سجلت هذه الأحاديث، وأخذت بعض الأحاديث من سنن البيهقي، وحديث ابن عمر قال: "مطرنا ذات ليلة فأصبحت الأرض مبتلة، فجعل الرجل يأتي بالحصى في ثوبه فيبسطه تحته، فلما قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)الصلاة قال: ما أحسن هذا" (1).
انتهيت من نقل هذه الأحاديث ونهضت لتسليم الكتب إلى مسؤول المكتبة، فوجدت شاباً يعيد إليه كتاباً يبدو قديماً بعض الشيء، ونظرت إلى الشاب طويل القامة أسمر البشرة لحيته سوداء يشوبها بعض الشيب، وانطباعي الأول عنه أنه في الثلاثين من العمر، قلت له: ممكن أعرف عنوان الكتاب؟ قال لي: إنه ينابيع المودة للقندوزي الحنفي.
قلت: هل يتحدث هذا الكتاب عن المذهب الحنفي؟
الشاب: (مبتسماً): لا، إنه يتحدث في أمر أهم من المذهب الحنفي.
قلت: عفواً، أراك تبتسم من قولي، فهل هناك مايريب؟
الشاب: لا أبداً أنا آسف، ليس بالضرورة أن يكون اسمه حنفياً
____________
(1) سنن أبي داود: 1/187 (458)، سنن البيهقي: 2/618 (4213) باختلاف يسير.
برقت عيناي عندما سمعت كلمة أهل البيت (عليهم السلام).
فقلت له: معنى ذلك أنه شيعي "أي المؤلّف".
الشاب: لا، فهو سني قد أخرج الأحاديث الخاصة المروية في فضائل الأئمة (عليهم السلام).
قلت: أتسمح لي أن أقوم بمطالعته.
الشاب: بعد إعادته إلى مسؤول المكتبة يمكنك طلب استعارته، ثم استأذن مني لينصرف.
قلت: لحظة من فضلك، هل تأتي إلى هنا دائماً، وممكن نتعرف على بعض إذا سمحت؟
الشاب: كنت أبحث عن بعض الأحاديث للتوثيق، وأنا أحضر إلى هنا كل يوم خميس تقريباً، واسمي عادل، ومسؤول المكتبة يعرفني، تربطنا قرابة فيما بيننا.
فعرّفت نفسي له، وقلت له: هل أنت شيعي، فنظر إليّ وابتسم، ثم انصرف بعد توديعي.
غريب هذا الشاب، لديه بعض الغموض، لم يفصح عن نفسه كثيراً، لعل يوماً من الأيام أراه مرة أخرى.
عدت وطلبت من المسؤول كتاب "ينابيع المودة".
قلت له: يبدو أنّه هام جداً لذلك يطلب.
وعدت إلى طاولتي ومعي أوراقي، وبدأت بقراءة الكتاب، فقرأت المقدمة، وكان بحثها يدور حول مسألة الصلاة على محمد وآل محمد وعلى الصالحين من عباد الله تعالى، ثم بدأت بتصفيح الكتاب، فرأيت في الباب الثالث يتحدث المؤلّف حول دوام الدنيا بدوام أهل بيته (صلى الله عليه وآله وسلم)، ووجدت حديثاً لفت انتباهي عن جابر بن عبدالله، وابن عباس قالوا: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأهل الأرض" (1)، فأخذت أسجل كل ما يلفت انتباهي من الكتاب، ومررت بخطبة للإمام علي (عليه السلام) خطبها بعد عودته من صفين، يصف ويذكر فيها آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): "هم موضع سره، ولجأ أمره، وعيبة علمه، وموئل حكمه، وكهوف كتبه، وجبال دينه، لا يقاس بآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذه الأمة أحد، لهم خصائص الولاية، وفيهم الوصية والوراثة...".
وفي موقع آخر قال: "بنا اهتديتم في الظلماء، وتسنمتم ذروة العلياء" (2).
____________
(1) ينابيع المودة للقندوزي الحنفي، الباب الثالث: 72.
(2) ينابيع المودة للقندوزي الحنفي، الباب الثالث: 83.
ثم تابعت قراءتي، ووجدت أن أكثر استناد المؤلّف لأحاديثه يأخذها من مسند أحمد بن حنبل والحاكم في مستدركه.
دونت بعض الأحاديث، وقارب وقت إغلاق المكتبة لأبوابها، سلّمت الكتاب وعدت ادراجي إلى المنزل وأنا أفكر: إذن هذه الأحاديث موجودة في المسانيد والصحاح، لم لا يذكرها المشايخ لنا أثناء حلقات الدرس وخطب الجمعة؟
ثم إنّ الصلاة بيننا وبينهم لا فرق بها، بل أعتقد أنها الأصح، لكونها تستند إلى نص قرآني وسنة نبوية!
اتصال هاتفي بالسيد السراوي:
مضى بعض الوقت لزيارتي آخر مرة للمكتبة، وفي هذه الأثناء قابلت صديقاً لي في المنطقة دعاني لتناول الشاي عنده، فقمت بتلبية طلبه وذهبت إليه، وجرى تبادل بعض الأحاديث حول العمل وتكوين أسرة ومتطلبات الحياة، ثم خرج ليحضر الشاي، فجاءتني فكرة الاتصال مع السيّد السراوي وشكره على توضيحه لي للمسائل الفقهية، فانتظرت عودة صديقي وطلبت منه استعمال الهاتف، فقبل ذلك، وطلبت الرقم ورن الهاتف ثم ظهر صوت السيّد وتبادلنا بعض الكلام، وحدثته بأنني ذهبت إلى المكتبة الظاهرية، فأبدى سروره بذلك، ثم دعاني لزيارته وحدّد لي موعداً مناسباً له، ثم أنهينا المخابرة الهاتفية مؤكداً على الزيارة له.
فسألني صديقي: مع من كنت تتكلم؟ لأنه لاحظ أنني أقول (سماحتك) (سيّد).
فقلت: إنني أتكلم مع أحد فضلاء الشيعة.
فقال لي: كيف تعرفت عليه؟
فقال: أتمنى أن أتعرف عليه.
فقلت: بعد زيارتي له أطلب الاذن منه لحضورك..
ولكن قل لي: لماذا هذا الطلب منك، هل هناك شيء ما؟
قال: لا، ولكن أردت التعرف على أفكار الشيعة.
غادرت بيت صديقي وأخذت في العمل عدة أيام حتى اقترب الموعد لزيارة السيّد في منزله بالسيّدة زينب (عليها السلام).
زيارتي للسيد السراوي:
حضرت في الموعد المحدد لزيارة السيّد، وقرعت جرس الباب، فأخرج السيّد رأسه من نافذة البهو مرحباً وفتح لي الباب، ثم صعدت إلى غرفته وبدأت الحوار معه فوراً حتى لا أضيّع وقتاً دون الاستفادة من لقائنا.
قلت: سيدي وجدت حديث "اثنى عشر خليفة" (1) في كتاب (النهاية) لابن كثير، والحقيقة أنني بحثت حسب إمكاناتي وسألت عدداً من الأساتذة ولي قريب خطيب جمعة، ولكن لم أجد عنده إجابة مقنعة، منهم تهرب من تفسيره، ومنهم من عدّ لي الخلفاء حتى تجاوز الاثني عشر، ومنهم من التقط أسماء من كلّ عصر رجلا أو
____________
(1) البداية والنهاية: 6/141 و 145 و 182.
السيّد: الصحيح ليس فقط البخاري ومسلم وابن كثير الذين ذكروا هذا الحديث، أذكر لك على سبيل المثال الحمويني في كتابه (فرائد السمطين) والخوارزمي في (المناقب) و (مقتل الحسين)، والثعلبي في تفسيره وغيرهم كلّهم قالوا أو نقلوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)حديث اثني عشر خليفة كلّهم من قريش، وجاءت روايات أُخَر (كلهم من بني هاشم) (2).
وأذكر لك حديثاً من كتاب ينابيع المودة للقندوزي الحنفي وهو من علماء السنة نقلا عن الإمام علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا تذهب الدنيا حتى يقوم في أمتي رجل من ولد الحسين يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلماً وجوراً" (3).
وعن عباية بن ربعي عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "أنا سيّد النبيين، وعليّ سيد الوصيين، وإنّ أوصيائي بعدي اثنا عشر،
____________
(1) صحيح البخاري، كتاب الأحكام: 4/498 (7222)، صحيح مسلم كتاب الامارة: 3/1154 (1821).
(2) مودة القربى للهمداني: المودة العاشرة، ينابيع المودة للقندوزي: 2/315.
(3) ينابيع المودة للقندوزي: 3/291 و 2/317.
قلت: لقد قرأت بعض هذه الأحاديث من الكتاب الذي ذكرته في زيارتي للمكتبة، هل معنى هذا أن هناك خلفاء غير الخلفاء الراشدين؟! وهل يدخل أصحاب المذاهب الأربعة في هذا الحديث؟ علماً أنني قرأت أنّ بعض هؤلاء تتلمذوا على يد أحد أبناء الإمام علي (عليه السلام).
السيّد: كما قلت لك: إنّ الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) هم أوصياء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد نصّ عليهم من الله سبحانه، وهم من أبناء الإمام علي (عليه السلام)، ولادخل لأبي بكر وعمر وعثمان بالموضوع، ولا أئمة المذاهب السنية الأربعة لذلك وإن تتلمذوا عند بعض أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ولأنهم خرجوا من إطار المدرسة الامامية وتركوا الأصول الفقهية وعملوا بالقياس العقلي والاستحسان النظري، حتى أنّ بعضهم اجتهد بخلاف النصوص الجلية فوقعوا في لبس التضليل.
قلت: فمن هم أئمة أهل البيت (عليه السلام) الذي يتبعهم الشيعة؟ أرجو إيضاح أسمائهم.
السيد: ورد حديث متواتر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لدينا محدداً أسماءهم، بل وحتى صفاتهم، أذكرهم لك:
____________
(1) ينابيع المودة للقندوزي: 3/291 و 3/296 عن ابن عباس.
2 ـ الحسن بن علي (السبط).
3 ـ الحسين بن عليّ (سيد الشهداء).
4 ـ علي بن الحسين (زين العابدين).
5 ـ محمد بن علي (الباقر).
6 ـ جعفر بن محمد (الصادق).
7 ـ موسى بن جعفر (الكاظم).
8 ـ علي بن موسى (الرضا).
9 ـ محمد بن علي (الجواد).
10 ـ علي بن محمد (الهادي).
11 ـ الحسن بن علي (العسكري).
12 ـ المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
قلت: فمن إذن صاحب المذهب الذي تأخذون بفقهه؟!
السيّد أبو حيدر: بعد ما جرى الظلم والتعسف على أهل البيت (عليهم السلام)وأتباعهم، خفي أمر الفقه الذي كان يأخذ به الشيعة من الإمام عليّ (عليه السلام)، حتى جاء الإمام السادس جعفر بن محمد (عليه السلام) فأظهره، حيث كانت الفرصة مهيأة لذلك، فتصدى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)لنشر فكر أهل البيت، وكوّن مدرسة كبيرة حتى تخرّج على يده مايقارب الأربعة الآف طالب، منهم أبو حنيفة النعمان، وسفيان
ولقد اعترف علماء السنة بكل هذا، ومع ذلك أبوا أن يجعلوا المذهب الجعفري مع المذاهب الأربعة، لكنه اشتهر وصمد، لأنه كان يستمد فقهه من شجرة طيبة أصلها ثابت في الأرض وفرعها في السماء، وسمي بالمذهب الجعفري نسبة للإمام جعفر بن محمد (عليه السلام).
قلت: وجدت حديث افتراق أمتي (1).... وذكرت الحديث، ولكن لم استطع فهم الفرقة الناجية، وأحضرت كتاب الملل والنحل ولكن لم أجد جواباً شافياً، فارجو توضيح ذلك.
السيّد: أورد لك حديثاً واحداً فقط، وأدعوك لمراجعة مصادره: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها ومن أراد المدينة فليأت الباب"، وأنقل لك مصادر علماء السنة لهذا الحديث، وهم:
السيوطي في جمع الجوامع، والحاكم النيسابوري في مستدرك الصحيحين، والمتقي الهندي في كنز العمال، وابن عبد البر القرطبي في الاستيعاب، وابن عساكر في تاريخه، والعلامة ابن الأثير الجوزي في أُسد الغابة، ومحب الدين الطبري في كتابه الرياض النضرة وفي ذخائر العقبى، وابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب، والمناوي في فيض القدير، وابن حجر المكي في الصواعق
____________
(1) مستدرك الحاكم، كتاب الإيمان: 1/102 (10)، وقال: هذا حديث كثر في الأصول.
وورد حديث أيضا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "من أراد أن يحيا حياتي فليوال علياً من بعدي"، ارجع إلى نفس المصادر تجد ذلك (2).
البحث حول حديث الثقلين:
قلت: هل هناك حديث نبوي شريف يحكم باتباع أهل البيت (عليهم السلام)؟
السيّد: سأذكر لك هذا الحديث وهو متواتر عند السنة وعندنا، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)قال: "كأني قد دعيت فأجبت، إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ
____________
(1) جمع الجوامع: 2/177 (4783)، مستدرك الحاكم: 3/339 (4695 ـ 4697)، كنز العمال: 11/600 (32889)، الاستيعاب: 3/1102، تاريخ دمشق: 378 ـ 384، أُسد الغابة: 4/22، الرياض النضرة: 2/137 (1439 ـ 1440)، ذخائر العقبى: 77، تهذيب التهذيب: 7/337، فيض القدير: 1/36، الصواعق المحرقة: 2/357 (7)، إسعاف الراغبين ـ بهامش مشارق الأنوار ـ: 147.
(2) مجمع الزوائد: 9/108، تاريخ دمشق لابن عساكر: 42/240، الاصابة لابن حجر: 2/587 (3867)، ينابيع المودة للقندوزي: 1/379، وغيرها.
قلت: كيف يقولون: إنّه قال: "ما أنا عليه وأصحابي" (4)! وكيف يقولون: إنه قال: "كتاب الله وسنتي" (5).
السيّد: هذه الأحاديث جاءت بعد معاوية لتضلل وتعتم على ذكر أهل البيت، وهي نتاج سياسة مدبرة منذ وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نصّ على أنّ الخلافة من بعده إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)وفي عدّة مناسبات: في حديث الانذار، وحجة الوداع أو بيعة يوم الغدير، وحتى في الغزوات كلها يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): علي حامل الراية، عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ، وعندما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)إلى غزوة تبوك ترك الإمام علي (عليه السلام) في المدينة فأرجف
____________
(1) مستدرك الحاكم: 3/323 (4634) و 3/359 (4769)، صحيح ابن خزيمة: 4/62 (2357)، مسند أبي يعلى: 2/297 (1021)، سنن الترمذي: 6/124 (3786)، وغيرها.
(2) جمع الجوامع للسيوطي: 5/349 (15582).
(3) مسند أحمد: 3/17 (11174) و 3/59 (11578).
(4) ذكره الحاكم في المستدرك، والترمذي في سننه، وغيرهم.
(5) ذكره مالك بن أنس في الموطأ، وهو أول من روى هذا الخبر مرسلاً، وكل الذين رووه بعد ذلك لا تخلو أسانيدهم من كذاب ومنكر الحديث ومخلط و....
قلت: هذا يعني من خلال طرحك للنصوص أن القوم امتنعوا عن تنفيذ أوامر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
السيّد: عليك بمراجعة المصادر، وأنصحك بقراءة كتاب "الغدير" للعلامة الأميني، وهو كتاب تاريخي أدبي يحوي على أمور كثيرة في أحد عشر مجلداً، وأقدم لك نسخة من كتاب "نهج البلاغة" للامام علي (عليه السلام) بشرح محمد عبده، وكتاب "التشيع" للسيد عبدالله الغريفي، على سبيل الهدية.
قلت: شكراً يامولاي على هديتك وأرجو أن يجزيكم الله خيراً ولتسمح لي بالانصراف، أظن لدي بحثاً طويلا في المصادر قد لا أراك لفترة طويلة، ولكن سأعود إن شاء الله.
وخرجت من عند السيد مودعاً له أنا أضرب أسداس بأخماس، ماهذا الذي جرى لأمتنا الإسلامية؟! إنّ حجية هذه الأحاديث تبين أحقية الإمام عليّ (عليه السلام) بالخلافة، فما الذي جرى؟! ثم تذكرت
____________
(1) صحيح البخاري، كتاب المغازي: 3/135 (4416)، صحيح مسلم، كتاب الفضائل: 4/1489 (3404)، مسند أحمد: 1/177 (1532)، وغيره.
زيارة مفاجئة:
بعد مضي وقت من الزمن احترت في أمر المصادر وكيف يمكن لي جمعها، فأمر الذهاب إلى المكتبة الظاهرية صعب، لأنه يلزمني وقتاً طويلا لمراجعتها، وأيضاً المكان بعيد بعض الشيء، فوجدت أنه من الضروري الذهاب لزيارة الأخ "أبو عبدو" وقد أجد لديه حلا للموضوع.
كانت الساعة التاسعة مساءاً، توجهت إلى منزل الأخ "أبو عبدو"، وسألته: هل لديك هذه الكتب؟ وناولته ورقة كتبت عليها أسماء المصادر، فضحك وقال لي: وهل أنا مكتبة عامة حتى يكون لدي كل هذه المصادر، على كل حال أدخل الآن وسنرى.
قال لي الاخ أبو عبدو: يبدو أنك قطعت شوطاً كبيراً بالبحث؟
قلت: سمحت لي الظروف، وزرت المكتبة الظاهرية بدمشق، ومن ثم زرت السيّد الذي عرفتني عليه، وها أنا أطلب العون منك، هل لديك كتاب "الجامع الصغير"؟ أريد توثيق حديث الثقلين إذا أمكن.
الأخ أبو عبدو: نعم موجود عندي وسأحضره لك.
ثم أحضر لي مجلداً من مسند أحمد بن حنبل ورأيت فيه نفس الحديث (2).
ثم أحضر لي كتاب "الغدير" المجلد الأول والثاني وقال لي يمكنك استعارتهما وستجد هذا الحديث كاملا في حجة الوداع.
ودعته وخرجت منصرفاً من عنده بعد أن تبادلنا بعض الأحاديث وبصحبتي الكتابان اللذان قدّمهما لي للاعارة.
حذّرني البعض من مواصلة البحث:
بعد فترة زارنا قريبي الشيخ ليطمئن على صحة والدي حيث أنه أصيب بوعكة صحية، وعندما بدأ بتناول الشاي..
سألني: هل لازلت تبحث وتتعب نفسك بالأسئلة الكثيرة
____________
(1) شرح المناوي في كتاب فيض القدير شرح الجامع الصغير، وقد قال: وفي رواية الثقلين بدل خليفتين، وقد صحح أسانيده، فراجع.
(2) مسند أحمد: 3/14 (11119) و 3/17 (11147)....
قلت: وكيف عرف الشيخ عبدالله أنني أمت لك بصلة قرابة؟
ثم إني لم أحرجه، أردت استيضاح بعض الروايات وهو أراد تكذيبي.
قريبي الشيخ: لقد سأل عنك ومن تكون، وعندما علم بقرابتنا جاءني واشتكى عندي منك، أرجو أن لا تتكرر ثانية.
قلت: اطمئن، هناك مايشغلني عنه، ولكن قد أعود إليه مرة أخرى.
الشيخ: يابني، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) توفي وهو راض عن صحابته، والأمة أجمعت عليهم بأسرها، وسمي العهد بعد الدعوة بالخلافة الراشدية، ولم يختلف أحد فيهم من أهل السنة والجماعة.
قلت: عظيم، لقد طرحت سؤالا وسوف أقوم بتدوينه حتى أبحث عن هذا الأمر.
الشيخ: ستعود لتسأل، هل تشكك بقولي؟!
قلت: لا، ولكن أردت الإيضاح أكثر.
الشيخ: لقد ولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا بكر على الناس، وقال "يابى الله والمؤمنون إلاّ أبابكر"، فإياك.. وأنا أحذرك من الخوض في
قلت: ولماذا يحلّ الغضب علي؟! هل سأعصي إذا ذكرت الصحابة؟! ألا يجب أن أعرف شيئاً عن القوم الذين عاصروا حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، أم أبقى جاهلاً لا أعلم شيئاً، وشكراً على تحذيرك إياي.
ثم انصرف الشيخ وهو يقول لي: إنّي حزين على وضعك، وأرجو أن لا تتوسع كثيراً لكي لا تضيع.
عقبات في طريق البحث:
بعد زياراتي ولقاءاتي مع عدد من علماء السنة وبعض المثقفين، وأسئلتي التي لم أجدلها جواباً شافياً عندهم، وسكوتهم المطبق على كثير من القضايا، ومحاولة التملص من ذكرها والاسترسال فيها، وبعد لقائي مع السيّد السراوي وإشاراته الملفتة للانتباه حول بعض القضايا العقائدية ونصحه لي بمراجعة المصادر من كتب العامة، وجدت أنه علي البحث بنفسي ولو كلفني الوقت الكثير والجهد والسعي من مكتبة إلى أُخرى ومن كتاب إلى كراس، وتمثلا بالمثل الشعبي (لن يحك ظهرك غير ظفرك).
عدت إلى الأخ "أبو عبدو" وطلبت منه مجموعة "البداية والنهاية" كاملة على سبيل الاعارة، فأعطاني إياها ودعا لي بالتوفيق، ثم بدأت بتقسيم وقتي بين العمل ومتابعة البحث، وخصصت ثلاث ساعات قابلة للزيادة في مجال المطالعة والبحث، واسترسلت في قراءة "البداية والنهاية"، فهي مجموعة كبيرة العدد بالنسبة لي، وآليت أن لا أقرأ معها شيئاً آخر حتى لا يتشتت ذهني، واستغرق قراءة الكتاب مني أسبوعاً كاملا، كل يوم أربع ساعات
وجدته ـ أي ابن كثير ـ يكرّر رواياته كثيراً وتوجد بعض التناقض فيها، واستنتجت من متابعاتي في الكتاب دور الإمام علي الهام والبارز في الدعوة المحمدية، وولاءه المطلق لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)ودفاعه المستميت عنه.
وفي بدء الدعوة لم ينصر محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله وسلم) سوى السيدة خديجة رضي الله عنها، حيث نصرته بالمال والكلمة الطيبة والعاطفة الجياشة والحبّ القوي الذي كانت تكنه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى أن هبط الأمين جبرئيل (عليه السلام) يبشرها ببيت في الجنة لا صخب فيه ولا نصب وأقرأها الباري عزوجل السلام، وهي رضي الله عنها الصدر الحنون الذي كان يلجأ إليه عندما يعود من سفراته واعتكافه في الغار، ويخبرها بما رأى وحصل معه، وهي أم أولاده (عليهم السلام) وأم الزهراء (عليها السلام)البضعة الطاهرة، التي حملت بالأئمة الأطهار الذين حملوا عبء الرسالة ودافعوا عن دين جدهم.
وكان عمّه أبوطالب المربي الفاضل والناصح لابن أخيه، هذا الرجل الذي ماظلم حق مثلما ظلم حقه، حيث جعلوه عرضة لأكاذيب وافتراءات، فكان المدافع والحامي لابن أخيه، ليس فقط لأنه أراد العمل بوصية أبيه عبد المطلب (عليه السلام)، بل لأنه اقتنع وآمن بدعوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وصدق رسالته، ويرى سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي
إيمان أبي طالب:
ما كان وما مات أبو طالب إلاّ مؤمناً، موحداً بالله، مصدّقاً بدعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد كان على دين الحنيفية دين سيدنا إبراهيم الخليل (عليه السلام)، ويعلم أن نبياً سيولد في العرب من أكرم البيوت، التي كانت أعناق القبائل واليهود تشرأب له.
فعندما تنقل من مكان إلى آخر مصطحباً معه ابن أخيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقول العرفاء له: سيكون لهذا الغلام شأن كبير فاحفظه وانصره وسيكون له أعداء، وعندما أظهر النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) دعوته، قال له أبو طالب: "أخرج ابن أبي فإنك الرفيع كعباً، والمنيع حزباً، والأعلى أبا، والله لا يسلقك لسان إلاّ سلقته ألسن حداد، واجتذبته سيوف حداد، والله لتذللن لك العرب ذل البهم لحاضنها..." (2).
هذا قمة الإيمان بعينه، وقد دافع وناهض من أجل محمد،
____________
(1) أُسد الغابة لابن الأثير: 1/28.
(2) هذا الكلام ذكره ابن طاووس في الطرائف: 1ح 388 عن كتاب نهاية الطلب وغاية السؤول في مناقب آل الرسول لإبراهيم بن علي الدينوري، وانظر: شيخ الأبطح 22 ط بغداد، وأبو طالب مؤمن قريش 124 ط مصر.
فكيف لا يكون مؤمناً؟! بل هو مؤمن بكل وجوده، وهو يأمر أخاه حمزة بأن يلحق بمحمد وينصره، وأبيات شعره خير دليل على إيمانه وحثه إلى أخيه حمزة (رضي الله عنه) الذي كان يكنّى بأبي يعلى:
فصبراً أبا يعلى على دين أحمدِ | وكن مظهراً للدين وفقت صابرا |
وحُط من أتى بالحق من عند ربه | بصدق وعزم (وحق) لاتكن حمزُ كافرا |
فقد سرني إذ قلت إنك مؤمن | فكن لرسول الله في الله ناصرا |
____________
(1) الكامل في التاريخ لابن الأثير: 2/61.
(2) تاريخ الطبري: 2/321.
(3) الطبقات الكبرى لابن سعد، ذكر علامات النبوة بعد نزول الوحي: 1/147، تاريخ دمشق 42/46.
وبادِ قريشا بالذي قد أتيته | جهاراً وقل: ماكان أحمدُ ساحرا (1) |
وقد قيل إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال عن عمه أبي طالب (رضي الله عنه): إنه في ضحضاح من نار!
فرأيت البحث عن الحديث أجدى حتى أتبين، فوجدت أن راوي هذا الحديث هو المغيرة بن شعبة، ولما تابعت مواقفه وفعاله رأيته ليس أهلا للأخذ بأقواله ونقله، فما هو إلاّ زان (2) وجب عليه الحد في عهد عمر بن الخطاب، ثُم لم يحدّه وحد الشهود عليه، ومواقف المغيرة من الإمام عليّ (عليه السلام) بينتها الحوادث والوقائع، فهو من ألد أعدائه.
ثم لماذا لم يذكره أحد غير المغيرة، كأبي بكر وعمر بن الخطاب وعثمان وباقي الصحابة؟!.
لقد قال كثير من علماء السنة بثبوت إيمان أبي طالب، كيف لا! فقد كان مؤمناً بالله إيماناً فطرياً على دين سيدنا إبراهيم الخليل (عليه السلام)، ثم آمن بدعوة ابن أخيه محمد بن عبدالله، ولقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "أنا وكافل اليتيم كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى" (3)، وأبو طالب
____________
(1) كنز الفوائد للكراجكي: 1/181، الغدير للأميني: 7/481.
(2) الكامل في التاريخ لابن الاثير: 2/541، تاريخ الطبري: 4/69.
(3) صحيح البخاري، باب اللعان: 3/425 (5304).