قراءتي لكتاب المراجعات:
عدتُ إلى المنزل، وأوّل ما فعلته أنني فتحت كتاب المراجعات وقرأت المقدمة وبداية المناظرة، فهالني دقة الألفاظ وسحر المعاني والجمل المترابطة وأدب الحوار بين المتناظرين، وتابعت القراءة، وكلما طالعت أكثر وجدت قوّة أدلة السيد ومتانة حججه وضعف الشيخ البشري، وأخذت أنظر إلى الهوامش كي أرى المصادر التي اعتمد عليها السيد (قدس سره) في مناظرته، فتفاجأت من كون كلّها من مصادر أهل السنة!
قلت في نفسي: إنه يرتكز على أرضية صلبة في حواره مع الشيخ، والشيخ أحياناً يوافقه بالقول على دلالة المصادر ووثوقها، فأخذت بتسجيل المصادر الهامة لأبحث عنها فيما بعد، وعندما وصلت إلى الربع قبل الأخير من الكتاب وتحديداً صفحة (257)، وكانت المراجعة تحت رقم (86)، وهي رد من السيّد (قدس سره)على الشيخ البشري حول سؤاله الموارد التي لم يتعبد بها الصحابة بالنصّ، وكان جواب السيد رزية الخميس.
"الموارد التي لم يتعبدوا فيها بالنصّ أكثر من أن تحصى، وحسبك منها رزية يوم الخميس، فإنها أشهر القضايا وأكبر الرزايا، وأخرجها أصحاب الصحاح، وسائر أهل السنن، ونقلها أهل السير والأخبار كافة، ويكفيك منها ما أخرجه البخاري بسنده إلى عبيدالله ابن عبدالله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس: قال: لما حضر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): هلمّ أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده، فقال عمر: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف من في البيت فاختصموا، منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي كتاباً لا تضلّوا بعده، ومنهم من يقول ماقاله عمر، فلمّا أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي، قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قوموا عني، فكان ابن عباس يقول: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب (1).
وقد نقله أصحاب السنن وتصرفوا فيه، لأن لفظه الثابت: أن النبي يهجر، لكنهم ذكروا كلمة غلبه الوجع تهذيباً للعبارة (2).
____________
(1) المراجعات: 453.
(2) صحيح البخاري، كتاب المرضى، باب قول المريض قوموا عني: 4/10 (5669).
وقلت: يجب أن أبحث عن هذه الرواية هل حقاً موجودة في البخاري؟
وقلت: مادام بعض أجزاء الصحيح موجودة عندي فسوف أنتهز الفرصة، ولكن في الصباح إن شاء الله أكملها بعد عودتي من المدينة.
قصد الذهاب إلى منطقة السيدة زينب (عليها السلام):
في الصباح قرّرت الذهاب مع والدي لشراء بعض الحاجيات من مدينة دمشق، وبالفعل وصلنا إلى مركز المدينة، وقام والدي بشراء بعض الخضار، وقال لي: تعال لنستريح قليلا عند عمك "أبو علي" فهو قريب من هنا، وعمي أبو علي هذا له دكان صغير لبيع المضخات المائية في منطقة العمارة "بدمشق"، وتسوقنا للخضار كان من سوق الهال القديم وهو قريب نسبياً للدكان، ودخلنا على العم "أبو علي" (ابن عم والدي) فرحّب بنا كثيراً ثم طلب منّا الجلوس.
وأخذ أبي وابن عمه يتحدثان عن أمور المعيشة والحياة، في هذه الأثناء مرّت من أمام المحل حافلة صغيرة مكتوب عليها لوحة (السيدة زينب)، فبرقت في بالي فكرة الذهاب إلى هناك، ولكن كيف؟
فقلت للعم "أبو علي": أرى سيارات السيدة زينب تمر من هنا، هل أصبح لهم موقف بجانبك؟
العم أبو علي: لا، هي سيارة عابرة، قد تكون في مهمة إيصال طلب خاص.
قائلا: على كل حال هذه السيارات لها موقف في مكان قريب وبالتحديد خلف (القصر العدلي)، واُجرة الذهاب إلى هناك عشر ليرات، والناس يذهبون لزيارة السيدة وقراءة الدعاء عندها.
قلت: وهل الناس تذهب للدعاء عند القبور، هل يجوز ذلك؟
العم أبو علي: نعم، فهي سيدة فاضلة والدعاء عندها بركة، ويورث راحة نفسية، وأما بالنسبة لي فأنا لم أزرها منذ عشر سنوات، ولكن إذا أردت الذهاب عليك الانتباه! فهناك ناس يختلفون عنا في الصلاة، ويقصدها الزوار من إيران والعراق وأفغانستان.
قلت لأبي: أودّ رؤية هذه المنطقة الآن، فهل تريد أن أوصلك إلى موقف سيارات "دوما"؟
قال أبي: كيف تذهب الآن إلى هناك وينبغي أن ننجز أعمالا كثيرة، دع هذا الأمر لمرّة أخرى (خاطبني وهو متذمر).
قلت: طالما أنا بالشام ـ يعني أنني في نصف الطريق ـ ولن أتأخر، ثم وقفت واستأذنت بالانصراف، فرمقني أبي بنظرة حادة علّني أنصرف، ولكنني أصررت عليه حتى أذن لي بذلك.
البحث عن المكتبات الشيعية:
حثثت السير إلى القصر العدلي، وسألت أين "سرفيس" السيدة زينب، فأشار إليّ أحدهم قائلا: هذه السيارة الصفراء الكبيرة هناك تذهب لمنطقة السيدة زينب، فأسرعت الخطى إليها، ثم ركبت، وقلت للسائق: أرجو أن تنزلني في الشارع الذي فيه مكتبات الشيعة، فالتفت أحد الركاب إليّ قائلا: الشارع الذي تمر به السيارة فيه الكثير من المكتبات فإذا وصلنا أنزلك أمام إحداهن.
وعند وصولنا أنزلني ذلك الشخص أمام مكتبة "السيدة رقية" هذا كان إسمها ويبدو أنها كانت حديثة، ولم تمر فترة طويلة على افتتاحها، نظرت إلى داخلها فلم أجد أحداً، وتبين أنها مغلقه، فمشيت وقلت في نفسي: ماهذا الحظ، أصل إلى هنا على أمل أن أجد مكتبة وإذا بها مغلقة، ولم أتجاوز سوى ستة محلات حتى رأيت مكتبة لها لافتة مكتوب علها "دار الحسنين (عليهما السلام)"، ففرحت وفتحت بابها، وحمدت الله تعالى أنها مفتوحة، فرحب بي صاحبها قائلا: تفضل على الرحب والسعة.
قلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل يمكنني الاطلاع على الكتب لديك.
نظرت إلى الكتب وانبهرت لكثرتها، وجمال تجليدها، وبدأت أقرأ العناوين: "أضواء على السنة المحمدية" لمحمود أبورية، "الخدعة ـ رحلتي من السنة إلى الشيعة" لصالح الورداني، نظرت إلى الطرف الآخر وسيل العناوين ينهال عليّ وكلها تدفع بالمرء للفضول ومعرفة مافي بطونها، لكن عدت واخترت كتاب "أضواء على السنة المحمدية" لاهتمامي بمعرفة سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتوجهت إلى صاحب المكتبة..
قائلا: ما هذا الكتاب؟!
صاحب المكتبة: هذا الكتاب يعدّ من الكتب الهامة والتي تبحث في الأحاديث النبوية والصحاح عند إخواننا أهل السنة، ويناقش المؤلّف فيه بعض الاسرائيليات المدسوسة في السنة، ومؤلّفه مصري الجنسية.
قلت: هل المؤلّف شيعي أم سني، فأنا أبحث عن كتب تبيّن الفكر الشيعي.
صاحب المكتبة: هذا المؤلّف يطرح القضية بوجه عام، ولديه أفكار جيدة في مناقشة السنة النبوية، واختيارك له كان موفقاً.
قلت: هل يوجد كتّاب مصريين آخرين، أو حتى سوريين، فأنا
صاحب المكتبة: يوجد كتّاب مصريين، ويوجد لدي مؤلّف سوري له كتاب يناقش بعض المسائل الفقهية بين السنة والشيعة، والكتاب هو "القطوف الدانية في المسائل الثمانية" لمؤلفه السيّد عبد المحسن السراوي.
قلت: أرجو أن تعطيني هذا الكتاب إذا سمحت، وهل هناك كتاب يبحث ويناقش الأحاديث النبوية غير كتاب (محمود أبو رية) وأرجو أن تعطيني إياه.
صاحب المكتبة: نعم هنالك كتاب "تأملات في الصحيحين" لمحمد صادق نجمي، وهو كتاب جيد أنا لم أقرأه، لكن أقول لك آراء العديد من الذين قرأوه، تفضل هذا هو.
قلت: شكراً لك، ممكن سؤال أخير إذا سمحت: ماهذا البناء الذي أمامك؟!
صاحب المكتبة: هذا البناء يتعلّق بالحوزة الزينبية العلمية، وهو ما يماثل معهد شريعة عند السنة، توجد لوحة على البناء يمكنك قراءتها.
طلبت معرفة ثمن الكتابين، وهما القطوف الدانية وأضواء على السنة المحمدية، دفعت له الثمن وانصرفت شاكراً له على مساعدته لي.
في مقام السيدة زينب (عليها السلام):
بعد خروجي من المكتبة توجهت إلى مقام السيدة زينب (عليها السلام)لرؤية الضريح عن قرب، ولأرى كيفية صلاة إخواني الشيعة، وعندما وصلت أمام الباب الخشبي الكبير رأيت الناس ينحنون احتراماً للسيدة ومكانتها، دخلت وأحسست بشعور الهيبة يلّف بي، وتابعت سيري ووقفت أمام الضريح والناس مشغولة بالدعاء أو البكاء أو الصلاة، لم أشعر بنفسي إلاّ وأنا أبكي!
تذكرت واقعة كربلاء وما جرى فيها، وتذكرت صمود السيدة زينب (عليها السلام) في هذه المأساة، ودون سابق معرفة بدأت أضرب على صدري، لم أعرف كيف فعلت ذلك، هل لأنني رأيت الآخرين يفعلون ذلك أمامي أم حالة نفسية دفعتني إلى ذلك! لقد أهابني المنظر في المقام.
ولفت نظري صلاة الأخوة هناك، ومع ذلك قلت: يجب عليّ أن أصلّي ركعتين وأهب ثوابها للسيدة (عليها السلام)، ثم دعوت وخرجت وقلت في نفسي: إن الصلاة لا تختلف بيننا وبينهم سوى أنهم يسجدون على التربة، وسوف أبحث حول هذا الموضوع مع "أبو عبدو" عندما ألتقي به، ثم ركبت سيارة العودة، وقلت: الآن سأجد والدي غاضباً عليّ لتركي إياه في المدينة، ولكن عندما يعلم أنني قد استفدت من هذه الزيارة سيطمئن ويهدأ.
مواصلة البحث بجدّية:
عندما عدت إلى المنزل وبعد أن عاتبني والدي كثيراً، دخلت غرفتي وفتحت كتاب "القطوف الدانية" للسيد عبد المحسن السراوي وقرأت مقدمة المؤلّف، ولفت نظري أنّ التساؤلات التي تبادرت إلى ذهني وأنا في المقام أجد لها إجابة في هذا الكتاب، وشدّني استدلال المؤلّف على بحثه من مصادر السنة، وفوجئت بأنّ هناك عدّة مذاهب غير المذاهب الأربعة التي كنت أعرفها لأهل السنة والجماعة، وهذا المؤلّف يذكر رؤساءها: كالأوزاعي، وإسحاق، وداود، وعطاء، والزهري، وابن المبارك، والليث بن سعد، ومحمد بن الحسن الشيباني، وغيرهم.
هذه الأسماء لم أسمع بها من قبل سوى إشارات كانت في كتاب "الملل والنحل"، ورأيت المؤلّف يحاول جاهداً للتقريب بين وجهات النظر بين الطائفتين، ويوضح للقارىء أنّ المسائل التي يطرحها هي من صميم السنة المطهرة، فقرأت أكثر من نصف الكتاب، وخرجت طالباً لقاء "أبو عبدو"، وأخذت كتاب المراجعات كي أعيده إليه بعد أن قرأت أغلبه، وبدأت أفكر
عدت إلى منزلي وأنا مسرور بالأمور الجديدة التي تعرّفت عليها، ولما جنّ عليّ الليل غرقت بمراجعة كتاب القطوف الدانية، ثم بدأت بقراءة كتاب أضواء على السنة المحمدية، ووصلت إلى قسم "وضّاع الحديث والمدلسين"، ثم "واضعوا الأحاديث الإسرائيلية وأسمائهم"، فاستغربت من صدور هذه الأفعال من أناس كنت أثق بكلامهم ثقة كاملة، بحيث كنّا عند ذكر أسمائهم نمسح بوجهنا للتبرك، ولم أسأل يوماً لماذا عندما يأتي ذكر هؤلاء نمسح بأيدنا على وجوهنا، يبدو أن هذه الحالة وليدة تقليد أعمى ورثناها من أسلافنا.
جاء الصباح وبعد إنهائي لفريضة الصلاة توجهت إلى منزل الأخ "أبو عبدو" ووجدته بانتظاري خارج المنزل، ثم ركبنا إحدى السيارات الناقلة وتوجهنا مباشرة إلى السيدة زينب (عليها السلام)، وفي
ثم قلت له: لم تقل عند من سنذهب اليوم؟
قال: نذهب إلى بعض الأخوة الشيعة، سوف تتعرف عليهم هناك.
ووصلنا المكان المقصود ودخلنا في طريق طويل يتوسطه سوق لبيع الخضار ومحلات كثيرة، إلى أن أخذنا طريقاً جانباً إلى اليمين، ثم توقفنا وقرع الأخ "أبو عبدو" الباب فخرج إلينا بعد ثوان شاب صغير.
أبو عبدو: السلام عليكم، كلّ عام وأنتم بخير، هل السيّد موجود؟
الشاب الصغير: وعليكم السلام، وأنتم بخير، نعم لحظة من فضلك.
ثم ذهب برهة، وإذا بصوت أتى من الأعلى تفضّلوا، نظرت وإذا برجل متوسط بالعمر واضعاً كوفية مزركشة حمراء على رأسه، فلما وقع بصرنا عليه ابتسم، ورحّب بنا، فدخلنا إلى المنزل وصعدنا الدرج واستقبلنا السيّد، فصافحته وأحسست بعاطفة قوية نحوه كأنه قريب لي أو كأنني أعرفه فصافحته بحرارة، ثم دعانا للدخول إلى غرفة جانبية معدّة للاستقبال، ولفت انتباهي كثرة الكتب الموجودة لديه، فقلت ماشاء الله (اللهم صل على محمد)، ثم جلسنا وأنا
الأخ أبو عبدو: حضرة السيّد أعرفك الأخ باسل الخضراء من الأخوة الفلسطينيين ويحمل جذوراً مغربية، ويتصل بالنسب إلى السيد إدريس بن الحسن.
السيّد: أهلا وسهلا، صبحكم الله بالخير، كيف حالكم؟
الأخ أبو عبدو: أخ باسل أعرفك سماحة السيد عبد المحسن السراوي من أبناء الحسكة.
قلت مندهشاً: الله أكبر فعلتها بي يا أبو عبدو!!
ابتسم أبو عبدو قائلا: أردت أن تكون مفاجئة لك.
قال السيد: هل هناك شيء ما.
قلت: لقد ذكرت له أنني اشتريت كتاباً لأحد المؤلّفين السوريين وذكرت له اسمك، وقال: سمعت عنه، وأحسسني بأنه لا يعرفك!
السيّد أبو حيدر: هو دائماً يحب المفاجآت.
الأخ أبوعبدو: الأخ باسل أبو محمد يريد أن يقدّم لكم بعض الأسئلة، وهو من الشباب المثقف ويبحث عن السنة الصحيحة، وبحاجة لمن يعينه في هذا المجال.
السيّد: نعم على الرحب والسعة تفضلوا.
قلت: مولاي أنتم تقولون أن مسح الأرجل في الوضوء هو
السيّد: عفواً نحن لسنا فقط الذين نقول بهذا الأمر، بل هناك مفسرون من أهل السنة قالوا هذا، مثل ابن كثير وحمزة وأبو عمر وعاصم، قد قالوا بالجر، ومنهم من قال بالنصب.
فأقول: إنّ القراءة بالجر تبين أنّ الأرجل معطوفة على الرؤوس، فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الرجل، وبقراءة النصب توجب المسح أيضاً، وذلك لأن قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ)فرؤوسكم في محل النصب ولكنها مجرورة بالباء، فإذا عطفنا الأرجل على الرؤوس جاز في الأرجل النصب على محل الرؤوس، والجر معطوف على الظاهر، فوجب أن يكون عامل النصب في قوله تعالى: (وَأَرْجُلَكُمْ) هو قوله تعالى: (وَامْسَحُوا )فيثبت أن قراءة: (وَأَرْجُلَكُمْ) بنصب اللام توجب المسح.
ونحن نأخذ بأفعال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونعتبرها من السنة، وإليك هذه الرواية: عن عبادة بن تميم، عن أبيه قال: "رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يتوضأ ويمسح على رجليه" (2).
ثم بدأ السيّد يذكر لي أحاديثه مسندة ويحيلني إلى مظانها من مصادر أهل السنة حتى أوثق الأحاديث.
____________
(1) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ) المائدة: 6.
(2) مجمع الزوائد للهيثمي: 1/224.
صلاتكم غير صلاتنا:
قلت: سيدي عندما زرت السيدة (عليها السلام) منذ مدّة وجدت أنّ صلاتكم غير صلاتنا، فأنتم تصلّون على التربة وهذا ما أثار حفيظتي بعض الشيء، كما أنكم حسب معلوماتي تصلّون فرضين سوية، أرجو أن توضحوا لي سبب ذلك، جزاكم الله خيراً.
السيّد: كيف تصلّي أنت يا أخي؟
قلت: أصلّي على السجادة، وهذا معروف في البيت أو في المسجد.
السيّد: وصلاتك للسجادة أم لله سبحانه؟
قلت: إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين.
السيد: نحن أيضاً صلاتنا لله عزّ وجلّ، وسجودنا يكون على التراب اقتداءاً برسول الله والصحابة الكرام.
قلت: أنت تقول إنكم تقتدون برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والصحابه وكيف ذلك؟
السيّد: لقد أجمع المسلمون على جواز السجود على الأرض، وما أنبتت من غير المأكول والملبوس كالحصير وورق الشجر والقرطاس، والمتأخرون من أهل السنة أجازوا السجود على القطن والكتان والشعر والصوف، ومذهب أهل البيت (عليهم السلام) لا يجوّز السجود
حديث خباب بن الأرت قال: "شكونا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من شدة الرمضاء في جباهنا وأنفنا فلم يشكنا" (1).
وحديث ابن عباس (رضي الله عنه): "أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سجد على الحجر" (2).
وحديث أنس بن مالك "كنا نصلّي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، في شدة الحر، فيأخذ أحدنا الحصباء في يده، فإذا برد وضعه وسجد عليه" (3).
وإذا أردت الوضوح أكثر ارجع إلى كتابنا (القطوف الدانية) (4) أو إلى الصحاح الستة فسترى أحاديث أكثر تتناول هذا الموضوع.
قلت: شكراً لك لقد أوضحت لي هذه المسألة، ولكن موضوع الجمع ألا ترى أنّ العلماء أجمعوا فقط على الجمع بعرفة وقت الظهر والعصر، كما أنهم أجازوا الجمع في المزدلفة وقت العشاء بين فرضي المغرب والعشاء؟
ثم التفت السيد إلى "أبو عبدو" قائلا: يمكنك المشاركة إذا
____________
(1) البيهقي في سننه: 2/151 (2657)، وسنده جيد وصحيح.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك: 2/34 (1775)، وقال: صحيح.
(3) مسند أبي يعلي: 7/178 (4156).
(4) القطوف الدانية: المسألة الخامسة، السجود على الأرض.
الأخ أبو عبدو: أعلمك أخي "أبو محمد" أن من أهل السنة أو بالأحرى علماء بعض المذاهب السنية جوزّوا الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء تقديماً وتأخيراً بعذر السفر، كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل، أما أبو حنيفة فمنع ذلك وقال: لا يجوز الجمع بين الصلاتين مطلقاً، والإمام أحمد يوافق مالك في جواز الجمع بين الصلاتين أو العشاءين فقط لعذر المطر، لا بين الظهر والعصر.
السيّد: لكن لا تنسوا أنّ جماعة ذهبوا إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة، وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك والخطابي والقفال هؤلاء من علماء أهل السنة (1).
قلت: لكن ماهو رأي مذهب أهل البيت (عليهم السلام) بذلك؟
السيّد: يستدل أئمه أهل البيت (عليهم السلام) بآيات كريمة وأحاديث نبوية على جواز الجمع من غير عذر ولا خوف، منها هذه الآيه الكريمة: (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (2)، وقد ذكر المفسر الفخر الرازي: الغسق هو ظهور الظلمة، وعبارة عن أول المغرب، فعلى هذا يكون ثلاثة
____________
(1) شرح مسلم للنووي: 5/219، باب جواز الجميع بين الصلاتين في السفر.
(2) الاسراء: 78.
أما بالنسبة للحديث فقد أخرج مسلم في باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، عن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: "صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً من غير خوف ولا سفر" (2)، كما قال ابن عباس: "صلّيت مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمانياً جميعاً، وسبعاً جميعاً" (3)، كما قال: "إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صلّى بالمدينة سبعاً وثمانياً، الظهر والعصر والمغرب والعشاء" (4).
وفي حديث لوكيع قال: قلت لابن عباس: لماذا فعل ذلك؟ قال: كيلا يحرج أمته" (5).
وعلى كلّ إذا أردت التوسع فأنصحك بالرجوع إلى شرح الموطأ
____________
(1) التفسير الكبير للفخر الرازي (سورة الاسراء آية 78): المسألة الرابعة.
(2) صحيح مسلم: 1/410 (705).
(3) صحيح مسلم: 1/412 (705).
(4) صحيح مسلم: 1/412 (705).
(5) صحيح مسلم: 1/411 (705).
قلت: شكراً لك ياسيدي، لقد بينت لي حجة بالغة ودليلا قاطعاً لا يقبل الشك، ومع هذا سوف أقوم بمراجعة المصادر التي ذكرتها، فجزاك الله كلّ خير، كما أرجو أن لا أكون قد أتعبتك بكثرة الأسئلة.
السيّد: لا بأس، وأنا مستعد تماماً لأن نبحث معاً هذه الأمور الدينية، ونحن نتمثل بقول سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)للإمام عليّ في وصيته له: "ياعليّ لئن يهدي الله بك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس"، ولكن لي تعقيب صغير لك وتوضيح.
قلت: تفضل مولاي، فكلّي آذان صاغية، أستفيد من آرائكم.
السيد: لقد ذكرت عند دخولك إلى الغرفة الصلاة على سيدنا ناقصة وبتراء، فأرجو أن تقبل النصيحة.
قلت: إنّ هذا ماتعلمناه، وإذا كان هناك أمراً بحاجة إلى توضيح فلا بأس مشكورين.
السيّد: عندما نزلت آية: (إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (3) قالوا لرسول
____________
(1) شرح الزرقاني على موطأ مالك: 1/418.
(2) سنن أبي داود، باب الجمع بين الصلاتين: 1/448.
(3) الأحزاب: 56.
قلت: شكراً لك سيدي على الايضاح.
ثمّ قلت لأبي عبدو: أرى أن لا نأخذ وقت السيد أكثر من هذا.
فقبل أبو عبدو، وطلبنا الإذن بالانصراف، فأعطاني السيد الكريم رقم هاتفه، ثم خرجنا بعد توديعه، ثم شكرت الأخ أبو عبدو على مفاجئته السارة، وبيّنت له أنني استفدت جداً من هذه الزيارة، وأظن أنها ستتكرر لاحقاً.
فقال لي الأخ أبو عبدو: إن هذا السيد عالم، وستستفيد منه كثيراً إن شاء الله تعالى، وأرجو أن تدعو لي دائماً.
وصلنا إلى البلدة، وكلّ منّا ذهب إلى منزله واتفقنا على تبادل
____________
(1) صحيح البخاري، باب أن الله وملائكته يصلّون على النبي: 4/1803 (4519)، صحيح مسلم، باب الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): 1/255 (405 ـ 406)، الصواعق المحرقة لابن حجر: 2/429 في الآيات الوارده فيهم.
أنهيت بعض أعمالي المهنية، ثم أخذت بقراءة بعض المصادر التي استعرتها من أحد الأصدقاء، وتذكرت بعض الأحاديث الأخرى، وارتأيت أن أقوم بزيارة الدكتور البوطي في حلقة درسه، ولكن لا أعلم مكانها، فطلبت من أحد أبناء جيراننا أن يدلّني على مكان درس الدكتور بما أنه يحضر درسه أكثر الأحيان.
زيارة الدكتور البوطي:
توجهت في أحد أيام الاثنين من الشهر نفسه إلى جامع "الايمان" حيث يلقي الدكتور البوطي درسه هناك بعد صلاة المغرب، ودخلت إلى الجامع ورأيت الناس مكتظة وجلست، لكن لم أشاهد الدكتور، وفجأة حضر الدكتور وبدأ الشبان بالتراكض لمسك يده وتقبيلها والسلام عليه، وأنا جالس أتأمل المنظر، ثم جلس الدكتور خلف المنضدة التي وضعت لأجله، وبدأ بالحديث، وعنون محاضرته: "هل الإنسان مخير أم مسير؟".
طبعاً أنا بدأت أرسم هيكل الأسئلة في مخيلتي وكيف سأطرحها عليه، واستغرقت بترتيب الأفكار ونظراتي لم تغب عن الحاضرين والدكتور، حتى أن جاء أحد الأخوة بجانبي وطلب مني استعارة القلم الذي بحوزتي، فقلت له: تفضل، وتبعته بنظراتي لأرى ماسيفعل به، وإذا به يكتب على قطعة ورقة شيئاً ويسلمها إلى الشخص الذي أمامه، وبالتالي وصلت إلى أحد الجالسين أمام الدكتور فوضعها على المنضدة، فأخذت القلم من الشاب وطلبت منه بالمقابل قطعة ورق لنفس الغرض، فأعطاني ورقة، فشكرته، وكتبت عليها
السؤال الأول: فضيلة الدكتور، لماذا في محاضراتكم لا تذكرون أو تخصصون حلقات لدراسة التاريخ الإسلامي؟ وإذا تحدثتم عن التاريخ تمرون مرور الكرام ولا تذكرون القضايا الهامة، بل حتى في كتبكم لا تكتبون شيئاً عنه، فالناس بحاجة إلى معرفة تاريخها والتعرّف على ما جرى فيه من خطوب وأمور.
السؤال الثاني: هل ممكن أن تحدّد لنا من هي الفرقة الناجية حسب قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بدليل قاطع، وشكراً.
وطويت الورقة وسلّمتها للذي مقابل المنضدة وانتظرت الرد، فلحظة وصول الورقة إلى الدكتور كان قد أنهى محاضرته وأراد استلام الأوراق للردّ عليها، فأخذ الورقة التي كتبتها من الشاب الجالس أمامه ظناً منه أنه صاحب الورقة، وفتحها وقرأها في نفسه..
ثم قال الدكتور: أرى أنّ أحد الأخوة طرح سؤالا خارج نطاق المحاضرة، ويجب أن لا نرّد عليه، التزاماً بمنهجية الدرس والمحافظة على المعلومات التي طرحناها، حتى لا تتشابك الأفكار.
ثم قال: طيب لا بأس، بما أنّ أوّل ورقة نستلمها حتى نكون بمحضر حسن الظن.
فجهر بالسؤال الأول قائلاً: بالنسبة للتاريخ فهو واسع وسوف
أما السؤال الثاني: فنحن لا نحدد الفرقة من هي، ولكن نقول: إنّ من حافظ على بيضة الاسلام ولم يوقظ الفتنة فهو من الفرقة الناجية، وبالتالي هي قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أنا عليه وأصحابي ونرجو عدم الخوض أكثر من هذا في مثل هذه الأمور.
ثم أكمل قراءته وإجاباته للأسئلة ولم تطل كثيراً، وخرج الناس مودعين له بمثل ما أستقبل.
ولكنني لم أجد فيما قال ما يقنعني، وأحسست أنه تهرّب من الجواب.
____________
(1) البقرة: 134 و 141.
في المكتبة الظاهرية:
حاولت جاهداً على توفير بعض المال لشراء بعض المصادر، ولكن منعني أمران وحالا دون شرائي للكتب، هو عدم وجود عمل ثابت وارتفاع أسعار الكتب، وكأن لسان حالها يقول: لا يمكن القراءة لذوي الدخل المحدود.
خطرت في بالي فكرة الذهاب إلى مكتبة عامة، ولكن أين؟ سألت ابن عمي حول هذا الأمر، فأعلمني أن هناك مكتبة عامة نفيسة يوجد بها العديد من الكتب والمخطوطات النادرة، وهي قديمة جداً وتوجد بها صالات للمطالعة وتقع قريبة من الجامع الأموي.
رتبت بعض أسماء المصادر وذهبت إليها، وسجلت أسمي في كشف المراجعين ودخلت إلى مسؤول المكتبة وأعلمته بطلبي: المستدرك للحاكم وسنن البيهقي.
ثم طلبت بعض أوارق بيض لتسجيل الملاحظات، وجلست في أحد أركان المكتبة وبدأت باستخراج أرقام الأحاديث التي ذكرها السيد لي، ووجدت حديثاً إضافياً في كتاب الحاكم، هو عن جابر بن عبدالله الأنصاري: "قال: كنت أصلّي الظهر مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فآخذ
كما رأيت في كتاب الحاكم رواية عن السيدة أم سلمة (رض) قالت: "والذي أحلف به إن كان عليّ لأقرب الناس عهداً برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)" (2).
علّق الحاكم على هذا الحديث قائلاً: إنه صحيح الإسناد ولم يخرجاه (البخاري ومسلم).
"وقيل لابن عباس... أرأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) توفي ورأسه في حجر أحد؟ قال: توفي وهو لمستند إلى صدر عليّ، فقلت: فإن عروة حدثني عن عائشة (رض) أنها قالت: توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين سحري ونحري! فقال ابن عباس: أتعقل؟ والله لتوفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وإنه لمستند إلى صدر علي وهو الذي غسله..." (3).
قلت في نفسي: فكيف إذن العلماء يتحفوننا بأحاديثهم وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)توفي على نحر وسحر السيدة عائشة، وأنه أوصى لأبيها; وآخرون ينقلون نفس الحديث ولكن لم يوص النبي لأبي بكر! ماهذا التناقض؟ لماذا تتضارب الأقوال، مع أن الحاكم يقول
____________
(1) مستدرك الحاكم: 1/301 (721) باختلاف يسير، مسند أحمد: 3/327.
(2) مستدرك الحاكم: 3/349 (4729)، مسند أحمد: 3/138.
(3) الطبقات الكبرى لابن سعد: 2/202.