مقدمة المركز:

إنّ طهارة القلب وخلوّه من الشوائب تعتبر من أهم الأسباب التي تدفع الباحث عن الحقيقة إلى اعتناقها حينما يجدها على خلاف ما كان يعتقده فيما سبق..

لكن المشكلة تكمن في أنّ الكثير من الباحثين في الشؤون العقائدية يبحثون ليجمعوا الأدلّة التي تدعم ما ورثوه من معتقدات فحسب.

فهذا الصنف من الباحثين يتحكّمون من البداية بمسار بحثهم، لئلاّ يحيد بهم عما ورثوه، وإن صادف أن تبيّن لهم الحق على خلاف ما كانوا عليه، فانّهم يغضون أبصارهم عنه، وكأنهم لم يروا شيئاً; لأنّهم لا يريدون أن يؤدّي بهم البحث إلى مواجهة موروثاتهم الدينية، وهذا شأن الباحثين الذين يريدون أن تتماشى الحقيقة مع أهوائهم ومصالحهم الشخصية.

ولكن، يوجد صنف آخر من الباحثين قد وطّنوا أنفسهم لتقبّل الحق مهما كلّفهم الأمر، ولو أدّى بهم ذلك إلى التضحية بكل

الصفحة 12
ممتلكاتهم، أو الابتعاد عن الأهل والأصدقاء والأحبة.

ويمكننا عد الأستاذ باسل محمد بن خضراء الحسني من هؤلاء، لأنه توجّه إلى البحث في الأمور العقائدية، فلمّا وجد الحق على خلاف ما كان يقدّسه فيما سبق، لم تأخذه في الله لومة لائم، وهجر كل ما يصدّه عن اعتناق الحقيقة، وواصل طريقه إلى الحق، واقتحم جميع العقبات التي جعلها البعض في طريقه ليصدّوه عن مواصلة دربه..

وكانت نتيجة بحثه أنه تخلّى عن مذهبه السابق والتحق بركب أهل البيت (عليهم السلام).

ثم حاول الأستاذ باسل أن يوصل نداءه إلى إخوته من أهل السنة، ليكونوا على بصيرة من أمرهم، وليتحرّروا من الغفلة التي يعيشون في ظلالها نتيجة عدم اهتمامهم بصحة أو سقم ما ورثوه من أمور عقائدية، فدوّن تجربته التي أوصلته في نهاية المطاف إلى اعتناق مذهب أهل البيت (عليهم السلام).

وحاول الأستاذ باسل أن لا يعيقه صعوبة التعبير الأدبي عن تبيين ما وصل إليه من قضايا مهمة إلى الآخرين، فدوّن كتابه بأسلوبه البسيط ليعبّر فيه بصدق وإخلاص عمّا لاقاه خلال رحلته من المذهب السني إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام).


الصفحة 13
ويأمل المركز أن تكون أمثال هذه الكتب الني ينشرها عبر "سلسلة الرحلة إلى الثقلين" نافذة ينفتح من خلالها الشباب المثقّف على تجربة الذين أخذت الأدلّة بأيديهم إلى اعتناق مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، ليدفعهم ذلك إلى عدم الاكتفاء بالموروث العقائدي، والتوجه إلى البحث من أجل نيل معتقدات مبتنية على الأسس العلمية المتينة والمرتكزات الفكرية الرصينة.


مركز الأبحاث العقائدية
فارس الحسون

الصفحة 14

الصفحة 15

إهداء:

إلى سيدي ومولاي رسول اللّه الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).

إلى مولاي قسيم الجنة والنار حيدر الكرار (عليه السلام).

إلى مولاتي الطاهرة الزهراء البتول (عليها السلام).

إلى سيديَّ السبطين الزكيّين الحسن والحسين (عليهما السلام).

إلى باقي الأئمة الحجج الكرام المعصومين (عليهم السلام)، لا سيما صاحب الزمان ومظهر الدين ومبيد الشرك والطغيان الإمام الحجة جعلنا اللّه من أنصاره.

إلى روح والدتي الغالية التي افتقدها.

إلى كل باحث وجاد في تقصّي حقيقة سنّة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) التي أضاعها مدَّعوا السنّة وأدخلوا فيها البدع.


باسل محمد بن خضراء الحسني


الصفحة 16

الصفحة 17

تمهيد:

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله وصفوته سيدنا النبي الأكرم محمد بن عبدالله، وعلى آل بيته الطاهرين المعصومين آل العباء والسادة النجباء الذين لا تقبل لنا صلاة إلاّ بالصلاة عليهم والتسليم، واللعنة على أعدائهم أجمعين.

إنّ من أهم القضايا الإسلامية، وحتى الإنسانية، التي تعيق حركة الفكر والحياة، هي التعصب، وللتعصب هذا عدّة اتجاهات، منها السياسي والفكري، والاجتماعي والديني.

والتعصب الديني له عدّة فروع، من أهمها التعصب المذهبي، والعصبية هذه هي شقاء للنفس الإنسانية، فهي تدخل في صراع مع النفس، ومن ثم تخرج للصراع مع المجتمع، ولا يكون هذا الصراع محسوماً أبداً طالما أنه موجود في الطرفين أو في طرف واحد.

فالتعصب هو استبداد بالرأي ووجهات النظر، ورفض وصدّ وجهة نظر ورأي الآخر، وهذا يؤدّي إلى رفض موجودية الآخر، بغضّ النظر عن ماهية التعصب، سياسية كانت أم دينية ومذهبية، فالمتعصب هو صاحب روح دكتاتورية متحلّية بالتسلّط والعدوان،

الصفحة 18
وأحياناً فرض الرأي بالقوة.

وإنّنا اليوم قد أصبحنا في قرن جديد، تطوّرت فيه مناهج البحث والمعرفة، وأصبح بإمكان أي فرد البحث وسبر أغوار ما يريد من فكر سياسي أو ديني دون أن يتحفّظ أو أن يمنعه أحد.

ونحن اليوم في عالمنا المعاصر لسنا كالسابق حيث كان البحث والحوار مقتصراً على أفراد معينين وكان لا يحق لأحد اعتراضهم أو نقاشهم، بل كانوا هم المتفرّدين في وضع القوانين وتفسيرها.

كما أنّ مفهوم التعصب يعدّ أمراً مدمّراً للأمّة الإسلامية، حيث يجعلها عرضة للتفرقة والتشرذم، ويخلق عداءً دائماً بين أطراف الأمّة الإسلامية.

ولوحظ أن العداء والتعصب لا يأتي إلاّ من نقص حاصل في النفوس، فهو وسيلة لإخفاء الأخطاء والعيوب، وقد قال الإمام علي (عليه السلام): "ليكن أفضل الناس عندك من أهدى إليك عيبك أو خطأك" (1).

ويأتي التعصب أحياناً من جهل حاصل بالأُمور المحيطة، وعدم تنشيط العقل وتفعيله، وعدم فتح الحوار مع الآخر، بغضّ النظر عن أفكار ورؤى الطرف الآخر.

____________

(1) شرح نهج البلاغة، لمحمد عبده: غرر الكلم.


الصفحة 19
وبالنسبة لنا كأُمة إسلامية يجب علينا فتح الحوار والتفكر، وقد خاطبنا الله سبحانه وتعالى، وحثّنا مرّات عديدة على الحوار والتدبر والتفكر، كقوله تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة) (1)، (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) (2)، (أَفَلا يَعْقِلُونَ) (3).

ولكننا إلى يومنا هذا لم نعرف قدر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإلى الآن لم نستوعب مقام وأهميّة الإمام علي (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام)، ولم نفكّر أبداً بالرسالة المحمدية وأهمّيتها وسبل بقائها نقيّة بعد عصر النبوة، ولهذا نجد أن الكثير فسّر السنة المحمدية وفق ما ترتأيه مصلحته وهواه.

وإنّ عدم معرفة مقام النبوة والإمامة دفع جملة من الناس إلى الاعتقاد بجواز وقوع الخطأ وصدوره من الأنبياء الماضين، وكذا خاتمهم سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأدّى هذا الأمر إلى القول بأن ما جاء به الخلفاء بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أفضل مما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فنسفوا بذلك الرسالة المحمدية وضربوا بها عرض الحائط، زعماً منهم أنّ رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أو سياسته انحصرت بوجوده، فانطلقوا وفق ما ارتأت أنفسهم، بانين على أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا علم له بالسياسة!

ومن هذا المنطلق أنكر بعضهم نصّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لخلفائه،

____________

(1) النحل: 125.

(2) النساء: 82، محمد: 24.

(3) يس: 68.


الصفحة 20
ومنهم من أنكر الدور الرسالي لأهل البيت (عليهم السلام)بعد عصر النبوة، ومنهم من ابتدع قانوناً مفاده أن الخلافة والنبوة لا تجتمعان في بني هاشم، فرفضوا بالتالي ثلاثة أرباع النصوص الدينية الإلهية، وهذا ماخلّفه التعصب المذهبي فيما بعد ذلك، وجعلوا هالة من القداسة تحيط هؤلاء المنكرين، واختلقوا بعض الأحاديث في مدحهم؟

وفي الوهلة الأولى قد لا يشكّ أحد بهذه الأحاديث لقربها من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن عندما يبحث الإنسان مع إلغاء حالة التعصب، فإنه سيجد الحق على خلاف ما ذهب إليه هؤلاء، وهذا ما جرى لي تقريباً.


الصفحة 21

ومن النهاية كانت البداية:

قد يستغرب البعض من هذه المقولة، أو يجد فيها غموضاً لا تفسير له، لكن من يواصل قراءة ما دوّنته يكتشف مدى صدقي فيها، وربما يمرّ بمثل هذه الحالة مع بعض الفروقات الثانوية.

فالمتعارف أنّ كلّ بداية لا بدّ لها من نهاية، وأنّ كلّ عمل لابدّ له من نهاية، والنهاية دائماً تكون نتاجاً للبداية، فمثلا من يزرع قمحاً يرى قمحاً ولا يرى شعيراً، ومن يزرع خيراً يحصد الخير.

والواقع أنّ ما حدث لي أنّ من النهاية كانت البداية، وانعكست عندي النظرية السائدة بأنّ من البداية تأتي النهاية، لأنّ النهاية فتحت لي آفاقاً واسعة، وكانت صدفة ليس أكثر، وضعت أمامي تساؤلات عديدة تكلّلت فيما بعد بالإجابة بعد بحث وسعي ومتابعة مضنية، لأنني عشت في ظروف حساسة، والتساؤلات التي خطرت على بالي لم تكن بالشيء العادي بالنسبة لشاب وُلد بين أبوين ليس لهما غيره، وعاش وحيداً فترة من الزمن بعيداً عن شيء اسمه الصداقة أو الأخوة، إلى أن بدأ يحتك بالحياة بنفسه، فالوالدان كبار السن نوعاً ما، وخوفهما الزائد على ابنهما جعله في سجن متحرك

الصفحة 22
تُحسبَ عليه تحركاته وكلماته.

والمهم أنني عندما بلغت مرحلة الوعي كنت في مرحلة الإعدادية، فبدأ معي شعور معرفة من أنا، وهو سؤال يتبادر في ذهن كلّ إنسان.

فبدأت بإنشاء صداقات فشلت في بعضها، والسبب كان البيئة والتربية وليست الطبقية التي يظنها البعض، فطبيعة التربية التي نشأتُ فيها كانت تعاملني بمنطق إفعل ولا تفعل، إلى أن قيّض الله سبحانه لي ظرفاً نقلني من الانعزالية إلى التدريج نحو اكتشاف الحياة، ماضيها وحاضرها، لم أكن متعصباً بالمفهوم السائد، لكن كنت أحسب لكلّ خطوة أخطيها، أو كلّ كلمة أقولها.

صحيح أنّ ما صادفته لم يكن بالحسبان، لكن عندما وجدتُ حاضري هشاً رخواً، أدركتُ أنّ الأساس كان غير سليم، فرأيتُ مصداق من يزرع شراً لا يحصد إلاّ الشرّ، هذا ماوجدته، زرعوا شراً للناس فانقلب الشر عليهم، ولكن بعد ماذا؟! بعد حقب من السنين كنا قابعين فيها، أنا وغيري ومن كان قبلي تحت ظلال التعتيم والتضليل واحتكار العلم، حتى وصل بنا الأمر أن تلقينا الدين بالوراثة والتقليد والتبعية، كما قال سبحانه وتعالى تبييناً لحال التبعية العمياء (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّة وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ) (1).

____________

(1) الزخرف: 23.


الصفحة 23
ولكن يُنزل الله تعالى رحمته على عباده، ورحمته وسعت كلّ شيء، فمن رواية وحادثة أو صدفة أدخلني الباري في دائرة البحث والخوض في غمار تاريخنا الإسلامي، فاكتشفتُ كم يجهل الإنسان تاريخه وماضيه، وكيف يخطط لمستقبل أساسه ماض متناقض متبعثر، فدققتُ وتابعت وسألتُ حتى انتبهت إلى أمور كنت غافلا عنها، وغيري أيضاً كذلك، غافلين عن عمقها، مع أنها تكاد تكون أمامنا!

وأنا الآن أقدّم تجربتي لكلّ باحث عن الحقيقة فقد ينتفع بها، وقد يرى أنه يعاني ما عانيتُ منه فيما سبق، فيستفيد من تجربتي وكيفية تحرّري من المأزق الذي كنتُ فيه، فأنا أطرح روؤس أقلام فقط، لأنني إذا أردتُ كتابتها كلّها سيلزمني كتابة أضعاف ما كتبته في هذا الكتاب، فأنا أذكر النقاط الأساسية مع الاشارة إلى بعض الشواهد.


الصفحة 24

الصفحة 25

معرفة انتهاء أُصولنا إلى السادة الحسنيين:

في سنين مضت ذهبتُ مع والدي إلى مدينة "دوما" لزيارة أحد أقربائنا ـ يدعى المشرقي ـ بعد عودته من أداء فريضة الحج، وبعد وصولنا إلى بيته سلّمنا على الحاضرين ثم توجهنا إلى الغرفة التي يجلس فيها الحاج، وبعد تبادل التهاني جلست بجوار والدي لأستمع ما يحكيه الحاج حول رحلته، فبدأ الحاج بسرد الوقائع التي جرت له في الحج، وذكر الحالة الروحانية التي تحصل لكلّ حاج عندما يصل هناك، وخاصة عند دخوله المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف.

وبعد انصراف الضيوف المهنئين وبقاء أفراد العائلة بقيتُ مع والدي لأسمع قصة تعرّف الحاج على أحد أقربائنا القادمين من المملكة المغربية، وذلك في يوم عرفة، وتم تبادل العناوين على أمل أن يزور أحدهما الآخر في المستقبل، وقد علم قريبي أنّ أصولنا تنتهي إلى المغرب، وترتبط بالشجرة الحسنية الشريفة من خلال الملك إدريس الأول والثاني مؤسّسي دولة الأدارسة في المغرب العربي قبل ألف وثلاثمائة عام تقريباً، وقد ولد للملك إدريس الثاني

الصفحة 26
عدّة أولاد ونشأوا وأقاموا في ولايات كثيرة وأعقبوا أبناءً كان جدّ عائلتنا واحداً منهم.

المهم أنّ قريبي قرّر السفر بعد فترة إلى المغرب ليتحقق من هذا الأمر، وبالفعل سافر الحاج المشرقي وبقي هناك مدّة شهر، ثم عاد وهو يحمل صكاً بالاعتراف من قبل المملكة المغربية بتابعيتنا، وكان الصك موقعاً من قبل الملك ونوابه وجملة من علماء وأعيان الدولة.

وإن ما شدّ انتباهي ليس السفر، بل أنه كيف يعود نسبنا إلى الشجرة النبوية الحسنية المباركة، وما علاقة أو سبب وجودهما في المغرب، مع علمي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان بالمدينه المنورة، ولماذا تفرّقت هذه العائلة في الشرق والغرب؟!

تساؤلات لم أجد لها إجابة إلاّ بعد حين من الزمن، مع العلم أنّ قريبي الحاج علم بالقضية ولم يخبرنا بها لأسباب تعرّفتُ عليها بعد فترة طويلة، وسأذكرها لاحقاً.

وذات يوم صادف أن جاء قريبنا هذا إلى منزلنا وطلب من والدي التهيؤ للسفر إلى المغرب للحصول على صك له أو ما يقال في العرف الحالي "الجنسية"، فجهز والدي نفسه للسفر، وأذكر أنه كان في عام 1980م وتحديداً في صيفها، حيث كنتُ أعدّ نفسي لامتحان الصف الثاني من الاعدادية، وقد وعدني والدي إذا علم أنني نجحتُ

الصفحة 27
بالامتحان أن يشتري لي هدية ثمينة من المغرب.

وبالفعل سافر والدي، ودام سفره شهراً إلاّ بضعة أيام، وقدمت الامتحان ونجحت ولله الحمد، ثم عاد والدي وأنا في أشدّ الشوق لرؤيته وسماع أخباره وما جرى معه هناك، وأذكر أنّه عندما وصل إلى المنزل جلسنا حوله وطالت سهرتنا حتى الصباح، وفرحتُ جداً عندما رأيت الصك معه وأن اسمي مدوّن فيه.

ولكن السؤال الذي خطر على بالي من قبل عند اللقاء بقريبي الحاج لم أجد له إجابة أيضاً عند والدي.

وذكر والدي أنه زار المكتبة الملكية الكبيرة، ورأى أنساب العائلات الحسنية، وأن اسم عائلتنا مذكور فيه، وأنّه زار أضرحة قبور السادة من أفراد عائلتنا في مدينة "سِلا" في الرباط، وزار منازل العائلة القديمة والآثار المرتبطة بالسادة الأدارسة.

ولكن بقي السؤال مطروحاً، ولم أجد له جواباً لفترة من الزمن!


الصفحة 28

الصفحة 29

بداية الانطلاق نحو البحث:

تابعتُ دراستي، ومضت ثلاثة أعوام درستُ فيها الدراسة الأكاديمية، ومن ثم حصلتُ على شهادة معهد متوسط للكهرباء بصفة مساعد مهندس، وفي إحدى جولاتي في "دمشق" صادف أن وقع نظري على كتاب في إحدى واجهات المكتبات، وهو كتاب "النهاية في الفتن والملاحم" لابن كثير الدمشقي، فدخلتُ وسألت البائع وهو رجل متوسط في العمر، فقلتُ له: مامعنى الفتن والملاحم؟

فأجاب مبتسماً: إنّ هناك أموراً حدّث عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)ستحدث بعده إلى قيام الساعة، وأضاف البائع أنّ هذا الكتاب يعدّ من الكتب الموثقة والجيدة، والكاتب من المعروفين القدماء.

فسألته عن ثمن هذا الكتاب؟

فأخبرني بثمنه.

فتراجعت قليلا للوراء، لعدم امتلاكي من النقود ما يكفي لشرائه، حيث كنتُ في فترة لم أعمل بها، فتحيرتُ.

وعلم البائع بحيرتي، وأخبرني أنّه لا يمتلك من هذا الكتاب إلاّ

الصفحة 30
نسخة واحدة، قد يبيعها ولا يمكنني الحصول عليها إذا عدت إليه مرة أخرى.

فعدتُ إلى المنزل وأنا متضايق، لعدم قدرتي على شراء هذا الكتاب.

عمل يوم واحد لشراء الكتاب الذي أعجبني:

بعد مرور أسبوع على رؤيتي للكتاب طلبتُ من والدي أن يعطيني مالا لأشتري به ذلك الكتاب، ولكنه رفض، ليس لقضية المال، بل قال إنني يجب أن أهتم بشراء ملابس خاصة بي، أو بعض الأطعمة الخفيفة التي يفضلها الشبان، ولكنني أصررت على شراء ذلك الكتاب.

فذهبت إلى أحد أقربائي في دكانه الذي يعمل به وهو خاص للاصلاحات الكهربائية، فطرحت عليه فكرة العمل لديه، فقبل على أن أكون أجيراً طيب الخلق وأنفذ ما أؤمر به.

وفعلا بدأت ذلك اليوم من أوله إلى أن حان فرصة، وجاء زبون لإصلاح عطل كهربائي في منزله، فطلب قريبي ـ صاحب الدكان ـ مني الذهاب معه وقال: خذ الأجرة لك، فذهبت وأنجزت المهمة مع طول مدتها، وفوراً بدأت أحسب ما سآخذه وما سأدفعة، فأخذت من الزبون ما يعادل نصف ثمن الكتاب أجرة، وعدتُ إلى الدكان على أمل أن يعود زبون أخر أذهب معه فآخذ منه ما يعادل النصف

الصفحة 31
الثاني من ثمن الكتاب، ولكن دون جدوى، فتململت وبدت عليّ الحيرة، وأحس قريبي أنّ أمراً ما يشغلني، فسألني، وأجبته أنني بحاجة إلى باقي ثمن الكتاب، فابتسم وقال: إنّ اليوم هو الخميس، والمتعارف عليه أن يتم تصفية أجور العاملين عند أصحاب المحلاّت في مثل هذا اليوم من كل أسبوع، ثم قال: سأدفع لك أُجرة نصف اليوم الذي عملته عندي، مع العلم أنه قد لا يحرز المبلغ، فابتسمتُ له وقلت: مهما يكن قد يساعد في حل مشكلتي، وبالفعل كان المبلغ الذي أعطاني إياه هو ما يعادل النصف الثاني من ثمن الكتاب، وقد كانت سعادتي بالغة لذلك.

فأخذت النقود، ومن ثم بدأت بتجهيز نفسي للخروج للّحاق بالمكتبة حتى أدفع ثمن الكتاب، وقلتُ لمعلمي أنني أود الخروج، فسمح لي مع بعض التردد، لأنّني لم أستنفذ الوقت كاملا، فقلت له: عليّ الذهاب إلى الشام لشراء الكتاب قبل أن تقفل المكتبة، فسمح لي، وهرعت إلى الحافلة التي تنقل الناس من البلدة إلى مركز المدينة، ووصلت إلى المكان المحدد في الوقت الأخير، ولكن المفاجأة أنني لم أجد الكتاب فقد نفذ، وقال لي البائع: لقد تأخرت، فعادت لي حالة الاكتئاب، لكنه وعدني أنه قد يستطيع أن يوفره لي فيما بعد، فقلت له: أنت لا تعلم ماذا فعلت للحصول على ثمن الكتاب.


الصفحة 32
وخرجتُ من عنده مهموماً، وعدت إلى البلدة، وصادفت أحد الجيران لنا في الحي ومعه كتاب أدبي لغوي.

فسألته: من أين حصلت على هذا الكتاب؟

فقال لي: أنه هنالك مكتبة جديدة تم افتتاحها في البلد، وقد اشتريت هذا الكتاب منها، فسألته عن مكانها؟

فقال: ربما تكون مغلقة الآن فالوقت تأخر، وغداً نذهب معاً إليها لأعرّفك على مكانها.

فقلت له: غداً الجمعة ولن تفتح.

فقال لي: بل ستفتح، لأنها جديدة.

فقبلت منه ذلك، وبالفعل ذهبنا في اليوم الثاني، ودخلت إليها وسلّمت على صاحبها وأنا أنظر إلى مجاميع الكتب لعلّي أجد ضالّتي، وكانت المفاجأة أنني وجدتُ ذلك الكتاب فيها، ففرحت بذلك واشتريت منها الكتاب.

قراءة يوم وليلة وتبلور تساؤلات جديدة:

أخذتُ الكتاب وانصرفتُ إلى المنزل، وكانت فرحتي غامرة، حيث أنني كنت لأوّل مرة أشتري كتاباً إسلامياً يحتوي على عدد من أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد كنت بالسابق أقرأ قصصاً وروايات تُعنى بالقضايا البوليسية والأمور الصناعية، ثم راجعت الفهرس الخاص بالكتاب لأنتقي منه الأحاديث الهامة، وما كان يشغلني ذلك

الصفحة 33
الوقت وضع الإنسان يوم الحشر وما يجري عليه، وصفة أهل الجنة وصفة أهل النار.

فبدأتُ بأوّل الفهرس وإذا بي أتوقف أمام عنوان شدني إليه، وهو إشارة نبوية إلى أن إثني عشر خليفة من قريش سيلون أمر الأمة الإسلامية، وفجأة بدأتُ أحسب عدد الخلفاء قبل أن أتوجه إلى الصفحة المشار إليها، وقلت: إن الخلفاء أربعة هم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي (عليه السلام)، فكيف يكونون إثني عشر خليفة؟! فعدتُ وجمعت الخلفاء إلى دولة بني أمية، فظهر لي أنهم أكثر من العدد المذكور! وتفحصت أسماء خلفاء بني العباس وجمعتهم ولم أجد مصداقاً للعدد المذكور، فقلت في نفسي: ما هذا اللغز المحيّر؟ عليَّ أن أسأل خبيراً في هذا المجال، لكن عليّ أن أقرأ الحديث لعلي أجد مبتغاي، وفتحت الصفحة المطلوبة وأنقل لكم ماقرأته حرفيّاً تتميماً للفائدة "ثبت في الصحيحين من رواية عبدالملك بن عمير عن جابر عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يزال هذا الدين عزيزاً أو قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش، قالوا: ثم يكون ماذا، قال: ثم يكون الفرج" وهؤلاء المبشّر بهم في الحديث ليسوا الاثني عشر الذين زعم فيهم الروافض (1).

____________

(1) ما بين المعقوفتين نقل حرفي من كتاب النهاية، وراجع: صحيح البخاري، كتاب الأحكام: 92، ومسلم: كتاب الامارة.


الصفحة 34
هذا كلّه قول ابن كثير في كتابه النهاية.

ولا أخفي عليكم استوقفتني آخر جملة في الحديث، وهي وجود دلالة ما على أن هناك إثني عشر خليفة عند الروافض، فسألت نفسي من هم هؤلاء الذين دعوا بهذا الاسم؟ وما هو قولهم في الخلفاء الاثني عشر؟!

حاولت البحث عن حديث آخر يساعدني على حلّ اللغز لكن دون جدوى، واصلت قراءتي لكتاب ابن كثير يوماً كاملاً لم أخرج من المنزل، فقرأت نصف الكتاب تقريباً، ولولا التعب لبقيت حتى الصباح، لكنني أردت إعطاء نفسي قسطاً من الراحة، ناوياً إتمام القراءة غداً.

بعد إنهاء بعض الأعمال في اليوم الثاني توجهت إلى أحد أقربائي وهو شيخ العائلة كما يقال، ويدعى بالشيخ "أبو فيصل" (1)..

وطرحت عليه السؤال التالي: من هم الاثنا عشر خليفة المنصوص عليهم حسب الحديث؟

فأجابني: إنّ الخلفاء هم الأربعة الراشدون، والحسن بن علي (عليه السلام)، وعمر بن عبد العزيز من الدولة الأموية.

فقلت له: هؤلاء ستة فأين البقية؟!

____________

(1) خطيب جمعة، وله قصائد مدح، وله فترة طويلة بالخطابة المنبرية، وقد حاورته مراراً، وستأتي لاحقاً محاوراتي معه.


الصفحة 35
فقال لي: لم يظهروا بعد مع اختلاف أن هناك من أتمهم إلى الرقم المطلوب.

فقلت له: هل الأمر مزاجي أضع من أحب وأحجب من لا أحب؟!

فقال: الثابت عندي أنهم ستة، وهم ما عددتهم لك!

فقلت: من أين ثبت لك هذا؟

فأجاب: أحيلك إلى صحيح البخاري ومسلم ستجد فيهما الشرح الوافي.

فطرحت عليه سؤالا آخر: من هم الروافض، ومن هم الاثنا عشر خليفة الذين يستندون إليهم؟

وعندها التفت إليّ وقال: هذا الأمر لا علاقة لي به، وأرجو أن لا تخوض في هذه الأمور، وهذا الحديث مدسوس!!

عندها أيقنت بأن أسئلتي لم تجد إجابة شافية، وربما سيأتي يوماً أجد لها إجابة.

بعدما زرت قريبي الشيخ عدتُ إلى المنزل لأكمل قراءتي في الكتاب، ودامت قراءتي ليلة كاملة، كلّ ما أدخل في موضوع أجد نفسي في بحر من التساؤلات.


الصفحة 36

الصفحة 37

اندفاعي لمعرفة الشيعة والتشيع:

في أحد الأيام زارني صديق كنت قد تعرفت عليه أثناء دراستي في المعهد الصناعي، وتبلورت بيننا علاقة طيبة إلاّ أننا افترقنا بعد حصولنا على الشهادة، وجاء ليعيد الود القديم، فرحبت به، لكن بدا عليه أنه ابتعد عن الحياة العملية المهنية، قلت في نفسي: لعلّه عاد لإكمال الدراسة.

وقال لي: إنّه كان قريباً من منزلي في زيارة لأحد المشايخ في منطقتنا وسأل عن مكان المنزل لأنّه مرت فترة طويلة جداً لم يزرني فيها.

فقلت له: من هذا الشيخ الذي زرته، لعلّي أعرفه؟

قال: الشيخ عبدالله، علوشي (1).

فقلت له: نعم عرفته، وله أقوال جيدة، مع العلم أنني لم أزره، ولكن نقل لي بعض آرائه.

تناولنا الشاي، وقلت في قرارة نفسي: سأعرض عليه سؤالا

____________

(1) خطيب ومدرس في المعاهد الشرعية في دمشق في منطقة (دوما).


الصفحة 38
حول الشيعة لأرى ما هو رأيه فيهم.

ولكن ما إن طرحت عليه السؤال حتى بدا عليه التوتر، وكأنه أرادني أن لا أسأله.

فقلت: ما بالك؟!

قال: ما لنا وما للشيعة، هم في واد ونحن في واد آخر، إياك أن تسألني عنهم مرّة أخرى!

قلت: لماذا؟

قال: هؤلاء خارجون عن الجماعة والسنة وهم كذا وكذا (1)...!!

قلت له: إنّهم ينطقون بالشهادتين، ويصلّون، ويصومون، ويحجون إلى بيت الله الحرام.

فقال لي: صلاتهم غير صلاتنا، وصومهم غير صومنا، حتى أنهم بالشهادة يزيدون فيها.

فقلت: هل هذا صحيح، أم أنك متوتر من أمر معين؟

فقال لي: أروي لك حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وأنّ أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقه، كلّها في النار إلاّ واحدة، قيل ما هي؟ قال من لزم الجماعة.

____________

(1) كان يقصد أنهم يعبدون التربة والعياذ بالله ولا يصلّون كما نصلّي ولا يعترفون بالصحابة.


الصفحة 39
قلت له: مَهلك، من أين جئت بهذا الحديث؟

قال: حدثنا عنه الشيخ اليوم الذي كنتُ بزيارته قبل المجيء إليك، والذي يقيم بجوارك تقريباً، وهو نقله لنا من أحد الكتب المعتبرة، وقد عدّد لنا بعض هذه الفرق، وقال: إنّ الموجودين في إيران هم من هذه الفرق.

فقلت له: إنّ لدي كتاباً يحوي بعض أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأخرجت الكتب من خزانتي، وفتحت الكتاب المنشود، وإذا بي أرى نفس الحديث الذي ذكره لي مع فارق بسيط، وهو عندما سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)عن هذه الفرقة، قال: ما أنا عليه وأصحابي (1)، فأردفت قائلاً له: إن الأمر يحتاج إلى التوقف عنده والتبيان عنه، خاصة وأن الحديث موجود فعلاً في العديد من الصحاح، لذا يجب علي سؤال خبير في هذا الشأن.

فقال لي: إنّ الأمر لا يحتـاج إلى السؤال، الحديث موجود وكـفى.

قلت له: بل يجب البحث عنه، وسأذهب إلى أحد المشايخ وأسـأله عن هذا الحديث وصحته، وإذا كان يوجد شي أخر أستفيد منه.

____________

(1) النهاية لابن كثير، نقلاً عن البخاري وابن ماجة.


الصفحة 40

البحث حول الفرق الإسلامية:

بعد أن ودّعني صديقي وذهب على أمل اللقاء ثانية، قرّرت الذهاب إلى قريبي الشيخ الذي سبق وأن سألته بعض الأسئلة في المرّة السابقة، ولكن كان عليّ إنهاء بعض الأمور المهمة قبلها.

تابعتُ بعض الأُمور الملحّة في عدّة أيام، ولكن خطرت في بالي بعض الأسئلة، منها لماذا يقف البعض بعنف ضد الشيعة؟ وهل هذا العداء وليد هذا العصر أم أنه قديم وقد اشتدّ الآن؟!

حضّرت نفسي، ورتبتُ الأسئلة التي سأسألها من الشيخ، وتوجهتُ إليه، وبعد السلام..

قال لي: أراك عدّت ثانية، ترى زيارة أم لديك أسئلة؟

قلت له: الأمران معاً.

فابتسم قائلا: أهلا وسهلا، ولكن أرجو أن لا تكون من نفس الأسئلة التي سألتها المدّة الماضية.

فأطرقتُ رأسي، وقلت: نفس الموضوع تقريباً.

فقال لي: تفضل اسأل!

فرويت له الحديث السابق وما جرى بيني وبين صديقي.

فقال: الحديث صحيح، ألم أطلب منك مراجعة صحيح البخاري وأخذ الإجابات الشافية منه.


الصفحة 41
فأجبته: وهل صحيح البخاري هو استنادي لكلّ شيء، ألا يوجد غيره؟!

فقال غاضباً: انتبه! ولا تسيء الأدب، إنّ البخاري أصح الكتب بعد القرآن الكريم، وهو ثمرة جهود عالم أفنى عمره في تأليفه وتجهيزه، ثم إنك مالك ولهذه الأمور والأحاديث، عليك أن تبحث عن شيء آخر تنشغل به!

فقلت له: هل الدين والبحث عنه من الأمور التي ينبغي الابتعاد عنها؟!

قال: يكفيك أن تعرف الصلاة والصوم وبعض الأمور الأخرى، وأما الأمور الخلافية فاتركها لأهلها!

لم أجد نتيجة من كلامه هذا سوى أنّه حاول أن يبعدني عن هذه البحوث، لماذا؟ لا أدري! ولكنه قال لي: أنصحك أن تقرأ كتاب الملل والنحل لمؤلّفه الشهرستاني، وستعلم أن الفرقة الناجية هم أهل الجماعة والصحابة.

خرجت من عند الشيخ، وذهبت على الفور باتجاه السيارات لقصد الذهاب إلى "دمشق" والبحث عن هذا الكتاب، وعندما وصلتُ إلى المكتبة نظرت إلى رفوف الكتب علّني أجده.

فسألني صاحب المكتبة: ماتريد؟

قلت له: أبحث عن كتاب يتحدث عن الملل والنحل.