الصفحة 156
بأن المشيرين عليه في الأمر كانوا هم عثمان وعبد الرحمن بن عوف وهؤلاء هم الذين دعاهم. وأما طلحة كان ممن دخل بعدهم بلا مشورة. ولا مكان لعلي (ع) بعدها. إلا تماديا من الوضاعين والمحرفين. لاظهر شديد يحمل دليليته ولا أساس متين يقيم ادعاءه.

ولنمض مع ابن خلدون لنرى كيف كانت طريقة الشورى. وهل ثبت أن أثنوا على رأيه؟ أم أن الأمر لم يكن سوى محض تعقل وإسراف من ابن خلدون نفسه؟! (66) ذكر ابن قتيبة " إن عمر قد خرج بالكتاب وأعلمهم: فقالوا: سمعا وطاعة.

فقال له رجل: ما في الكتاب يا أبا جعفر؟ قال: لا أدري، ولكني أول من سمع وأطاع. قال: لكني والله أدري ما فيه: أمرته عام أول وأمرك العام (67) ".

ولندع رواية ابن قتيبة وهو ممن رفض بن خلدون الأخذ عنه في هذا المجال، لأنه لن يجد عنده ما هو مطاوع لتعمله ولا قابل لملاطفاته، وإن كان ابن قتيبة ممن مدحه أهل الرجال وأصحاب التراجم كصاحب الفهرست، وممن مارس القضاء بدينور من دون تزلف وشهد له بالعدالة. ولكن دعنا نعود إلى من وثقهم ابن خلدون وألزم نفسه بالأخذ عنهم، كابن جرير الطبري. لنقف عند " حقيقة ما جرى من هذه المشورة المفتعلة.

جاء في الأثر إن أبا بكر لما نزل به الموت دعا عبد الرحمن بن عوف، فقال: أخبرني عن عمر قال: إنه أفضل من رأيك إلا أن فيه غلظة، فقال أبو بكر: ذاك لأنه يراني رقيقا، ولو قد أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه، وقد رمقته إذا أنا غضبت على رجل أراني الرضا عنه، وإذا لنت له أراني الشدة عليه. ثم دعى عثمان بن عفان، فقال: أخبرني عن عمر، فقال: سريرته خير من علانيته، وليس فينا مثله. فقال لهما: لا تذكروا مما قلت لكما شيئا، ولو تركت عمر لما عدوتك يا عثمان، والخيرة لك ألا تلي من أمورهم شيئا، ولوددت أني كنت من أموركم خلوا، وكنت فيمن مضى من سلفكم. ودخل طلحة بن

____________

(66) تاريخ الخلفاء / ابن قتيبة.

(67) نفس المصدر ص 2.

الصفحة 157
عبيد الله على أبي بكر، فقال: إنه بلغني أنك يا خليفة رسول الله استخلفت عمرا، وقد رأيت ما يلقى الناص منه وأنت معه، فكيف به إذا خلا بهم، وأنت غدا لاق ربك، فيسألك عن رعيتك!.

فقال أبو بكر: اجلسوني ثم قال: أبالله تخوفني! إذا لقيت ربي فسألني قلت:

استخلفت عليهم خير أهلك. فقال طلحة: أعمر خير الناس، فاشتد غضبه، وقال:

" إي والله، هو خيرهم وأنت شرهم، أما والله لو وليتك لجعلت انفك في قفاك، ولرفعت نفسك فوق قدرها، حتى يكون الله هو الذي يضعها! أتينني وقد دلكت عينك، تريد أن نفتتني عن ديني، وتزيلني عن رأيي! قم لا أقام الله رجليك! أما والله لئن عشت فوق ناقة، وبلغني إنك غمصته فيها، أو ذكرته بسوء، لألحقنك بمحمضات قنة، فقام طلحة فخرج (68) ".

ما يفهم من هذا النص. وما يظهر من ثناياه، أن أبا بكر كان متشبثا برأيه في عمر بن الخطاب، ولنرجع مرة أخرى إلى نص ابن خلدون: " بعد أن شاور عليا وطلحة وعثمان وعبد الرحمن وغيرهم. فأثنوا عليه ". فقد تبين لنا أن الأمر كان على خلاف ذلك الادعاء فعلي (ع) لم يشر بشئ. وكان موقفه الرفض للأول والثاني كما سبق من كلامه في النهج. وإن طلحة أجاب بالرفض حتى أثار حفيظة أبي بكر، وحصل بينهما ما شاء من سب وقدح. وأما عبد الرحمن فقد كان ثناؤه عليه مشوبا بموجدة على عمر. إذ قال: " إنه أفضل من رأيك إلا أن فيه غلظة ". وكان عثمان هو الذي أثنى عليه نزولا عند رغبة أبي بكر، وهوى على هواه. أما عموم الصحابة فقد رفضوا كما سبق ذكره، وهابوا خلافته وقالوا فيه ما قاله طلحة.

فكيف بعد كل هذا يدعي ابن خلدون، إن الثناء كان عفويا من الجميع.

وجعل في الأمر من التلبيس ما يعكر صفو الحقيقة. ويكسر شوكة الصواب.

ولا بد من الوقوف عند خلافة عمر، وكتابة العهد، لينجلي لنا بعد تبيان

____________

(68) شرح النهج لابن أبي الحديد وتاريخ الطبري.

الصفحة 158
مجمل اللعبة، أن نصوص ابن خلدون حولها مدخولة إلى المدى الذي يبدو منها التعسف الذميم والاعنات الممل!.

لقد سبق أن رأينا ما كان عليه الحال عند وفاة الرسول (ص) والتلبيس الذي قاموا به ليجعلوا من وفاة الرسول (ص) وفاة صامتة. وفاة رجل لا مسؤول، ولاهم له فيما يخص مستقبل أمته من بعد موته. لقد توفي وهو ساكت عن العهد.

وحين أراد ذلك ألقمه عمر بتهمة الهجر. غير أن المقام عند وفاة أبي بكر اختلف تماما. فأبو بكر أبصر بالأمور، وأنه لا بد من العهد. وذلك درأ للخلاف من بعده. بعد أن ادعوا أن كتاب الله بين أيديهم ويكفيهم عن عهد الرسول (ص) من بعده بالأمر. لقد تصدى عمر أثناء مرض الرسول (ص) لقمع كل من رام إحضار الكتاب لرسول الله (ص) كما تقدم. وسنده في ذلك أن كتاب الله بين أيدينا ولا حاجة للعهد بعد ذلك، وأن الرسول يهجر من جهة أخرى.

هذا الموقف لم يعد نفسه يوم وفاة أبي بكر، لم يقل إن كتاب الله معنا ولا حاجة لنا بعهد أبي بكر، فعهد رسول الله (ص) أولى من ذلك وقد أعرضنا عنه، كما لم يقل في أبي بكر ما قاله في رسول الله (ص) لقد كتب أبو بكر العهد إلى عمر وهو في لحظة من الاغماء كما ذكر المؤرخون.

فقد ذكر الطبري، " إنه دعى أبو بكر عثمان فأمره أن يكتب عهدا، فقال:

أكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد عبد الله بن عثمان إلى المسلمين. أما بعد، ثم أغمي عليه، وكتب عثمان: قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، وأفاق أبو بكر، فقال: اقرأ فقرأه، فكبر أبو بكر، وسر، وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي! قال: نعم، قال:

جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله (69) ".

هذا هو الجو الذي كتب فيه العهد، جو الاغماء والهجر الحقيقي. ولكن عمر بن الخطاب تأدب هذه المرة مع رفيقه. واستخدم أحسن الألفاظ وأسوغها وحث الناس على طاعة أبي بكر وتقبل ما عهد به إليه. وقد ثبت عنه يومها ما جاء في

____________

(69) تاريخ الطبري ج 3 ص 429.


الصفحة 159
الأخبار (70): " إن عمرا كان جالسا والناس معه بيده جريدة ومعه شديد مولى لأبي بكر معه الصحيفة التي فيها استخلاف عمر، وعمر يقول:

" أيها الناس اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله أنه يقول: إني لم آلكم نصحا ".

وقد ثبت أيضا أن عمر اعتبر خلافة أبي بكر فلتة. وذلك لأنها لم تكن بمشورة من المسلمين، وهو هنا يتقبل عهد أبي بكر له بالأمر من دون أن يراجعه في ذلك أو يعتبره فلتة من جنس تلك الفلتة التي ذكرها.

كيف تقبل العهد من دون مشورة!.

إنني لست مرتاحا لهذه الحبكة المفضوحة، ولعمر الله، إن المؤامرة لبينة حتى لذي غرارة صغير، فهل ذلك مما ينطلي على أولي الألباب، وهل ابن خلدون يجهل ذلك أم أن الأمر محض تجاهل، ومن قبيل التعامي والتغاضي المقيت؟!.

إن عمر بن الخطاب لم يكن ممن حضر في بداية الأمر، ولم يشهد ما راج بين الصحابة وأبي بكر في ذلك الشأن، فهو مطمئن الجناب من هذا الأمر، فالمسألة اليوم ليست كما كانت عليه في سقيفة بني ساعدة. ولم يجن عمر ويتوعد بالقتل من قال بوفاة الرسول (ص) ولم يتهم بالهجر أبا بكر حين عهد له بالأمر، ولم يهرع لمجالدة الصحابة على رأيه في الأمر.

إن ابن خلدون لم يستعرض كامل الأحداث، ولم يشر إلى ملابسات العهد كما كتبه عثمان. ولا إلى قضية الاغماء، وكل ذلك تجنبا منه لعدم التعرض للاستفهام.

____________

(70) نفس المصدر.

الصفحة 160

عثمان والفتنة

هناك ثلاث محطات أساسية تطرق إليها ابن خلدون في حديثه عن خلافة عثمان. وهي تلك التي عنون لها ب‍ (ببدء الانتفاض على عثمان، وحصار عثمان ومقتله).

كيف تناول ابن خلدون تلك الملابسات، وأي قدر من الصراحة ضمنها نصوصه حولها؟.

من ألب على عثمان ومن قتله ولماذا. من هم أنصاره ومن هم معارضوه وأعداءه؟.

كيف تمت عملية القتل ومن تولاها؟.

أسئلة كثيرة تضع تاريخ ابن خلدون أمام محك الحقيقة!.

هنا تركيز على نقطتين في استعراض ابن خلدون لأحداث ما يسمونه بالفتنة الكبرى.

1 / إن الذين ثاروا على عثمان وقتلوه كانوا يشكلون سفهاء القوم وغوغائهم.

2 / إن الثورة على عثمان كانت من وحي عبد الله بن سبأ.

وما يدل على المسألة الأولى، هو قول ابن خلدون " كانت عروق الجاهلية تنبض ووجدوا الرياسة عليهم للمهاجرين والأنصار من قريش وسواهم فأنفت

الصفحة 161
نفوسهم منه، ووافق أيام عثمان، فكانوا يظهرون الطعن في ولاته بالأمصار، والمؤاخذة لهم باللحظات والخطرات، والاستبطاء عليهم في الطاعات، والتجني بسؤال الاستبدال منهم والعزل، ويفيضون في النكير على عثمان " (71) لا وقوله: " ثم دخل عليه السفهاء فضربه أحدهم " (72).

أما ما يؤكد المسألة الثانية، فهو قوله:

" إلا عمارا فإنه استماله قوم من الأشرار، انقطعوا إليه، منهم عبد الله بن سبأ ويعرف بابن السوداء " (73).

" وكان ابن سبأ يأتيه - أي إلى أبي ذر - فيغريه بمعاوية " (74).

" وتأخر عمار ابن ياسر بمصر واستماله ابن السوداء وأصحابه " (75).

" وكان بدؤه فيما يقال شأن عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء " (76).

والمعنى الإجمالي من هذا الكلام إن ابن خلدون يريد أن يثبت عبر التلبيس والتدليس إن الثورة على عثمان كانت من وحي عبد الله بن سبأ لجماهير من الغوغاء وإنها بالنتيجة لم تكن ثورة شرعية وإنما كانت مؤامرة مدبرة وفوضى مجنونة استغل فيها المتآمرون سوقة الناس ودهمائهم، وفساق القوم وسفهائهم.

وقد سبق أن أفضنا في هذه القضية في كتاب " الإنتقال " ويكفي ما ثبته العالم النحرير والمحقق الرئيس السيد مرتضى العسكري في سفره النفيس " عبد الله بن سبأ " فقد أثبت بكامل الوسع ضعف هذه الرواية التي انفرد بها سيف بن عمر التميمي والذي أخذها عنه الطبري... وندع القارئ يواجه بنفسه تفاصيل تحقيق الأستاذ الكبير.. ونتوقف نحن عند ابن جرير الطبري الذي منه أخذ ابن

____________

(71) تاريخ ابن خلدون ص 561 ج 2.

(72) نفس المصدر ص 574.

(73) نفس المصدر ص 561.

(74) نفس المصدر ص 561.

(75) نفس المصدر ص 567.

(76) نفس المصدر ص 564.

الصفحة 162
خلدون رواية عبد الله بن سبأ من دون النظر في مداخيلها، أخذها بعد أن وضع عقله في القفص، وانقاد إليها بسذاجة المقلدين، الذين طالما عاتبهم ابن خلدون على التلقي غير الواعي، واللامنتج، الذي لا يتم فيه التمحيص للخبر، قال ابن خلدون:

" هذا آخر الكلام في الخلافة الإسلامية وما كان فيها من الردة والفتوحات والحروب، ثم الاتفاق والجماعة أوردتها ملخصة عيونها ومجامعها من كتب محمد بن جرير الطبري، وهو تاريخه الكبير، فإنه أوثق ما رأيناه في ذلك وأبعد عن المطاعن، والشبه في كبار الأمة من خيارهم وعدولهم من الصحابة والتابعين (77) ".

إذن، ابن خلدون أخذ هذه الرواية عن الطبري. ونلاحظ أنه لم يأخذ عنه الروايات التي تدين عثمان أو الخلفاء. فهو إذن ينتقي. وفي انتقائه ذاك يعبر عن إعنات مفرط، وانتحال للأخبار موقع في التلبيس. وقد سبق أن رأينا كيف طوى كشحا عن تلك الروايات الكثيرة عند الطبري في أمر وفاة الرسول (ص) والسقيفة، ورأينا كيف كان من دأبه أن يروي الأساطير في تعزيز مذهبه التاريخي، نظير ما جاء في مقتل سعد بن عبادة من قبل الجن، وهو بذلك يؤكد على الطبيعة السحرية لمنهجه التاريخي. ومثل تلك الأساطير التي اعتمدها لما تنطوي عليه من تعتيم على انحراف خلافة عثمان وعلى مجريات الأحداث.

ولا يهمنا هنا مناقشة صميم الرواية. فيكفي أن يراجع القارئ ما أثبته الأستاذ العسكري. وإنما أريد أن أؤكد على تهافت ابن خلدون في سرده لهذه الرواية بشكل يثير القرف ويبعث على الغثيان.

إنه مرة يؤكد أنه - أي ابن سبأ - ذهب إلى البصرة حيث حكيم بن جبلة..

وكان هذا الأخير حسب شهادة ابن خلدون ممن أخرج ابن سبأ إلى الكوفة. ومنها ذهب إلى مصر حيث التقى بعمار.

من خلال هذه القصة يعتقد ابن خلدون بأن أتباع ابن سبأ الرموز كانوا هم عمار وأبو ذر.

____________

(77) نفس المصدر ص 457.

الصفحة 163
وذلك لأن هؤلاء كانوا هم في طليعة الثورة على عثمان. ومن هنا سنبدأ مناظرتنا لابن خلدون:

أولا:

اعتراف ابن خلدون بمشيع حكيم بن جبلة لعلي (ع) وإخراجه لعبد الله بن سبأ، دليلا واضحا على أن حكيم بن جبلة ممن رفض أفكار عبد الله بن سبأ.

غير أن التاريخ يثبت أن حكيم بن جبلة كان من الثوار الكبار ضد عثمان. ومن الذين جاؤوا بوفد البصرة الذي شارك في حصار عثمان.

ومن جهة أخرى. أن الوفود كانت تتألف من الوفد المصري والكوفي والبصري. وكلهم كان على موقف واحد. وعلى مطلب مشترك. وكلهم من المتشيعين لعلي (ع) " ونزل معهم أناس من أهل مصر وكان هواهم في علي (78) ".

نستخلص من ذلك كله، أن حكيم بن جبلة لم يكن حسب ما ذهب إليه ابن خلدون موافقا على مطالب الوفود إذ زعم أنه رفض تحريض ابن السوداء، وأن هذا الأخير هو من كان وراء حركة الأمصار. ولو كان كذلك - إذن لزم عدم مجيئه في وفد كامل لقتل عثمان.

فهناك تناقض بين فيما ادعاه ابن خلدون ويثبت أن ابن السوداء فشل في إقناع حكيم بن جبلة وأهل البصرة. وليس ثمة ما يقنعهم به إلا أمرين.

التشيع لعلي، والثورة على عثمان. فأما الأولى فكانت من شأن حكيم بن جبلة وأهل البصرة. وذلك بشهادة بن خلدون. وأما الثانية، فلو كانوا رفضوها، إذن لما جاؤوا بوفدهم لقتل عثمان.

يقول ابن خلدون بعد ذلك " وحدث بالبصرة مثل ذلك من الطعن " (79).

فإذن، التحريض على عثمان لم يكن من اختصاص ابن سبأ الأسطوري.

إن التناقض هنا واضح جدا. لمن تأمل ثنايا الخبر.

ثانيا:

ابن خلدون الذي بذل الوسع في تعظيم الأمويين، ورفض مذاهب الشيعة إذ

____________

(78) نفس المصدر ص 568.

(79) نفس المصدر ص 564 ج 2.

الصفحة 164
رفضها لغلوها في استنقاص الصحابة. هاهو الآن يحط من قدرهم. وينزل من شأنهم كأشد ما يكون من الاستنقاص وكأحط ما يكون الاستنزال. فهو يتهم صحابة من ذوي الفضل والسابقة. وممن يشهد لهم الرسول (ص) بالعظمة وعهد لهم بما سارت به الركبان وغنت به الشعراء.

هاهو يجعلهم أكثر دونية وصغارا، ويصورهم على أشكال تقع دون البله، وأقل تبصرا من الغرير، فيجعل من عمار بن ياسر ذي السابقة والبلاء ممن يستميلهم اليهودي المتزندق، ومن أبي ذر الغفاري العظيم، من يغريهم السفهاء والدخلاء بالتعرض للأمراء، وكأن ديننا ليست فيه فكرة عن مناهضة الظلم، ولا وازع لمحاربة الفساد.

وأي دين هو أحرص من ديننا في طلب الاصلاح وممارسة التغيير، وحسبك من ذلك التهافت، إن ابن خلدون ذهب إلى أن حكيم بن جبلة كان قد رفض على ابن السوداء دعوته وإخراجه من البصرة، كيف يكون حكيما أبصر بالأمور، وأكثر تمييزا لما بين الحق والباطل، ممن قام الإسلام على إخلاصهم، وماتوا على صدق في المواطن.

ثم بالله عليك، ماذا سوف يعلمهم ابن السوداء، وكيف يغري أبا ذر ويستميل عمارا؟!!.

ابن خلدون يذهب إلى أن ابن سبا أغرى أبا ذر بمعاوية، إذ قال:

" وكان ابن سبأ يأتيه فيغريه بمعاوية " (80).

" وجاء به عبادة إلى معاوية وقال: هذا الذي بعث عليك أبا ذر. " كما زعم أنه علم عمارا القول بالإمامة والرجعة.

إن هذا لعمر الله هو صميم النيل من الصحابة، وإنه لازدراء ما بعده ازدراء، فهدي محمد لم يستطع أن يوفر أدنى حصانة دينية وعلمية لعمار وهو من أعمدة الدعوة وأركانها، حتى يأتي يهودي فيستميله، كاستمالة الحدث الصغير.

____________

(80) سبق ذكره.


الصفحة 165
وإن أبا ذر الغفاري الذي تأله قبل الدعوة. وجاء طوعا يبحث عن الإسلام، وساهم بكل إخلاص في حروبه كلها. أكان في حاجة إلى يهودي يعلمه الثورة على الظلم. وهل كل ما قام به معاوية لم يكن كافيا لإثارة الوازع الديني في أمثال أبي ذر وعمار. فهل بعد هذا كله يليق بابن خلدون أن يدعي أنه اعتمد على تاريخ فيه البعد عن المطاعن والشبه في كبار الأئمة من خيارهم وعدولهم من الصحابة والتابعين!!.

ثالثا:

إن ابن خلدون وهو يمارس تدليسه هذا على القارئ كان على مقربة من فهم الأمور. فما يعز على محلل العمران ومفكك التاريخ أن تنطلي عليه مثل هذه القضايا إنه يعترف بأن هؤلاء الثوار كانوا على علاقة وثيقة بالإمام علي (ع) وهم من سمع رأيه في المرة الأولى فراوحوا الأمصار. وهم الذين بايعون ودعوا لإمامته. وكان جديرا بابن سبأ وهو رمز الدعوة إلى الولاية لعلي (ع) وهو الذي علم عمارا القول بالإمامة، وعلم مثل ذلك لأبي ذر وهو الذي انتقل بين الأمصار المتمردة الكوفة والبصرة ومصر وهي مسقط رأس الوفود لكان إذن جدير أن يتقدم شيعة علي (ع) في زمانه ولكان علي (ع) قد ولاه فيمن ولاهم على الأمصار ولكان له صيت بعيد وشأن يذكر. لما قدمه من جهود في الدعوة لإمامة علي (ع) ولكن التاريخ - المبتذل - لا يجد ما يقوله لنا عن موقع عبد الله ابن سبأ في عهد علي (ع) ولا أين كان موقعه يوم اختراق الدار على عثمان.

إن التاريخ المبتذل يحتفظ لنا بصورة خفية عنه، سواء في عهد عثمان أو في عهد علي (ع) فهو في كلا العهدين خفي ومتآمر، فإن كان هناك ما يدعوه في عصر عثمان إلى التستر فماذا يمنعه الآن بعد مقتله، ولأن كان بقي بمصر.. فأي مانع للأمويين في أن يقتلوه وقد تمكنوا من قتل وليها يومذاك، ولكان قتلته العثمانية مثلما قتلوا محمد بن أبي بكر. وقد لفق بعض المؤرخين ما حدث من إحراق علي (ع) لهم على ما ذهبوا إليه من تأليهه، ولكنه لم يحرق بن سبأ، لأن بعضا من أصحابه اعترض عليه ونصحه بتركه، إن أسطورة الحرق هذه، لم تكن سوى محاولة في تقريب عبد الله بن سبأ من دائرة الواقع، غير أنه كان ينفلت من قبضة الواقع، انفلات

الصفحة 166
الزئبق، فكيف يحرق علي (ع) أحدا من كان، وهو الذي اعترض على حرق أبي بكر للفجاءة، وكيف يحرق كل السبئيين ويبقى على زعيمهم ويطلق له العنان، وكيف ينال منهم ويحرقهم وهو يعظم ويجلل أحد رموز السبئية على حد تعبير المؤرخين، وهو عمار بن ياسر، بل لقد ولاه وأعزه وكان ساعده الأيمن، ولست أدري إن كان عبد الله بن سبأ حقيقة معاصرة لتلك الأحداث، كيف لا يتعقبه معاوية بعد أن أثبتوا أن عبادة جاء به إلى معاوية، كيف لم يقتله أو يبعث من يقتله، ولم نعثر على قولة لمعاوية ولا للعثمانية فيه على الرغم من أنه رقم واحد في الأحداث التي عصفت بعثمان على حد تعبيرهم، وبعد أن كان معاوية يترصد كل أعداء وقاتلي عثمان، وكان يقول اقتلوهم تحت كل حجر ومذر.

إن الاضطراب في هذا الخبر يكشفه المحقق لأول وهلة، فابن سبأ هذا رجل لم يدقق فيه المخبرون، ولم يعطوا أدلة قاطعة تمكن المطلعين من معرفة حقيقة نسبه وطبيعة نشاطه، ماذا قال عنه أرباب السير ورواد التأريخ والتراجم، أكان حدادا أم نجارا، أكان طويلا أم قصيرا، نحيلا أم مربوعا، بل كل ما في الأمر إن أهل الملل والنحل دأبوا على تلقف الحكايات تلقف الصبية للكرة، من دون أعمال العقل فيها والنظر، فهمهم إضافة اسم جديد لفرقة يسودون بها أسفارهم، ويكشكلون، بالشاذ والغريب، رواياتهم.

إنه لمن العار يا ناس، أن يتم التعسف على التاريخ بهذا الشكل المهول المريع .. إن التأليه لم يكن في عهد علي (ع) في أكثر التقادير، لم يكن أحد يدعي أن عليا (ع) إلها، إنها تهمة في ظني نشأت متأخرة، وبالضبط في العصرين الأموي والعباسي، لقد اعترفوا من حيث لا يشعرون إن التشيع لعلي (ع) في العصر الأول لم يكن يعني أكثر من الولاء السياسي.

حتى عصر الإمام الصادق (ع) الإمام السادس من أئمة أهل البيت فيأخذ التشيع صبغته الايديولوجية والمذهبية (81) وفي نفس الوقت يعتبرون التشيع من وحي

____________

(81) اعتبر كثير من المحققين والكتاب، أن التشيع الأول، يأخذ طابعا سياسيا. يقول في ذلك مثلا، د. إبراهيم بيضون: والسبئية أسطورة كانت أم حقيقة، هي على هامش التشيع ومتناقضة في الصميم مع الفكر الشيعي، بخلفيته السياسية البحتة، الدولة الأموية والمعارضة ص 45 الطبعة الثانية بيروت =

الصفحة 167
عبد الله ابن سبأ الذي عاش في عصر عثمان؟!.

ولمزيد من الايضاح، إن عمارا عندما بعثه عثمان إلى مصر، لم يستمله أحد، وإنما بقي هناك على اتصال بكل من محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة، وكانا من أقوى المحرضين على عثمان، وهما رئيسا الوفد المصري، إن تداخل خطة العمل بين كل من الوفود الثلاثة، ووحدة الطرح لكل رموز المعارضة كعمار، والأشتر، وحكيم بن جبلة ومحمد بن أبي بكر وابن أبي حذيفة، والإمام علي (ع) هو ما يجعل أسطورة السبئي لا مسوغ لها إلا في أذهان المدلسين، فهي في تهدلها ووهنها كبيت العنكبوت، وهي أوهن البيوت.

ونعود بعد ذلك، كي نطلع على الوضع السياسي الذي أثار غضب الثوار وجلب الحنق على عثمان، ففي تاريخ ابن خلدون لم يكن عثمان إلا منفذا لتعاليم الدين، ولم يكن على ما ادعاه الخصوم، ولهذا اتهم الثائرين عليه وقاتليه بالسفاهة.

يقول:

" ثم دخل عليه السفهاء فضربه أحدهم " (82).

وعلى هذا الأساس يكون كل من عمار وأبي ذر وبن مسعود والذين تضرروا من سياسة عثمان وانتقدوها، وكفروه سفهاء، ويدخل في ذلك عائشة عندما دعت إلى قتله في بداية الأمر.

قائلة: " اقتلوا نعثلا فقد كفر "، ويدخل في ذلك حسب هذا المبنى الإمام علي (ع) الذي لم ينصره بل هو الذي حسب شهادة عثمان نفسه، قد جرأ عليه

____________

= وذكر صاحب التاريخ الإسلامي (محمود شاكر) حول الخلفاء الراشدين والعهد الأموي: (بل لم تكن كلمة الشيعة تحمل أكثر من معنى التأييد والمناصرة. ولكنها غدت مع الزمن فكرا خاصا وعقيدة خاصة، ونسب إلى الأوائل أقوال لم يقولوها وأخبار لم يعرفوها، وأفكار لم تخطر على بالهم أبدا). وثبت عندي إن الجابري تلقفها من محمود شاكر، عندما قال: يجمع المؤرخون على أن التشيع لعلي ابن أبي طالب وأبنائه من بعده لم يتجاوز مستوى الولاء السياسي ص 334 - 335، بنية العقل العربي، المركز الثقافي العربي.

(82) تاريخ ابن خلدون ص 584 ج 2.

الصفحة 168
الثوار.

يقول ابن خلدون (83):

" فأتاه عثمان إلى منزله ليلا يستلينه وبعده الثبات على رأيه معه، فقال: بعد أن أقام مروان على بابك يشتم الناس ويؤذيهم؟ فخرج عثمان وهو يقول خذلتني وجرأت علي الناس).

وحتى كان أبو هريرة الدوسي الذي عرف بملازمة الأمويين على ملء بطنه، ينقل له ابن خلدون موقفا عبقريا، يقول: يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعوني إلى النار، وقاتل.

وأني لا تسأل كيف قاتل أبو هريرة وهل هو من طينة البواسل ومتى رفع أبو هريرة رمحا أو مسك قوسا، كيف يدعو من اشتهر بكذبه على رسول الله (ص) الصحابة الكبار إلى النجاة، وهم يدعونه إلى النار، فهل يعقل أن يدعو الدوسي عليا، وعمارا، والأشتر، ومحمد بن أبي بكر إلى النجاة!.

وفي ظني أن الذي دعاهم لاختلاق ذلك الموقف، ما قاله الرسول (ص) عن عمار بن ياسر:

" ما لهم وعمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " (84) وعمار هذا كان قد كفر عثمان وحرض على قتله.

لقد حاول ابن خلدون أن يقلل من شأن تلك المآخذ التي أوردوها على عثمان، كإخراجه أبا ذر إلى الربذة، حاول ابن خلدون كعادته أن يبرئ عثمان من ذلك كله. وإن اقتضى الأمر الازدراء بأبي ذر، واستصغار بصيرته وعلمه.

والآن لماذا أخرج عثمان أبا ذر الغفاري إلى الربذة؟.

ابن خلدون يجيب على الفور، بعد أن يحبك قصة كاملة، كالتالي:

1 / إن أبا ذر " يأخذ بالظاهر في ذم الادخار وبكنز الذهب والفضة وكان ابن سبأ

____________

(83) نفس المصدر ص 571.

(84) العقد الفريد - ابن عبد ربه.

الصفحة 169
يأتيه فيغريه بمعاوية، ويعيب قوله: المال مال الله ويوهم إن في ذلك احتجانه للمال وصرفه على المسلمين حتى عتب أبو ذر في ذلك معاوية فاستعتب له وقال:

سأقول ما للمسلمين وأتى ابن سبأ إلى أبي الدرداء وعبادة بن الصامت بمثل ذلك فدفعوه، وجاء به عبادة إلى معاوية وقال:

هذا الذي بعث عليك أبا ذر (85) ".

2 / ثم استأذن أبو ذر عثمان في الخروج من المدينة وقال: " إن رسول الله (ص) أمرني بالخروج منها إذا بلغ البناء سلعا فأذن له ونزل الربذة وبنى بها مسجدا وأقطعه عثمان صرمة من الإبل وأعطاه صعلوكين وأجرى عليه رزقا، وكان يتعاهد المدينة.

فعد أولئك الرهط خروج أبي ذر فيما ينقمونه على عثمان مع ما كانوا يعدون عليه من إعطاء مروان خمس مغانم إفريقيا، والصحيح أنه اشتراه بخمسمائة ألف فوضعها عنه ".

من خلال الفقرتين، يتبين أن أبا ذر كان رجلا ظاهريا لا يأخذ بباطن الأمور.

فهو إذن ينقصه العلم بالأحكام والدراية بقضايا الشريعة. وأن عبد الله بن سبأ أغرى أبا ذر وأوهمه بما يجعله يعاتب معاوية فاستعتب له هذا الأخير. وإنهم أتوا ب‍ عبد الله بن سبأ إلى معاوية قائلين له: هذا الذي بعث عليك أبا ذر ثم إن خروج أبي ذر إلى الربذة، كان اختيارا منه وذلك بعهد من رسول الله (ص) وأقطعه عثمان ما يكفيه من الإبل وأعطاه ما يفضل عنه من الرزق فهو لم يكن ذا حاجة وإن اتهام عثمان بإخراج أبي ذر كان من ادعاء ذلك الرهط.

لنبدأ بطرح رأينا حول هذه العبارة ونفككها لنقف عند حقيقتها.

أولا: إن أبا ذر بشهادة الرسول (ص) كان أصدق لهجة.. كما جاء في الرواية الشهيرة:

" ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر ".

____________

(85) تاريخ ابن خلدون ج 2 ص 562.

الصفحة 170
فهو ممن أوتوا الفطنة والعلم والصدق. ولا أدل على ذلك من التزامه وسلوكه الذي يعكس ذلك العلم الكبير والفطنة النافذة.

لقد اعتبر (رض) مفاسد الأمويين يومها خطرا على الإسلام وصدقت فراسته فهو لم يكن كما ادعى مؤرخ المغرب، رجلا ظاهريا ولا أدل على علمه أيضا، والتزامه، ما جرى بينه وعثمان في حضرة كعب وإن كانت تلك الحادثة تدل على شئ فإنما على مدى قوة بصيرة أبي ذر، وحسبه من علم الباطن، أن رد بأعنف العنف اليهودي المندس عن الافتاء في دين الله. وأن تكون دعوته مما حملها المحرومون عبر تاريخ.

ولا يزال أبو ذر الغفاري يمثل أروع نموذج لثورة الفقراء حتى جعله البعض الاشتراكي الأول في تاريخ الإسلام!.

ودعنا هنا، نعرض بعض الإحصائيات عن الممتلكات الضخمة التي كانت تدور بعين أبي ذر وتثير رفضه لنرى هل مثل ذلك الحجم من الثروات في أيدي عثمان. وذلك الشكل من الفقر الذي تعانيه الطبقات السفلى من الناس. شئ طبيعي بالنسبة لذوي الضمائر الحية والروح المسؤولة.

لنر هل فعلا كان أبو ذر ينتظر من عبد الله ابن سبأ أن يعلمه الثورة على الأثرياء. أم أن ذلك من تعاليم الإمام علي (ع) حين كان لا يفتر عن الإشارة إلى هذا الوضع وهو صاحب الكلمة الشهيرة:

" ما رأيت نعمة موفورة إلا وبجانبها حق مضيع " وهو من قال بعدها:

" الله الله في الطبقات السفلى من الناس " (86).

" ذكر عبد الله بن عتبة إن عثمان يوم قتل كان له عند خازنه من المال خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار، وخلف خيلا كثيرا وإبلا (87) ".

هذه هي ثروة عثمان الشخصية ناهيك عما أقطعه لبطانته، وما اغتصبه من بيت

____________

(86) نهج البلاغة.

(87) نهج البلاغة.

الصفحة 171
مال المسلمين (88).

وللبيب أن يتسأل، هل بعد هذا كله كان أبو ذر ضحية تمويه. وصدق طه حسين، حين استسرف الأمر قائلا: " ومن هذا التلقين إلى أن يقال أنه الذي لقن أبا ذر مذهبه كله في نقد الأمراء والأغنياء وتبشير الكانزين للذهب والفضة بمكاو من نار، وما أعرف إسراف يشبه هذا الاسراف (89) ".

وينقلب السحر على الساحر في عملية العرض المغرضة ليكون ابن خلدون أحيانا عراب فضيحته فقد ذكر أنهم أتوا به إلى معاوية، وإنه لمن الحظ تأييد هذه الأكذوبة فمعاوية الذي ضاق بأبي ذر الغفاري حتى أخرجه من الشام وشكاه إلى عثمان. كيف لا ينبس ببنت شفة أمام عبد الله بن سبأ وهو الذي أثار أبا ذر على معاوية حسب زعمهم.

ثم كانت الطامة الكبرى والبطشة الأخرى، كما نسجها المنوال الردئ عندما اعتبر ابن خلدون خروج أبي ذر إلى الربذة محض اختيار.

ولا بد هنا من الاعتراض على ابن خلدون، ونقول له إن أبا ذر خرج ثلاث مرات وليس مرة واحدة، أخرج المرة الأولى من المدينة إلى الشام، وأخرج في الثانية من الشام إلى المدينة، وفي الثالثة من المدينة إلى الربذة وكان عثمان هو من أجبره على كل ذلك.

لقد نفي إلى الشام عندما شكاه مروان، ورجع إلى المدينة بطلب من عثمان بعد أن شكاه معاوية ومن المدينة هجر إلى الربذة بعد أن ضاق به عثمان ذرعا، وسوف نتعرض فقط للصورة التي تم تهجير أبي ذر عليها من المدينة إلى الربذة، والطريقة التي جاء بها إلى المدينة من الشام.

عندما ضاق معاوية بأبي ذر الغفاري بالشام واستنجد عليه بعثمان طلب منه هذا الأخير أن يشخصه إليه في أغلظ مركب وأوعره (90).

____________

(88) مروج الذهب ص 342 ج 2.

- راجع عثمان والفتنة الكبرى من كتابنا الإنتقال ص 191 ط الأولى دار النخيل.

(89) إسلاميات طه حسين ص 761، ط الأولى 1967.

(90) مروج الذهب 349 ج 2.

الصفحة 172
ذكر المسعودي: " إن معاوية كتب إلى عثمان: إن أبا ذر تجتمع إليه الجموع، ولا آمن أن يفسدهم عليك، فإن كان لك في القوم حاجة فاحمله إليك، فكتب إليه عثمان بحمله، فحمله على بعير عليه قتب يابس معه خمسة من الصقالبة يطيرون به، حتى أتوا به المدينة وقد تسلخت بواطن أفخاذه وكاد أن يتلف، فقيل له: إنك تموت من ذلك، فقال: هيهات لن أموت حتى أنفى، وذكر جوامع ما ينزل به بعد، ومن يتولى دفنه، فأحسن إليه في داره أيام، ثم دخل إليه فجلس على ركبتيه وتكلم بأشياء.

وكان في ذلك اليوم قد أتى عثمان بتركة عبد الرحمن بن عوف من المال، فنثرت البدر حتى حالت بين عثمان وبين الرجل القائم، فقال عثمان: إني لأرجو لعبد الرحمن خيرا، لأنه كان يتصدق، ويقري الضيف، وترك ما ترون، فقال كعب الأحبار: صدقت يا أمير المؤمنين، فشال أبو ذر العصا، فضرب بها رأس كعب، ولم يشغله ما كان فيه من الألم وقال: يا ابن اليهودي تقول لرجل مات وترك هذا المال: إن الله أعطاه خير الدنيا وخير الآخرة، وتقطع على الله بذلك، وأنا سمعت النبي (ص) يقول: " ما يسرني أن أموت وأودع ما يزن قيراطا " فقال له عثمان: وار عني وجهك، فقال: أسير إلى مكة، قال: لا والله، قال: فتمنعني من بيت ربي أعبده فيه حتى أموت؟ قال: إي والله، قال: فإلى الشام، قال:

لا والله، فاختر غير هذه البلدان، قال: لا والله ما أختار غير ما ذكرت لك، ولو تركتني في دار الهجرة ما أردت شيئا من البلدان، فسيرني حيث شئت من البلاد، قال؟ فإني مسيرك إلى الربذة ".

أما ما ادعاه ابن خلدون من أن عثمان أعطى أبا ذر ما يكفيه من رزق، فهذا ما لا يشتد له ظهر أيضا، لما علمنا من أن أبا ذر كانت له حساسية كبيرة من المال الحرام، وأنه ما ثار إذ ثار إلا على هذا التبذير والترف، والتصرف اللامسؤول في أموال المسلمين، والثابت في الرواية هو أن أبا ذر مات هو وأبناءه من شدة الجوع، حتى أن زوجته لم تجد له كفنا، وكان بعض السيارة قد دفنوه بعد ذلك (91).

ذكر صاحب المروج: " قال عثمان: فإني مسيرك إلى الربذة، قال: الله

____________

(91) مروج الذهب 349 ج 2.

الصفحة 173
أكبر، صدق رسول الله (ص) قد أخبرني بكل ما أنا لاق، قال عثمان: وما قال لك؟ قال: أخبرني بأني أمنع عن مكة والمدينة وأموت بالربذة، ويتولى مواراتي نفر ممن يردون من العراق نحو الحجاز، وبعث أبو ذر إلى جمل له فحمل عليه امرأته، وقيل: ابنتيه، وأمر عثمان أن يتجافاه الناس حتى يسير إلى الربذة. ".

إن إخراج أبي ذر إلى الربذة من قبل عثمان وتضايق التيار الأموي به، هو من المشهورات في التاريخ الإسلامي، ولو كان اختيارا منه الخروج إلى الربذة، إذن لما أغلظ عثمان على من شيعه في الطريق بأشد مما تكون الغلظة. ولما حدث بينه والإمام علي (ع) في شأنه من تلك المشادات.

كان ابن خلدون يحاول من وراء ذلك تبرئة عثمان وتخطئة معارضيه مرة متهما إياهم بالسفه ومرة بقلة العلم وأخرى بسوء الفهم، وينسى إنه كم مرة اعترف هو نفسه بمفاسد عثمان من حيث لا يشعر وعرض ما يؤكد ذلك الوضع السئ وتلك الصورة البشعة التي كانت عليها خلافة عثمان. (92).

قال ابن خلدون:

" وقيل: إن عليا لما رجع عن المصريين أشار على عثمان أن يسمع الناس ما اعتزم عليه من النزوع قبل أن يجئ غيرهم ففعل وخطب بذلك، وأعطى الناس من نفسه التوبة وقال: أنا أول من اتعظ، استغفر الله مما فعلت وأتوب إليه، فليأت أشرافكم يروني رأيهم، فوالله إن ردني الحق عبد لأستن بسنة العبد ولأذلن ذل العبد، وماعن الله مذهب إلا إليه فوالله لأعطينكم الرضى ولا أحتجب عنكم. ثم بكى وبكى الناس ودخل منزله ".

إذن، فابن خلدون يذكر أن عثمان اعترف بالذنب، وأنه استغفر الله وتاب و أعطى للناس من نفسه التوبة " ونقول لابن خلدون على من تكون هذه التوبة إن كان معارضوه ممن يجب في حقهم التوبة والاستغفار. وعلى من استغفر عثمان، وبما اتعظ. أو لا يدل ذلك على أنه أتى من كبائر الإثم والذنوب ما أمسى ظاهرا للجميع. فكيف يبرئ بن خلدون من اعترف بالذنب وأقر بالخطيئة.

____________

(92) تاريخ ابن خلدون ج 2 ص 571.


الصفحة 174
وعليه، فإن أبا ذر كان قد أخرجه عثمان قهرا. ويدل على ذلك ما رواه الواقدي: " إن أبا الأسود الدؤلي قال: كنت أحب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه، فنزلت الربذة، فقلت له: ألا تخبرني، خرجت من المدينة طائعا، أم أخرجت؟ فقال: " كنت في ثغر من ثغور المسلمين، أغنى عنهم فأخرجت إلى المدينة، فقلت: أصحابي، ودار هجرتي، فأخرجت منها إلى ما ترى ".

وفي يوم الدار حيث اقتحم الثوار بيت عثمان، ودخل محمد بن أبي بكر على عثمان.

قال ابن خلدون: " ودخل عليه محمد بن أبي بكر فحاوره طويلا بما لا حاجة إلى ذكره، ثم استحيا وخرج. ثم دخل عليه السفهاء فضربه أحدهم " (93).

وليت شعري - هذه المرة - أي حوار طويل هذا الذي جرى بين الاثنين، وعلى أي أساس رأى ابن خلدون عدم الحاجة إلى ذكره، وكيف أن محمد بن أبي بكر استحيا وخرج؟!.

وهلا استحيا وهو يسير إليه من مصر إلى المدينة في وفد كبير. دعنا ننقل ذلك الحوار الطويل لنرى هل فعلا لا تدعونا الحاجة إلى ذكره أم لا.

لما دخل محمد بن أبي بكر على عثمان قال له هذا الأخير: ويحك! أعلى الله تغضب! هل لي إليك جرم إلا أني أخذت حق الله منك؟ فأخذ محمد بلحيته، وقال: أخزاك الله يا نعثل!.

قال: لست بنعثل، ولكني عثمان وأمير المؤمنين، فقال: ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان!.

فقال عثمان: يا ابن أخي، دعها من يدك، فما كان أبوك ليقبض عليها، فقال: لو عملت ما عملت في حياة أبي ليقبض عليها، والذي أريد بك أشد من قبضتي عليها. فقال: استنصر الله عليك وأستعين به، فتركه وخرج، وقيل: بل طعنه في جبينه بمشقص كان في يده (94).

____________

(93) نفس المصدر ص 514.

(94) ابن أبي الحديد في شرح النهج.

الصفحة 175
ومن هنا تبين كيف أن الفائدة عمت عند ذكر الحوار، وأن محمدا لم يخرج مستحيا كما تخيله ابن خلدون، وإنما عنفه وضربه وأخلى بذلك الطريق للثوار كي يشرعوا في قتله، ولا أدل على ذلك مما ذكرنا من شكوى بنت الفرافصة ما فعل محمد بن أبي بكر، عندما سألها علي (ع) كما تقدم، ولو كان استحيا وخرج كما زعم، لما شكت الكلبية، ولكانت من الشاكرين له. ولما كانوا انتقموا منه شر انتقام حين ظفروا به وأحرقوه انتقاما ليوم الدار، ولقاء ما صدر عنه من عنف في قتل عثمان. ولقد ذكر ابن خلدون في مورد آخر، وفي لحظة تبرير جديد إن ابن حديج كان قد منع محمد ابن أبي بكر الماء جزاء بما فعل بعثمان، ثم أحرقه في جوف حمار.

أفلا يدل ذلك على أن موقف محمد العنيف من عثمان، كان مما اشتهر به في زمانه!.

لقد امتنع ابن خلدون عن نقل تفاصيل الحوار الذي دار بين الاثنين، حتى يتسنى له القول:

" ثم استحيا وخرج ".

ويبقى أن نطرح سؤالا على ابن خلدون عن موقع وموقف عائشة من مقتل عثمان.

ابن خلدون، لم يذكرها بشئ. وقصارى ما جادت به قريحته في هذا المجال قوله: ا ثم خرجت عائشة إلى الحج ودعت أخاها فأبى فقال له حنظلة الكاتب:

تدعوك أم المؤمنين فلا تتبعها، وتتبع سفهاء العرب فيما لا يحل؟ ولو قد صار الأمر إلى الغلبة غلبك عليه بنو عبد مناف " (95).

وفي مورد آخر قال: وكان سبب اجتماعهم بمكة أن عائشة كانت خرجت إلى مكة وعثمان محصور كما قدمناه، فقضت نسكها وانقلبت تريد المدينة، فلقيت في طريقها رجلا من بني ليث أخوالها، فأخبرها بقتل عثمان وبيعة علي فقالت: قتل عثمان والله ظلما ولأطلبن بدمه فقال لها الرجل ولم أنت كنت تقولين ما قلت؟

____________

(95) تاريخ ابن خلدون ص 574 ج 2.

الصفحة 176
فقالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه وانصرفت إلى مكة (96).

هذا تلبيس يهدف إلى وضع مقدمة مضللة لحادثة الجمل. وإذا كان ابن خلدون قد اعتقد في أمر الجمل على ابن جرير الطبري، فإنه لم يأخذ عنه موقف عائشة من مقتل عثمان. لقد انتهى ما يمكنه من سبك كلامه من دون أن يهدم صرح التلبيس فيما ينتحله من مواقف وأحداث. يقول:

" وهذا أمر الجمل ملخص من كتاب أبي جعفر الطبري اعتمدناه للوثوق به لسلامته من الأهواء الموجودة في كتب ابن قتيبة وغيره من المؤرخين (97) ".

لقد عمل ابن خلدون على انتقاء الروايات التي من شأنها، التشويش على القارئ، فجعلها بحيث يختفي منها موقف عائشة من مقتل عثمان، حين قال:

فقال لها الرجل ولم أنت كنت تقولين ما قلت؟ وماذا قالت عائشة؟... ابن خلدون يسكت!.

لكن الطبري وهو المعتمد عند بن خلدون، ينقل ما كانت تقوله عائشة في عثمان. وهو قولها: اقتلوا نعثلا فقد كفر.

هذه الكلمة هي التي دفعت ابن خلدون إلى تعويضها ب‍: تقولين ما قلت؟

وسوف ننقل ما دار بين الرجل وعائشة، بمزيد من الايضاح.

ذكر ابن خلدون، إن رجلا من بني ليث أخوالها لقيته في طريقها، وكان ذلك منه تلبيسا في القضية. وحتى يبعد القارئ عن الاسم الذي ذكره المؤرخون، كي لا يقفوا على تفاصيل الكلام.

فالرجل الذي قال عنه ابن خلدون، من بني ليث أخوالها. هو ما عرفه المؤرخون بعبيد بن أم كلاب. وهو رجل ينسب إلى أمه. وهو عبيد بن أبي سلمة الليثي.. وباسم بن أم كلاب اشتهر، وكذلك ما دار بينه وبين عائشة من كلام، وذكر ذلك كل من الطبري وابن الأثير وآخرون.

____________

(96) نفس المصدر 579 ج 2.

(97) ص 594 نفس المصدر.

الصفحة 177
والحوار الذي جرى بينهما كان كالتالي:

صاحت أم المؤمنين، ردوني، ردوني. فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوما، والله لأطلبن بدمه! فقال لها ابن أم كلاب: ولم؟ فوالله إن أول من أمال حرفه لأنت، فلقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلا فقد كفر، قالت:

إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير من قولي الأول، فقال لها ابن أم كلاب:

فمنك البداء ومنك الغير * ومنك الرياح ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الإمام * وقلت لنا إنه قد كفر
فهبنا أطعناك في قتله * وقاتله عندنا من أمر
ولم يسقط السقف من فوقنا * ولم تنكسف شمسنا والقمر
وقد بايع الناس ذا قدرأ * يزيل الشبا ويقيم الصعر
ويلبس للحرب أثوابها * ومامن وفى مثل من قد غدر (98)

وكان ابن خلدون يهدف من وراء ذلك إلى غاية ذميمة. أن يجعل سبب اجتماع الثلاثة بمكة هو أن عائشة قد خرجت إلى مكة، وعثمان محاصرا، حتى ورد عليها هذا الرجل وأخبرها بالأمر.

ونرى من الواجب فك هذا التهافت، وتوضيح هذا التضليل، فعائشة خرجت وهي تعلم بمقتل عثمان، وكانوا قد كلموها في الأمر فرفضت، وكان مروان قد جاء إلى عائشة، فقال: " يا أم المؤمنين، لو قمت بين هذا الرجل وبين الناس؟ قالت: قد فرغت من جهازي، وأنا أريد الحج.

قال: فيدفع إليك بكل درهم أنفقته درهمين، قالت: لعلك ترى إني في شك من صاحبك؟ أما والله لوددت أنه مقطع بغرارة من غرائري، وإني أطيق حمله، فأطرحه في البحر (99) ".

وكانت عائشة شديدة عليه أيام خلافته. ومن المحرضين عليه أيضا. حتى

____________

(98) تاريخ الطبري وطبقات ابن سعد.

(99) تاريخ اليعقوبي وتاريخ ابن الأثير.

الصفحة 178
ورد عنها بينما عثمان يخطب إذ دلت قميص رسول الله (ص) ونادت: " يا معشر المسلمين، هذا جلباب رسول الله لم يبل وقد أبلى عثمان سنته، فقال عثمان رب اصرف عني كيدهن إن كيدهن عظيم (100) ".

هذا هو موقفها منه وإنها لم ترجع عن ذلك إلا بعد أن قيل لها إن عليا (ع) قد بويع، فقالت عندها:

" يا أيها الناس إن عثمان قتل مظلوما والله لأطلبن بدمه، وكانت تقول: يا معشر قريش إن عثمان قد قتل، قتله علي ابن أبي طالب، والله لأنملة - أو قالت - لليلة من عثمان خير من علي الدهر كله (101) ".

والمستفاد من أخبار المؤرخين.. إنها لم تقل ذلك إلا بعد أن علمت بيعة علي .. من قول عبيد بن أم كلاب، السابق، وقبل ذلك كانت بمكة، وأخبرت بقتله من دون سماع بيعة علي. قالت: أبعده الله، ذاك بما قدمت يداه وما الله بظلام للعبيد.. وكانت تقول: أبعده الله، قتله ذنبه، وأماده الله بعمله، يا معشر قريش لا يسومنكم قتل عثمان كما سام أحمر ثمود قومه، إن أحق الناس بهذا الأمر ذو الإصبع - تقصد طلحة - ثم أقبلت مسرعة إلى المدينة، وهي لا تشك في أن طلحة هو صاحب الأمر، وكانت تقول: بعدا لنعثل وسحقا، إيه ذا الإصبع، إيه أبا شبل، إيه ابن عم، لك أبوك أما إنهم وجدوا طلحة لها كفؤا، لكأني أنظر إلى إصبعه وهو يبايع، حثو الإبل ودعدعوها، ولما انتهت إلى " سرف " قرب مكة في الطريق إلى المدينة، لقيها عبيد بن أم كلاب (102) فحدث بينهما ما قدمناه.

والآن تبين لك عزيزي القارئ.. كيف أن عائشة كانت تريد الأمر لابن عمها، تعصبا لبني تيم بن مرة.. وإنها لم تعدل عن قولها إلا بعد أن نزل عليها خبر المبايعة لعلي (ع) كالصاعقة.. فأرعدت وأمطرت.

لقد كان علي (ع) شجا في حلقها.. قذى في عينها.. وقد أسرها موته حين حزن لذلك المؤمنون، وعبرت عن ضعنها حين وصل إليها خبر مقتله:

____________

(100) تاريخ اليعقوبي.

(101) نفس المصدر.

(102) الطبري في التاريخ وابن سعد في الطبقات.


الصفحة 179
فألقت عصاها واستقرت بها النوى كما قر عينا بالإياب المسافر وقد سألت عمن قتله؟ فقيل: رجل من مراد، قالت:

فإن يك نائيا فلقد نعاه * نعاة ليس في فيها التراب (103)

وليت شعري ما الذي يمنع ابن خلدون من أن يشير إلى ما قامت به عائشة من مخالفات لشرع الله وخروجها من بيتها بعد أن أمرت بلزومه.. لقد خرجت بألوف من الرجال وردها علي (ع) بأربعين من نساء البصرة.. إنها عبقرية ابن خلدون.. فيلسوف التاريخ وعالم العمران.

(103) تجارب الأمم / ابن مسكويه ج 1 ص 383.

الصفحة 180

ابن خلدون.. ومعاوية بن أبي سفيان!

لا أحد من المؤرخين يشك في درجة انحراف معاوية بن أبي سفيان.. وفي تلك الطعون التي أحصاها عليه المؤرخون.. وكثيرا منهم اتهمه في الدين وحكم بفسقه.. وكيف لا يفسق من قاتل عليا (ع) وقتل عمارا، وحجرا.. وخنق الأمة بسياسة بني هند وأبناء العاص، بعد أن حولها إلى ملك عضوض، وإذا كان الصحابة حسب ما ذكرناه سابقا يعرفون المنافق ببغضه عليا (ع) فكيف بمن حاربه وجعل سبه ولعنه سنة لا تتم من دونها الصلاة ولا تقوم بدونها المنابر.

وعند بن خلدون كعادته في تبرير السلطة وإخفاء الطعون، يقول في شأن معاوية:

" وقد كان ينبغي أن تلحق دولة معاوية وأخباره بدول الخلفاء وأخبارهم، فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصحبة، ولا ينظر في ذلك إلى حديث: الخلافة بعدي ثلاثون، فإنه لم يصح، - والحق - إن معاوية في عداد الخلفاء ".

ورغم إن ابن خلدون يعتقد أن الخلافة في عهده كانت غلبة إلا أنه لم يجد في ذلك ما ينقض حكم الشرع، " فكان معاوية أول خلفاء المغالبة والعصبية الذين يعبر عنهم أهل الأهواء بالملوك، ويشبهون بعضهم ببعض، وحاشا لله أن يشبه معاوية بأحد ممن بعده، فهو من الخلفاء الراشدين ومن كان تلوه في الدين والفضل من الخلفاء المروانية ممن تلاه في المرتبة كذلك، وكذلك من بعدهم من خلفاء بني

الصفحة 181
العباس، ولا يقال: إن الملك أدون رتبة من الخلافة، فكيف يكون خليفة ملكا " (104).

وعلى ذلك الأساس يكون معاوية من الخلفاء الراشدين، الذين سنتهم فرض على جميع المسلمين.

وإن الخلافة التي تأتي عن طريق المغالبة والعصبية ليست ملكا، كما يدعي أهل الأهواء، بل هي شرع له نظائره في سيرة الأنبياء. " واعلم أن الملك الذي يخالف بل ينافي الخلافة هي الجبروتية والمعبر عنها بالكسروية التي أنكرها عمر على معاوية حين رأى ظواهرها، وأما الملك الذي هو الغلبة والقهر بالعصبية والشوكة فلا ينافي الخلافة والنبوة، فقد كان سليمان بن داود وأبوه نبيين وملكين وكانا على غاية الاستقامة في دنياهما وعلى طاعة ربهما عز وجل، ومعاوية لم يطلب الملك ولا أبهته للاستكثار من الدنيا، وإنما ساقه أمر العصبية مطبعها لما استولى المسلمون على الدولة كلها، وكان هو خليفتهم فدعاهم بما يدعو الملوك إليه قومهم عندما تستعمل العصبية وتدعو لطبيعة الملك (105) ".

ليس التهافت فيما يقوله ابن خلدون فحسب، وإنما البطشة الكبرى عندما تكون ذهنية الجبر والنزعة الحتمية متحكمة في سرده الأحداث وتقييمه للوقائع، نزعة التصويب التي بلغت قمة الاسراف في تاريخ بن خلدون، إن خبرة طويلة في مزاحمة البلاط، وسفر طويل في دهاليز التآمر والتزلف، وفشل قاتل لبلوغ المآرب آل عليا، كل ذلك كان مما لصق بذهن بن خلدون ومن خلاله نظر إلى التاريخ، فخلط وتاه بدون ضوابط.

إن منطق بن خلدون في تبرير السلطة والخلافة كما أحصاها عليه دارسو تاريخه من المستشرقين وغيرهم، استوعبوا هذه النزعة في تاريخه... ونلاحظ ذلك فيما تقدم من كلامه عندما اعتبر " الخلافة بعدي ثلاثون " حديثا لم يصح، وحجته في ذلك غير منطوقة، فهي مما يكشف عنه السياق... والسياق هنا هو تلك المحاولة الكبيرة في سبك تبرير يشد ظهر خلافة معاوية، بما يشوه حكم الله ويطعن في خاصرة الشريعة.

____________

(104) تاريخ ابن خلدون ص 621 ج 2.

(105) نفس المصدر ص 621 ج 2.