قال ابن عباس: " يوم الخميس وما يوم الخميس، اشتد برسول الله وجعه، فقال: هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، فقال عمر إن النبي قد غلبه الوجع وعندكم كتاب الله، فاختلف أهل البيت فلما اكثروا اللغو والاختلاف عند النبي (ص) قال لهم قوموا عني، فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم (20) ".
وحسبك أن الاضطراب الذي نتج عن فعل التصحيف والتحريف، إن الخبر جاء بصيغ مختلفة كلها تعكس تدخل أقلام التحريف لتجيير الحقيقة لصالح عمر.
فمرة يجعلونها في صيغة الغائب: " وقال بعضهم " وهي الصيغة التي اختارها ابن خلدون. وهناك من جعلها بصيغة الاستفهام " أهجر " يستفهم! وقد أخرج البخاري، قال عمر: " إن النبي قد غلب عليه الوجع وعندكم كتاب الله " بيد أن ابن خلدون سكت عن اسم عمر بن الخطاب، وجاء بما يلبس على الناس.
وبعد ذلك لم يتطرق لما جرى بعد سماعه (ص) اللغط من حوله. وبعد أن تلقت أذنه الشريفة كلمة " الهجران " حتى أدرك أنه لم يعد بعدها جدوى من الوصية.
لأن الأمر بعدها سيكون أخطر. وسيكون السؤال، هل إن كلام الرسول (ص) حق ناطق عن الوصي أم أن كلام الرسول (ص) فيه نوع من الهجر. وإذا ثبت الهجر في قوله ذلك، ترتب عليه ثبوته في كل أقواله. مما ينفي العصمة عنه. أو لم يحاول بعضهم النيل من عصمة النبي (ص) حتى يتمكن من تأويل بعض أقواله بما لا يطابق حقيقتها. وسيكون الأمر بعدها أشد حرجا على الإسلام، عندما يبدأ الطعن في النبوة ومقامها الشريف. فالأولى التضحية بالإمامة بدل النبوة، لأن الإمامة قد تعود ما دامت هي امتداد للنبوة. أما لو أن الخلاف كان في النبوة، للزم الدور. ولكان من باب المستحيلات الدعوة إلى الإمامة مجددا. وهذا ما جعل
____________
(20) رواه البخاري في صحيحه، باب قول المريض قوموا عني. وأورده مسلم في كتاب الوصية.
إن ابن خلدون أنهى القصة بشكل سريع، وقفز على كل ما جرى. ليقول:
" ثم ذهبوا يعيدون عليه، ثم قال: دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه ".
السؤال الذي قد يطرحه كل لبيب على مؤرخ المغرب: لماذا طلب منهم أن يدعوه، ولماذا يكون جوابه بتلك الصيغة التي يبدو فيها اليأس ممن حوله؟ بعد أن كان قد حثهم على إحضار الدواة والقرطاس؟.
ابن خلدون سكت عن ذلك. لكن التواريخ التي سبقت ابن خلدون وأخذ عنها. وكذا أخبار المحدثين الذين حفظ لهم ابن خلدون. تذكر أن لغطا شديدا جرى في حضرة النبي (ص) على أثر طلبه إحضار الدواة والقرطاس. وأنه صلى الله عليه وآله وسلم غضب في وجه عمر لما صدر عن هذا الأخير. فقد ذكر الطبراني في الأوسط: "...... " فقال النسوة من وراء الستر: ألا تسمعون ما يقول رسول الله (ص) قال، قال عمر: فقلت إنكن صويحبات يوسف إذا مرض رسول الله عصرتن أعينكن، وإذا صح ركبتن عنقه! قال: فقال رسول الله (ص): " دعوهن فإنهن خير منكم ".
وفي صحيح مسلم، إنه لما وقع الغوغاء، وضج النبي (ص) قال أهله:
لا ينبغي عند النبي (ص) هذه الغوغاء، فاختلفوا، فقال بعضهم: احضروا ما طلب، ومنع آخرون، فقال النبي (ص) " ابعدوا ".
وإذا حاولنا اكتشاف هؤلاء الذين خالفوا، لن يكونوا إلا عمر بن الخطاب!.
ذلك ما ذكره أحمد بن حنبل في مسنده، مع تلطيف وتهذيب للعبارة بما لا يخدش في عمر بن الخطاب ولا يكشف عن سوء أدبه مع الأنبياء. قال عن جابر " إن النبي (ص) دعا عند موته بصحيفة ليكتب كتابا لا يضلون بعده، فخالف عمر بن الخطاب حتى رفضها ".
وفي نقلهم الحديث بالمعنى، دلالة على قمة ما بلغه كلام عمر من وقاحة تدل على ازدراءه واستهتاره بطلب النبي (ص) وانحطاط أسلوبه مع من جعل الله
وإذا أردنا الإطناب في تلك الرزية، فلنذكر ما جاء في شرح النهج لابن أبي الحديد وغيره، حول ما جرى بين عمر وابن عباس، عندما انتهى عمر إلى القول:
" لقد كان من رسول الله (ص) في أمره ذرو من قول (أي في أمر علي (ع)) لا يثبت حجة ولا يقطع عذرا، ولقد كان يربع في أمره وقتا ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعت من ذلك، إشفاقا وحيطة على الإسلام، لا، ورب هذه البنية، لا تجتمع عليه قريش أبدا، ولو وليها لانتفضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول الله أني علمت ما في نفسه فأمسك، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم " (21).
وهذا يعني أن الرسول (ص) سكت لما علم موقف عمر من علي (ع) وإنه رافض لخلافته ومنازعه إياها. وهذا الكلام كله الذي جرى في حضرة الرسول (ص) لم يورده بن خلدون مخافة على فاروقه من تقريع التاريخ. ومخافة على مذهبه من الافلاس.
ولعمري، إن الفضيحة هذه المرة ظهرت على لسان ابن خلدون. وتجبره على النطق بما يشوه تدبير المحرفين. قال: " وأوصي بثلاث: أن يخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأن يجيزوا الوفد كما كان يجيزهم، وسكت عن الثالثة أو نسيها ا لراوي.
هذه العبارة تستبطن أمرا خطيرا، سكت عنه الرسول (ص) كما ذكر ابن خلدون. ولكن الأمر يختلف عما دبره. فالراوي هو الذي نسيها. وابن خلدون لم يذكر الراوي ولا خلفية النسيان والسكوت. ابن خلدون الذي نعى على المؤرخين السابقين تقليدهم في نقل الأخبار.
هاهو لم يستخدم ملكته في تحليل أحوال العمران. في اكتشاف الأيدي التي عبثت بهذا الخبر. والعقول التي أسرفت في تحريف معناه. والخبر كما ذكره البخاري في كتاب الجهاد والسيرة من صحيحه هو. قال: ونسيت الثالثة.
____________
(21) قلت: ومن إمساك الرسول أن غضب وأخرجهم عنه.
فتح باب أبي بكر، وذكر الخلة!
أقحم بن خلدون أثناء حديثه عن مرضه كثيرا من المرويات المزيفة إمعانا منه في التلبيس على القارئ. قال: قال الرسول (ص): "... " ثم قال: سدوا هذه الأبواب في المسجد إلا باب أبي بكر، فإني لا أعلم امرءا أفضل يدا عندي في الصحبة من أبي بكر. ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. ولكن صحبته إخاء وإيمانا حتى يجمعنا الله عنده.
إن المتعمق في مباحث التاريخ الإسلامي. والمستوعب لأسفار الأخبار والأحاديث والسيرة. يدرك مقدار التحايل في سرد ابن خلدون لهذه الوقائع.
فهي من جهة، قد تكون وقائع متفرقة، فيأتي ليرقعها بشكل يجعلها متكاملة ومنسجمة. ومن جهة ثانية يعمل على انتقاء الأخبار المنسجمة مع ما يقوم به من ترقيع. حتى وإن كان الخبر بلغ عند المحدثين والمؤرخين درجة من الشذوذ يدعو إلى الترك!.
وهذه العبارات التي أتى بها بن خلدون، هي من ذلك القبيل. والحبكة التي جمع فيها بين أكثر من واقعة متفرقة هي من تلك الحبكات المغرضة التي يبتغي بها صرف الناس عن موارد الحقيقة.
إن حديث الخلة التي أورده هنا لا يستقيم له سند فهو من موضوعات البكرية وكيف يكون الرسول (ص) في نهاية حياته يقول لأبي بكر " لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ".
" إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل (22) ".
كيف يكون الرسول يتمنى لو يكون أبو بكر خليلا له، وهو يبرأ من ذلك قبل موته بخمسة أيام.
كان ذلك من وضع البكرية لقاء ما ذكر من أحاديث في فضل علي (ع) وأخوته التي شهدت بها الأخبار عندما قال له الرسول (ص) " أنت، أخي وأنا أخوك " (23) في حادثة الإخاء الشهيرة. ولعل ذلك كان واضحا لابن خلدون. وهو من لم يذكر ما جرى بين رسول الله (ص) وعلي بن أبي طالب (ع) من إيحاء. بعد أن ذكر حادثة الإخاء كلها.
وبعد ذلك كله يحسن أن نذكر ابن خلدون بهذا السؤال: كيف يجري الحديث معه في تلك اللحظة التي لم يكن الرسول (ص) يطيق فيها رؤيتهم، بعد أن تخلفوا عن جيش أسامة ولعنوا بالتخلف عنه. فتأمل مليا يرحمك الله!.
أما بالنسبة لحديث: " سد الأبواب " فهذا مما روي في فضائل علي (ع) فتم تحريفه من قبل جماعة البكرية. وراج في زمن بني أمية. وقد كانت تلك فضيلة لعلي (ع) قبل وفاة الرسول (ص) وتعارف عليها الصحابة منذ ذاك العهد. وقد جاء ابن خلدون بهذا الخبر على شذوذه، انتصارا للبكرية وتهميشا لعلي (ع).
وحديث سد الأبواب مما اشتهر عند المحدثين في شأن علي (ع) وقد روي كالتالي:
إن النبي (ص) أمر بسد الأبواب إلا باب علي (ع) فتكلم الناس، فخطب رسول الله (ص) فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإني أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي، فقال فيه قائلكم، والله ما سددت شيئا ولا فتحته وإنما أمرت بشئ فاتبعته (24).
____________
(22) رواه مسلم عن جناب وكذا صاحب فتح الباري.
(23) أخرجه أحمد في المسند.
(24) رواه أحمد في طرق عدة والنسائي والحاكم والترمذي وصاحب الدر المنثور وابن حجر في الصواعق المحرقة وابن الأثير في أسد الغابة.
1 - قال زيد بن أرقم (25) " كان للنفر من أصحاب رسول الله أبواب شارعة في المسجد فقال رسول الله (ص) سدوا هذه الأبواب إلا باب علي فتكلم الناس في ذلك فقام رسول الله (ص) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإني أمرت بسد هذه الأبواب إلا باب علي فقال فيه قائلكم وإني والله ما سددت شيئا ولا فتحته ولكني أمرت بشئ فاتبعته ".
2 - أخرج البزار، " إن رسول الله (ص) أخذ بيد علي فقال إن موسى سأل ربه أن يطهر مسجده بهارون وإني سألت ربي أن يطهر مسجدي بك، ثم أرسل إلى أبي بكر أن سد بابك فاسترجع ثم قال سمعا وطاعة ثم أرسل إلى عمر ثم أرسل إلى العباس بمثل ذلك ثم قال (ص) ما أنا سددت أبوابكم وفتحت باب علي ولكن الله فتح بابه وسد أبوابكم (26) ".
3 - قال رسول الله (ص): " يا علي لا يحل لأحد أن يجنب في المسجد غيري وغيرك (27) ".
4 - قال عمر بن الخطاب: " لقد أعطي علي ابن أبي طالب ثلاثا لأن تكون لي واحدة منها أحب إلي من حمر النعم، زوجته فاطمة بنت رسول الله وسكناه المسجد مع رسول الله محل له ما يحل فيه والراية يوم خيبر (28) ".
ودعنا نلقي نظرة عما ذكره ابن أبي الحديد في شأن بعض المرويات التي وضعتها البكرية في مقابل ما جاء عن علي (ع) " فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث، نحو: " لو كنت متخذا خليلا " فإنهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء ونحو سد الأبواب فإنه لعلي (ع) فقلبته البكرية إلى أبي بكر (29) ".
____________
(25) مسند أحمد بن حنبل وكنز العمال.
(26) كنز العمال.
(27) الترمذي في صحيحه.
(28) مستدرك الحاكم وصواعق ابن حجر.
(29) شرح النهج ج 11 ص 49.
" أمرت ألا يؤدي عني إلا أنا أو أحد مني "، فلعلها القاصمة التي أيقظت حفيظة البكرية فراحت تبحث عن مقابل لهذه الفضيلة.
إن ابن خلدون يردف حديث الخلة بزيادة، قائلا " ولكن صحبته إخاء وإيمان حتى يجمعنا الله عنده ". فالرسول (ص) هنا يعتبر صحبته إخاء. وهذا لا وجه له فيما كان في حادثة الإيخاء. فلو كان الأمر كما أورد ابن خلدون. إذا لكان الرسول (ص) أولى بأن يتخذ له في حادثة الإيخاء أبا بكر أخا، تعويضا عن تلك الخلة التي تمناها له.
ولكن ابن خلدون في حديثه عن المؤاخات ذكر بأن الرسول (ص) آخى بين أبي بكر وخارجة ابن زيد. ولقد جاء في الأخبار بتواتر، " أن رسول الله (ص) آخى بين الناس، وترك عليا حتى بقي آخرهم، لا يرى له أخا فقال: يا رسول الله (ص) آخيت بين أصحابك وتركتني؟ فقال: إنما تركتك لنفسي، أنت أخي، وأنا أخوك، فإن ذكرك أحد، فقل.
أنا عبد الله وأخو رسوله، لا يدعيها بعدك إلا كذاب " (30).
وكذلك لو كان الأمر كذلك، إذن لكان أولى بأبي بكر أن يفوز بأخوة الرسول (ص) وبالمنزلة كما جاء في صحاح السنة " أما ترضى أن تكون مني بمنزل هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " (31).
هذه كلها قرائن تصرف الخلة عن أبي بكر. وتكشف عن أسباب التحريف والتزوير الذي قامت به البكرية وسار عليه العامة. وابن خلدون لا يجهل الصحاح. وهو الفقيه المالكي المتطرف. كيف أنه يتجاوز كل هذه الأخبار المتواترة ليركز على ما شذ وخالف. وذاك ضغن واضح منه.
____________
(30) مسند أحمد بن حنبل.
(31) صحيح مسلم والبخاري وأبي داود والترمذي والنسائي وأحمد في مسنده.
صلاة أبي بكر
ثم ثقل به الوجع وأغمي عليه، فاجتمع إليه نساؤه وبنوه وأهل بيته والعباس وعلي، ثم حضر وقت الصلاة فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس فقالت عائشة:
أنه رجل أسيف لا يستطيع أن يقوم مقامك فمر عمر، فامتنع عمر وصلى أبو بكر.
ووجد رسول الله (ص) خفة فخرج فلما أحس به أبو بكر تأخر فجذبه رسول الله (ص) وأقامه مكانه، وقرأ من حيث انتهى أبو بكر. ثم كان أبو بكر يصلي بصلاته والناس بصلاة أبي بكر، قيل صلوا كذلك سبع عشرة صلاة، وكان يدخل يده في القدح وهو في النزع فيمسح وجهه في الماء ويقول: اللهم أعني على سكرات الموت. فلما كان يوم الاثنين وهو يوم وفاته خرج إلى صلاة الصبح عاصبا رأسه، وأبو بكر يصلي فنكص عن صلاته ورده رسول الله (ص) بيده، وصلى قاعدا على يمينه، ثم أقبل على الناس بعد الصلاة فوعظهم وذكرهم، ولما فرغ من كلامه قال له أبو بكر: إني أراك قد أصبحت بنعمة الله وفضله كما نحب، وخرج إلى أهله في السنح، ودخل رسول الله (ص) في بيته فاضطجع في حجرة عائشة، ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر عليه وفي يده سواك أخضر، فنظر إليه وعرفت عائشة أنه يريده قالت:
" فمضغته حتى لان وأعطيته إياه فاستن به ثم وضعه، ثم ثقل في حجري فذهبت أنظر في وجهه، فإذا بصره قد شخص وهو يقول: الرفيق الأعلى من الجنة فعلمت أنه خير فاختار (32) ".
____________
(32) تاريخ ابن خلدون ص 466 ج 2.
فهناك أبو بكر الذي أمره بالصلاة على الناس، وهناك عائشة التي اضطجع في حجرها وهناك عبد الرحمن بن أبي بكر الذي دخل بسواك أخضر. هناك تعلق شديد أبداه رسول الله (ص) بهذه الأسرة التيمية. فهو يرتاح إلى حجر بنت أبي بكر ويرتاح لصلاة أبيها، ويريد سواك أخيها عبد الرحمن ليستن به. وإنها لعمري من روائع البكرية وشطحاتها. وتتأكد لنا الحبكة هنا في أن ابن خلدون لم يحكي لنا عما قام به أهل بيت الرسول (ص) أين كان علي (ع) وأين كانت فاطمة (ع) والحسنين (ع) في هذا الحدث رغم إنه لم يمنعهم عنه جرف ولا سنح!!.
وما هو ذلك العهد الذي عهد به إلى علي (ع) في آخر عمره. وماذا جرى بينه وبين بضعته الطاهرة، التي أحبها وفضلها على نساء العالمين. فالحبكة هنا مقصودة وواضحة في ثنايا الخبر.
أما التناقض المفضوح فهو في ما ذكره ابن خلدون في مفتتح كلامه عن مرض الرسول (ص) قال: قال رسول الله (ص) " إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده. وفهمها أبو بكر فبكى فقال: بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا ".
فالكلام هنا واضح لا يحتاج إلى تأويل. إن أبا بكر أدرك بوعيه الثاقب أن الرسول (ص) مقبل على الوفاة. وأنه معرض لها ابتداء من تلك الساعة وفي أي لحظة من تلكم اللحظات. غير أنه في مختتم كلامه، قال:
" قال له أبو بكر: إني أراك قد أصبحت بنعمة الله وفضله كما نحب، وخرج إلى أهله في السنح (33) ".
فكيف يراه بخير وقد عصب رأسه وهو كما ذكر بن خلدون، كان يدخل يده
____________
(33) نفس المصدر ص 466.
إن الرسول (ص) كان يعاني حرارة الموت، وإنه في اللحظات الأخيرة من عمره. ثم يعود فيورد كلام أبي بكر " أراك أصبحت بنعمة الله " فآثار الترقيع واضحة للبيب، وعملية الاختلاق ظاهرة في تدليس بن خلدون رضوخا للرغبة المذهبية والنزوع البكري. وبعد ذلك لا بد أن نشير إلى ملاحظتين في هذا النص المختلق:
الملاحظة الأولى، حول صلاة أبي بكر.
الملاحظة الثانية، حول موت النبي (ص) وهو في حجر عائشة.
الملاحظة الأولى:
هناك ما يجلي اهتزاز النص من أساسه في مسألة صلاة أبي بكر. لقد ثبت في الأخبار أن عليا (ع) لم يبرح رسول الله (ص) طيلة فترة مرضه. وأنه بقي ملازما له حتى انتهى من دفنه. وهو لولا ذلك الانشغال لما فاته أمر السقيفة. أين إذا كان موقعه من تلك الصلاة وهل كان يصلي بصلاة أبي بكر أم بصلاة الرسول (ص) ولماذا لم يذكروا وجوده في هذه الصلاة، التي أتاها الرسول (مر) وهو متكئ على العباس والإمام علي (ع) إن البكرية التي اصطنعت هذه الأحاديث تريد أن تجعل أبا بكر ذا حضور مكثف في كل المواطن. في وفاة الرسول وفي السقيفة وهذا أمر مستحيل. فأبو بكر دعي لتجهيز جيش أسامة وعدم التخلف عنه.
وكان الرسول (ص) حسب ما جاء في الأخبار متشبثا بإنفاذ جيش أسامة حتى اليوم الذي توفي فيه كما سننقل في النص الآتي وأن طيلة السبع عشرة صلاة لم يكن الرسول (ص) يطيق رؤية من أنفذهم في جيش أسامة وكان يزجرهم كلما ظهر له أحدهم. وكانوا طيلة ذلك الوقت معسكرين بالجرف خارج المدينة.
فلما كان يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشر من هجرة رسول الله أمر رسول الله (ص) الناس بالتهيؤ لغزو الروم فلما كان من الغد دعا أسامة بن زيد. فلما كان يوم الأربعاء بدئ به المرض فحم وصدع فلما أصبح يوم
" وخرج إلى معسكره فأمر الناس بالرحيل، فبينما هو يريد الركوب إذا رسول أمه أم أيمن قد جاء يقول: إن رسول الله يموت فاقبل وأقبل معه عمر وأبو عبيدة فانتهوا إلى رسول الله (ص) وهو يموت فتوفي حين زاغت الشمس يوم الاثنين لاثني عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول ".
إذن فالرواية تثبت لنا أن هناك غياب كامل لأبي بكر من أحداث الموت. وأنه لم يقضي معه الوقت الكافي لإجراء حديث معه بذلك الشكل، والصلاة بالمسلمين لغاية سبعة عشر صلاة. فهناك باختصار قرائن تثبت غياب أبي بكر عن كل ما جرى في بيت النبي (ص) وأنه لم يصل بالناس سبعة عشر صلاة حتى وفاة النبي (ص) وهي:
1 - أبو بكر كان من المعسكرين بالجرف منذ يوم التجهيز الخميس إلى الاثنين، أي عند رجوع الناس من الجرف.
2 - في تلك اللحظات المعدودة التي بقيت من يوم الاثنين، كان أبو بكر بالسنح.
إن وجود أبي بكر في حضرة الرسول (ص) يصلي بالمسلمين، يعني أن أبا بكر لم يكن حاضرا بالجرف.
وهذا يدل على أنه كان من الذين تخلفوا عنه. فكيف يسمح له الرسول (ص) بذلك وهو قد لعن كل متخلف عنه. فتأمل.
لقد أورد ابن خلدون خبر صلاة أبي بكر. وانتقى وجها من وجوه الرواية التي تعددت حبكاتها بشكل متناقض، واختار منها ما هو مناقض الرسول (ص) صلى عن يمينه وهو يصلي عن يساره. فيصلي هو بصلاة النبي (ص) والمسلمون يصلون بصلاة أبي بكر. وهذه بأمي وأبي، هي الفوضى الفقهية التي اتصفت بها البكرية المختلقة لهذه الواقعة. إذ كيف يأتم أبو بكر بالرسول (ص) من جهة اليسار.
وكيف أن المسلمين عزفوا عن الائتمام برسول الله (ص) وصاروا على هذه الواسطة
أما فيما يخص متن الخبر فحدث ولا حرج. لقد ورد بطرق مختلفة جدا ومتناقضة، فمرة يذكرون أن عائشة قالت لبلال مر أبا بكر فليصل بالناس، وقالت حفصة مروا عمر فليصل بالناس. مرة يذكرون أن عمر صلى ثم سمع رسول الله صوته، فغضب وقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس. وغيرها من الطرق المتعارف عليها عند محدثي العامة. والتي تتناقض في وجوهها إلى حد الغثيان!.
لكن ابن خلدون - وتلك عادته - انتقى من ذلك الخليط المتضارب، ما يصلح لحبكته من دون أن يثير بحوافر التدليس نقع الشبهات. وكانت عائشة كما ثبت في الأخبار هي راوية هذا الحديث إضافة إلى ما ادعته من وفاة رسول الله ورأسه في حجرها، أو بين سحرها ونحرها، وكان ابن خلدون على علم بكل هذه الاختلاقات. لكن منطق الانتقاء ضروري لكل من هم بحبك الأحداث التاريخية وتزويرها.
الملاحظة الثانية
لا مجال لمناقشة الأسباب التي دعت عائشة إلى ادعاء وفاة الرسول (ص) في حجرها فإن عداوتها للإمام علي (ع) وهي من ألبت عليه الوفا من المنافقين وقد حصى عليها التاريخ تلك الضغائن الكثيرة لبني هاشم، لكن قضيتنا هنا ترتبط بالمؤرخ المحرف للأحداث.
فابن خلدون جاء بهذه الرواية كعادته في الانتصار لتيار البكرية.
ودعنا نرى - هنا هل إن وفاة الرسول (ص) كانت كذلك في واقع الأمر؟.
قالت أم سلمة: " والذي أحلف به إن كان علي لأقرب الناس عهدا برسول الله (ص) إلى أن قالت: فأكب عليه رسول الله (ص) وجعل يساره ويناجيه ثم قبض رسول الله (ص) من يومه ذلك فكان علي أقرب الناس عهدا به (34) ".
____________
(34) مستدرك الحاكم ومسند أحمد عن أم سلمة.
أسندت رسول الله (ص) إلى صدري فوضع رأسه على منكبي فقال: الصلاة، الصلاة، قال كعب كذلك آخر عهد الأنبياء وبه أمروا وعليه يبعثون.
قال كعب فمن غسله يا أمير المؤمنين، فقال عمر سل عليا، " فسأله فقال:
كنت أنا أغسله (35) ".
وقيل لابن عباس: أرأيت رسول الله (ص) توفي ورأسه في حجر أحد؟
قال: نعم توفي وإنه لمستند إلى صدر علي، فقيل له: إن عروة يحدث عن عائشة أنها قالت: توفي بين سحري ونحري، فأنكر بن عباس ذلك، قائلا للسائل:
أتعقل؟ والله لتوفي رسول الله (ص) وإنه لمستند إلى صدر علي وهو الذي غسله (36).
وفي رواية أخرى عن أم سلمة قالت: والذي أحلف به إن كان علي لأقرب الناس عهدا برسول الله (ص) عدناه غداة وهو يقول: جاء علي؟ جاء علي؟
مرارا فقالت فاطمة كأنك بعثته في حاجة قالت: فجاء بعد، فظننت أن له حاجة، فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب، قالت أم سلمة: " وكنت من أدناهم إلى الباب، فأكب عليه رسول الله (ص) وجعل يساره ويناجيه، ثم قبض (ص) من يومه ذلك، فكان أقرب الناس به عهدا (37) ".
وحسبك من ذلك ما دل عليه الحال في حياة الرسول (ص) إذ كان له مجلس خاص مع علي (ع).
وقد ذكروا أنه كان كثيرا ما يخلو بعلي يناجيه. وقد دخلت عائشة عليهما وهما يتناجيان فقالت: " يا علي ليس لي إلا يوم من تسعة أيام أفما تدعني يا ابن أبي طالب ويومي. فأقبل رسول الله عليها وهو محمر الوجه غضبا (38) ".
____________
(35) ذكره ابن سعد في الطبقات عن جابر.
(36) ذكره ابن سعد في الطبقات وكذا صاحب كنز العمال.
(37) أخرجه الحاكم في المستدرك وابن الجوزي في التذكرة.
(38) شرح النهج للحميدي.
كيف بعد كل هذا الحرص على مناجات علي (ع) وهو لا يزال بين أظهرهم.
كيف يزهد في وجوده، وهو مقبل على الغياب. هل يعقل ذلك عند كل ذي لب، رشيد!.
وما كان ذلك جهلا من ابن خلدون في حفظ الأحداث. ولا غباء منهم في انتقاء الأخبار، إنها حبكة مدبرة ونزعة مستترة. وذلك عندما ذكر أبي بكر في دفن الرسول (ص) فقال:
واختلفوا أيدفن في مسجده أو بيته، فقال أبو بكر: سمعته (ص) يقول:
" ما قبض نبي إلا ويدفن حيث قبض. فرفع فراشه الذي قبض عليه وحفر له تحته (39) ".
وهذه واحدة من كبريات الهناة في مشروع التدليس الخلدوني وقد سبق أن ذكرنا عدم حضور أبو بكر وعمر في تغسيل الرسول (ص) ودفنه وقد جاء في الأخبار ما يسند ذلك.
إذ بينما علي (ع) دائب في جهاز رسول الله، فمضيا - عمر وأبو بكر - مسرعين نحوهم فلقيا أبا عبيدة بن الجراح فتماشوا إليهم ثلاثتهم (40).
وذكر أبو ذئيب الهذيلي: قدمت المدينة ولها ضجيج كضجيج الحاج إذا أهلوا بالإحرام فقلت:
مه؟ قالوا: قبض رسول الله (ص) فجئت إلى المسجد فوجدته خاليا، فأتيت بيت رسول الله (ص) فأصبت بابه مرتجا، وقيل: هو مسجى. وقد خلا به أهله، فقلت: أين الناس؟ فقيل في سقيفة بني ساعدة صاروا إلى الأنصار (41).
فكيف تهيأ للوضاعين ومصدقيهم إن أبا بكر الذي سار إلى السقيفة مع فاروقه
____________
(39) التاريخ / ابن خلدون ص 467 ج 2 (40) تاريخ الطبري.
(41) ابن حجر في الإصابة وابن الأثير في أسد الغابة.
لكن الحقيقة هي أن أبا بكر وعمر انشغلا بمجالدة الناس وقهرهم على البيعة، ولم يحضرا الدفن.
وقد سبق أن ذكرنا ما جاء في أخبارهما من أن " أبا بكر وعمر لم يشهدا دفن النبي " (42).
كما جاء في الخبر أنه " لم يله إلا أقاربه ولقد سمعت بنو غنم صريف المساحي حين حضر وإنهم لفي بيوتهم (43) ".
أما الذي تولى دفنه فهو علي (ع) وأهل بيته لما جاء في طبقات بن سعد:
" ولي وضع رسول الله في قبره هؤلاء الرهط الذين غسلوه: العباس وعلي والفضل وصالح مولاه وخلى أصحاب رسول الله بين رسول الله وأهله فولوا إجنانه ".
هذه كلها بداية لما سيحدث في سقيفة بني ساعدة. وابن خلدون من البداية يحضر طبخاته، ويذري عليها من بهارات النصب ما يعمق الجهل ويعمي الأبصار. ويدخل التاريخ في حالة من الخاووس (caos).
____________
(42) كنز العمال.
(43) طبقات ابن سعد.
خبر السقيفة
هناك ثلاثة أمور نستفيدها مما سبق ذكره في تحليل أمر السقيفة.
أولا: أنها مؤتمر فاقد للشرعية من حيث ترتبه على موقف مخالف، وهو التخلف عن جيش أسامة.
ثانيا: أنها لم تكن بحضور جميع الصحابة فهي إذن ليست شورى.
ثالثا: منيت بمعارضة من قبل أعداد كبيرة من رموز الصحابة.
في ضوء هذه النقاط الثلاث التي استفدناها من خلال سردنا لأحداث السقيفة سوف نناقش ابن خلدون وهي الآن بمثابة فرضيات لمزاولة التحليل.
جاء في نص ابن خلدون حول السقيفة " فأتوهم في مكانهم ذلك - يقصد أبو بكر وعمر وأبو عبيدة - فأعجلوهم عن شأنهم (يقصدون الأنصار) وغلبوهم عليه جماعا وموعظة " (44).
إن أول إطلالة على هذا النص الذي افتتح به صاحبنا حديث السقيفة، يؤكد على الموقف النظري لابن خلدون من مسألة الإمامة. وكذلك يؤكد على الواقع التاريخي الذي كان سببا في نشوء مثل هذه النظريات. إنها نظرية الإمامة القائمة على أساس الغلبة.
____________
(44) تاريخ ابن خلدون ص 468 ج 2.
ذكر هذا الأخير احتجاج كل من أبي بكر وعمر بن الخطاب على هذا النحو:
قال أبو بكر: نحن أولياء النبي وعشيرته وأحق الناس بأمره، ولا ينازع في ذلك وأنتم لكم حق السابقة والنصرة، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء. وقال الحباب بن المنذر بن الجموح: منا أمير ومنكم أمير، وإن أبوا فاجلوهم يا معشر الأنصار عن البلاد، بأسيافكم وإن الناس لهذا الدين، وإن شئتم أعدناها جذعة أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب.
وقال عمر: " إن رسول الله (ص) أوصانا بكم كما تعلمون، ولو كنتم الأمراء لأوصاكم بنا ".
قبل السير في كشف آثار التلبيس في هذا النص، يجدر بنا أن نعري أيضا عن (45) ذلك الجو الذي أودعوه خبر السقيفة. ابن خلدون يجعل خبر السقيفة بحيث يفيد القارئ بمدى تلقائية اجتماع أبي بكر وعمر أبي عبيدة. والواقع يثبت عكس ذلك. إن هناك خطة مدبرة سلفا يتزعمها أولئك الثلاثة. ولست ممن يستسيغ أن يكون هذا الحلف قادرا بتلقائيته الانتصار على الأنصار إن لم يكن هناك تدبير مسبق.
ذكر ابن أبي الحديد: " إن عمر لما علم أن رسول الله قد مات خاف من وقع فتنة في الإمامة وتغلب أقوام عليها، إما من الأنصار أو من غيرهم، فاقتضت المصلحة عنده تسكين الناس فأظهر ما أظهر وأوقع تلك الشبهة في قلوبهم حراسة للدين والدولة إلى أن جاء أبو بكر (46) ".
وهذا الكلام يفيد في أن قضية الخلافة كانت متواجدة في ذهن عمر بن الخطاب وينتظر مجئ أبي بكر ليبدأ تحركهما في هذا المجال والأمر آنذاك كان يقتضي تسكين
____________
(45) نفس المصدر ص 468.
(46) شرح النهج، ابن أبي الحديد.
وذكر الشهرستاني قول عمر بن الخطاب (47): كنت أزور في نفسي كلاما في الطريق: فلما وصلنا إلى السقيفة أردت أن أتكلم فقال أبو بكر: مه يا عمر، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ما كنت أقدره في نفسي؟ كأنه يخبر عن غيب، فقبل أن يشتغل الأنصار بالكلام مددت يدي إليه فبايعته وسكنت الفتنة، إلا أن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ".
وفي نص البخاري، قال عمر: " فأردت أن أتكلم فقال أبو بكر على رسلك فتكلم هو، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال مثلها أو أفضل (48) ".
إذا هناك تدبير مسبق حاول عمر أن يعزوه إلى الاتفاق لإبعاد تهمة التآمر عليه.
ذلك التآمر الذي كشف عنه الإمام علي (ع) عندما قال له: إحلب حلبا لك شطره.
وقال: لشد ما تشطرا ضرعيها (49) فهناك إذن تزوير، وهناك موافقة من أبي بكر. وهذا أمر لا تنطلي خلفيته على اللبيب!.
ثم لنعد إلى ما اعتمده ابن خلدون من رواية. لنرى هل ما قاله عمر في السقيفة هو كما ذهب إليه؟!.
أورد ابن خلدون نصا لا يوافق نصوص المؤرخين والمحدثين الذين اعتمدهم ووثق رواياتهم، فعمر بن الخطاب لم تكن له كلمة في السقيفة على نحو هادئ يثير العقل ويحرك الحوار.
بل كان - كدأبه - فظا غليظ القلب، وحسبك ما جرى بينه والحباب بن المنذر، وسعد بن عبادة من مشادات كلامية، وصل بعضها إلى العراك والهم بامتشاق السيوف.
____________
(47) الملل والنحل / الشهرستاني.
(48) البخاري، كتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا.
(49) نهج البلاغة.
ثم لم يعد بعدها إلا ليجالد الآراء ويشوشر على الحضور. ففي رواية الطبري:
تكلم أبو بكر - بعد أن منع عمر عن الكلام - وحمد الله وأثنى عليه (50) ".
ولم يتحدث بعدها عمر حتى قال فقال عمر: " هيهات! لا يجتمع اثنان في قرن - يقصد الحباب بن المنذر - والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم، وولي أمورهم منهم، ولنا بذلك على من أبى الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته. إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة " (51).
ثم لما تكلم الحباب بن المنذر وأغلظ في القول أجابه عمر:
قال عمر: " إذن يقتلك الله (52) ".
وفي نص ابن قتيبة (53) " قال عمر: خشيت أن يقصر أبو بكر عن بعض الكلام، فلما تيسر عمر للكلام، تجهز أبو بكر وقال له: على رسلك: فاستكفى الكلام، فتشهد أبو بكر ".
لقد خالف ابن خلدون ما اشتهر عند المؤرخين في خبر السقيفة. وانتقى من الشاذ ما يجعل به لعمر موقفا احتجاجيا، عندما رد على المنذر. فهو لم يرد عليه إلا بالقتل حين قال له: إذن يقتلك الله؟.
فمن أين ورد على ابن خلدون، إنه رد عليه بذلك المنطق السابق.
والحقيقة أن ذلك لم يحدث قط في السقيفة. وما كان ذلك إلا من كلام علي
____________
(50) تاريخ الطبري.
(51) نفس المصدر.
(52) نفس المصدر.
(53) الإمامة والسياسة - ابن قتيبة.
ما قالت الأنصار.
قالوا: قالوا منا أمير ومنكم أمير.
قال: فهلا احتججتم عليهم بأن النبي (ص) وصى بهم.
ثم قال: فلو كانت فيهم الإمارة ما أوصى بهم الرسول (54).
فثم هذا التحريف للكلمة وهي سرقة تاريخية مكشوفة. ليلعب دورين مغرضين. الأول: إعطاء عمر موقفا مشرفا في السقيفة. واقتطاع نص الإمام علي (ع) ونسبه إلى عمر، لاختلاق سمعة مزيفة لمه. والثاني: تغييب دور الإمام علي (ع) ومنطقه في دحض مزاعم المغتصبين.
ويذكر عمر أن هناك ملاحات وقعت بين عمر والمنذر بن الحباب. ولم يشر إلى تفاصيل تلك الملاحات، التي ذكرنا سابقا. وذلك محاولة منه في إخفاءه منطق العنف في موقف عمر داخل السقيفة.
____________
(54) نهج البلاغة.
سعد الخزرجي وأساطير الجن!
ابن خلدون أحد المؤرخين الذين رفع البلاط من شأنهم وجعلهم أنوارا تشعشع في سماء الفكر التاريخي والعقلانية الإسلامية. لم يكن إلا ما لاحظه دارسوه ممن أدرك مواطن تخلفه الفكري ورجعيته بأن عقلانيته لم تبرح بعضا من تلك الأفكار حول العمران وأحوال المعاش.
في حديثه عن سعد بن عبادة ارتكب غلطتين لو كانت واحدة منهما لكفت.
الأولى: عندها اعتبر سعدا مخالفا ومعارضا وحيدا للسقيفة " ولم يخالف إلا سعد إن صح خلافه، فلم يلتفت إليه لشذوذه " (55) الثاني: هو ما ختم به حديث السقيفة عندما ذكر مقتله عن طريق الجن!؟.
وقد سبق أن وضعنا عدد الصحابة المعارضين لما ادعاه من إجماع السقيفة ومنهم رموزها وطلائعها الكبار الذين شهد لهم الرسول (ص) بالفضل. وحسبك من ذلك أقرباء الرسول (ص) وفي طليعتهم الإمام علي (ع) وما جرى من قمع وإجبار لانتزاع البيعة من المعارضين.
الأمر الذي انتهى بتهديد فاطمة الزهراء ومحاولة حرق الدار. وغيرها من الأحداث الخطيرة التي سكت عنها ابن خلدون.
أما ما ذهب إليه في مقتل سعد بن عبادة. فجدير بمن سلك طريق العقل في
____________
(55) تاريخ ابن خلدون ص 469 ج 2.
وفي أخبارهم إنه لحق بالشام، فلم يزل هنالك حتى مات، وأن الجن قتلته، وينشدون البيتين الشهيرين وهما:
ويكفي أن نطلع على موقف سعد بن عبادة الذي واجه عمر في السقيفة إلى أن تماسكا، حتى دعاه أبو بكر إلى الرفق. وتمسك سعد بموقفه، إذ لم يبايع حتى مات. وعمر بن الخطاب الذي هم بحرق دار فاطمة، وقتل علي (ع) إن لم يبايع. كيف يزهد في تدبير قتل سعد بن عبادة. وهل الجن هي أيضا ممن يدعوها الاتفاق إلى تخليص الشيخين من أحد أقطاب المعارضة. وكان المؤرخون دائما يعملون على حبك الأخبار المزيفة، حتى ولو اقتضى الحال إكمالها بالأساطير، التي استساغها ولا يزال الذهن العربي.
لقد دعاهم لقتل سعد بن عبادة في جنح الظلام أمرين:
أولا: إن سعدا أبى المبايعة. وقد قال عمر لأبي بكر: لا تدعه حتى يبايع.
فالمعنى من ذلك أنه إذا لم يبايع يجب أن يقتل.
ثانيا: لأن قتله مباشرة قد يحدث نوعا من القلاقل لا طاقة للشيخين بها ذلك أن بشير بن سعد قال لعمر حين قال ما قال:
" إنه قد لج وأبى، وليس بمبايعكم حتى يقتل. وليس بمقتول حتى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته، فاتركوه فليس تركه بضاركم إنما هو رجل واحد (56) ".
وكان قد بقي على ذلك الموقف حتى ولي عمر بن الخطاب.
دعنا هنا مرة أخرى نستقصي الخبر.. لنعرف من الذي نفذ جريمة القتل في رجل حمل راية الأنصار في فتح مكة.
____________
(56) تاريخ الطبري وتاريخ ابن الأثير.
لعل هذه الحادثة هي التي دعت البعض إلى التحايل عليها وردها إلى إحدى الأحاديث الناهية عن البول في الماء الراكد. فقال إن سعدا بال في الماء الراكد فقتلته الجن (58) ".
ولست أدري، كيف انتقل الخبر عندهم. وهل عرفوا إنه بال في الماء أم لا.
وهل شهدوا الجني الذي قتله، وما قال في قتله. إذن لا بد من وجود راوي قد نقل لهم تفاصيل الواقعة.
الناقل بلا شك - كان - هو قاتل سعد!.
وذكر المسعودي حادثة قتل سعد بن عبادة كالتالي:
" وخرج سعد بن عبادة ولم يبايع فصار إلى الشام، فقتل هناك في سنة خمس عشر، وليس كتابنا هذا موضعا لخبر مقتله (59) ".
إذن فقتل سعد بن عبادة كان في طريقه إلى الشام. ولكن السؤال الذي يطرح هنا بإلحاح:
من سيره إلى الشام. وهل هناك من كان على علم بمسيره إلى الشام؟.
ذكر ابن سعد في طبقاته: لما ولي عمر الخلافة لقيه في بعض طرق المدينة.
فقال له: إيه يا سعد؟.
فقال له: إيه يا عمر؟.
فقال له عمر: أنت صاحب المقالة؟.
قال سعد: " نعم أنا ذلك، وقد أفضى إليك هذا الأمر كان والله صاحبك
____________
(57) ابن سعد في الطبقات.
(58) إحياء علوم الدين، الغزالي.
(59) مروج الذهب / المسعودي.
وقد أصبحت والله كارها لجوارك.
فقال عمر: من كره جوار جار تحول عنه.
فقال سعد: ما أنا غير مستسر بذلك وأنا متحول إلى جوار من هو خير منك، فلم يلبث إلا قليلا حتى خرج إلى الشام في أول خلافة عمر.. الخ (61) ".
وجاء في تبصرة العوام، إن خالدا كان في الشام فأعان على قتله.
الآن وقد ظهرت المؤامرة على حقيقتها. هل نتورع عن اتهام عمر. وهو من علم بمسير سعد. وهو الذي أوكل قتله إلى أحد أنصاره بالشام. ترى هل بقي أثر لمؤامرة الجن على سعد بن عبادة المسكين. ثم ماذا؟.
هناك ما يشفي الغليل ويريح البال في خبر مقتل سعد. تظهر واضحة لكل لبيب يتفهم ويعي المنطوق في ضوء مفهومه. والظاهر في وعي الباطن. والحضور في لوحة الغياب!.
ذكر البلاذري، إن سعدا لم يبايع أبا بكر وخرج إلى الشام فبعث عمر رجلا، وقال:
ادعه إلى البيعة واحتل له، فإن أبى فاستعن الله عليه، فقدم الرجل الشام فوجد سعدا في حائط بحوارين فدعاه إلى البيعة.
فقال؟ لا أبايع قريشا أبدا.
قال: فإني أقاتلك.
قال: وإن قاتلتني.
قال: أفخارج أنت مما دخلت فيه الأمة؟.
____________
(60) أقول: هذه الكلمة لا تفيد اعترافه بأبي بكر، إذ لو كان الأمر كما قال، لبايعه في حياته.
(61) طبقات ابن سعد، السيرة الحلبية، كنز العمال.
وهذه واحدة من النماذج التي تظهر نزعة التلبيس في تاريخ ابن خلدون!.
(62) أنساب الأشراف للبلاذري.
خلافة عمر
جاء في تاريخ ابن خلدون: " ولما احتضر أبو بكر عهد إلى عمر، رضي الله عنهما بالأمر من بعده، بعد أن شاور عليا وطلحة وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم، وأخبرهم بما يريد فيه، فأثنوا عليه رأيه فأشرف على الناس وقال: إني قد استخلفت عمر لو آل لكم نصحا فاسمعوا له وأطيعوا ودعى عثمان فأمره فكتب " (63).
افتتح ابن خلدون عهد عمر بن الخطاب بهذه الفقرة. وجعلها بحيث تبدو مقنعة شافية، بعد أن أودعها فتوقا وثلما أفسدت المقصود الواقعي لهذا النص التاريخي، ذلك عندما لم يشر إلى ما شهدته تلك اللحظة الحرجة من استخلاف عمر بن الخطاب، من مشادات كلامية، تبين إلى أي حد وصلت قناعة الصحابة برفض هذا الرجل، وتبين أيضا، الشق الثاني للعبة السقيفة التي أشار إليها من قبل علي (ع) حين قال: إحلب حلبا لك شطره.
إن السقيفة يمكننا قراءتها بشكل واضح على هذه الصفحة الاستخلافية المهمة، لأنها تعبير واضح عن منهجها، وامتداد حقيقي لها.
ولعمري، هذا ما دفع ابن خلدون إلى التجافي عن عرض وقائع استخلاف أبي بكر لعمر، تجنبا للوقوع فيما يعزز طرح الناقدين، وإمعانا منه في إكمال سبك
____________
(63) تاريخ ابن خلدون، ص 494 ج 2.
في الفقرة التي أوردناها عن ابن خلدون، نفهم الأمر على أساس مضلل نظرا لسرعة العرض والقفز على الوقائع الساخنة. وجاء فيها:
1 - عهد أبو بكر إلى عمر بالأمر من بعده بعد أن شاور عليا وطلحة وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم.
2 - فأثنوا على رأيه - بلا استثناء -.
نبدأ بطرح هذا الإشكال على نص ابن خلدون. ونمضي بعد ذلك في مناظرته.
إن النص في شقه الأول يدعي أن أبا بكر شاور قبل العهد إلى عمر كل من علي وطلحة وعثمان و.....
فهل تم ذلك فعلا. وهل شاور عليا ولو افترضنا مشاورته إياه فماذا كان موقفه؟؟.
كما ادعى إن الذين أشاروا على أبي بكر كانوا قد أثنوا على رأيه فهل هذا صحيح؟.
في البدء لا بد من الإشارة إلى ملاحظة أساسية هي إنه لم يشتهر على علي (ع) إنه أشار على أبي بكر في أمر عمر. وكيف يشير عليه بذلك وهو نفسه يشعر باغتصابه الأمر من علي (ع).
وكيف يطلب منه المشورة وهو من كان في مقام المنازع له. وهو لم يبايع إلا بالإكراه.
وعلي بقي طيلة الفترة التي وليها تيار الاغتصاب من لدن أبي بكر إلى عثمان، معرضا عنهم، مبديا رأيه في فلتاتهم، ولعل ما جرى بين عمر وابن عباس، دليل على ذلك الإعراض. إذ سأل عمر بن عباس قائلا: يا عبد الله، عليك دماء البدن إن كتمتنيها، هل بقي في نفسه شئ من أمر الخلافة؟ قلت: نعم، قال:
وحسبك ما جاء في كلامه - عليه السلام - كما نقل في نهج البلاغة:
" حتى مضى الأول لسبيله - أي أبو بكر - فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده.
فيا عجبا! بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته! لشد ما تشطرا ضرعيها! فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها، ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن أثنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس، وتلون واعتراض فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة (65).
إن كلام الإمام علي (ع) فيه بيان شافي لموقفه من تيار الاغتصاب. وذلك من بدايته إلى نهايته. وكان موقفه هو الصبر على طول المدة وشدة المحنة. وحاشا جنابه أن يكون مشيرا صغيرا يقرن بمن هو دونه في بعد الصيت وعلو الهمة والشأن.
وحاشاه أن يكون محض مشير في حضرة من قد غلبوه على الأمر واستلبوه منه بالغلبة.
وحسبك من معرفة موقفه من بيعة أبي بكر. أن تدرك ما قاله في حق عمر.
" فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها، ويخشن مسها ويكثر العثار فيها والاعتذار منها ".
فهو وصف يعزز موقف الصحابة من عمر أثناء العهد له بالأمر. هذا ناهيك عن أن أمر الخلافة يخرج بتخصص في مقام استجواب علي (ع) في أمر العهد والبيعة. إذ هي في عقيدته نص وعهد إلهي لا تدخل في وسع الرأي أو الغلبة.
ولو راجعنا التاريخ، وخصوصا تلك المصادر المعتمدة عند ابن خلدون لوجدنا
____________
(64) شرح النهج / ابن أبي الحديد.