ثم حدد ابن حنبل نهاية رسالته أصحاب البدع والضلال في تصوره بقوله:
ولأصحاب البدع ألقاب وأسماء لا تشبه أسماء الصالحين ولا العلماء من أمة محمد (ص)..
فمن أسمائهم المرجئة وهم الذين يزعمون أن الإيمان قول بلا عمل..
والقدرية وهم الذين يزعمون أن إليهم الاستطاعة والمشيئة والقدرة..
والمعتزلة والجهمية والرافضة والزيدية والخوارج ثم أصحاب الرأي الذين أطلق عليهم آخر قذائفه بقوله: وأصحاب الرأي وهم مبتدعة ضلال أعداء للسنة والأثر يبطلون الحديث ويردون على الرسول (ص) ويتخذون أبا حنيفة ومن قال بقوله إماما، ويدينون بدينهم، وأي ضلالة أبين ممن قال بهذا أو ترك قول الرسول وأصحابه، فكفى بهذا غيا مرديا وطغيانا..
فمن قال بشئ من هذه الأقاويل - أقول الاتجاهات الأخرى - أو صوبها أو رضيها أو أحبها فقد خالف السنة وخرج من الجماعة، وترك الأثر، وقال بالخلاف، ودخل في البدعة، وزال عن الطريق.
ويبدو أن الاتجاهات الأخرى لم تستسلم لمدافع ابن حنبل بل درت عليه وهاجمته وطعنت في عقيدته وتصوره مما دفع به إلى أن يسلط عليهم مدافعه في نهاية رسالته بقوله: وقد رأيت لأهل الأهواء والبدع والخلاف أسماء شنيعة قبيحة يسمون بها أهل السنة يريدون بذلك عيبهم والطعن عليهم والوقيعة فيهم والإزراء بهم عند السفهاء والجهال..
فأما المرجئة فإنهم يسمون أهل السنة شكاكا وكذبت المرجئة..
وإما القدرية فيسمونهم المجبرة وكذبت القدرية..
وأما الجهمية فيسمونهم المشبهة وكذبت الجهمية أعداء الله..
وإما الرافضة فيسمونهم الناصبة وكذبت الرافضة..
وأما الخوارج فيسمونهم مرجئة وكذبت الخوارج..
وأما أصحاب الرأي فيسمونهم حشوية وكذب أصحاب الرأي أعداء الله، بل هم الحشوية تركوا آثار الرسول وحديثه وقالوا بالرأي وقاسوا الدين بالاستحسان، وحكموا بخلاف الكتاب والسنة وهم أصحاب بدعة جهلة ضلال وطلاب دنيا بالكذب والبهتان..
اللهم أدحض باطل المرجئة وأوهن كيد القدرية وأذل دولة الرافضة وامحق شبه أصحاب
ونخرج من هذا العرض لرسالة السنة أن قذائفها أشد فتكا من سابقتها، وأن ابن حنبل قد أعلن عن وجهته صراحة من خلالها..
فهو قد أعلن أن هذه الرسالة تمثل عقيدة السلف من الصحابة والتابعين..
وأعلن أن الخارج عن حدودها والمخالف لها مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن سبيل الحق.
نسب الظلم إلى الله سبحانه حين ربط الزنا والسرقة والخمر والقتل بمشيئة الله وإرادته وربط الحكم بصلاح المسلم ونجاته من النار بالرواية وليس بالقرآن.
وأعلن أن الخارج عن السلطان مبتدع مخالف مفارق للجماعة..
وأعلن أن الله في السماء فوق العرش يتحرك ويتكلم ويضحك ويفرح وينزل إلى الدنيا وخلق آدم على صورته ويضع قدمه في النار.. الخ هذه الصفات التي جاءت بها الروايات ولم يأت بها القرآن والتي تضع ابن حنبل ومن سار في ركاب هذه الرويات في دائرة التجسيم.
وأعلن تكفير الجهمية لقولهم بخلق القرآن ودخل معهم في دائرة التكفير الشيعة والمعتزلة الذين يتبنون نفس الفكرة..
وتطرف ابن حنبل في موقفه أكثر فكفر الذين يقولون بأن القرآن كلام الله وكفى.. والذين يقولون بأن الألفاظ والتلاوة مخلوقة، وإن من لم يكفر هؤلاء فهو مثلهم..
وأخرج من دائرة الإسلام الذين يتبنون مواقف من الصحابة كالشيعة والمعتزلة والخوارج وغيرهم الذين لا يعترفون بمعاوية ويهاجمونه ويتبنون نفس الموقف من عمر وبن العاص أو المغيرة بن شبعة أو عثمان أو أبو هريرة وغيرهم من الصحابة الذين ارتبطوا بالفتن والخلافات التي وقعت بعد وفاة الرسول (ص).
وتجاوز هذا الحد بأن حرض الحاكم عليهم وأفتاه بجواز تأديبهم وحبسهم وقتلهم.
وحدد الدين في دائرة الكتاب والسنة والسلف، أي ربط الرواية والرجال بالقرآن فكأن من نبذ الرواية والرجال نبذ القرآن وخرج من الإسلام، وهو بهذا قد أضفى القداسة على الرواية والرجال وأرهب المسلمين من المساس بهما..
وفي رسالة أخرى لابن حنبل تحت عنوان (كتاب الصلاة) أعلن ابن حنبل تكفير تارك الصلاة وعدم جواز الصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين..
ولعل تمسك ابن حنبل بالروايات وأقوال السلف هو الذي جعل له شعبية وسط العامة الذين تجذبهم الروايات بدافع عشقهم للرسول (ص) وجيله، فقول الرسول أو الصحابي يجذب الناس ويستقطبهم أما الرأي فله خواصه من الناس..
وعندما توفي ابن حنبل أصبح قبره مزارا تحتشد الناس من حوله ووضعت الحراسات عليه، وقام الخليفة المستضئ بوضع بناء عليه نقش فيه مدحا وتمجيدا له وذلك في عام 574 هـ ثم جاء فيضان دجلة فأزال القبر فاتجه الناس نحو قبر ولده عبد الله وأضفوا عليه القداسة التي كانوا يضفونها على قبر أبيه.. (8)
- المدافع الثالث:
وقد حمل تراث ابن حنبل جيل من الحنابلة يساندهم قطاع من عوام بغداد انطلق يرهب الناس والمخالفين ويرفع راية التكفير والزندقة في مواجهتهم..
وإذا كان الأستاذ الإمام بهذا القدر من التطرف فكيف يكون حال تلاميذه؟
لا شك أن حجم مدافعهم سوف تكون أكبر وطلقاتهم سوف تكون أشد..
وهذا ما تشهد به وقائع التاريخ، فيما أطلق عليه المؤرخون فتن الحنابلة وهي حوادث وقعت في فترات متفرقة ضمن حدود بغداد موطن الحنابلة، كان ضحيتها المخالفين على الدوام فقهاء وعوام من السنة والشيعة..
وكان الحنابلة قد قويت شوكتهم بدعم من المتوكل العباسي ومن بعده من خلفاء بني العباس الذين عملوا على استثمارهم في تقوية نظام حكمهم وتصفية المعارضين لهم..
ومنذ ذلك الحين كثرت اعتداءاتهم على العامة والنساء في الطرقات والتفريق بينهما في الأسواق ومهاجمة الأسواق لمنع الاختلاط ومقاومة البدع..
____________
(8) أنظر البداية والنهاية لابن كثير ح 12. ومناقب ابن حنبل لابن الجوزي ح / 1 وطبقات الحنابلة الأبن رجب ح / 1. وإذا كان هذا هو حال قبر ابن حنبل وقبر ولده فمن أين أتى الحنابلة بفكرة مقاومة القبور واعتبار زيارتها والاهتمام بها وتعليتها شرك..
يروي الذهبي عن أحداث عام (398 هـ) أن في هذه السنة وقعت فتنة عظيمة بين الشيعة والسنة في بغداد وكاد أن يقتل الشيخ أبو حامد الاسفرايني، فأنفذ الخليفة القادر الفرسان لمعاونة أهل السنة وقمع الشيعة.. (9)
ومثل هذه المدافع التي حملها الحنابلة في مواجهة الناس والمخالفين والتي هي من صناعة إمامهم ابن حنبل لم توجه في يوم من الأيام إلى الحكام، وهذا الأمر إن دل على شئ فإنما يدل على أن عقيدة الحنابلة في مضمونها عقيدة حكومية في صالح الحاكم لا في صالح الجماهير..
وهو يدل من جناب آخر على أن هذه العقيدة قد فرضت على المسلمين بضغط الحكام ولو قدر لها أن تسلك السبيل المعتاد في الدعوة الذي سلكته الشيعة والخوارج من بعد الإمام علي والمعتزلة والمذاهب الأخرى لما قدر لها البقاء والانتشار، والبرهان على ذلك أن مذهب الحنابلة سقط وتوارى بعد سقوط الدولة العباسية، واتجهت الدول التي ظهرت بعدها نحو الأشاعرة والشافعية..
وجاء ابن تيمية في القرن الثامن فحمل مدافع الحنابلة وأطلق نيرانه على المسلمين فقمعه الفقهاء والحكام وحبس حتى مات في الحبس وحبس معه تلميذه ابن القيم.. ولم يقدر للحنابلة البروز بعد ذلك حتى جاء محمد بن عبد الوهاب وحمل مدافعهم من جديد ثم تسلمت الجماعات راية الحنابلة من الوهابيين وحملت مدافعهم في مواجهة المسلمين وغير المسلمين لتعود فتن الحنابلة إلى البروز على ساحة الواقع من جديد.. (10)
____________
(9) أنظر الكامل في التاريخ لابن الأثير. وتاريخ الإسلام للذهبي. وتاريخ الخلفاء للسيوطي. وانظر لنا أهل السنة شعب الله المختار. والكلمة والسيف..
(10) أنظر فصل مدافع محمد بن عبد الوهاب..
مدافع ابن حزم
متطرف راح ضحية المتطرفين..
واستوزره المرتضى خليفة مدينة بلنسية، ثم استوزره الخليفة عبد الرحمن الخامس الملقب بالمستظهر في قرطبه عام (414 هـ)، ثم قتل عبد الرحمن بعد ذلك بمدة قصيرة وقبض على ابن حزم ووضع في السجن ثم أفرج عنه بعد ذلك..
ويروى أنه وزر مرة ثالثة لهشام المعتد إلا أنه اعتزال السياسة بعد ذلك وتفرغ للعلم والتأليف حتى أصبح من أشهر علماء الأندلس وأكثرهم ذكرا في مجالس الرؤساء وعلى ألسنة العلماء وقد حمل ابن حزم نوعين من المدافع الثقيلة:
الأولى: مدافع خاصة بالمسلمين..
الثانية: مدافع خاصة بغير المسلمين..
- المدافع الأول:
كان عصر ابن حزم عصر دسائس وفتن وصراعات بين ملوك الطوائف وبعضهم وبين الفقهاء الذين ساروا في ركاب هؤلاء الملوك وبعضهم..
ويبدوا أن هذه الحالة السياسية والدينية قد انعكست على شخصية ابن حزم فأصابتها بالحيرة والانفعال الذي نراه بوضوح في آرائه ومواقفه من الآخرين فقد أعلن الحرب على فقهاء عصره وشتى الاتجاهات الإسلامية الأخرى مما أدى إلى بغض الجميع له وتربصهم به..
ثم تبنى ابن حزم المذهب الظاهري وأخذ يدعوا له ولاقى في سبيل ذلك مواجهة عنيفة من الحكام والفقهاء الذين كانوا يتبنون المذهب المالكي ويتعصبون له، وصدر قرار فقهي بمنع ابن حزم من الفتوى وحبس المترددين عليه والمستمعين له..
وقد أطلق ابن حزم أول مدافعة على فقهاء عصره بقوله: أن هؤلاء القوم ليسوا من أهل الفقه ولا من أهل الكلام ولا يحسنون شيئا غير التناغي والقول الفاسد.. ولا يغرنكم الفساق المنتسبون إلى الفقه اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع المزينون لأهل الشر شرهم الناصرون لهم على فسقهم (1)
وكان فقهاء عصر ابن حزم كما يعبر ابن حبان المعاصر له يمشون في ركاب الملوك بين آكل من حلوائهم وخابط في أهوائهم..
ويصف ابن حزم حالة الإنهيار الاجتماعى وتفشي الفساد وسيادة الحرام في عصره حتى أصبح كأنه ليس للفقهاء دور بقوله: إنا لا نعلم لا أنا ولا غيري بالأندلس درهما حلالا ولا دينارا طيبة يقطع على أنه حلال.. (2)
وكان من نتيجة هذا الموقف المتشدد من قبل ابن حزم تجاه الفقهاء ومذهبهم المالكي وأنصارهم أن حرض الفقهاء الحكام عليه وسعوا لدى المعتضد بن عباد حاكم أشبيلية الذي أمر بجمع كتب ابن حزم وإحراقها علانية..
ورد ابن حزم على هذه الحادثة شعرا يقول:
وقد استمر ابن حزم في موقفه المعادي للمخالفين من الاتجاهات الأخرى ولم تؤثر فيه تلك المدافع ذات القذائف الثقيلة التي أطلقها عليه خصومه..
يقول ابن حزم: إنا لما تدبرنا أمر طائفتين ممن شاهدنا في زماننا هذا وجدناهما قد تفاقم الداء بهما..
فأما إحداهما فقد حلت المصيبة فيها وبها، وهم قوم افتتحوا عنوان أفهامهم وابتدأ دخولهم إلى المعارف بتعلم علم العدد وبرهانه وتخطيه إلى تعديد الكواكب وهيئة الأفلاك، وكيفية قطع الشمس والقمر انتقالها من الأجرام العلوية وإعظامها وأبعادها والطبيعة وعوارض الجو ومطالعة شئ من كتب الأوائل وحدودها. فلم تلق هذه الطائفة المذكورة من حملة الدين إلا قوما لا عناية لهم بشئ وإنما عنيت من الشريعة بأحد ثلاثة أشياء.
____________
(1) أنظر الرد على ابن الغريلة اليهودي ط بيروت تحقيق الدكتور إحسان عباس (2) رسالة التلخيص لوجوه التخليص وهي ملحقة بالكتاب السابق ذكره.
وإما بمسائل من الأحكام لا يشتغلون بدلائلها ومبعثها وإنما حسبهم منها ما أقاموا به جاههم وحالهم..
وإما انحرافات منقولة عن كل ضعيف وكذاب وساقط لم يهتبلوا قط بمعرفة صحيح منها من سقيم ولا مرسل من سند ولا ما نقل عن النبي (ص).
وأما الطائفة الثانية فهم قوم ابتدء وا الطلب لحديث النبي (ص) فلم يزيدوا على طلب علوم السند والغرائب دون أن يهتموا بشئ مما كتبوا ولا يعلمون به وإنما يحملونه حملا لا يزيدون على قراءته دون تدبير معانيه ودون أن يعلموا أنهم المخاطبون به وأنه لم يأت مهملا ولا قاله (ص) عبثا، بل أمرنا بالتفقه فيه والعمل به، وأكثر هذه الطائفة لا عمل عندهم إلا بما جاء عن طريق مقاتل بن سليمان والضحاك بن مزاحم وكتاب البزدوى التي إنما هي خرافات موضوعة وأكاذيب مستعملة ولدها الزنادقة تدليسا على الإسلام وأهله.. (4)
وعلى الرغم من أن موقف ابن حزم من الفقهاء وممارساتهم تحمل جانبا كبيرا من الصحة إلا أن حدتها أفقدتها موضوعيتها وجنت عليه في النهاية.
وقد قيل أن قلم ابن حزم كان في مضاء سيف الحجاج، وكان ينهال على رجال محل تقدير السواد الأعظم من المسلمين بالتحقير والازدراء كالأشعري ومالك وأبي حنيفة.. (5)
واعترف ابن حزم أن حدته كانت ترجع إلى مرض كان يلازمه.. (6)
ثم تصدى فقهاء المالكية فيما بعد لمصنفات ابن حزم خاصة كتابه (المحلى) وأصدروا ردودهم عليه..
- المدفع الثاني:
وهو من أخطر مدافعة وأشدها ويتمثل في كتابة (الفصل في الملل والنحل) والذي أطلق من خلاله قذائفه على جميع الاتجاهات مسلمين وغير مسلمين..
يقول ابن حزم في الفصل: أهل السنة أهل الحق ومن عداهم فأهل البدعة، فإنهم الصحابة وكل من سلك نهجهم من خيار التابعين ثم أصحاب الحديث ومن اتبعهم من الفقهاء جيلا فجيلا إلى يومنا هذا ومن اقتدى بهم من العوام في شرق الأرض وغربها، وقد تسمى باسم
____________
(3) أنظر الأصول والفروع لابن حزم ج 2 / 215 وما بعدها. ط القاهرة.
(4) أنظر الذخيرة لابن بسام ج 1.
والأصل في أكثر خروج هذه الطوائف عن ديانة الإسلام أن الفرس أظهر قوم منهم الإسلام واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة أهل بيت رسول الله (ص) واستشناع ظلم علي (رضي الله عنه) ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى أخرجوهم عن الإسلام فقوم منهم أدخلوهم إلى القول بأن رجلا ينتظر يدعى المهدي عنده حقيقة الدين، وقد أوضحنا شنع جميع هذه الفرق في كتاب لنا اسمه النصائح المنجية من الفضائح المخزية والقبائح المردية من أقوال أهل البدع من الفرق الأربع المعتزلة والمرجئة والخوارج والشيع. فإياكم وكل قول لم يبين سبيله ولا وضح دليله ولا تعوجا عما مضى نبيكم (ص) وأصحابه.. (7)
أن الإسلام عند ابن حزم هو أهل السنة الذين ينطق بلسانهم ويحاكم الاتجاهات الأخرى على أساس عقائدهم ورواياتهم، وكتابة (الفصل) كما هو حال كتب الفرق الأخرى إنما يتحدث بلسان الاتجاه السائد اتجاه أهل السنة لا بلسان النص والعقل والرأي لأن كل ذلك مجرم في مذهب أهل السنة الذين تقوم عقائدهم ومذهبهم على أساس الروايات وأقوال الرجال ونبذ الرأي والعقل..
ويبدو لنا من خلال كلام ابن حزم أنه يتحدث بمنطق الاستعلاء على الاتجاهات الأخرى وهو المنطق السائد لدى أهل السنة في تعاملهم مع الآخرين كما هو منطق كتب الفرق جميعها التي كتبت بأقلام رجال أهل السنة وجارت على الاتجاهات الأخرى وزندقتها..
والاتجاهات الأخرى في منظور ابن حزم ومذهبه بين خيارين:
إما أن تلتزم بنهج الصحابة والتابعين وأصحاب الحديث والفقهاء وتتبنى رواياتهم..
وإما أن تسلك سبيل المعارضة وهي بهذا تكون قد دخلت دائرة البدعة والزندقة ووضعت نفسها في دائرة الاستحلال من قبل الحكام والفقهاء وحتى عوام الناس.
____________
(5) المرجع السابق.
هل هذا يعني أن هناك فرق أخرى غير الفرق المعروفة يعترف بها ابن حزم ولا يزندقها أهل السنة تشاركهم هذا الموقف تجاه هذه الفرق المزعومة؟
ويظهر لنا من كلام ابن حزم الجزم بتسطيح الآخرين وتبني الأفكار الساذجة في مواجهتهم وبدا وكأنه يصور لنا الاتجاهات الأخرى أنها لا تحوي رصيدا من الفكر والوعي والنصوص ولا تقوم بأمرها عناصر فقيهة، بل أنها أهل السفة والجهالة وأصحاب الأهواء، وهذا الموقف لا يتفرد به ابن حزم أنما هو موقف الفقهاء عموما من خصومهم شيعة ومعتزلة ومرجئة وقدرية وغيرهم، أن العلم والحق والرفعة والطهارة في جانبهم أما الجانب الآخر فهو يحوي الجهل والضلال والزندقة والبدعة وغير ذلك من التسميات التي أطلقوها على الخصوم ومن الأفكار الساذجة التي يتبناها ابن حزم والفقهاء تجاه الاتجاهات الأخرى تحميل الفرس مسئولية ما نشأ وسط المسلمين من اتجاهات وتيارات خالفت الخط السائد وخاصمت أهل السنة، وكان المفروض أن يكون الأمر عكس ذلك أي أن العرب هم الذين يتحملون مسئولية تأسيس هذه الاتجاهات والتيارات وتوطينها بين الفرس بحكم أنهم الشعب المغلوب، إلا أن القوم عكسوا الآية وجعلوا الغالب يدخل في دين المغلوب، وهم بهذا يستخفون بالعرب أكبرا استخاف ويؤكدون أن الإسلام لم يوطن في نفوسهم وأن التزامهم به كان التزاما قشريا..
ولقد كان الهدف من وراء فكرة ربط الفرس بالتيارات الإسلامية ضرب الشيعة على وجه الخصوص وإثارة الشبهات من حولهم، والتأكيد على أن الفرس تستروا بهم وبثوا أفكارهم المجوسية من خلال بعث فكرة آل البيت وجمع المسلمين من حولهم..
إلا أن الحقيقة فكرة آل البيت فكرة شرعية لها ما يدعمها من نصوص الكتاب والسنة وكذلك بقية أفكار الشيعة ومعتقداتهم.. (8)
ونفس الحال ينطبق على أفكار المعتزلة والمرجئة والجهمية وحتى الخوارج فجميع هذه الاتجاهات تتسلح بالكتاب والسنة ولديها من البراهين والأسانيد ما تدعم به أفكارها ومعتقداتها..
____________
(6) أنظر دائرة المعارف الإسلامية ج 1..
إن تلك الأفكار السطحية والساذجة التي يتبناها الفقهاء في مواجهة الخصوم ما كان لها أن تدوم ويكتب لها البقاء لولا مساندة الحكام لها..
ولو قدر لهؤلاء الفقهاء أن يدخلوا في مناظرة حرة مع أي من هذه الاتجاهات لانهزموا شر هزيمة، لكن اللغة التي كانت سائدة هي لغة الطرف الواحد لغة الفقهاء..
والذين يتبنون دعوى فارسية التشيع الأولى لهم أن يتبنوا فارسية التسنن لأن رجال الفقه والرواية الذين قامت على أكتافهم عقيدة أهل السنة هم من بلاد فارس بينما عقيدة الشيعة ومذهبهم قام على أساس فقه وروايات أهل البيت الهاشمي بداية من الرسول (ص) وثم الإمام على وأولاده.. (9)
وقد أوقع ابن حزم نفسه في حرج كبير حين ادعى أن فكرة المهدي هي من اختراع الفرس وهم الذين أوحوا بها إلى الشيعة، وكأنه بهذا يعلن جهلة بعشرات النصوص التي يتبناها أهل السنة والتي تؤكد أن المهدي شخصية حقيقية تنبأ بها الرسول (ص) وحدد ملامحها ودورها... (10)
- المدفع الثالث:
ثم يقوم ابن حزم بعد هذا كله بتوجيه مدفعه الحكومي على الرعية والخصوم بقوله بجواز الصلاة وراء الحاكم الفاسق والجهاد والحج معه ودفع الزكاة إليه وإنفاذ أحكامه من الأقضية والحدود وغير ذلك..
يقول ابن حزم: ذهبت طائفة إلى أنه لا يجوز الصلاة إلا خلف الفاضل - أي الحاكم التقي الأفضل والأولى بالحكم - وهو قول الخوارج والزيدية والروافض وجمهور المعتزلة وبعض أهل السنة وذهبت طائفة الصحابة كلهم دون خلاف من أحد منهم وجميع فقهاء التابعين كلهم دون خلاف من أحد منهم وأكثر من بعدهم وجمهور أصحاب الحديث وهو قول أحمد بن حنبل والشافعي وأبي حنيفة وداود وغيرهم إلى جواز الصلاة خلف الفاسق الجمعة وغيرها وبهذا نقول، وخلاف هذا القول بدعة محدثة، فما تأخر قط أحد من الصحابة الذين أدركوا المختار
____________
(7) أنظر دائرة المعارف. وانظر رسالة الأخلاق لابن حزم..
(8) أنظر مسلم كتاب الفضائل باب فضل آل البيت. وانظر كتب السنن الأخرى وهناك الكثير من
=>
ويريد ابن حزم أن يؤكد لنا من خلال هذا المدفع الحكومي أن مذهبه ومذهب الفقهاء بل إن الدين الحق يجب أن يقوم على الرجال لا على النص أو العقل، فما دام الصحابة والتابعين وأهل الحديث قد اعترفوا بشرعية الحكام الفسقة وصلوا خلفهم فيجب علينا أن نمتثل لذلك حتى لا نكون من المبتدعة الزائغين من الروافض والخوارج والمعتزلة والزيدية الذين أبت عقولهم ونفوسهم أن تهضم هذا الوضع وتقربه.
وليس لابن حزم من سند في هذا سوى هواه والروايات التي نسبت للرسول بخصوص الحكام أما أصحاب العقول الذين لا يدينون بمثل هذه الروايات ويشكون فيها فهم في نظر ابن حزم وغيره من فقهاء البلاط أصحاب البدعة المحدثة المخالفة لنهج السلف الصالح.
ثم من أين لابن حزم هذه اليقين الإجماع المطلق للصحابة والتابعين والفقهاء على هذه القضية؟ وكيف يصح مثل هذا الادعاء مع قوله أن هناك طائفة من أهل السنة توافق القائلين بعدم جواز هذه الصلاة..؟
وليتأمل القارئ موقف ابن حزم هذا وما ينقله عن الفقهاء، ثم يتأمل موقف ابن حنبل من صاحب البدعة لبدعته حيث يقول بعدم جواز الصلاة خلفه وعدم قبول شهادته هجرا له وزجرا لينكف ضرر بدعته عن المسلمين.. (12)
لقد أجاز الفقهاء الصلاة وراء الحاكم الفاسق الذي تقطر يده بدماء المسلمين بينما حرموها وراء المخالف لهم من الاتجاهات الأخرى بحكم أنهم من أهل البدع في منظورهم.
إن الفقهاء أمثال ابن حنبل وابن حزم اعتبروا أنفسهم أوصياء على الدين وحفظه المسلمين من شرور المخالفين فمن ثم سلكوا جميع الوسائل والسبل من أجل عزلهم والقضاء عليهم بداية من تحريص الحكام عليهم ونهاية بتكفيرهم..
____________
<=
الكتب التي أصدرها فقهاء السنة عن آل البيت. انظر لنا موسوعة آل البيت
(9) أنظر تراجم رجال الحديث وأشهر الفقهاء في كتب التاريخ. وانظر لنا كتاب مصر وإيران..
مدافع البغدادي
النجاة لنا والهلاك للآخرين..
وقد صنف البغدادي عدة مصنفات هي بمثابة مدافع مسلطة على المسلمين استثمرها الفقهاء في مواجهة خصومهم من التيارات الأخرى..
وعلى رأس هذه المصنفات كتابه الفرق بين الفرق. وكتابه أصول الدين، وهذان الكتابان من أخطر ما صنف في مواجهة الآخرين. وقد اعتمد عليها مذهب أهل السنة في تبرير تطرفه وعداوته للمخالفين لمذهبهم..
- الفرق بين الفرق:
وقد اعتمد البغدادي في كتابة هذا على رواية منسوبة للرسول (ص) تنص على أن الأمة سوف تفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة.
وقام على أساس هذه الرواية بتبيين الاتجاهات المخالفة وإلقاء الضوء عليها مؤكدا أنها تنتسب إلى الإسلام بينما هي ليست منه في شئ.
وخصص فصلا لما أسماه فضائح هذه الاتجاهات باعتبارها من فرق الأهواء الضالة والكتاب من أوله إلى آخره يفتح النار على المخالفين لنهج أهل السنة الذين حصر الحق في دائرتهم وحكم بالضلال والبوار والخلود في النار على مخالفيهم، فأهل السنة في منظوره فم الفرقة الوحيدة الناجية من النار يوم القيامة فمن سار على دربهم واتبع طريقهم وتبنى عقائدهم فقد نجا، ومن حاد عن هذا الدرب وتبنى عقائد واتجاهات الآخرين فقد حاد عن الطريق القويم وسلك سبيل الضالين أهل النار..
يقول البغدادي: إن أمة الإسلام تجمع المقرين بحدوث العالم وتوحيد صانعه وقدمه صفاته وعدله وحكمته ونفى التشبيه عنه، وبنبوة محمد (ص) ورسالته إلى الكافة وبتأييد شريعته وبأن كل ما جاء به حق وبأن القرآن منبع أحكام الشريعة وأن الكعبة هي القبلة التي تجب الصلاة إليها فكل من أقر بذلك كله ولم يشبه ببدعة تؤدي إلى الكفر فهو السني الموحد، وإن ضم إلى الأقوال بما ذكرناه بدعة شنعاء نظر فإن كانت بدعته من جنس بدع المعتزلة أو الخوارج أو الرافضة الإمامية - الشيعة - أو الزيدية وأو الجهمية أو المجسمة فهو من الأمة في بعض الأحكام وهو جواز دفنه في مقابر المسلمين وألا يمنع حظه من الفيئ والغنيمة إن غزا مع المسلمين وألا يمنع من الصلاة في المساجد، وليس في الأمة في أحكام سواها وذلك ألا تجوز الصلاة عليه ولا خلفه ولا تحل ذبيحته ولا نكاحه لامرأة سنية، ولا يحل للسني أن يتزوج المرأة منهم إذا كانت على اعتقادهم..
الأول: أن يتنازلوا عن معتقداتهم وأفكارهم ويدينوا بمذهب أهل السنة..
الثاني: أن يكونوا في دائرة المبتدعة الضالين ويعاملوا على هذ الأساس في الحياة الدنيا من قبل أهل السنة فتفرض عليهم العزلة ويعاملوا كمواطنين من الدرجة الثانية ويتقبلوا ما سوف يلاقونه من اضطهاد واستحلال لأموالهم ودمائهم..
وإذا كان جميع المسلمين يقرون بما ذكر البغدادي فما هو المبرر لهذا التصنيف واتخاذ مثل هذا الموقف المتطرف من المخالفين..؟
وهل هناك من ينكر وحدانية الله ونبوة محمد (ص) ورسالته والشريعة التي جاء بها على لسان القرآن ويرفض الاعتراف بالكعبة قبلة للمسلمين..؟
وإذا كانت الإجابة بالنفي، فما هو مبرر هذا الكلام. وما هو ضرورته؟
إن القضية باختصار هي أن الإقرار بمثل هذه الأمور لا يكفي وحده للحكم بصحة إسلام الفرد في نظر أهل السنة. وإنما يجب مع ذلك الإقرار أن يتبنى عقائدهم ورواياتهم..
عقائدهم التي تنص على موالاة الحكام ووجوب السمع والطاعة لهم وإن كانوا فسقة وفجارا، ووجوب الصلاة والحج والجهاد معهم.
وتنص على عدالة جميع الصحابة وأن كل من رأى الرسول (ص) ولو ساعة أو ولد في حياته أو سلم عليه فهو صحابي عدل يجب أن تضفى عليه القداسة..
وتنص على أن الله سبحانه له يد ورجل وعين ويهبط ويصعد ويضحك ويفرح وأن جميع الصفات الواردة له سبحانه في القرآن هي حقيقة لا مجاز.. (1)
أما رواياتهم فهي سبب شقاء الأمة وفرقتها..
وهي التي شوهت صورة الإسلام..
وهي التي منحت الفقهاء الحق في ضرب المخالفين وتصفيتهم..
وهي التي قامت على أساسها تلك العقائد الباطلة من وجوب طاعة الحكام والاستسلام لهم وإن كانوا فجارا وتحريم الخروج عليهم..
____________
(1) أنظر كتب العقائد مثل كتاب العقيدة والطحاوية والعقيدة الواسطية وانظر لنا كتاب أهل السنة شعب الله المختار، وكتاب دفاع عن الرسول..
وهي التي قامت على أساسها فكرة التجسيم والتشبيه فيما يتعلق بصفات الله سبحانه..
إن القارئ لكتب السنن خاصة كتابي البخاري ومسلم سوف يجد مئات الروايات التي تمجد الحكام وتضفي القداسة على الصحابة وتصف الله سبحانه بما لا يجب أن يوصف به وتدعوا إلى التطرف وتنتهك الحقوق والحرمات والعقول.. (2)
ويحدد البغدادي معالم مذهب أهل السنة فيما يلي:
* الإحاطة بأبواب التوحيد والنبوة والأحكام..
* التبرء ومن الاتجاهات الأخرى..
* تبني رؤية الله تعالى..
* تبني عذاب القبر..
* تبني إمامة أبو بكر وعمر وعثمان..
* الثناء على السلف..
* تبني صلاة الجمعة خلف الحكام والأئمة..
* تبني استنباط الأحكام من الكتاب السنة وإجماع الصحابة..
* تبني جواز المسح على الخفين..
* تبني وقوع الطلاق الثلاث في مكان واحد وفي لفظ واحد..
* تبني تحريم زواج المتعة..
* وجوب طاعة السلطان..
وهذه المعالم على ما يبدو تعد من القضايا الخلافية وهي للفقه أقرب من كونها أصول وإذا كانت الاتجاهات الأخرى تختلف حول هذه القضايا فهي لا تختلف حول أصول الدين وإنما تختلف مع مذهب أهل السنة.
____________
(2) أنظر البخاري كتاب التوحيد. ومسلم كتاب الإمارة، وأبواب فضائل الصحابة في كتب السنن..
والنصوص القرآنية صريحة في كون الكثرة ليست معيار الحق ولا دليلا عليه.. (3)
يقول البغدادي: ومن مال إلى الأهواء الضالة لم يكن من أهل السنة ولا كان قوله حجة في اللغة والنحو والحديث والفقه وخلافه..
ثم حسم البغدادي الأمر في نهاية كتابة بإطلاق قذيفة قاتلة أبادت الاتجاهات الأخرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة وهي أن الفرقة الناجية الوحيدة هي أهل السنة وأن جميع الاتجاهات الأخرى هالكة ومثواها النار..
- أصول الدين:
وقد حدد البغدادي أصول الدين في منظورة فيما يلي:
* الروايات..
* الإجماع..
* أسماء الله وصفاته..
* معرفة الأنبياء..
* المعجزات والكرامات..
* الشهادتين والصلاة والزكاة والصوم والحج..
* الأحكام والتكاليف..
وفيما يتعلق بالروايات فقد شن حربا شعواء وأطلق قذائفه على منكري الروايات جملة والذين ينكرون أحاديث الآحاد خاصة.
____________
(3) أنظر قوله تعالى (وقليل ماهم) وقوله (وقليل من عبادي الشكور) وقوله (وما آمن معه إلا
=>
ثم أطلق قذائفه على منكري الإجماع والمشككين فيه.
ولم تسثني قذائفه بالطبع أولئك الذين يتبنون رؤية في أسماء الله وصفاته لا تعتمد على الروايات..
فالذين ينكرون رواية أن الله خلق أدم على صورته..
ورواية أن الله يضع قدمه في النار حتى تقول قط قط..
ورواية أن الله ينزل إلى السماء كل ليلة..
ورواية أن الله في السماء..
ورواية أن الله يرى في الآخرة..
وغيرها من الروايات التي تشير إلى أن الله سبحانه له يد ورجل وعين يضحك ويحزن والتي أنكرتها الاتجاهات المخالفة لأهل السنة من باب دفع التشبيه والتجسيم وتنزيه الله سبحانه عن مشابهة مخلوقاته..
الذين ينكرون مثل هذه الروايات أو يشككون فيها هم من أهل الزيغ والضلال في نظر البغدادي ومن على شاكلته من الفقهاء.
وليس من بين المسلمين من ينكر النبوات والأنبياء والشهادتين وسائر أركان الإسلام أو الأحكام والتكاليف إلا أن التسليم بمثل هذه الأمور لا يكفي في نظر البغدادي وأمثاله فلا بد حتى يكمل الإيمان ويسلم الإنسان أن يدين بمذهب أهل السنة..
من هنا فقد أعلن البغدادي في كتابة أن من أكل لحم الخنزير من غير ضرورة ولا خوف أو أظهر زي الكفار في بلاد المسلمين وما جرى مجرى ذلك من علامات الكفر وإن لم يكن في نفسه كفر أجرينا عليه حكم أهل الكفر وإن لم نعلم كفره باطنا، وأن الدار - المجتمع - لا يحكم بكونها دار إسلام إلا إذا أنفذ فيها حكم المسلمين على أهل الذمة وكانت الغلبة فيها لأهل السنة على أهل البدعة..
____________
<=
قليل
(4) يقسم فقهاء الرواية الأحاديث إلى متواتر وآحاد. والمتواتر قلة قليلة تعد على الأصابع ويعتبرون
=>
وقد عقد البغدادي في كتابه أكثر من عشرة فصول عن الإمامة ووجوبها وشروطها مسلطا قذائفه على الاتجاهات الأخرى التي تتبنى رؤية مختلفة في الإمامة لا تنطبق على الحكام الذين اعتبرهم البغدادي وأصحابه أئمة المسلمين وعلى رأسهم معاوية وولده يزيد وذلك سيرا مع الروايات المنسوبة للرسول (ص) المتعلقة بالإمامة والتي لا تدين الاتجاهات بها الأخرى..
ثم ختم البغدادي كتابة بإطلاق قذيفة مدوية على الخصوم أعداء الدين تمثلت فيما يلي:
* وجوب قتل المرتدين..
* كفر الاتجاهات الأخرى (أهل البدع والأهواء) ووجوب قتالهم..
* عدم جواز أكل ذبائح أهل الأهواء والبدع وحرمة مواريثهم..
* عدم جواز نكاح المسلمة منهم..
* الشاك في كفر أهل الأهواء كافر..
____________
<=
درجتها درجة القرآن بمعنى أن منكرها كافر أما الآحاد فهي الروايات التي رويت عن طريق شخص واحد
=>
مدافع الطحاوي
الآخرون ضلال وأردياء..
____________
<=
أو شخصين من الصحابة..
وجاء من بعده القاضي صدر الدين علي بن محمد بن العز الحنفي (731: 792 هـ) فقام بشرح هذه العقيدة وأضاف قذائف جديدة إلى قذائف الطحاوي..
- مدافع ضد العقل /
يوجه الشارح أول مدافعه نحو أصحاب الرأي من أهل الكلام أي أهل الجدل الفلسفة والمنطق بنقل مقاله لأبي يوسف صاحب أبو حنيفة فيهم هذا نصها: العلم بالكلام هو الجهل والجهل بالكلام هو العلم. وإذا صار الرجل رأسا في الكلام قيل زنديق أو رمي بالزندقة ومن طلب العلم بالكلام تزندق..
ونقل عن الشافعي قوله فيهم: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام..
ثم يوجه مدفعه الثاني نحو الاتجاهات المخالفة لعقيدة الفقهاء فيما يتعلق بصفات الله تعالى التي تقوم على الروايات وأقوال السلف، تلك الاتجاهات التي أنكرت رؤية الله وأن كلامه سبحانه غير مخلوق ورفضت التشبيه والتجسيم الذي تشير إليه الروايات ونسبة الظلم إلى الله برفض فكرة إرادة الله للشر والكفر وأنهما يتمان بمشيئته، وهي ما يعرف بفكرة خلق أفعال العباد التي يدين بها الفقهاء..
أما مدفعه الثالث فقد سلطه على العقل واعتبر أنه إذا اصطدم العقل مع النقل وجب تقديم النقل أي الرواية لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين وتقديم العقل ممتنع والواجب التسليم للرواية وتلقيها بالقبول والتصديق دون معارضة بخيال باطل نسميه معقولا..
ويؤكد الطحاوي أن جميع ما ورد عن الرسول (ص) من الروايات التي يعتبرها الفقهاء صحيحة من الشرع والبيان كله حق.
وهاجم الشارح الاتجاهات الأخرى التي تستند إلى قوله تعالى (ليس كمثله شئ) في نقص الروايات المنسوبة للرسول (ص) بخصوص صفات الله تعالى والتي تصطدم اصطدما صريحا بهذا النص القرآني..
والشارح بموقفه هذا يكون قد مال إلى صف الرواية في مواجهة النص القرآني، بل اعتبر خصومه يحرفون الكلم عن مواضعه ويلبسون على الناس دينهم وفهموا من أخبار الصفات ما لم يرده الله ولا رسوله فهمه أحد من الفقهاء..
- في خدمة الحكام /
يقول الطحاوي: ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمرنا وإن جاروا ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يدا من طاعتهم. ونرى طاعتهم من طاعة الله فريضة ما لم يأمروا بمعصية وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة..
وحشد الشارح عشرات الروايات التي توجب على المسلمين طاعة الحكام وإن كانوا فجارا فسقة شعارهم ظلم العباد ونهب البلاد..
وعلى رأس هذه الروايات رواية تقول: من رأى من أميره شيئا فليصبر..
ورواية تقول: أطع الأمير وإن جلد ظهرك وأخذ مالك..
ورواية تقول: من فارق الجماعة - أي شق عصا الطاعة على الحكم - فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه أو مات ميتة جاهلية كما تنص روايات أخرى..
يقول الشارح: وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور. فإن الله تعالى ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا والجزاء من جنس العمل فعلينا الاجتهاد بالاستغفار والتوبة وإصلاح العمل، فإذا أراد الرعية أن يتخلصوا من ظلم الأمير الظالم فليتركوا الظلم.
وهذا الكلام هو محل إجماع الفقهاء سلفا وخلفا بل هو من معتقدات أهل السنة التي