ قال: ضربت بين أذني راحلته وشتمته، فهو شاتمك وضارب بين أذني راحلتك، قال علي: أما راحلتي فهي تلك فإن أراد أن يضربها كما ضربت راحلته فليفعل. وأما أنا فوالله لئن شتمني لأشتمنك أنت مثلها بما لا أكذب فيه ولا أقول إلا حقا. قال عثمان: ولم لا يشتمك إذا شتمته، فوالله ما أنت عندي بأفضل منه؟! فغضب علي بن أبي طالب وقال:
ألي تقول هذا القول؟ وبمروان تعدلني؟ فأنا والله أفضل منك، وأبي أفضل من أبيك، وأمي أفضل من أمك، وهذه نبلي قد نثلتها، وهلم فانثل بنبلك، فغضب عثمان واحمر وجهه، فقام ودخل داره.
لقد كان البرنامج، والملف المطلبي للوفود المتمردة برنامجا رساليا وملفا مطلبيا منسجما مع متطلبات الشريعة الإسلامية وكان علي (ع) معززا ومزكيا لهم في ذلك.
وعندما جاءت الوفود هرع عثمان إلى علي (ع) ليتوسط له مع القوم ويردهم عنه.
وفي ذلك دلالة على مدى الولاء الذي كان يجمع بين علي وهؤلاء الثوار فقال له علي (ع) على أي شئ أردهم عنك؟ (94) قال: على أن يصير إلى ما أشرت إليه ورأيته لي.
لقد كان الشرط الوحيد لعلي (ع) هو أن ينال الطاعة من عثمان فقال له (ع) إني قد كلمتك مرة بعد أخرى فكل ذلك لخرج وتقول ثم ترجع عنه، وهذا من فعل مروان وابن عامر ومعاوية وعبد الله بن سعد، فإنك أطعتهم وعصيتني قال عثمان:
" فأنا أعصيهم وأطيعك (95) ".
____________
(94) ابن الأثير.
(95) ابن الأثير.
وبقي كذلك، ولم يجب طلب عثمان، وهو يعلم أن ذلك يؤدي به إلى الموت حتما.
والذين قتلوا عثمان، كانوا هم من بايع عليا (ع) وأصبحوا ساعده الأيمن. ولم يقل فيهم شيئا. ولأعاتبهم على شئ من ذلك البتة، بل قد دافع عنهم، وكان بينه وبين معاوية أن يسلم له قتلة عثمان، لكن الإمام قاتل بهؤلاء بقايا الأمويين.
واشتدت عرى ولائهم له.
وكان محمد بن أبي بكر الذي طعن عثمان ومالك الأشتر هم عماله الثقات على الأمصار، وهم الذين زكى الإمام علي (ع) ثورتهم بأن جعل ثقته فيهم في إقامة الذين ومتابعة الاصلاح. فعندما أراد أن يبعث محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر إلى الكوفة.
قال لهم: إني اخترتكم على الأمصار وفزعت إليكم لما حدث، فكونوا لدين الله أعوانا وأنصارا وانهضوا إلينا، فالإصلاح نريد لتعود هذه الأمة إخوانا (97).
لقد كان موقف علي وشيعته الأوائل واضحا لأعداءه. ولهذا سرعان ما اهتزت عائشة، التي كانت بالأمس تقول: يا معشر المسلمين هذا جلباب رسول الله لم يبل وقد أبلى عثمان سنته، فقال عثمان: " رب اصرف عني كيدهن إن كيدهن عظيم (98) ".
تقول اليوم: يا أيها الناس إن عثمان قتل مظلوما والله لأطلبن بدمه وكانت تقول: " يا معشر قريش إن عثمان قد قتل، قتله علي بن أبي طالب، والله لأنملة أو قالت لليلة من عثمان خير من علي الدهر كله (99) ".
____________
(96) ابن الأثير.
(97) ابن الأثير.
(98) اليعقوبي.
(99) البلاذري / الأنساب.
والله لقد دخلت عليه وإني أريد قتله، فلما خاطبني بما قال خرجت، ولا أعلم بتخلف الرجلين عني، والله ما كان لي في قتله سبب ولقد قتل وأنا لا أعلم بقتله (100).
نعم.. هذا هو منطق الإمام علي (ع) منطق الثورية وأسلوب التقية فهو قتله ولم يقتله. قتله لما ذكر استحقاقه للموت والهم بقتله ولكنه ما كان له سبب في قتله تلك الليلة ولا علم بقتل عثمان وكيفية ذلك. إنها عين التقية التي مارسها الأنبياء. وأشبه ما تكون بموقف إبراهيم (ع) في رد المشركين إلى كبير الأصنام.
وعدم اعترافه بهدمها. إنها تقية واجبه في هذا المقام. على أنبياء الله كما على أولياءه. بيد أن الإمام علي (ع) لم يستطع أن يتقي كل من حوله ممن رأى خلفية الثورة، وهؤلاء بلا شك كانوا أصحاب أطماع وأهواء أخرى، حاولوا تحقيقها من خلال طلب الثأر لعثمان. غير أن الشعار كان حقيقيا، إذ كثيرا ما أريد بكلمة الحق باطلا. فعلي (ع) هو قاتل عثمان. لما كان هذا الأخير مغتصبا. وكان الواجب يفرض على علي (ع) إزاحة الباطل. فمن أهدى من علي (ع) ومن أحرص منه على إزاحة الباطل!.
وللإمام علي (ع) خطبة حول المقتل يحسن بالمتدبر في ثناياها أن يعي حقائقها.
قال (ع): " لو أمرت به لكنت قاتلا، أو نهيت عنه لكنت ناصرا. غير أن من نصره لا يستطيع أن يقول: خذله من أنا خير منه، ومن خذله لا يستطيع أن يقول: نصره من هو خير مني: وأنا جامع لكم أمره، استأثر فأساء الأثرة وجزعتم فأسأتم الجزع، ولله حكم واقع في المستأثر والجازع (101) ".
(100) مروج الذهب / المسعودي.
(101) نهج البلاغة.
فقال:
لم أسخط (102) فإذا لم يكن راض يعني أنه ساخط. ولكن الإمام يريد أن يقول لهم. إن قتله لا يرضيه، ما دام إن الأمور لم تحل من جذورها. ولكن هذا لا يعني أنه يسخط بقتله.
وذكر بن أبي الحديد من أقواله المختلفة والكثيرة، قوله تارة، الله قتله وأنا معه. وقوله أخرى، كنت رجلا من المسلمين أوردت إذ أوردوا، وأصدرت إذا أصدروا.
لقد ذكر الرسول (ص) في حديث له: إن عليا سيقاتل على التأويل. وكان عثمان أشد الخلفاء محاربة للتأويل وذلك بتتبعه القراء ومعاقبتهم كابن مسعود وحرقه القرائين وتأويلها. وتجدر الإشارة إلى تلك المصادفة العجيبة التي تزامنت مع الثورة على عثمان ومبايعة علي (ع).
إذ جرى ذلك يوم الثامن عشر من ذي الحجة. وهي الذكرى السادسة والعشرين لواقعة الغدير الذي فيه خطب الرسول (ص) في المسلمين معلنا ولاية علي (ع) استجابة للنداء القرآني (بلغ ما أنزل إليك من ربك، فإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس).
ترى هل كانت تلك محض مصادفة أم إنها تدبير إلهي خفي لجعل ذكرى يوم التنصيب، ذكرى لإقصاء المغتصب وتنصيب علي (ع) أقول، إنه لو لم تكن ثورة شيعة علي (ع) هي التي جاءت بعلي (ع) وفرضت ولايته لما رآها بنو هاشم البتة.
____________
(102) ابن أبي الحديد.
الباب الثاني
أزمة التاريخ أم أزمة مؤرخين؟
نموذج ابن خلدون
التاريخ لماذا؟
كثيرا ما كانت الطريقة التي سلكها المؤرخون في بحث أحوال الماضي من هذه الأمة موغلة في التواطؤ تارة وفي الغباء طورا فالأحداث كما تقع في الماضي تختلف كلها عما يكتب على أديم التاريخ. وذلك كله راجع إلى أسباب معينة، قصية بأن تكون مقدمة لهذا الباب، ومدخلا لفهم صراحته وجرأته في تناول الحقائق التاريخية في صورتها الجلية.
إن تراثنا تشكل من خلال لعبة تاريخية. وقفت من ورائها سلطة الخلفاء التي كانت تنهج نهجا تحريفيا في كل المؤسسات الاجتماعية والثقافية. من أجل خلق واقع منسجم. تتطابق فيه البنى السياسية بالاجتماعية والثقافية. ولأن القطاع الثقافي والتعليمي يشكل ركيزة المجتمع الحضاري. وأساسا للدولة العقائدية.
فإن المؤسسة السلطانية لعبت دورا كبيرا في إعادة ترتيب محتوياتها الداخلية. من أجل سلب العناصر النقيضة لتلك المؤسسة.
وتفريغ كل ذلك المحتوى من كل ما من شأنه أن يكون قنبلة موقوتة تهدد بقاء تلك المؤسسة.
وليس عجيبا أن يذكر التاريخ أمثلة كثيرة على ذلك. تعكس حرص المؤسسة السلطانية على التصرف في الجهاز المعرفي والثقافي للأمة. ونزوع حالة من الشمولية تجعل الفكر محكوما برقابة شديدة وتحت رحمة الرغبة الخلفائية.
فكل ذلك كان بسبب ما تقتضيه السياسة من تحريف الحقائق وتزوير الأحداث بما يتفق مع نهجها السياسي أو هواها السلطاني. وما تلزمه تلك العملية من تقريب المتزلفين وتهميش العلماء المستقلين.
وعلى الرغم من كل ذلك يبقى التاريخ ضرورة لا غناء عنها فالنظر في أحوال الماضي ضرورة علمية لا مناص من مزاولتها. لأنها وحدها كفيلة بأن تطلعنا على حقيقة ما جرى في الماضي لفهم ما يجري في الحاضر. وفيما يتعلق بالتراث الإسلامي، لا بد من تركيز الاهتمام بالتاريخ ومناهجه وكيفية ضبط الوثائق ونقدها وتحليل حفرياته. لسببين بسيطين:
الأول: لأن الرواية - وهي شأن تاريخي تعتبر أساسا لكل ما له علاقة بالإسلام.
من فقه وأصول وكلام وتفسير ولغة و...
فالقرآن وهو أهم مصدر في الثقافة الإسلامية لم يكن يهم الأجيال فيما لو كانت الرواية التاريخية لا أهمية لها على المستوى العلمي. فالقرآن وصل عبر الرواية والمصاحف المعمول بها اليوم تعتمد على رواة تاريخيين. هذا بالإضافة إلى السنة المدونة التي ابتدأت بالرواية ولا زالت فالتاريخ نافذة ضرورية لا مهرب من أحكامها.
والقرآن يتسع لفيض من تلكم الآيات التي تحث على تدبر الماضي وقراءته قراءة تاريخية منتجة، ويستخدم كلمتين في شد الناس إلى التاريخ ويركز كثيرا على أحداهما.
والكلمتان هما: الماضي. والماقبل.
ففيما يتصل بالماضي، يذكر القرآن آيتان:
" فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين " (1).
" وأن يعودوا فقد مضت سنة الأولين " (2).
وربط كلمة ماضي بالأولين، في حين استخدم عبارة (ما قبل، من قبل.) كثيرا. إنه لا يعتبر الماضي أمرا غابرا، خصوصا في مقام الحديث عما يفهم منه حديث عن السنن الاجتماعية. فإنه يستخدم عبارة ما قبل، أو من قبل. ليبين بأن المسألة لها صلة بكل أطوار التاريخ. وبأن الحدث الواقع في الماضي هذا له امتداداته المنطقية على الحاضر والمستقبل. ومن هنا، يبين بأن النظر إلى الماضي وهو نظر في الحاضر والمستقبل. نظرة من الخلف. وذلك هو أرقى مبدأ في فلسفة التاريخ. وأهم قاعدة في منهجه.
يقول تعالى: " سنة الله في الذين من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا " (3) " سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا " (4).
" وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما " (5).
____________
(1) الزخرف / آية 8.
(2) الأنفال / آية 3.
(3) الأحزاب / 38.
(4) الأحزاب / آية 62.
(5) الفتح / 16.
" فإن كذبوك قد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات " (7).
بعد هذا كله لم يعد ما يحجب الإنسان الباحث حقيقة النظر في تاريخ الأمم لفهم طبيعة ما يجري في الحاضر. إذ ليس الحاضر إلا امتداد لذلك الماضي مأسور بحباله مثقل بأوزار.
لقد أحدث الإسلام في بداية الدعوة قطيعة تاريخية بكل ما سبق من جهالات ولكننا لم نفز نحن بكتاب يحدث بيننا وبين ما رزح به تاريخنا، قطيعة تجعلنا نرتبط مباشرة بالإسلام المحمدي مباشرة وندخل في أجواء النص بدون عوائق.
____________
(6) الحديد / 16.
(7) آل عمران / آية 184.
لماذا بن خلدون؟
انتقينا من بين المؤرخين، بن خلدون، كنموذج لدراساتنا عن أزمة التاريخ والمؤرخين الذين تعاطوا بشكل سلبي مع كثير من الوقائع التاريخية وابن خلدون هو مؤرخ له ميزاته المعروفة.
فهر رائد العقلانية التاريخية ورائد فلسفة التاريخ الإسلامي. ولأنه يشكل نموذجا للمؤرخ المغربي الذي تميز بموقفه من الإمامة والأئمة. ولعل الأستاذ حسن حيدر صاحب الكتاب النفيس " جعفر الصادق والمذاهب الأربعة " هو الكاتب المشرقي الوحيد الذي انتبه إلى بعض من تلك الفلتات الناصبية.
وعلى أساسها قام بكتابة مؤلفه العملاق حول الإمام الصادق.
إن ابن خلدون، من المؤرخين الذين لا يحتفل بهم في أمور التاريخ الإسلامي الموثوق، ذلك أنه بالإضافة إلى اعتباره ناقلا عن المؤخرين. فإن هموما فلسفية كثيرة كانت توجه بن خلدون في تأويل وقائعه. وأهدافا إيديولوجية أخرى كانت تفرض عليه ضروبا من القراءات المتهافتة في وقائع الماضي. ولأنه مؤرخ بعيد عن اهتمام المشارقة. وكان قد عاش في أحضان سلاطنة المغرب. وعلى الرغم من أن ابن خلدون لم يكن سوى ناقلا للأحداث. معتمدا على مؤرخين سابقين له أمثال ابن جرير الطبري، واليعقوبي، والمسعودي، إلا أنه حاول التصرف في تلك الأحداث المنقولة والاختصار فيها بشكل يسئ إلى حقيقتها. وكل ذلك استجابة
تقوم ميزة التاريخ الخلدوني على أساس إبداعه في مجال تطور العمران ونشوء الدول، وما إليها من أمور كان بن خلدون فيها صاحب قصب السبق من بين جموع من المؤرخين وعلماء الاجتماع. وبذلك كان مكتشفا لقوانين تاريخية واجتماعية واقتصادية، كانت أساسا في نشوء مذاهب وتيارات في العصور التي جاءت بعده. إن فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع والاقتصاد ونظرية المادية التاريخية. كلها من اكتشافاته الأولى. وهذا ما يجعل ابن خلدون متميزا عن باقي من سبقه أو عاصره في هذه الصناعة.
وما يهمنا هنا هو الجانب التاريخي من اختصاصه. حتى نقف عند أقواله في شأن الإمامة وتاريخ الصراع حول الخلافة ومجموعة وقائع أخرى. لنكتشف عناصر المناصبة فيها. ولنتبين مدى فرادته في هذا المجال. ولنوقف مصداقيته العلمية هذه المرة في محك التاريخ.
إذا أخذنا ابن خلدون كمؤرخ بعيدا عن ابن خلدون الاجتماعي أو عالم الاقتصاد سنكتشف أنفسنا أمام شخصية أخرى جديدة إنه ابن خلدون الذي لا يختلف عمن سبقه من مؤرخي الخلفاء والمبررين للخلافة. شأنه في ذلك كمن احتضنهم البلاط ووسع عليهم في العطاء.
والذين درسوا ابن خلدون من هذه الزاوية، اكتشفوا ذلك الانفصام في شخصيته، واكتشفوا الأسلوب الآخر الذي كان يعتمده في الكتابة التاريخية، وهو أسلوب موغل جدا في الجمود واللاعقلانية.
يعتقد هاملتون جيب، وهو من دارسي ابن خلدون الكبار أن هذا الأخير ليس إلا مثالا لمن سبقه من الفقهاء المتزمتين. فابن خلدون في نظره " مجرد فقيه مالكي، كان يهدف إلى تبرير واقع الخلافة كما فعل قبله الماوردي والباقلاني والغزالي ".
ويعود ليوقف ابن خلدون في مستواه الحقيقي، ردا عمن رام المبالغة في تصوير استقلاله الفكري. " وإن شئت أن أوضح هذا النقص الذي أشير إليه توضيحا عاما قلت إنه يكمن في الميل إلى المبالغة في تصوير استقلال فكر ابن خلدون، وأصالته وهو ميل ناشئ عن سوء فهم لنظرته وخاصة من حيث علاقتها بالمسائل الدينية (8) ".
____________
(8) راجع النظم والفلسفة والدين في الإسلام، فصل الأصول الإسلامية في نظرية ابن خلدون السياسية / هاملتون جيب.
ليس المقصود من التوقف عند بن خلدون أن نقدم للقارئ تحليلا عن حياته وكتاباته. وأنما نريد هنا التطرق مباشرة لطريقته في تناول الأحداث المتصلة بقضية الإمامة وأهل البيت وتاريخ الخلاف.
كانت اهتمامات ابن خلدون الأولى منصبة على الفلسفة بالدرجة الأولى والفقه واللغة. من جهة أخرى.
وكان العصر الذي عاش فيه يتميز باضطراب شديد، خصوصا في منطقة المغرب والأندلس. فسقوط دول وقيام أخرى. يغير ويبدل من أحوال البلاد ويعيد الأمور صوب وجهة جديدة. فالأنصار اليوم هم الأعداء غدا. والأعداء اليوم يتحولون بفعل التحول والانقلاب في الدول إلى أنصار ووزراء. وكان هو ضحية لأعمال السياسة الفاشلة. إذ أنه قضى جل حياته متقلبا بين السجون والبلاط. وعلى امتداد المغرب الإسلامي، كان بن خلدون إما متآمرا أو متزلفا.
إلى أن تحول إلى مسالم يعتزل السياسة ويميل إلى العلم. والعلم الذي استهواه في نهاية رحلته، كان هو التاريخ. من أجل تضمينه بتجربته والإفاضة عليه بما اكتسبه من خبرات. ومن هنا جاء مؤلفه الشهير " العبر ". والمتتبع لتاريخ بن خلدون يدرك الأسباب التي جعلت ضحية النزعة الجبرية والتشاؤمية أحيانا.
واهتمامه بالدول والعمران نشؤهما وزوالهما، كل هذا كان انعكاسا لتجربته الطويلة والمرة.
وسوف نطلع على نص لابن خلدون، يؤاخذ فيه مناهج المؤرخين الذين جاء على أثرهم. ويعتبر نفسه صاحب الفضل في اكتشاف ما يصلح للأخبار عن الماضي، لكي نحاسبه على ضوء عقلانيته في مقام تناولنا لمسألة الإمامة والخلافة في تاريخه. يقول:
____________
(9) ابن خلدون، ايف لاكوست - ترجمة ميشال سليمان.
وكان مما وقع فيه ابن خلدون من مآزق إنه كان يصطنع للسلاطين الذين تزلف لهم، قصصا لا رصيد لها من الواقع. كأن ينسب زعماء الدولة الحفصية إلى عمر بن الخطاب. كما جاء في قصيدته للخليفة أبي العباس (1370 - 1394 م)، جاء فيها:
قوم، أبو حفص أب لهم، وما أدراك والفاروق جد أول وكان الحفصيون، قوما من البرير من قبيلة هنتاتة وهي جبال مصمودة ببلاد المغرب الأقصى. هذا وكثير مثله من أمثلة التزوير والتزييف التي كان يقوم بها ابن خلدون. وسكوته عن الكثير من الوقائع التاريخية حفاظا على سمعة السلطان.
وتأويله لكثير من الأحداث. كما سنرى في مثال تأريخه لوقائع العهد الأول وعصر الفتنة ومسألة الخلافة.
____________
(10) المقدمة / ابن خلدون ص 5.
ابن خلدون ووفاة الرسول (ص) وبدء الخلافة!
للسقيفة علاقة وثيقة بما جرى في حجة الوداع من تأمير علي (ع) على المسلمين، والإعلان عن خلافته للناس ولا يمكننا فهم الوقائع التي جرت داخل السقيفة وخلفية اللعبة التي تمثلها حزب الشيخين هناك، إلا باستيعاب ما جرى قبل ذلك في الوصايا التي خلفها رسول الله (ص) ونبذها حزب الشيخين وتيار الاغتصاب من وراءه.
وحديث الغدير الذي يلخص حادثة التأمير بعد حجة الوداع، أشهر لدى المؤرخين ورواة الحديث، من نار على علم. فهو بلغ حدا من التواتر بات من الصعب على المحدثين تكذيبه بل كل ما في الأمر إن عمد بعض نواصبهم إلى التحايل على ألفاظه، وتأويله بشكل يسئ إلى متنه، ويتعسف على مضمونه.
من أمثال ابن حجر في الصواعق المحرقة.
ودعنا الآن نتعرف على ما جرى في هذه الفترة. وأهم ما وقع فيها.
ذكر جماعة من المؤرخين والمحدثين إنه لما انتهى الرسول (ص) من حجة الوداع وصل إلى مكان اسمه " غدير خم " يقع على مقربة من الجحفة بناحية رابغ - بين مكة والمدينة - قام خطيبا فقال: " ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم، قالوا بلى، قال، فمن كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والي من والاه وعادي من عاداه وانصر من
وعلى إثر ذلك نهض عمر وهو يقول لعلي (ع) " بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة " (12).
لقد تواتر هذا الخبر ولم يتجاوز هذه الواقعة أحد من المحدثين أو المؤرخين حتى أولئك الذين عرفوا بنصبهم وكتبوا حوله الأسفار إلا ابن خلدون فقد حاول القفز عليه وعدم الإشارة إليه على الرغم من أنه ذكر كل ما حدث في حجة الوداع، وعلى الرغم من اطلاعه ونقله عن السابقين الذين ذكروه قبله. وذلك لا أحسبه إلا ضغينة منه، وتكلفا جليا في نبذ ما يعزز استحقاق أهل البيت (ع) وكل ذلك البتر والتصرف في الوقائع التاريخية كان أيضا بقصد خلق نوع من الانسجام بين نظريته حول الإمامة والتاريخ. فإذا أورد حديث الغدير، فإن ذلك يناقض نظريته حول الإمامة التي يرى فيها أمرا دنيويا يقوم على مصالح الناس، ولا مدخلية للنص فيها " (13).
____________
(11) روي الحديث بطرق متعددة رواه أحمد في المسند، والسيوطي في الدر المنثور، والطبراني في الأوسط والطبري في مؤلفه الخاص، والحاكم في المستدرك والحافظ في تهذيب التهذيب، وابن كثير في البداية والنهاية، وابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة.
(12) رواه أحمد في المسند وابن كثير في البداية والنهاية، وابن الجوزي في تذكرة الخواص.
(13) أنظر ص 461 من المجلد الثاني عنوان حجة الوداع، يقول: أقول وقد ذكر الحديث في مقدمة كتابه حول الشيعة إذ جعله من مختصاتهم. وهو بذلك يبين مدى حرصه على انتقاء الأخبار التي تؤكد على مصداقيته المذهبية وسوف نتطرق في جانب آخر من مقالته.
في مسألة تجهيز جيش أسامة
سبق أن ذكرنا خبر تجهيز جيش أسامة واعتراض بعض الصحابة عن الذهاب مع أسامة ولم يكن أحد من المعترضين على أسامة من غير أولئك الصحابة الذين رأوا فيه شابا صغير السن وهم شيوخ كبار وكان عمر متمسكا كما ذكرنا بعزل أسامة، وبقي على تلك الحال حتى عهد أبي بكر، حيث نهره هذا الأخير وأنبه.
وقد لعن الرسول (ص) كما تقدم كل متخلف عنه، وبالتالي كل متقول في إمارة أسامة وابن خلدون لم ينف الحادثة، بل أكد عليها وذكر ما قاله الرسول (ص) حول من تقول فيها:
" وقد بلغني أن أقواما تكلموا في إمارة أسامة، طعنوا في إمارته لقد طعنوا في إمارة أبيه من قبله وإن كان أبوه لحقيق بالإمارة، وإنه لحقيق بها انفروا فبعث أسامة، فضرب أسامة بالجرف وتمهل (14) ".
ولا أحسب ابن خلدون كان مدققا في الأمر. إذن لما كان ذكر هذا الحديث لما فيه من الطعن على عمر وأبي بكر وبعض الأصحاب. قال في مفتتح كلامه عن بعث أسامة:
" وتكلم المنافقون في شأن أسامة، وبلغ الخبر بارتداد الأسود ومسيلمة (15) ".
(14) تاريخ ابن خلدون ص 464 ج 2.
(15) تاريخ ابن خلدون ص 464 ج 2.
ويسترسل بن خلدون في تناقضه. لينتهي إلى حادثة مرض النبي (ص) الذي تزامن مع إصداره على بعث أسامة. ولعن المتخلفين عنه. وقد اعترف ابن خلدون بأن الرسول (ص) خرج إليهم عاصبا رأسه من الصداع. ولكن سرعان ما يورد كلاما جرى بين أبي بكر والرسول (ص).
وذكر أن رسول الله (ص) قال بعد أن قال له أبو بكر: بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا فقال:
" على رسلك يا أبا بكر، ثم جمع أصحابه ورحب بهم وعيناه تدمعان ودعا لهم كثيرا (16) ".
قال ابن خلدون: ثم سألوه عن مغسله فقال: " الأدنون من أهلي، وسألوه عن الكفن فقال: في ثيابي هذه أو بياض مصر أو حلة يمانية. وسألوه عن الصلاة عليه فقال (17) ".
ولعل التناقض هنا واضح لا غبش فيه. فإذا كان ابن خلدون ينقل أن الرسول (ص) شدد على بعث أسامة، ولعن من تخلف عنه. وقد أقر المؤرخون والمحدثون بوجود أبي بكر وعمر. في هذا الجيش وبأنهم معنيون باللعن إن هم تقولوا في إمارة أسامة أو تخلفوا عنها. كيف إذن يستقبلهم الرسول (ص) وكيف يدعو لهم ويرحب بهم. وهو من قام معصبا رأسه، لاعنا المتخلفين من الصحابة عن جيش أسامة. ثم إن ما يرومه ابن خلدون هو أن يبين عبر التدليس - إن أبا بكر كان إلى جنب رسول الله (ص) ولم يشر إلى أن أبا بكر كان قد خرج إلى منزله بالسنح - كما تقدم - بل سكت عن ذلك وربط حديثه مع رسول الله (ص) مباشرة بفقرة جديدة
____________
(16) نفس المصدر ص 465 ج 2 (17) نفس المصدر ص 465 ج 2.
وكان أولى بمؤرخ المغرب أن يقول ثم سأله أبو بكر، بل في انتقاله من كلام أبي بكر إلى صيغة الجمع دليل على غياب أبي بكر. فأهل السنة ردوا على أن يفردوا ابن أبي قحافة وعمر بن الخطاب في كل مقام إذا كانت له مشاركة فيه.
ومرد أهل السنة أن يتكلموا بصيغة الجمع في المواقع التي يحضرها أبو بكر وعمر إذا لم يكن هناك حضور مشرف لهما. كان يتكلموا بصيغة الجمع في فراري أحد.
وفي من تقول في إمارة أسامة. والحقيقة كما أثبتناها سابقا إن أبا بكر لم يطل مكثه مع الرسول (ص) بل راح إلى السنح (18) ولم يعد إلا بعد موت النبي (ص) ثم لم يلبث أن لحق بالأنصار إلى السقيفة برفقة عمرو أبو عبيدة وإنهم لم يحضروا دفن النبي (ص).
وفي هذا الفضل، تطرق ابن خلدون إلى حادثة يوم الخميس، ولم يطل المكث عندها. لما تمثله من خطورة على مبناه المذهبي. قال: " وسألوه عمن يدخله القبر فقال: أهلي.
ثم قال: إئتوني بدواة وقرطاس، أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده فتنازعوا وقال بعضهم إنه يهجر، وقال بعضهم أهجر؟ يستفهم، ثم ذهبوا يعيدون عليه، ثم قال:
دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه.
لقد مر بن خلدون مر الكرام على هذه الحادثة ولا هو بمن يجهل قيمتها في فضح سريرة الباطل ولا هو بمن يستصغر قدرها على أولي الألباب. إنه يعرف رواة ذلك الخبر.
وهو من قراء البخاري والطبري إذ قال عنه:
" هذا أمر الجمل ملخص من كتاب أبي جعفر الطبري اعتمدناه للوثوق به لسلامته من الأهواء الموجودة في كتب ابن قتيبة (19) ".
____________
(18) تاريخ الكامل لابن الأثير.