الصفحة 42

فقال لي: هو موجود عندي في المستودع، فنادى على العامل لديه وطلب إحضار الكتاب لي.

فاشتريت الكتاب منه، وعدتُ أدراجي إلى المنزل وبدأت بتصفحه، وهو عبارة عن مجلّدين، ووجدت نفسي أمام كم هائل من أسماء الفرق لم أسمع بها من قبل، وقلت في نفسي: إذا أردت أن أقرأ وأفهم ما في هذا الكتاب فعليّ إذن أن أتفرغ شهراً أو أكثر، لأستطيع أن أميّز بين الفرق، ومع وجود التعصب التقليدي لدي طرحت الكتاب جانباً، وقلت: ما قاله الشيخ صحيح وكفى، يجب عليّ أن لا أخوض في هذا الأمر، لأنني سأجد نفسي غارقاً في بحر من التناقضات والاستفسارات التي تحتاج إلى شرح، ولا أجد رجلا يفيدني ويساعدني على ذلك.

فانشغلت بعدها في أمور عديدة، إلى أن جاءت فرصة، أعادتني مرة أُخرى إلى دائرة البحث، ولكن وجدت فيها الكثير من أجاباتي، وقلت: إن هذا توفيق من الله عزّوجلّ.

زيارة عمل ومفاجأة لم تكن بالحسبان:

في بداية النصف الثاني من عقد الثمانينات حضر إلى منزلي ابن عم لي، وقال لي: إن أحد الأشخاص لديه بناء جديد وبحاجة إلى ورشة كهرباء إنارة للعمل في بنائه المؤلّف من عدّة طبقات.


الصفحة 43
رحبت بالفكرة، وخاصة أنني بدأت أفكر بمشروع زواج مبكر، لكوني وحيد لأسرتي، فلا أخ لي ولا أخت، ورغبة والديَّ بالزواج حتى يفرحوا بي ويروا أولادي قبل وفاتهم، أمد الله في عمرهما، وطبعاً المنزل بحاجة إلى امرأة شابة تهتم بشؤونه.

اتفقت مع ابن عمي مساءاً، وذهبنا إلى هذا الرجل لإبرام الاتفاق معه، وبعد الوصول إليه والتعرّف عليه، دعاني إلى الطابق العلوي واعتذر ابن عمي لعدم بقائه لكونه تأخر عن موعد له، وصعدت مع الرجل إلى المنزل الآخر، ودخلنا إلى غرفة كان يجلس بها سابقاً قبل أن أحضر إليه، وطلب مني الجلوس، وكان في الغرفة شابان جالسان حول المدفأة التي تعمل على الحطب، وحولهما بعض الكتب المتفرقة هنا وهناك، ثم قام الرجل بتقديم الشاي لي قائلا: إنّ المشروب الساخن سيعوّض حرارة الجسم والجو بارد، حيث كان فصل شتاء هذا العام بارداً وقارساً، فشكرته على ذلك وبدأنا نتحدث عن تفاصيل العمل.

قال لي: إن لديّ ثلاث شقق بحاجة إلى إنارة بشكل كامل وبأسرع وقت ممكن، فتباحثنا كثيراً حول كيفية الاتفاق بيننا، دون فائدة، لأننا لم نتفق على وضع أجرة مناسبة، فاستأذنت منه طالباً الخروج.

فقال لي: إذا لم يكن هناك شيء يشغلك فبإمكانك البقاء، لإكمال

الصفحة 44
السهرة معنا.

الحقيقة أقول: إنني عندما رأيت الكتب منثورة في الغرفة تحرك لدي دافع الفضول وتمنيت لو أعرف ما بداخلها، وفعلا تمنيت لو أنه يدعوني للبقاء معهم، وهذا ما كان، ووافقت على ذلك.

قلت له: صراحة أنني لا أريد أن أثقل عليكم، وخاصه أنكم تجلسون جلسة عائلية.

فضحك الرجل وقال: وهل تظن أن هؤلاء أبنائي ـ يعني الشبان ـ صحيح أنّ فارق السن واضح بيننا، لكنهم أصدقائي، الأخ أبو حسن يدرس في الثانوية، وناجي زميله.

ثم تكلّم الرجل بعد أن جلست مرة أخرى..

وسأل الشاب: هل قرأت الكتاب الذي أخذته المرة السابقة؟

قال الشاب: نعم قرأته، ولكن لم أنته منه.

سأله الرجل: ماذا وجدت به وماهو انطباعك عنه؟

قال الشاب: إنّا كنا عن هذا غافلين.

ابتسم الرجل قائلا: هل اقتنعت بكلامي السابق؟

الشاب: لو أنني لم أرجع إلى المصدر لما اقتنعت!

قال الرجل: ماهو المصدر الذي عدت إليه؟

قال الشاب وكأنه آسف: صحيح البخاري، وما أدراك ما صحيح البخاري!


الصفحة 45
خاطب الرجل الشاب الثاني قائلا: يبدو أنّ صاحبك أبا حسن قد توصل إلى نتيجة!!

ابتسم ناجي وقال: أكيد، من يفتح عقله يتوصل إلى نتيجة، ويجد إجابة على تساؤلاته.

الرجل: إنّ أمتنا للأسف عاشت ألفاً وأربعمائة عام في ظل أجواء دمّرت عقول الناس وسلبت منهم قدرة التفكير بحرية.


الصفحة 46

الصفحة 47

كتاب البداية والنهاية ومواصلة الحوار:

مضى على وجودي ثلاث ساعات ونصف تقريباً، والنقاش بينهم مستمر..

إلى أن سألني الرجل قائلا: ألا تشاركنا في الحوار.

قلت له: حقيقةً إنني مندهش لنقاشكم ومستغرب!

الرجل: وما سبب اندهاشك أو استغرابك؟

قلت له: لم أتوقع أن أجد هكذا حواراً، ومستغرب لقول أبي حسن عن صحيح البخاري، فبعلمي أنه لا يعترض عليه اثنان، فكيف يقول هذا الكلام عليه؟!

الرجل: أما قولك أنه لم يعترض عليه اثنان فمعلوماتك ناقصة، وأما كلامه على البخاري فهو نابع عن صدمة نفسية جراء ماوجده في البخاري!

قلت له: مهلاً، أراك تقول البخاري، ولا تسبقه بكلمه صحيح، فهذا حرام!

الرجل: وما أدراك أنه صحيح، لا صحيح إلاّ القـرآن الكريم فقط، وكلّ ما عداه يطرح على مائدة النقاش والتمحيص، هـل

الصفحة 48
قرأت البخاري وغيره؟!

قلت له: صحت البخاري وجود أحاديث النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أكبر دليل، أما قراءتي له فأنا لم أقرأه ولم أقرأ غيره من الصحاح الباقية، سوى أنني حصلت منذ مدة على كتاب النهاية لابن كثير، ووجدت فيه بعض الأحاديث ولي تساؤلات عليها وكتاب آخر.

الرجل: ألم تقرأ السيرة النبوية العطرة لأحد المؤلّفين؟

قلت له: لا وللأسف، سوى ما درسناه في المدرسة وما سمعناه في مجالس العلم من بعض المشايخ.

الرجل: هذه مشكلتنا، أننا انشغلنا بالحياة الدنيا وزخرفها، ونسينا أموراً هامة كثيرة، وأن ما يدرّس في مناهج الدراسة لايعد كافياً لمعرفة السيرة، وقد يكون مختلقاً ومغايراً لما في أمهات الكتب المعتبرة.

سألت الرجل: هل ما أخذناه في كتب الدراسة شيء آخر عما هو موجود في كتب السير.

الرجل: إن ما أخذته شيء، والموجود شيء، والسيرة الصحيحة شيء آخر، هل تحب القراءة والمطالعة؟!

أجبته: نعم، ولديّ إحساس غريب يدفعني لأن أتعرّف على المزيد، لكن لا أعرف السبيل إلى ذلك، ولا أعرف من أين أبدأ وإلى أين أتجه.


الصفحة 49
سألني أبو عبدو: هل سبق وأن قرأت السيرة النبوية العطرة كاملة، وماجرى بعدها، كالخلافة الراشدية والأموية وماحدث من مجريات الأمور فيها؟!

أجبت: لا أعرف شيئاً كاملا سوى ما درسته في مناهج الدراسة وبعض الأحاديث المتفرقة.

أبو عبدو: ألا تعرف قضية مقتل الإمام علي (عليه السلام) وأبنائه الحسن والحسين (عليهما السلام)؟!

قلت: الحقيقه معلوماتي ضئيلة بخصوص هذا الموضوع.

التفت الرجل إلى الشابين مختلس النظر إليّ: أترون، هذا مثال لما جرى من ضروب التعتيم والتضليل؟!

وتوجّه أبو عبدو إليّ مخاطباً وهو يمدّ يده إلى أحد الكتب الموجودة في الغرفة قائلا: سأعطيك هذا الكتاب لتقرأه، وأرجو أن تتريث في القراءة وتستوعب مافيه من الروايات التاريخية، وهو في مجلد من عدة مجلدات اسمه البداية والنهاية لابن كثير الدمشقي، وربما تجد فيه أجوبة الأسئلة التي تدور في ذهنك، أو تجد فيه ما ينفعك.

قلت: إنّي على علم بوجود هذا الكتاب الباحث لقضايا التاريخ، ولكن ثمن شـرائه كثير، فلم أسـتطع اقتناءه، وأعدك بقـراءته بتمعن، وإذا وجدت أمراً يصعب تفهمه أو تفسيره أعود لمناقشتك

الصفحة 50
به، ثم استأذنت منه لأنصرف، فتقدم الرجل وصافحني مع ضيوفه ورافقـني إلى خـارج المنـزل طالباً أن أبحث حـول هذا الأمر بجدّية.


الصفحة 51

مصيبة أهل البيت دفعتني للبكاء:

في طريقي للمنزل تبادر هذا السؤال إلى ذهني: لماذا هذا الاصرار من أبي عبدو على معرفتي للسيرة النبوية، هل أراد أن يُبيّن لي مدى تقصيري اتجاه ديني، أم هناك شيء ما أجهله؟! شعور مابدأ يساورني أنني سوف أجد فائدة من علاقتي مع هذا الرجل، صحيح أني خسرت فرصة عمل، ولكن سأربح شيئاً أفضل.

وقلّبت الكتاب بين يديَّ، وإذا بي أجد أنه المجلد الرابع، توقفت وقلت في نفسي: لعلّه أخطأ إذ كان عليه اعطائي المجلد الأول، وأردت العودة إليه، ولكن تأملت في الساعة، فوجدت أن الوقت متأخر ولا ينبغي طرق بابه الآن، تابعت سيري وأفكاري تتأرجح، وعندما وصلت إلى المنزل دفعني الفضول إلى قراءة الكتاب مع أنني كنت مرهقاً ومتعباً جداً، ولكن قلت في نفسي: أقرأ فترة قصيرة من الوقت وأترك الباقي للغد.

وكان أول موضوع في الكتاب هو خلافة الإمام علي (عليه السلام)، وبدأت بالقراءة، نبذة من نسبه الشريف وكيفية مبايعة الناس له بالخلافة، وحرب الجمل والتي ذهلت فيها لوجود عائشه زوجة رسول

الصفحة 52
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وطلحة والزبير في مواجهة الامام (عليه السلام)!

مضى الوقت الذي افترضته، وكل ما كنت أدخل في موضوع أجد أنني بحاجه لمتابعة أكثر، وعند مقتل الإمام (عليه السلام) استوقفتني الحادثة، ولم أتخيل أن استشهاده (عليه السلام)تم بهذا الشكل الفجيع.

تجاوزت الساعة الثالثة صباحاً وازداد تعبي وإرهاقي، وغفوت على سريري وبيدي الكتاب، ولم أشعر إلاّ ووالدتي (رحمها الله) توقظني لصلاة الصبح.

وبعد تناولي الفطور عدت للقراءة، وطالعت قضية الإمام الحسن (عليه السلام) وصلحه الذي وجدته لمصلحة الأمة جمعاء، ونقض معاوية للصلح، وكيفية المؤامرات التي حيكت ضد الإمام والغموض الذي لفّها، إلى أن وصلت إلى حوادث سنة 60هـ، وبدأت حالة من الغضب تنتابني، كيف يحدث هذا الأمر؟! لماذا يستباح دم الإمام الحسين (عليه السلام)ودم أبنائه؟! ولم تسبى نساؤه وحرماته؟! ولمَ يسيّرون إلى الشام بهذه الطريقة؟! كيف يدعوه أهل الكوفة ثم ينكثون العهد معه؟! هل حب الامارة والرياسة طغى على الدين والإنسانية، بل حتى على التشريع الإلهي؟!

أخذ الألم ينهش قلبي وروحي تارة، والخجل تارة أُخرى، لماجرى في تلك الفترة، وأعدت قراءة مقتل الإمام الحسين (عليه السلام)، فأجهشت بالبكاء... أبكي بحرارة كبكاء طفل فقد أمه أو أباه، هذا ما

الصفحة 53
حدث معي، فشعرت بعدها بحالة اليقظة، وبكيت وصرخت بصوت عال، لماذا الشيء يحدث؟ هل هؤلاء بشر؟ هل هم مسلمون؟ لا بل ظالمون فويل لكم يامن اتخذتم الاسلام لفظائعكم ستاراً، لم أستطع إكمال الكتاب، فالحالة أصبحت صعبة لدي، ولم أدرِ ما أقول، بل كيف جاءني هذا الاحساس والبكاء فجأة دون سابقة لي، انتظرت حتى المساء لكي أذهب للقاء أبي عبدو، وعندما التقينا طرحت فوراً اسئلتي عليه:

قلت: هل حقاً هذا الذي جرى في تلك الحقبة التاريخية؟ ولماذا وكيف؟ ورويت له مامر معي من قضايا، وهو يستمع دون أن يقاطعني.

فقلت له: لماذا لا تجيبني، أخبرني؟

قال أبو عبدو: أرجو أن تهدأ قليلا، إن ما ذكر قطرة مما جرى في تلك الحقبة من التاريخ!

قلت: قل لي بالله عليك كيف ينسبون إلى الاسلام هؤلاء القوم؟ كيف يفعلون هذا؟! كيف تكون هذه المأساة في تاريخنا الاسلامي ولاعلم لنا بها؟!

أبو عبدو: إنّ الحوادث في تلك الفترة دلّت على أن تبديلاً للصفة الإسلامية والشريعة المحمدية جرت على أيدي الحكام بالصفة الجاهلية والقبلية، ولهذا خرج الإمام الحسين (عليه السلام) بنفسه وأولاده

الصفحة 54
وأصحابه مضحياً في سبيل أمة جدّه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولإعادتها إلى طريق الرشاد والحفاظ عليها من الانحلال والفساد.

فبعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واجتماع السقيفة تخلخلت هيكلية الدولة الاسلامية، حيث أنّ المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)قبل أن يلتحق بالرفيق الأعلى حدّد معالم الدولة الإسلامية، ونصب خليفته على القوم، وأمر الناس بموالاته وطاعته.

لكنهم وللأسف ضربوا بأقواله وأوامره عرض الحائط، وبنوا لأنفسهم هيكلية جديدة وفق أسس وضعوها وفق بدعة: (لا تجتمع النبوة والخلافة في بني هاشم)، وتخلف عن ذاك الاجتماع أُناس كانوا أحق بهذا الأمر لعدّة أسباب، واستولى على الحكم رجال اعترفوا فيما بعد بخطئهم.

وبدأ بإحالتي إلى بعض المصادر والمراجع للبحث فيها، وحدّد لي رؤوس أقلام تبيّن المنهج الواجب عليّ اتباعه للبحث والتقصّي في التاريخ.

اختلطت الأفكار وتبعثرت أوراق رؤيتي للإسلام، وبدأتُ أشكك في مصداقية الخلافة، غير أنّ العامل التقليدي الذي ولدنا عليه منعني إلى حدّما من الخوض في الحديث.

إلى أن بادر الرجل بتقديم كتاب مختصر صحيح البخاري إليّ، وطلب مني قراءة الأحاديث، وأشار إلى أنه توجد أحاديث

الصفحة 55
مدسوسة وإسرائيليات، وأحاديث منافية للخلق الاسلامي والعرف الشرعي، وروايات تحطّ من عصمة الأنبياء (عليهم السلام)والرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولابد من التمعن فيها وإحكام العقل وتطبيق الحديث على النصّ القرآني والأخلاق الكريمة للمصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم).

ووافقت على ذلك، ضرورة الإلمام بأمور ديني والاحاطة بكلّ شيء.


الصفحة 56

الصفحة 57

الحطّ من شأن الأنبياء (عليهم السلام) في صحيح البخاري:

كنت أتصور أنّ الشيخ الذي نتلقّى منه الوعظ والإرشاد في الدروس الدينية وأيام الجمعة ـ هذا الإنسان الواعي المثقف أكثر من العامة ـ حاملاً لمبادئ إسلامية صحيحة وسامية لا تشوبها شائبة، ينطق بصدق ويقتدي بأسلافه، ولكن بعد قراءتي لمختصر الصحيح وتخريج بعض الأحاديث، التي لا يقبلها القرآن الكريم والشرع الحنيف ولا العرف الاجتماعي الإسلامي، لكونها تمس الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورأيت أنّ هذا الشيخ أو الخطيب إما مغرّر به أو مضلّ وضالّ، يقرأ شيئاً ويتحدث بشيء آخر، فهذه الأحاديث جعلت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فرداً عادياً له نزوات وشهوات! يخطئ في كثير من الأحيان وتنزل آيات تؤنبه.

فرفضت هذه الروايات، لاعتقادي أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أسمى من ذلك الذي يقولونه وهو الصادق الأمين، بل أنه على خلق عظيم جاء ليهذب الإنسانية، هذا النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو ترجمان القرآن الكريم والأمر الالهي، فكيف ينزل القرآن بشيء ويفعل النبي شيئاً مغايراً؟ وإذا نسبنا الخطأ للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهذا يؤدي إلى التشكيك بمصداقية

الصفحة 58
الدعوة، (والعياذ بالله).

فبحثت عن معنى العصمة، واخترت كتاب محمد بن أبي بكر الرازي، وبحثت عن كلمة العصمة لأتبيّن معناها، واسم الكتاب (مختار الصحاح) (1):

فالعصمة من المنع والحفظ، واعتصم بالله أي امتنع بلطفه من المعصية، وقوله تعالى: (لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) (2).

وصحت بصوت عال: يا الهي!! إنهم بهذه الأحاديث ينفون العصمة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وينسبون له المعصية.

ثم بحثت في الأحاديث، فوجدت أنّ العصمة وضعت في أفراد هم أقل قدراً ورفعة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، (وَيْلٌ يَوْمَئِذ لِلْمُكَذِّبِينَ) (3).

وقمت باستقراض بعض المال من أحد الأصدقاء واشتريت مجموعة صحيح البخاري كاملة، المتن والشرح، وقرأته، وإذا بي أجد أنبياء الله (عليهم السلام) قد أخطأوا: منهم من عصى، ومنهم من قتل، ومنهم من كذب، وحتى أنّ أحدهم حاول فعل الفاحشة (والعياذ بالله حاشا الأنبياء فعل ذلك).

____________

(1) الصحاح: 5/1986.

(2) هود: 43.

(3) المرسلات: 17 و 19.


الصفحة 59
بينما وجدت الصحابة يعتكفون في صوامع للعبادة، ويركعون الآف الركعات يومياً، ومهما فعلوا فذنبهم مغفور، وعملهم مأجور، وبُشروا بالجنة، ولربما يدخلون من يشاءون معهم إلى الجنة، حتى الأنبياء ربما، من يعلم فلهم سرّ وبركة!!

عندما وجدت هذه التناقضات في الأحاديث، رأيت أنّ من المناسب الرجوع إلى مختص بهذا الأمر، وحسب تفكيري أنه ممكن أي شيخ موجود بالمنطقة خطيب ويلقي دروساً عقائدية وإسلامية في المسجد أن يجيبني على تساؤلاتي.

حوار مع شيخ منطقتنا حول البخاري:

توجهت إلى أحد المشايخ في منطقتنا، وهو "الشيخ عبدالله علوش" خطيب ومدرس في إحدى المعاهد الشرعية، وحملت بين يدي مجلد من مجموعة البخاري، كنت قد أشرت فيه على بعض الأحاديث، دخلت المسجد وسلّمت على الحاضرين فلم يجبني أحد سوى شاب كان يجلس في آخر الحلقة الملتفة حول الشيخ، والجميع كانوا من أصحاب اللحى الطويلة باستثنائي أنا، والشاب الذي أحسست أنهم متغافلون عنه، بدأت أستمع للدرس الذي يلقيه الشيخ، وكان حول تفسير سورة "ألم نشرح".

فقال الشيخ: يقول المفسرون: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما كان في البادية

الصفحة 60
عند مرضعته حليمة السعدية إذ جاءه شخصان وطرحاه أرضاً على ظهره، ثم شقا بطنه واستخرجا حظ الشيطان منه، ثم أخاطا الجرح وذهبا.

صدقاً أنني لم استسغ الرواية، لأنني أحسست أن بها شيئاً لا يقبله العقل، فوقفت على الفور طالباً السؤال، وسمح لي الشيخ بعد طلبي الملح بالسؤال.

قال الشيخ عبدالله: مالك يابني هل تريد السؤال عن شيء؟

قلت: هل هذه الرواية موجودة في غير كتب التفسير التي ذكرتها؟

الشيخ عبدالله: نعم، هذه القصة مذكورة في كتب السير، مثل سيرة ابن هشام وغيرها.

قلت: وسند هذه الرواية هل هو صحيح؟!

الشيخ عبدالله: نعم، وهل تشكك بقول العلماء القدامى الذين هم أفضل مني ومنك؟!

قلت: هناك أحاديث لا يقبلها العقل، وهذه الرواية يبدو أنّها من جملة تلك الأحاديث.

قال الشيخ: عليك أن تستمع فقط، وإذا وجدت شيئاً عليك السؤال للاستفسار، ثم يبدو أنك تجهل أموراً كثيرة.

قلت: نعم، وللأسف يبدو أنني أجهل حقيقة ديني والدعوة

الصفحة 61
المحمدية، ثم كيف عليَّ الاستماع فقط دون أن أسأل وأقدم وجهة نظري!، هل هو كأس ماء عليّ شربه دون أن أعرف ما طبيعة الماء فيه!! أم هو حشو أفكار فقط، وعلينا التصديق والتسليم، كيف أقبل أن استمع لرواية لا أجد فيها إلاّ طعناً بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلقه، ثم أنكم تحدّثون هذه القصة، ثم بعد ذلك تقولون إن الشيطان اعترض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)في صلاته، أو أنه نسي آية من القرآن تذكّرها عندما سمع أحد القارئين لها، كيف ذلك؟!

الشيخ عبدالله: هذه أفكار مغلوطة، ويبدو أن أحداً ما نقل لك أحاديث ملفقة وسمّم أفكارك بها، فاحذر يا بنيّ.

نظرت إلى الحاضرين، ثم التفت إليه وقلت له: مارأيك بصحيح البخاري فضيلة الشيخ؟!

الشيخ عبدالله: لقد قال النووي في كتابه التقريب: "إنّ أول مصنف في الصحيح المجرد: هو صحيح البخاري، ثم صحيح مسلم، وهما أصحّ الكتب بعد القرآن، والبخاري أصح كتاب وأكثر فائدة" (1).

ويقول أحدهم: إذا قرىء صحيح البخاري في بيت ثلاثة أيام حفظ أهله من الطاعون، وأنه ما قرئ في سفينة إلاّ حفظت من الغرق، ولا مجال للطعن فيه، لأن أحدهم رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نومه، وقال

____________

(1) التقريب للنووي: 2.


الصفحة 62
له (صلى الله عليه وآله وسلم): أبلغ محمد بن إسماعيل (أي البخاري) مني السلام، وذلك في عصر البخاري.

قلت: إنّ هذه الأفكار التي ذكرتها من البخاري والأفكار التي طرحتها أنا أيضا نقلتها من البخاري، وها هو معي جزء منه، وتقدمت ووضعته أمامه..

وقلت له: هل قرأت صحيح البخاري كاملا؟

الشيخ عبدالله: نعم، أنا ماوصلت لهذه المرحله إلاّ وقرأت الصحاح كلّها مع السير.

قلت: لم تمر معك رواية سباق الجري بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وزوجته تاركين الجيش يسير وحيداً؟ ولم يأتك بالحديث أن المغنيات يغنين أمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وزوجته السيدة عائشه (رض)؟ ألم؟! ألم؟! طرحت الأحاديث عليه.

ضجّ الحاضرون وقالوا: هل هذا معقول ما يرويه؟! هل صحيح ما يقوله هذا الشاب؟

نهض الشيخ من كرسيه وقال للحاضرين: اهدأوا، إنّ هذا الشاب يحمل أفكاراً مسمومة، فيها رائحة الفتنة، وربما أنه التقى بهؤلاء الشيعة!

فقلت لأحد الشبان الجالسين: أرجو أن تفتح مجلد باب النكاح، واقرأ حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء..


الصفحة 63
وبدأ الشاب يقرأ..

قلت له: اقرأ بصوت عال حتى يسمع الجميع: "جاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)فدخل حين بُني عليّ فجلس على فراشي وجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر، وقالت إحداهن: وفينا نبي يعلم مافي غد".

وقلت للحاضرين: ما رأيكم بهذا الحديث، هل يستسيغ عقلكم أن يحضر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)حفلة زفاف وغناء؟! فهل يعقل هذا؟! هل تفعلون أنتم ذلك؟!

قال الشاب: لا نفعل، لا يجوز الاختلاط بنساء أجنبيات!

قلت: كيف إذن ينسبون للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك؟!

يافضيلة الشيخ إذا كانت أفكاري مسمومة بردّي على هذه الأحاديث، فهو نابع على حرصي على كرامة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكيف لا أرضى ذلك على نفسي وأرضاه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وأمّا الفتنة فهي السكوت على أحاديث باطلة شرعاً وعرفاً.

وأمّا ماذكرته أنني ألتقي مع الشيعة، فأنا لم ألتق مع أحد منهم، وإذا كان هذا رأيهم مثلي فإننا نتفق على ردّ هذه الأحاديث الضعيفة الباطلة.

رفعت كتابي من أمام الحاضرين، وبدأ الشيخ ينظر إليَّ غاضباً والحضور واجم لا يعلمون مايقولون، وخرجت من المسجد، ثم

الصفحة 64
تبعني الشاب الذي قرأ الحديث..

وسألني: هل أنت تقطن في هذه المنطقة؟!

قلت له: نعم، وأعطيته عنواني، ثم ذهبت إلى أبي عبدو، وذكرت له ماجرى..

وسألته: هل الشيعة يذهبون إلى هذا الرأي؟

قال: نعم، وهل تحب أن تطّلع على أفكارهم؟

قلت له: ياحبذا ذلك، فأعطاني كتاب المراجعات لسماحة السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي (قدس سره) لأقرأه وأتعرّف بنفسي على أفكار الشيعة.

متابعة البحث حول صحيح البخاري:

بدأ الناس يكيلون لي التهم، فمنهم من قال: إنه تشيع وترفض، فأخذت أسأل بعض المشايخ وألوذ بالمثقفين، والكل يحذّرني من الانجراف وراء الأفكار المسمومة، فذهبت يوماً إلى أحد أصدقاء والدي، وهو الحاج "أبو أحمد الشريف" وكان ملمّاً ببعض قضايا الدين، وكان مدرساً في كلية التاريخ، لكنه لم يواصل التدريس في الكلية بسبب ظروف مالية حالت دون متابعته الدراسة، وقد نوّه لي والدي مراراً أنه ربما يساعدني في حلّ كثير من الأمور والتساؤلات العالقة بذهني، فقمت بزيارته صباحاً، وسُرّ كثيراً برؤيتي، ثم دقق النظر في حالي فعرف أنني جئته لأمر ما..


الصفحة 65
فبادرني بالسؤال قائلا: يبدو أنّ أمراً ما تريد طلبه، هل والدك بخير وهل يريد شيئاً مني؟

قلت: إنّ والدي بخير والحمدلله ويبلّغك تحياته وهو نصحني بزيارتك.

أبو أحمد: يبدو أنّ لديك أمراً مهماً، وأنا أعلم أنّ والدك عندما يتضايق يرسل في طلبي أو يزورني.

قلت: لديّ استفسارات أود أن أطرح عليك بعضها، وبحكم معرفتي أنك مطلع على كثير من القضايا الإسلامية ولك تجربة في الحياة.

أبو أحمد: تفضل قل مالديك، وأرجو أن أستطيع مساعدتك يابني.

قلت: ما رأيك بصحيح البخاري، أو بالصحاح أجمعها؟

أبو أحمد: صحيح البخاري يا بني هو من الكتب المعتبرة، ومسلم يعدّ من تلامذة البخاري، واستقلّ بنفسه وأخرج كتاباً سمّاه صحيح مسلم على غرار صحيح البخاري، وقد توجد أحاديث عند مسلم ولا توجد عند البخاري، وأصحاب باقي الصحاح هم تلامذة للشيخين (أي مسلم والبخاري) وأوّل من جمع الأحاديث ورتبها حسب الأبواب مثلا باب الصلاة وكتاب الايمان وغير ذلك.

قلت: عفواً عم أبو أحمد، أنا ما سألت كيف انتهج الأسلوب في

الصفحة 66
تأليف الكتاب، بل أردت بيان قيمته المعنوية.

أصرح لك: أنني وجدت أحاديث كثيرة منافية للعقل بحيث لا يتحملها أحد.

أبو أحمد: إياك يا بني أن تخوض في هذه المسائل، لأنّها تؤدّي بالنهاية إلى الكفر والعياذ بالله، وموضوع بحث الأحاديث له أهله، وهناك علماء ودكاترة مختصون بالبحث ومناقشه الأحاديث.

قلت: عم أبو أحمد، هل الدين وبحث الأحاديث النبوية حكراً للدكاترة والأساتذة والعلماء؟! هل الدكتور أو العالم له ميزة خاصة عن باقي الناس؟! هل يوحى إليه ـ والعياذ بالله ـ أنه سيحصل على شهادة دكتوراه أو مرتبة عالم؟ أم أنه تلقى العلم ودرس وسأل حتى حصل على هذه المرتبة.

أبو أحمد: يبدو أنك متحامل كثيراً على أصحاب الشهادات والعلماء.

قلت: أليس من حقي أن أسأل عن أمور ديني وأتعلّم الأحاديث النبوية وأن اقرأ الكتب الإسلامية؟ ألست مسلماً يجب أن يتعرّف على أمور دينه؟!

أبو أحمد: رويدك.. رويدك، يا بني، من حقك أن تسأل وتعرف وتقرأ الكتب، لكن قل لي: ألا تصلّي وتصوم وتزكي، وقبل كل ذلك تؤمن بالله وحده لا شريك له وتؤمن بالملائكة والأنبياء والرسل

الصفحة 67
وبالجنة والنار، وتقوم بفريضة الحج إذا استطعت ذلك، عليك أن تبحث من خلال هذه الأمور فقط.

قلت: وهل الإسلام فقط صلاة وصوم وزكاة وحج؟! واعتقادي أن هناك أموراً أساسية يجب على المسلم معرفتها!

وأحسست أنني لم أجد جواباً لاستفساري الأول، فقطعت الحديث وتناولت فنجان القهوة الذي أعدّه لي أبو أحمد.

وعدت وسألته: عم أبو أحمد، مارأيك بالشيعة؟ وأين أستطيع أن أجد لهم كتباً أتعرّف من خلالها على أفكارهم؟

نهض العم أبو أحمد من مكانه بسرعة كأنه صعق بماس كهربائي، أو أنّ إحدى الزواحف قد لدغته وصاح في وجهي: يا باسل، ما لنا وللرافضةّ، ما لنا ولهؤلاء الناس، لعن الله من أيقظ الفتنة.

وفجأة طُرقت باب منزله فبادر أبو أحمد وفتح الباب ورحب بضيفه، وكان الضيف أحد جيران العم أبي أحمد، وهما متشاركان بالعمر.

فعرّف العم أحدنا على الآخر، ثم بادر الضيف بإخراج كتاب من حقيبته..

وقال للعم أبي أحمد: تفضل، ابني اشترى كتاباً لأحد مؤلّفي الشيعة، وقد تجادلت كثيراً معه حول شرائه لهذا الكتاب، وما الداعي لشرائه، ولكن دون فائدة، فأخذته منه لأعرضه عليك لنرى ما الحلّ

الصفحة 68
لنبعد الولد عن قراءة هذه الكتب.

قال العم أبو أحمد: أعطني أياه، آه! هذا الكتاب المختلق، دائماً يوزعونه، ويبيعونه بسعر قليل حتى يجذبوا الشباب إليهم، ولكن إلى متى، أنّا لهم بالمرصاد، وهذه المراجعات كلّها قصص مختلقة.

نظرت خلسة إلى الكتاب، فوجدت اسمه فعلاً المراجعات، وتذكرت أنّ أبا عبدو أعارني أياه ولكن لم أقرأه..

وقلت في نفسي: إنني لن أقول للعم أبي أحمد أنّ لدي نسخة من هذا الكتاب حتى لا يصب جام غضبه عليّ.

ثم قال العم أبو أحمد لضيفه: هذا الشاب أيضا يسأل عن الشيعة، ويبدو أنه سيتأثر بهم، ولكنني سأبعده عنهم..

ولكن قل لي: من أين حصل ابنك على هذا الكتاب، على حدّ علمي أن مكتباتنا لا تبيع مثل هذه الكتب.

أجاب الضيف: بالأول سألته ـ يعني ولده ـ فلم يجبني، وعندما أظهرت له غضبي، قال: إنّه ذهب مع صديقه إلى منطقة السيدة زينب (عليها السلام) وهناك اشتراه من إحدى مكتبات الشيعة.

تعلّق في ذهني اسم المنطقة، وقرّرت الذهاب إلى هناك لأطّلع على كتبهم، وبعد لحظات نهضت من مكاني وطلبت الإذن بالانصراف.

فقال العم لي: تمهّل لي حديث معك.


الصفحة 69
قلت: لقد أطلت الجلوس عندك، ولديّ بعض الأمور يجب إنجازها.

أبو أحمد: يا بني نصيحتي لك: إحذر الاقتراب من الشيعة، إنّ عمري تجاوز الخمسين ولي نظرة بالأحداث، فإياك ثم إياك الاستماع إلى أقاويل هؤلاء الشيعة، فإنهم يحرّفون الأحاديث.

قلت: أقبل نصيحتك، ومايشاء الله يفعل فلا اعتراض على أمره، والسلام عليكم.


الصفحة 70