ثم استولى آل سعود على الحرمين وأخضعوهما لسياستهم وبارك الفقهاء هذا الوضع رغم ما يحمل من نتائج سلبية تنعكس على ممارسة الشعائر في هذين المكانين حيث أخضع الوهابيون الحرمين لأفكارهم الحنبلية المتشددة ومنعوا أية ممارسات ترتبط بالمذاهب الأخرى خاصة فيما يتعلق بزيارة قبر الرسول وآثار النبي وآل البيت.. (137)
وقد أكثر الفقهاء من البكاء والعويل على دولة الخلافة الزائلة وإنزال اللعنات على مصطفى كمال أتاتورك والحكم بكفره، ثم ما لبثوا أن وجدوا بديلا يعطي بلا حساب فاتجهوا نحوه بقلوبهم وألسنتهم وهو الحكم السعودي، فهو من منظورهم الحكم الوحيد الباقي على وجه الأرض الذي يرفع راية الإسلام ويطبق شرع الله.. (138)
والحق أن نظام الحكم السعودي ليس إلا امتدادا للحكم الأموي والعباسي والأيوبي والمملوكي والعثماني والإسلام عنده ليس سوى شعار والشرع عنده خاص بالرعية.. (139)
- الأزهر والحكام:
ومع بداية ضعف الدولة العثمانية واستقلال الولايات التابعة لها عنها بدأت المؤسسات الدينية في تلك الولايات في الاستقلال عن المؤسسة الأم في الاستانة.
وقامت الحكومات في تلك الولايات خاصة في مصر والشام بدعم المؤسسة الدينية فيها بهدف تطويق نظام الخلافة العثمانية من هنا برز دور الأزهر كمؤسسة دينية استثمرتها الحكومات في إضفاء المشروعية على نظام الحكم في مصر، بل أن هذه المؤسسة أسهمت بدور كبير في محاولة نقل مقر الخلافة الإسلامية إلى مصر وتنصيب فؤاد الأول خليفة للمسلمين وذلك بعد إعلان سقوط الدولة
____________
(135) أنظر نصوص الفقهاء في الحكام فيما بعد. وانظر فصل مدافع ابن حنبل..
(136) هناك رواية شهيرة حول هذه القضية تقول: إذ بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما.. انظر مسلم كتاب الإمارة. وانظر كتب السنن. وانظر نصوص الفقهاء حول الحكام. ويلاحظ هنا أن آل سعود لا ينتمون إلى قريش بل إلى نجد..
(137) أنظر مدافع ابن عبد الوهاب وابن باز، وقد دمر الوهابيون آثار الرسول (ص) في مكة وقاموا بسد غار حراء وهدموا قبور آل البيت في البقيع وعزلوا المقبرة عن الناس. كذلك باعدوا بين الناس وبين قبر الرسول (ص).
(138) أنظر لنا كتاب فقهاء النفط، وكتاب ابن باز فقيه آل سعود.
(139) أنظر المرجعين السابقين..
(140) أنظر بيان شيخ الأزهر محمد مأمون الشناوي في عيد ميلاد الملك فاروق وهو بيان يحمل
=>
وبارك الأزهر مواقف وممارسات الملك فؤاد ومن بعده الملك فاروق وتغاضى عن الانحرافات والمفاسد التي ارتبطت بعصرهما..
وفي العصر الجمهوري ارتبط الأزهر بالحكم بصورة أكبر حتى تحول إلى مؤسسة من مؤسسات الدولة وقد تمثل موقفه المداهن للحكم الشديد الارتباط به في انحيازه الكامل إلى صف عبد الناصر ضد الإخوان المسلمين وإصداره الفتاوى المتطرفة والعدائية ضدهم ثم تبلور أكثر في تبنيه الخط الاشتراكي الذي تبناه عبد الناصر والخط السياسي المعادي لإسرائيل والغرب الذي انتهجته الدولة في فترة الستينيات.. (141)
وفي فترة السبعينيات انقلب موقف الأزهر سيرا مع الاتجاه الجديد للحكم الذي أعلن المصالحة مع الأخوان المسلمين والاعتراف بالكيان الصهيوني في فلسطين والارتباط بالغرب وتم توظيفه ليلعب دورا ضد الشيوعية والعلمانية.. (142)
وفي فترة الثمانينيات انقلب الأزهر على التيار الإسلامي وإيران والشيعة سيرا مع التوجه الجديد لنظام الحكم ولا يزال على هذا الموقف.. (143)
ومن الملاحظ أن ارتباط الأزهر بنظام الحكم الجمهوري قد أغرقه في السياسة وباعد بينه وبين دوره الفقهي ويعود السبب المباشر في ذلك إلى اندماجه وذوبانه داخل الدولة حتى أصبح المفتي وشيخ الأزهر كلاهما يعينان بقرار من رئيس الجمهورية.
ولم يعد لمفتي الجمهورية من دور سوى أن يرصد حركة الأهلة ليعلم الناس بقدوم شهر رمضان وعيد الفطر والأضحى بالإضافة إلى المهمة التشريعية التي شرفه بها القضاة وهي إبداء الرأي في حالات الحكم بالإعدام على الأشخاص والنظر في مدى مطابقتها لأحكام
____________
<=
المدح والثناء والتبجيل لفاروق ووالده والعائلة الحاكمة. ومن بين نصوص البيان قوله: وقد استجاب
الله دعاء هذا الشعب المخلص لجلالته الوفي لعرشه. فتحققت للبلاد أمانيها واستكملت استقلالها
وهبت نشطة بفضل توجيه الفاروق العظيم. انظر مجلة الأزهر أعداد رمضان وجمادى الأولى عام
1368 هـ. واحتفل الأزهر أيضا بعيد جلوس فاروق على العرش الموافق 6 / 5 / 1949 وكذلك ذكرى
رحيل الملك فؤاد. انظر إعداد الأزهر في تلك الفترة.
(141) أنظر موقف الأزهر من الحركة الإسلامية ونماذج من منشورات الأزهر المعادية للإخوان في تلك
الفترة في كتابنا الحركة الإسلامية في مصر..
(142) أنظر المرجع السابق، وقد أعلن الأزهر موافقته على الصلح مع إسرائيل.
وأصبح هذا هو حال المفتي - موظف الدولة - في جميع بلاد المسلمين سيرا مع السنة التي سنها العثمانيين...
كذلك الحال بالنسبة لشيخ الأزهر فهو أشبه بمدير جامعة إلا أن المكانة التاريخية للأزهر قد أضفت عليه قداسة في قلوب المسلمين في كل مكان مما جعلهم يطلقون عليه اسم الإمام الأكبر..
لكن ظهور النفط في جزيرة العرب قد مكن آل سعود من أن يلعبوا دورا في المحيط الإسلامي - بالإضافة إلى سيطرتهم على الحرمين - نافسوا به الأزهر بل تفوقوا عليه في مواطن كثيرة تمكنوا من استقطاب الرموز والهيئات الإسلامية سخروها لنشر الفكر الوهابي وتعميمه في كل مكان ليصبح المذهب الحنبلي مذهبا عالميا لأول مرة في تاريخه وكان قبل ذلك يقبع في زاوية مظلمة من زوا يا التاريخ.. (145)
وقد تجاوز الأمر هذا الحد بأن تمكن السعوديون من اختراق الأزهر واستقطاب رموزه إلى صف الدعوة الوهابية المعادية له كمؤسسة تتبنى الخط الحنفي وتتعايش مع الخط الصوفي والشيعي وكلا الخطين خصمين عنيدين للوهابية..
وإذا كان السعوديون قد تمكنوا من دفع الأزهر إلى معاداة الشيعة وإعلان الحرب على إيران إلا أنهم لم يتمكنوا من دفعة نحو محاربة الطرق الصوفية ويعود السبب في ذلك إلى سياسة الدولة المعادية لشيعة وإيران والتي فتحت الباب أمام الأزهر ليلعب هذا الدور ضد الشيعة وإيران ولم تفتحه في مواجهة الطرق الصوفية المتحالفة معها والتي تلعب دورا في وسط المسلمين هو أكبر بكثير من دور الأزهر..
- نصوص الفقهاء في الحكام:
اعتمد الفقهاء اعتمادا كبيرا على النص المنسوب للرسول (ص) الذي يقول: الأئمة من
____________
(143) أنظر المرجع السابق، ومنشورات الأزهر ضد الجماعات وبياناته ضد الشيعة وإيران والتي لا زالت تصدر حتى الآن، وانظر لنا كتاب الشيعة في مصر..
(144) برزت للمفتي في الفترة الأخيرة فتاوى تتعلق بالبنوك ونقل الأعضاء وغير ذلك إلا أن هذه الفتاوى لم تكن ملزمة. خاصة وأنه قد برز منافسون له في هذه الميدان يحظون بشعبية ووزن لا يتمتع
=>
قال البغدادي: قال أصحابنا أن الشرع قد ورد بتخصيص قريش بالإمامة ودلت الشريعة على أن قريشا لا تخلوا ممن يصلح للإمامة، فلا يجوز إقامة الإمام للكافة من غيرهم.. (146)
واشترط الفقهاء في الإمام أربعة شروط:
الأول: العلم الثاني: العدالة والورع..
الثالث: السياسة وحسن التدبير..
الرابع: النسب من قريش.. (147)
ومن الثابت تاريخيا أن أغلب الذين تولوا الحكم في بلاد المسلمين بداية من العصر الأموي وحتى عصرنا هذا لم تكن تتوافر فيهم هذه الشروط اللهم إلا شرط القرشية الذي توافر في الأمويين والعباسيين ولم يتوافر في السلاجقة الترك أو الأيوبيين الأكراد، أو المماليك الرقيق أو العثمانيين الترك، ومع ذلك دان الفقهاء لهؤلاء الحكام وأقروا لهم بالسمع والطاعة وألزموا الرعية بذلك..
وعندما قامت الدولة الفاطمية في مصر وحكامها ينسبون إلى قريش رفضوها ورموها بالكفر والزندقة لأنها لا تلتزم عقيدتهم ولا تتبع نهجهم ورواياتهم في الوقت الذي كانوا يدينون فيه بالطاعة والولاء لحكام زنادقة سفاحين ضاق بهم العباد من الأمويين والعباسيين وغيرهم.. (148)
أما عن طريقة اختيار الإمام أو الخليفة فقد اختلف الفقهاء في هذا الأمر:
قال الأشعري: إن الإمامة تنعقد لمن يصلح لها بعقد رجل واحد من أهل الاجتهاد والورع إذا عقدها لمن يصلح لها. فإذا فعل ذلك وجب على الباقين طاعته.. (149)
____________
<=
به المفتي مثل الشيخ الشعرواي..
(145) ضعف المذهب الحنبلي بعد سقوط الدولة العباسية التي كانت تدعمه بداية من عصر المتوكل،
وأصبح أقل المذاهب الإسلامية شأنا. ولم يظفر الحنابلة بدولة تدعمهم بعد ذلك، كما هو حال المالكية
في دول بلاد المغرب. وحال الأحناف مع العثمانيين حتى ظهرت الحركة الوهابية وآل سعود عندئذ برز
الحنابلة وادعوا تمثيل أهل السنة في غيبة المذاهب الأخرى..
(146) أصول الدين. ط بيروت.
(147) المرجع السابق. وانظر كتب الفقه، وهناك شروط أخرى وضعها بعض الفقهاء مثل الحرية
=>
وقال ابن قدامة المقدسي، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به أو غلبهم بسيفه حتى صار الخليفة وسمي أمير المؤمنين، وجبت طاعته وحرمت مخالفته والخروج عليه وشق عصا المسلمين.. (151)
وقال ابن حنبل: من ولي الخلافة واجتمع الناس عليه ورضوا به وغلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة. ليس لأحد أن يطعن عليهم ولا ينازعهم.. (152)
وقال: ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد كان الناس اجتمعوا عليه وأقروا له بالخلافة بأي وجه كان بالرضا أو بالغلبة، فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين وخالف الآثار عن رسول الله (ص) فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية، ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق.. (153)
وقال: الخلافة في قريش ما بقي من الناس اثنان، ليس لأحد من الناس أن ينازعهم فيها ولا يخرج عليهم، ولا نقر لغيرهم بها إلى قيام الساعة، والجهاد ماض قائم مع الأئمة بروا أو فجروا، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، والجمعة والعيدان والحج مع السلطان، وإن لم يكونوا بررة عدولا أتقياء، ودفع الخراج والفئ والصدقات والأعشار والغنائم إلى الأمراء عدلوا فيها أم جاروا والانقياد إلى من ولاه الله أمركم، لا تنزع يدا من طاعته ولا تخرج عليه بسيفك وتسمع وتطيع ولا تنكث بيعة، فمن فعل ذلك فهو مبتدع ضال مفارق للجماعة (154)
وقال الأشعري: وأجمعوا على السمع والطاعة لأئمة المسلمين، وعلى أن كل من ولي شيئا من أمورهم عن رضى أو غلبه من بر وفاجر لا يلزمهم الخروج عليه بالسيف جار أو عدل وعلى أن يغزو معهم العدو ويحج معهم، وتدفع إليهم الصدقات إذا طلبوها، ويصلي خلفهم الجمع
____________
<=
والبلوغ والإسلام وهي تنضم إلى الشروط الأخرى التي لم تتحقق في الحكام..
(148) أنظر تاريخ الخلفاء للسيوطي وكيف ترجم ليزيد بن معاوية الذي كفر من قبل بعض الفقهاء
واعتبره خليفة وترجم للوليد بن يزيد الفاسق منتهك الحرمات الذي أراد الحج ليشرب الخمر فوق ظهر
الكعبة واعتبره خليفة ثم ترجم للمماليك العبيد وخلفاء بني العباسي في مصر الذين كانوا لافتة
وصورة لسلاطين المماليك هذا في الوقت الذي لم يترجم لأحد من خلفاء الفاطميين لأن أمامتهم غير
صحيحة في نظره، انظر المقدمة وآخر الكتاب.
(149) أصول الدين للبغدادي. وانظر مقالات الاسلاميين..
ويقول ابن تيمية: ويرون - أي أهل السنة - إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبرارا كانوا أو فجارا. (156)
وقال البر بهارى: لا يحل لأحد أن يبيت ليلة ولا يرى أن ليس عليه إمام برا كان أو فاجرا ومن خرج على إمام أئمة المسلمين فهو خارجي قد شق عصا المسلمين وخالف الآثار وميتته جاهلية.
وإذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا رأيت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنه صاحب سنة، أمرنا أن ندعو لهم بإصلاح ولم نؤمر أن ندعو عليهم.. (157)
وقال البيجوري: ولو تغلب عليها شخص - الإمامة - قهرا انعقدت له وإن لم يكن أهلا كصبي وامرأة وفاسق. وتجب طاعته فيما أمر به أو نهى عنه.. (158)
ويقول أبو يعلى: والإمامة تنعقد من وجهين. أحدهما:
باختيار أهل الحل والعقد..
بعهد الإمام من قبل..
فأما انعقادها باختيار أهل الحل والعقد فلا تنعقد إلا بجمهور أهل الحل والعقد.
ويجوز للإمام أن يعهد إلى إمام بعده، ولا يحتاج في ذلك إلى شهادة أهل الحل والعقد (159)
ويرى كثير من الفقهاء أن الإمامة تنعقد بثلاثة أوجه هي:
الأول: العهد إليه من سابقة كما فعل أبو بكر مع عمر حين أوصى إليه بالخلافة بعده..
____________
(150) المرجع السابق..
(151) لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد..
(152) أصول السنة ط السعودية
(153) شرح أصول اعتقاد أهل السنة للألكائي ح 1 / 161..
(154) رسالة السنة ذيل الرد على الجهمية والزنادقة. ط السعودية.
(155) أصول أهل السنة والجماعة المسماة برسالة أهل الثغر. ط القاهرة
الثالث: القهر، والغلبة أي الاستيلاء على الحكم بالقوة وقد حدث هذا مع كثير من الحكام على مر تاريخ المسلمين.. (160)
وقال ابن حزم: عقد الإمامة يصح بوجوه أولها وأفضلها وأصحها أن يعهد الإمام الميت إلى إنسان يختاره إماما بعد موته وسواء فعل ذلك في صحته أو في مرضه وعند موته إذ لا نص ولا إجماع على المنع من أحد هذه الوجوه كما فعل الرسول (ص) بأبي بكر وكما فعل أبو بكر بعمر وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز وهذا هو الوجه الذي نختاره ونكره غيره لما في هذا الوجه من اتصال الإمامة وانتظام أمر الإسلام وأهله ورفع ما يتخوف من الاختلاف والشغب مما يتوقع في غيره من بقاء الأمة فوضى ومن انتشار الأمر وارتفاع النفوس وحدوث الأطماع. فإن مات الإمام ولم يعهد إلى إنسان بعينه فوثب رجل يصلح للإمامة فبايعه واحد فأكثر ثم قام آخر ينازعه ولو بطرفه عين بعده فالحق حق الأول وسواء كان الثاني أفضل منه أو مثله أو دونه لقول الرسول (ص): فوا بيعة الأول فلأول فمن جاء ينازعه فاضربوا عنقه كائنا من كان.. (161)
ويرى جمهور أهل السنة أن الإمام لا ينخلع بالفسق أو بالجور أو بغضب الأموال وضرب الأبشار وتضييع الحقوق وتعطيل الحدود ولا يجب الخروج عليه بل يجب وعظه وتخويفه.. (162)
وقد استفزت علاقة الفقهاء بالحكام ابن الجوزي في زمانه فكتب يقول:
ومن تلبيس إبليس على الفقهاء مخالطتهم الأمراء والسلاطين ومداهنتهم وترك الإنكار عليهم مع القدرة على ذلك، وربما رخصوا لهم فيما لا رخصه لهم فيه لينالوا من دنياهم عرضا فيقع بذلك الفساد لثلاثة أوجه:
الأول: الأمير يقول لولا أني على صواب لأنكر على الفقيه، وكيف لا أكون مصيبا وهو يأكل من ما لي.
____________
(156) العقيدة الواسطية وهي العقيدة الأساسية المعتمدة عند التيار الوهابي والجماعات ويلاحظ أن ابن تيمية كان معاصر الحكام المماليك..
(157) أصول السنة ط السعودية..
(158) شرح البيجوري على الجوهرة المسمى تحفة المريد على جوهرة التوحيد. وهو مقرر على طلبة المعاهد الأزهرية..
والثالث: الفقيه فإنه يفسد دينه بذلك، وقد لبس إبليس عليهم في الدخول على السلطان فيقول إنما ندخل لنشفع في مسلم وينكشف هذا التلبيس بأنه لو دخل غيره يشفع لما أعجبه ذلك وربما قدح في ذلك الشخص لتفرده بالسلطان ومن تلبيس إبليس عليه في أخذ أموالهم فيقول لك حق فيها. ومعلوم أنها إن كانت من حرام لم يحل له منها شئ وإن كانت من شبهة فتركها أولى، وإن كانت من مباح جاز له الأخذ بمقدار مكانه من الدين لا على وجه إتفاقه في إقامة الرعونة، وربما اقتدى العوام بظاهر فعله واستباحوا ما لا يستباح، وقد لبس إبليس على قوم من العلماء ينقطعون على السلطان إقبالا على التعبد والدين فيزين لهم غيبة من يدخل على السلطان من العلماء فيجمع لهم آفتين:
غيبة الناس ومدح النفس، وفي الجملة فالدخول على السلاطين خطر عظيم لأن النية قد تحسن في أول الأمر ثم تتغير بإكرامهم وإنعامهم أو بالطمع فيهم ولا يتماسك عن مداهنتهم وترك الإنكار عليهم، وقد كان علماء السلف يبعدون عن الأمراء لما يظهر من جورهم فتطلبهم الأمراء لحاجتهم إليهم في الفتاوى والولايات فنشأ أقوام قويت رغبتهم في الدنيا فتعلموا العلوم التي تصلح للأمراء.. (163)
____________
(159) الأحكام السلطانية..
(160) أنظر المراجع السابقة..
(161) الفصل في الملك والنحل ح 4 / باب الكلام في عقد الإمامة بماذا تصح..
(162) أنظر المراجع السابقة. والفقهاء إنما يتبنون هذا الموقف من الحكام على أساس الروايات.
=>
مدافع ابن حنبل
إمام المتطرفين..
____________
<=
أنظر التمهيد للباقلاني والاعتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة للبيهقي..
____________
(163) تلبيس إبليس. وابن الجوزي من أعيان القرن السادس الهجري توفي عام 597 هـ ببغداد.
=>
- من الاعتدال إلى التطرف:
استمر ابن حنبل يدرس الرواية ويحفظها وينقلها ويبثها بين الناس لم يكن يعترض سبيله أحد، ولم يكن يصطدم بأحد..
كانت الرواية هي حياته وشغله الشاغل وحيثما توجهه الرواية كان يتوجه حتى أنه اعتبر تبني الرواية الضغيفة والأخذ بها خير من استخدام العقل واللجوء للرأي..
وتشكلت شخصيته وعقيدته على أساس هذه الروايات التي كانت سلاحه الأول والأخير في مواجهة المخالفين..
وعندما تبنى المأمون نهج المعتزلة في نهاية حكمة خرج ابن حنبل رافعا لواء المعارضة لفكر المعتزلة الذي يرجح العقل على الرواية معتبرا أن هذا الاتجاه يشكل خطورة على عقيدة السلف وعلى الرواية، وابن حنبل كان يشعر على الدوام بخطورة المعتزلة والاتجاهات الأخرى على طرحه وعلى الروايات إلا أنه لم يظهر العداء في مواجهة هذه الاتجاهات لضعفها أمام تيار الرواية الذي كان سائدا آنذاك بالإضافة إلى تيار الفقهاء المدعوم من قبل الحكام.
ولقد شكل حدث تبني المأمون نهج المعتزلة انقلابا دينيا في نظر ابن حنبل نقل المعتزلة من طور الاستضعاف إلى طور التمكن وفتح الأبواب أمامهم ليسودوا على حساب أهل السنة ويهدموا صرح الرواية الذي أسهم فقهاء السلف في تأسيسه منذ عشرات السنين..
وهكذا أعلن ابن حنبل رفضه لفكرة خلق القرآن التي يتبناها المعتزلة، وشكل هذا الرفض تحديا لسلطة المأمون الذي أمر بالقبض عليه، فأحضر مكبلا بالأغلال إليه في طرسوس. لكن القدر أنقذه من يد المأمون إذ جاءه الخبر بوفاته وهو في الطريق إليه فأعيد إلى بغداد ووضع في السجن، ثم مثل أمام المعتصم الخليفة الجديد وجرت له محاكمة وأصر ابن حنبل على موقفه برفض القول بخلق القرآن فضرب بشدة وأعيد إلى السجن وأخلى سبيله بعد حوالي العامين فالتزم العزلة والانقطاع طوال عصر المعتصم وعصر الواثق من بعده... (2)
____________
<=
وهو من فقهاء الحنابلة غير أنه اصطدام بالحنابلة في مسألة الصفات وقولهم بالتجسيم وكتب كتابا
=>
في ظل هذا العصر استأنف ابن حنبل نشاطه واتخذ المتوكل من يحيى ابن أكثم وزيرا بدلا من أحمد بن داود المعتزلي الذي كان وزير المعتصم... (4)
وتقرب أحمد بن حنبل من المتوكل الذي دعاه إلى سامراء سنة (237 هـ) لأجل إعطاء ولده المعتز دروسا في الحديث... (5)
- المدفع الأول:
كان ابن حنبل ورعا في الفتيا والاجتهاد، ولم يكن يجرؤ على التصدي لأية قضية دون أن يكون هناك نص صريح لديه يتمثل في رواية منسوبة للرسول (ص) أو الصحابي أو فتوى منسوبة لصحابي أو لأحد من التابعين.
من هنا فقد رفض ابن حنبل أن يدون عنه شيئا من رواياته أو مسائلة مخافة أن تختلط بالكتاب والسنة..
إلا أن ولديه عبد الله وصالح لم يلتزما بذلك بعد وفاته، فقد قام عبد الله بتدوين روايات والده فيما سمي بمسند ابن حنبل وزاد عليه من عنده روايات أخرى كما أضاف إليه كتاب الزهد وزادت الروايات التي جمعها عبد الله في مسند أبيه على ثمانية وعشرين ألف رواية.. (6)
وقام تلامذته بتدوين مسائلة وردوده في عدة كتب تم نشرها بين المسلمين.. (7)
ويمكن تحديد نهج ابن حنبل ونوع مدافعة من خلال رسالتين من رسائله كتب أولاهما في السجن وهي رسالة: الرد على الزنادقة والجهمية..
____________
<=
في ذلك يرد فيه عليهم وهو كتاب: دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه. ط القاهرة وقد هاجمه ابن تيمية
في كتابه نقد المنطق..
(1) أنظر سيرة الطبري في كتب التراجم وأحداث عام (310 هـ) في كتب التاريخ..
وتعد رسالة الرد على الجهمية والزنادقة من أقوى مدافع ابن حنبل التي صوبها نحو المسلمين والاتجاهات الأخرى المخالفة له، وعلى أساسها قامت مدارس واتجاهات عدوانية شديدة التطرف ضد العقل والآخرين حمل رايتها الحنابلة ومن سار على دربهم.
يقول ابن حنبل في رسالته في معرض ردوده على القائلين بفكرة خلق القرآن وهم في تصوره الجهمية ثم أن الجهمي ادعى أمرا وهو من المحال فقال: أخبرونا عن القرآن أهو الله تعالى أو غير ذلك؟ فادعى في القرآن أمرا يوهم الناس. فإذا سئل الجاهل عن القرآن هو الله أو غير الله، فلا بد أن يقول بأحد القولين:
فإن قال هو الله، قال له الجهمي كفرت.
وأن قال غير الله، قال صدقت، فلم لا يكون غير الله مخلوقا.
فيقع في نفس الجاهل من ذلك ما يميل به إلى قول الجهمي.
وهذه المسألة من الجهمي هي من المغاليط.
والجواب للجهمي إذا سأل فقال أخبرونا عن القرآن هو الله أو غير الله؟
قيل له: إن الله جل ثناؤه لم يقل في القرآن أن القرآن أنا ولم يقل غيري وقال هو كلامي فسميناه باسم سماه الله به فقلنا كلام الله، فمن سمى القرآن باسم سماه الله به كان من المهتدين ومن سماه باسم من عنده كان عن الضالين..
ثم أن الجهمي ادعى أمرا آخر، فقال: أخبرونا عن القرآن هو شئ؟
فقلنا: نعم هو شئ.
فقال إن الله خالق كل شئ، فلم لا يكون القرآن من الأشياء المخلوقة وقد أقررتم أنه شئ فلعمري لقد ادعى أمرا أمكنه فيه الدعوى ولبس على الناس بما ادعى.
فقلنا إن الله سبحانه لم يسم كلامه في القرآن شيئا. إنما سمى شيئا الذي كان بقوله. ألم تسمع إلى قوله تبارك وتعالى (إنما قولنا لشئ) فالشئ ليس هو أمره وأنما الشئ الذي كان يقوله، وقال في آية أخرى (إنما أمره أراد شيئا) فالشئ ليس هو أمره وأنما الشئ الذي كان يأمره، فكذلك إذا قال (خالق كل شئ) لا يعني نفسه ولا علمه ولا كلامه مع الأشياء
____________
(2) أنظر تاريخ الخلفاء للسيوطي. وترجمة ابن حنبل في تاريخ الإسلام للذهبي وشذرات الذهب
ثم أن الجهمي ادعى أمرا آخر فقال أنا أجد آية في كتاب الله على أن القرآن مخلوق، فقلنا في أي آية..؟
فقال قول الله تبارك وتعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث)
فزعم أن الله قال للقرآن محدث، وكل محدث مخلوق، فلعمري لقد شبه على الناس بهذا وهي آية من المتشابه فقلنا في ذلك قولا واستعنا بالله ونظرنا في كتاب الله ولا حوله ولا قوة إلا بالله..
ثم أن الجهمي ادعى أمرا فقال إنا وجدنا آية في كتاب الله تدل على أن القرآن مخلوق.
فقلنا أي آية..؟
فقال: قول الله تعالى (إنما المسيح عيس بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم) وعيسى مخلوق..
فقلنا إن منعك الفهم في القرآن..
ثم إن الجهمي ادعى أمرا فقال إن الله يقول (خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام) فزعم أن القرآن لا يخلوا أن يكون في السماء أو في الأرض أو فيما بينهما.
فشبه على الناس ولبس عليهم.
فقلنا له: أليس إنما أوقع الله جل ثناؤه الخلق على المخلوقين ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما فقالوا نعم، فقلنا: هل فوق السماوات شئ مخلوق؟
قالوا: نعم.
فقلنا: فإنه يجعل ما فوق السماوات مع الأشياء المخلوقة..
أحداث عام (241 هـ)..
وفي باب آخر من أبواب الرسالة تحت عنوان: باب بيان ما جحدت الجهمية من قوله تعالى (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة).
قال لم أنكرتم أن أهل الجنة ينظرون إلى ربهم؟
فقالوا: لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى ربه لأن المنظور إليه معدود موصوف إنما ترى الأشياء بفعله فقلنا: إن الله يقول (إلى ربها ناظرة)
فقالوا: معناها إلى ربها ناظرة تنتظر الثواب من ربها، وإنما ينظرون إلى فعله وقدرته..
فقلنا: إنها مع ما تنتظر الثواب هي ترى ربها، وقد قال النبي (ص): إنكم سترون ربكم..
فأيهما أولى أن نتبع النبي حين قال سترون ربكم، أم قول الجهمي حين قال لا ترون ربكم؟
والأحاديث في أيدي أهل العلم عن النبي (ص) أن أهل الجنة يرون ربهم لا يختلف فيها أهل العلم..
ثم أنكر ابن حنبل في باب آخر قول الجهمية أن يكون الله سبحانه في كل مكان مؤكدا أن الله في السماء فوق العرش مستندا إلى عدد من النصوص القرآنية والروايات المنسوبة إلى الرسول (ص) مهاجما الجهمية عاملا على إبطال استدلالاتهم من القرآن..
يقول ابن حنبل: إذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أن الله في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان. فقل أليس الله كان ولا شئ؟
فيقول: نعم..
فقل له حين خلق الشئ خلقه في نفسه أو خارج في نفسه؟
____________
(3) أنظر تاريخ الخلفاء ترجمة المتوكل وكتب التاريخ الأخرى..
إن زعم أن الله خلق الخق في نفسه كفر حين زعم أنه خلق الجن والأنس والشياطين في نفسه..
وإن قال خلقهم خارجا عن نفسه ثم دخل فيهم كان هذا أيضا كفر حين زعم أنه دخل في مكان رجس قذر ردئ..
وإن قال خلقهم خارجا من نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله أجمع وهو قول أهل السنة..
ورد ابن حنبل على ما استندت إليه الجهمية من الروايات على أن القرآن مخلوق وعلى رأسها رواية تقول: أن القرآن يجيئ في صورة الشاب الشاحب فيأتي صاحبه فيقول هل تعرفني؟
فيقول: من أنت؟
فيقول: أنا القرآن الذي أظمأت نهارك وأسهرت ليلك.. الخ.
فادعوا أن القرآن مخلوق من قبل هذه الأحاديث، فقلنا لهم القرآن لا يجيئ إلا بمعنى أنه قد جاء من قرأ (قل هو الله أحد) فله كذا وكذا، ألا ترون أن من قرأ قل هو الله أحد لا تجيئه بم يجيئ ثوابه لأنا نقرأ القرآن فيقول يا رب ويجيئ ثواب القرآن وكلام الله لا يجيئ ولا يتغير من حال إلى حال، وإنما معنى أن القرآن يجيئ إنما يجيئ ثواب القرآن فيقول يا رب.. ويستمر ابن حنبل في إطلاق مدافعة وإنزال لعناته على الجهمية ومن سار على دربهم ويختتم رسالته بقوله: قلنا للجهمية حين زعموا أن الله في كل مكان لا يخلوا منه مكان:
أخبرونا عن قوله جل ثناؤه (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا) لم تجلى للجبل إن كان فيه عمكم. فلو كان فيه كما تزعمون لم يكن يتجلى لشئ هو فيه، ولكن الله جل ثناؤه على العرش وتجلى ولم يكن فيه ورأى الجبل شيئا لم يكن رآه قبل ذلك.
وقلنا للجهم الله نور. فقال هو نور كله.
فقلنا فالله قال (وأشرقت الأرض بنور ربها) فقد أخبر الله جل ثناؤه أن له نورا، أخبرونا حين زعمتم أن الله تعالى في كل مكان وهو نور فلم يا يضئ البيت المظلم من النور الذي هو فيه إذ زعمتم أن الله في كل مكان. وما بال السراج إذا أدخل البيت يضئ، فعند ذلك تبين
ويلاحظ من خلال ما تم عرضه من هذه الرسالة أن خصوم ابن حنبل من الجهمية وغيرهم يستندون إلى الكتاب والسنة التي يستند عليها ابن حنبل. فمن ثم هم مسلمون مثلما هو مسلم فإذا كان الأمر كذلك فلما كل هذه الحرب من قبل ابن حنبل عليهم..؟
أن المسألة في مضمونها هي صراع بين اتجاهين متناقضين:
اتجاه ابن حنبل الذي يرفض العقل والرأي ويتبنى الروايات..
واتجاه الآخرين الذين يؤمنون بالعقل والرأي..
وقد لاقى اتجاه ابن حنبل منذ عصر المتوكل دعما متواصلا من حكام بني العباسي. بينما اعتبر الاتجاه الآخر مرفوضا ومجرما ومزندقا..
حتى أن اتجاه الأشعري الذي برز بعد مرحلة ابن حنبل تأثر به وتبنى الكثير من مقولاته فتلقفته حكومات السلاجقة والأيوبيين والمماليك واعتبروه النهج المعبر عن أهل السنة ومنذ ذلك الحين عاشت الاتجاهات الأخرى في ركن مظلم معزولة عن الواقع مستضعفة تلاحقها السيوف تارة، وفتاوى التكفير والزندقة تارة أخرى، وذلك على أساس ما وضع ابن حنبل من قواعد وعقائد ومفاهيم..
- المدفع الثاني:
وتشكل رسالة السنة التي سوف نعرض لها هنا الإطار العقائدي والأساس الذي بيت عليه المواقف والممارسات المتطرفة التي تبناها الحنابلة وغيرهم، وتبناها كذلك الحكام في مواجهة المسلمين المخالفين.
لقد أهدى ابن حنبل الأمة تراثا هو عبارة عن مجموعة من المدافع الثقيلة الشديدة على العقل والاتجاهات الأخرى، استثمره الحكام واستثمرته الجماعات المريضة في تفتيت وحدة المسلمين وزرع الإرهاب بينهم وتفريغ عقولهم.
يقول ابن حنبل في مقدمة الرسالة: هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروقها المعروفين بها. المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبي (ص) إلى يومنا
كانت هذه هي أولى طلقات هذا المدفع..
ويواصل ابن حنبل قائلا: من زعم أن الزنا ليس بقدر قيل له: أرأيت هذه المرأة حملت من الزنا وجاءت بولد. هل شاء الله عز وجل أن يخلق هذا الولد؟ وهل مضى في سابق علمه؟
فإن قال: لا. فقد زعم أن مع الله خالقا، وهذا هو الشرك صراحا.
ومن زعم أن السرقة وشرب الخمر وأكل المال الحرام ليس بقضاء وقدر فقد زعم أن هذا الإنسان قادر على أن يأكل رزق غيره، وهذا صراح قول المجوسية..
ومن زعم أن قتل النفس ليس بقدر من الله عز وجل وأن ذلك بمشيئة من خلقه، فقد زعم أن المقتول مات بغير أجله، وأي كفر أوضح من هذا؟
ويحدد ابن حنبل موقفه من الحكام صراحة بقوله:
ولا تخرج على السلطان وتسمع وتطيع ولا تنكث بيعته، فمن فعل ذلك فهو مبتدع مخالف مفارق للجماعة..
ولا نشهد على أحد من أهل القبلة أنه في النار لذنب عمله ولا لكبيرة أتاها إلا أن يكون ذلك في حديث كما جاء على ما روي فنصدقه، والكف عن أهل القبلة ولا تكفر أحدا منهم بذنب ولا تخرجه من الإسلام بعمل إلا أن يكون في ذلك حديث كما جاء وكما روي وتصدقه وتقبله وتعلم أنه كما روي نحو ترك الصلاة وشرب الخمر وما أشبه ذلك، أو يبتدع بدعة ينسب إلى صاحبها الكفر والخروج من الإسلام فاتبع الأثر في ذلك ولا تجاوزه، فإن احتج مبتدع أو زنديق بقوله الله عز وجل (كل شئ هالك إلا وجهه) وبنحو هذا من متشابه القرآن، قيل له: كل شئ مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك، والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء ولا للهلاك، وهما من الآخرة لا من الدنيا، والحور العين لا يمتن عند قيام الساعة، ولا عند النفخة، ولا أبدا، لأن الله عز وجل خلقهن للبقاء لا للفناء، ولم يكتب عليهن الموت، فمن قال خلاف هذا فهو مبتدع وقد ضل عن سواء السبيل، ولله عز وجل عرش، وللعرش حملة يحملونه، والله عز وجل على عرشه يتحرك ويتكلم وينظر ويبصر ويضحك ويفرح ويحب
وخير الأمة بعد النبي (ص) أبو بكر وعمر وعثمان وعلى بعد عثمان، وهم خلفاء راشد مهديون ثم أصحاب رسول بعد هؤلاء الأربعة خير الناس، لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساويهم. ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا بنقص، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته، ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب قبل منه، وإن ثبت عاد عليه بالعقوبة وخلده الحبس حتى يموت أو يرجع...
والدين إنما هو كتاب الله عز وجل وآثار وسنن وروايات صحاح عن الثقات بالأخبار الصحيحة القوية المعروفة يصدق بعضها بعضا، حتى ينتهى ذلك إلى رسول الله (ص) وأصحابه والتابعين وتابعي التابعين ومن بعدهم من الأئمة المعروفين المقتدى بهم المتمسكين بالسنة والمتعلقين بالآثار، لا يعرفون بدعة ولا يطعن فيهم بكذب، ولا يرمون بخلاف، وليسوا بأصحاب قياس ولا رأي لأن القياس في الدين باطل، والرأي كذلك أبطل منه، وأصحاب الرأي والقياس في الدين مبتدعة ضلال، إلا أن يكون في ذلك أثر عمن سلف من الأئمة الثقات.
ومن زعم أنه لا يرى التقليد ولا يقلد دينه أحدا: فهو قول فاسق عند الله ورسوله (ص)
إنما يريد بذلك إبطال الأثر وتعطيل العلم والسنة، والتفرد بالرأي والكلام والبدعة والخلاف.
وهذه المذاهب والأقاويل التي وصفت مذهب أهل السنة والجماعة والآثار وأصحاب الروايات
وحملة العلم الذين أدركناهم وأخذنا عنهم الحديث وتعلمنا منهم السنن وكانوا أئمة معروفين
ثقات أصحاب صدق يقتدى بهم ويؤخذ عنهم ولم يكونوا أصحاب بدعة ولا خلاف ولا تخليط