فهل يعقل أن الله يريد لعباده أن يأخذوا أحكام دينهم بشكل خاطئ؟ لا أعتقد أن مسلما يقول ذلك. بل إن الله الذي أرسل لعباده الأنبياء (عليهم السلام) وواتر إليهم رسله (عليهم السلام) قد تكفل بحفظ دينه وإيصاله لجميع الناس بصورة صحيحه مبنية على اليقين، سواء في العقيدة أو الشريعة، وهذا ما يفرضه العقل والشرع، قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (3).
أما أبو الحسن الأشعري فهو الآخر لم ير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يسمع منه، وبينه وبين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر من قرنين، وما زالت عقيدة هذا الرجل محل خلاف بين الأشاعرة وأهل الحديث. قال أهل الحديث: إن الأشعري رجع في اخريات حياته إلى مذهب السلف.
والأشاعرة مصرون على أنه لم يرجع، والكتابات ما زالت مستمرة حول عقيدة هذا الرجل. فكيف نتبع هذا الرجل وعقيدته مختلف فيها؟! فضلا عن أن الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يأمرانا باتباعه!
الأئمة الأربعة يختلفون
ومن العقبات التي تقف أمامنا: إن الأئمة الأربعة كثيرا ما يختلفون في المسألة
____________
1 - البداية والنهاية، ابن كثير: 7 / 138.
2 - النووي مقدمة شرح المهذب، تحقيق محمد نجيب مطيعي 1 / 57، وراجع إرشاد الفحول، الشوكاني:
ص 254 - 255.
3 - الحجر: 9.
قلنا: حاشا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقصد هذا المعنى الظاهري للحديث. فكيف يحثهم على الاختلاف وهو يتلو لهم عن رب العزة:
(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (1)، وقوله تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) (2)، وقوله: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) (3)، وقوله: (إن هذه أمتكم أمة واحدة) (4)، وقوله:
(إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ) (5).
فكيف يأتي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه الآيات ثم يقول للناس: اختلفوا فإن اختلافكم رحمة!! ولنا ان نقول: إذا كان اختلافهم رحمة فما بال الأئمة الأربعة والفقهاء في إطار مذهبهم يتفقون أحيانا؟
فبمقتضى هذا الفهم للحديث لا يجب عليهم أن يتفقوا لأن اتفاقهم واجتماعهم نقمة، فكان الواجب عليهم ان يختلفوا في كل المسائل حتى تعم الرحمة المفرقة لأبناء الإسلام إلى مذاهب مختلفة!!
ومن رجع إلى كتب التاريخ والمذاهب سيجد مظاهر هذه الرحمة بأجلى صورها.
لقد ولد الشافعي سنة 150 هـ وهي السنة التي توفي فيها أبوحنيفة فقالت الحنفية
____________
1 - آل عمران: 103.
2 - الأنفال: 46.
3 - آل عمران: 105.
4 - الأنبياء: 92.
5 - الأنعام: 159.
بل إمامكم ما ثبت لظهور إمامنا!! " (1).
وقال صاحب المغني: " وقد بلغ من إيذاء بعض المتعصبين في طرابلس الشام في آخر القرن الماضي أن ذهب بعض شيوخنا الشافعية إلى المفتي وهو رئيس العلماء وقال له:
إقسم المساجد بيننا وبين الحنفية فإن فلانا من فقهائهم يعدنا كأهل الذمة!! في هذه الأيام من خلافهم في تزويج الرجل الحنفي بالمرأة الشافعية، وقول بعضهم لا تصح لأنها تشك في إيمانها!! " (2).
هذا، وقد أحرق الحنابلة مسجدا للشافعية، وقام خطباء الحنفية يلعنون الحنابلة والشوافع عل المنابر، ووقعت فتنة بين الحنفية والشافعية فحرقت الأسواق والمدارس (3).
يقول ابن الأثير في حوادث سنة 323 هـ: " وقد كثرت فيها حوداث الشغب من جانب الحنابلة واعتداءاتهم على الشوافع ". ويقول ياقوت الحموي عن اصبهان: " وقد نشأ الخراب في هذا الوقت وقبله في نواحيها لكثرة الفتن والتعصب بين الشافعية والحنفية والحروب المتصلة بين الحزبين فكلما ظهرت طائفة نهبت محلة الأخرى وحرقتها وخربتها ".
وقال عن الري: " وقعت العصبية بين الحنفية والشافعية وقامت الحروب بينهما كان الظفر في جميعها للشافعية، هذا مع قلة عدد الشافعية إلا أن الله نصرهم عليهم!! " (4).
ومظاهر الرحمة نجدها في تكفير كل مذهب لغيره، يقول ابن حاتم الحنبلي: " من لم
____________
1 - أسد حيدر: 3 / 12 نقلا عن الغيث المسجم في شرح لامية العجم: 1 / 165.
2 - الفكر السامي: 3 / 38.
3 - البداية والنهاية: 14 / 76. مرآة الجنان: 3 / 343.
4 - معجم البلدان: 1 / 209 و 3 / 117.
وقد كفر أبو بكر المقري جميع الحنابلة (2).
وقال ملا علي القاري الحنفي: " اشتهر بين الحنفية أن الحنفي إذا انتقل إلى مذهب الشافعي يعزر وإذا كان بالعكس يخلع عليه!! " (3).
وقال قاضي دمشق الحنفي محمد بن موسى البلاساغوني ت / 506 هـ: " لو كان لي أمر لأخذت الجزية من الشافعية " (4).
وقال المظفر الطوسي الشافعي: " لو كان لي من الأمر شئ لأخذت على الحنابلة الجزية " (5).
وإذا كان الاختلاف رحمة، فلماذا لم يختلف القرآن في أحكامه التشريعية؟! فهل منع الله عباده من رحمته وهو القائل (ورحمتي وسعت كل شئ) (6)؟! حاشا لله أن يدعو للاختلاف بعد أن نهى عنه في محكم كتابه، قال تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (7) فالله يدعونا لاتباع سبيل واحد وينهانا عن اتباع السبل: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) (8).
فالقرآن يصرح بأن اتباع أكثر من سبيل: مفرق، ومنهي عنه، وهذا رد على كل من يقول بأن الاختلاف رحمة.
____________
1 - تذكرة الحفاظ: 3 / 375.
2 - شذرات الذهب: 3 / 252.
3 - إرشاد النقاد / الصنعاني، وراجع الدين الخالص: 3 / 355.
4 - ميزان الاعتدال: 4 / 51 - 52.
5 - مرآة الزمان: 8 / 44.
6 - الأعراف: 156.
7 - النساء: 82.
8 - الأنعام: 153.
وهكذا الحال مع المذاهب الأربعة، فلو حصرنا الإسلام بهم فلا بد أن يكون واحد منهم هو الذي غرف من نبع النبوة، إذ لا يعقل أن يكونوا جميعا قد غرفوا من نبع واحد وكل واحد يقول مذاق النبع هكذا؟!!
فإن قيل: هم أخذوا من نبع واحد ولكن كل واحد اجتهد وتوصل لشئ يخالف غيره. فنقول: حتى وإن اجتهدوا واختلفوا في اجتهاداتهم فواحد من هذه الآراء هو الذي يعكس حكم الإسلام لو حصرناه بهم. فنحن نعلم أن الإسلام له حكم واقعي واحد في أي موضوع.
ومع الذي ذكرنا فإن حديث " اختلاف أمتي رحمة " حديث موضوع فلا يحتج به، وتفصيل ذلك لمحدث أهل السنة الألباني فقد قال عن هذا الحديث: " لا أصل له، ولقد جهد المحدثون في أن يقفوا له على سند فلم يوفقوا...
ونقل المناوي عن السبكي أنه قال: " وليس بمعروف عند المحدثين، ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع " وأقره الشيخ زكريا الأنصاري في تعليقه على تفسير البيضاوي (ق 92 / 2) " (1).
____________
1 - سلسلة الأحاديث الضعيفة: 1 / 76 ح 57.
" ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعا، وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد. أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه أم نهاهم عنه فعصوه، أم أنزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل الله سبحانه دينا تاما فقصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تبليغه وأدائه والله سبحانه يقول: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) (2)، وفيه تبيان لكل شئ وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا وأنه لا اختلاف فيه فقال سبحانه (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (3) وأن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولا تكشف الظلمات إلا به " (4).
الائمة الأربعة والفقه
بالاضافة الى اختلاف الأئمة الأربعة، نجد عندهم - مع تمام احترامنا لهم - عثرات في فتاواهم تجعلنا نضع على هذا المنهج علامات استفهام منها:
- قول أبي حنيفة: " لو أن رجلا في مصر وكل آخر بالأندلس بأن يزوجه فلانة، فيعقد له عليها، ولا يلتقيان أصلا فيما يرى الناس ثم تجئ المرأة بولد يكون نسبه ثابتا
____________
1 - الإحكام في اصول الأحكام: 5 / 61.
2 - الأنعام: 38.
3 - النساء: 82.
4 - نهج البلاغة، محمد عبده: 1 / 55.
وفي كتاب تأسيس النظر للدبوسي الحنفي: " إذا استأجر إمرأة ليزني بها!!
لا للخدمة، فزني بها، لا حد عليه عند أبي حنيفة!!...
إذا تزوج ذات رحم منه فوطأها وهو يعلم أو لا يعلم، لا حد عليه، لأن صورة المبيح قد وجدت وهو النكاح وإن لم يبح، وهو قول أبي حنيفة!!...
إذا تزوج إمرأة قد حرمت عليه بالمصاهرة ودخل بها، لا حد عليه عند أبي حنيفة " (2).
عن حماد بن زيد قال: سمعت يحيى بن مخنف قال: جاء رجل من أهل المشرق الى أبي حنيفة بكتاب منه بمكة، عاما أول، فعرضه عليه مما كان يسأل عنه، فرجع عن ذلك كله. فوضع الرجل التراب على رأسه، ثم قال: يامعشر الناس أتيت هذا الرجل عاما أولا، فأفتاني بهذا الكتاب، فأهرقت به الدماء، وأنكحت به الفروج ثم رجع عنه العام (3).
لقد أراد السلطان محمود بن سبكتكين أن يختار مذهبا من مذهبي الشافعية والحنفية فصلى القفال الشافعي الصلاة على مذهبه ليحبب السلطان بها وصلى الصلاة على مذهب أبي حنيفة...
يقول الجويني عن القفال: " ثم صلى ركعتين على ما يجوزه أبو حنيفة فلبس جلد كلب مدبوغ، ولطخ ربعه بالنجاسة، وتوضأ بنبيذ التمر، وكان في صميم الصيف في المفازة، فاجتمع عليه الذباب والبعوض، وكان الوضوء معكوسا منكسا، ثم استقبل
____________
1 - الأحوال الشخصية / محيي الدين عبد الحميد بحث النسب، وجميع كتب الحنفية.
2 - راجع هذه الأقوال في تأسيس النظر: ص 148 - 149، تحقيق وتصحيح مصطفى محمد القباني الدمشقي، وانظر بدائع الصنائع للكاساني الحنفي: 7 / 35.
3 - تأويل مختلف الحديث: 51.
أيها السلطان، هذه صلاة أبي حنيفة، فقال السلطان: إن لم تكن هذه صلاته قتلتك، لأن مثل هذه الصلاة لا يجوزها ذو دين!! وأنكرت الحنفية أن تكون هذه صلاة أبي حنيفة، فأمر القفال باحضار كتب الفريقين، وأمر السلطان كاتبا نصرانيا يقرأ، فقرأ المذهبين جميعا، فوجدت الصلاة في مذهب أبي حنيفة على ما حكاه القفال. فأعرض السلطان عن مذهب أبي حنيفة.. قال الجويني بعد ذكره لهذه القصة: " ولو عرضت الصلاة التي جوزها أبو حنيفة على العامي لامتنع من قبولها والصلاة عماد الدين، فناهيك من فساد اعتقاده في الصلاة وضوحا على بطلان مذهبه هذا " (1)!!
وفي فقه المالكية لو نوى رجل أن يطلق زوجته ولم يتلفظ فإنها تطلق!!.
وأجاز الشافعي نكاح الرجل بنته من الزنا! (2) هذا غيض من فيض، ويدرك المسلم أن هذا الكلام ليس من الإسلام في شئ.
أما الأشاعرة: فقد وجد عندهم شطحات في العقيدة نشير لبعضها وهي كافية لوضع علامة استفهام على هذا الاتجاه.
يقول النووي الأشعري: " ومذهب أهل السنة أيضا أن الله تعالى لا يجب عليه شئ تعالى الله، بل العالم ملكه والدنيا والآخرة في سلطانه، يفعل فيهما مايشاء، فلو عذب المطيعين والصالحين أجمعين وأدخلهم النار كان عادلا منه، ولو نعم الكافرين وأدخلهم الجنة كان له ذلك " (3).
____________
1 - راجع رسالة مغيث الخلق للجويني: ص 56 - 59، وذكر هذه الحادثة ابن خلكان في وفياته في ترجمة السلطان محمود بن سبكتكين.
2 - راجع كتب الشافعية منها مثلا: مغني المحتاج للخطيب الشربيني: 3 / 178.
3 - صحيح مسلم بشرح النووي: 17 / 160.
إن الله يجب عليه ما أوجبه لنفسه كالرحمة، قال تعالى: (كتب ربكم على نفسه الرحمة) (3).
وإذا كان الله لا يجب عليه شئ فلماذا أوجد الثواب والعقاب وبعث الأنبياء والرسل (عليهم السلام)؟!! أفتونا يا أولي الألباب.
وقال القاضي الإيجي في المواقف: " المقصد السابع: تكليف ما لا يطاق جائز عندنا " (4).
وهذه العقيدة الأشعرية مخالفة لصريح القرآن قال تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (5) وقال تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) (6) فأين هذه العقيدة من القرآن؟!
وقال الأشاعرة: إن الله يأمر بما يكره وينهى عما يحب!! وإن الله يفعل بدون غرض، وإن أفعال العباد مخلوقة لله، وإن أفعالهم خيرها وشرها من الله!! (7).
____________
1 - لقمان: 33.
2 - الكهف: 49.
3 - الأنعام: 54.
4 - ص 330.
5 - البقرة: 186.
6 - الطلاق: 7.
7 - راجع: المواقف في علم الكلام، والفروق للقرافي، والمذاهب الإسلامية لأبي زهرة 1 / 163.
السياسة أوجدت المذاهب
بالقراءة المتأنية للتاريخ نجد أن السياسة هي التي أوجدت المذاهب الأربعة وحاربت كل من تمذهب بغيرها. ولو عملت السياسة بالمذاهب الأخرى مثلما عملت بالمذاهب الأربعة لكانت موجودة الآن يتعبد بها الناس ولا يرضون بغيرها بدلا.
فمعتنقوها خلقوا فوجدوا هذه المذاهب في مجتمعاتهم وتبنوها، هذا كل ما في الأمر، وليس في هذا دليل على وجوب اتباعها.
يقول المقريزي: " استمرت ولاية القضاة الأربعة من سنة 566 هـ حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام غير هذه الأربعة، وعودي من تمذهب بغيرها، وأفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها، والعمل على هذا إلى اليوم، وأعلن الظاهر بيبرس سد باب الاجتهاد، ومازال أمر بيبرس نافذا بالرغم من زوال ملكه " (1).
قال عبد المتعال الصعيدي: " وإني أستطيع أن أحكم هنا بأن منع الاجتهاد قد حصل بطرق ظالمة، وبوسائل القهر والإغراء بالمال، ولا شك أن هذه الوسائل لو قدرت لغير المذاهب الأربعة التي نقلدها الآن لبقي لها جمهور يقلدها أيضا، ولكانت الآن مقبولة عند من ينكرها " (2).
قيل في الأئمة الأربعة
وهؤلاء الأئمة تكلموا في بعضهم البعض، وانتقدهم العلماء في مختلف العصور، من ذلك: ما أخرجه الخطيب بالإسناد إلى وكيع، قال: اجتمع سفيان الثوري وشريك
____________
1 - الخطط المقريزية: 2 / 333. وقد ذهب السيد سابق الى أن للحكام دورا كبيرا في ايجاد هذه المذاهب، راجع: فقه السنة: 1 / 14.
2 - ميدان الاجتهاد: ص 14.
لو كان لي من الأمر شئ لضربت عنقك وقال له الحسن بن صالح: وجهي من وجهك حرام أن أنظر إلى وجهك ابدا... وعندما سمع بوفاته سفيان الثوري قال: الحمد لله الذي أراح المسلمين منه " (1).
وعن الوليد بن مسلم قال: قال لي مالك بن أنس: أيذكر أبو حنيفة ببلدكم؟ قلت:
نعم، قال: ماينبغي لبلدكم أن يسكن! (2) وقد رد على أبي حنيفة مايقرب من خمسة وثلاثين إماما، منهم: أيوب السجستاني، جرير بن حازم، حماد بن سلمة، أبو عوانة، مالك بن أنس، جعفر بن محمد، والأوزاعي، وعبد الله بن مبارك، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وابن أبي ليلى... " (3).
" وكان الأوزاعي يقول: إنا لاننقم على أبي حنيفة أنه رأى، كلنا يرى، ولكننا ننقم عليه أنه يجيئه الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيخالفه إلى غيره " (4).
وأخرج الخطيب البغدادي عن أبي صالح القراء، قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: رد أبو حنيفة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعمائة حديث أو أكثر.
قال: وقال أبو حنيفة لو أدركني النبي وأدركته لأخذ بكثير من قولي، وهل الدين إلا الرأي الحسن " (5).
____________
1 - تاريخ بغداد: 13 / 374.
2 - العلل ومعرفة الرجال: أحمد بن حنبل 2 / 547، تحقيق وتخريج وصى الله عباس، وصحح اسناده.
3 - تاريخ بغداد: 13 / 369 - 370.
4 - تأويل مختلف الحديث، ابن قتيبة: ص 52.
5 - راجع هذه الأخبار وغيرها الكثير في تاريخ بغداد: 13 / 369 - 424.
يقول ابن عبد البر: " وممن طعن عليه وجرحه محمد بن إسماعيل البخاري، فقال في كتابه الضعفاء والمتروكين: أبو حنيفة النعماني بن ثابت الكوفي، قال نعيم بن حماد:
حدثنا يحيى بن سعيد ومعاذ بن معاذ سمعنا سفيان الثوري يقول: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين، وقال نعيم الفزاري: كنت عند سفيان بن عيينة، فجاء نعي أبي حنيفة، فقال: كان يهدم الإسلام عروة عروة، وما ولد في الإسلام مولود شر منه. هذا ما ذكره البخاري " (2).
وقال الألباني: " إن الإمام (رحمه الله) - يقصد أبا حنيفة - قد ضعفه من جهة حفظه:
البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن عدي، وغيرهم من أئمة الحديث " ثم ذكر أقوالهم (3).
ولم يسلم أبو حنيفة من التكفير في هذا العصر، فقد كفره زعيم السلفية في مصر حامد الفقهي (4).
أما الإمام مالك بن أنس، فقال فيه ابن عبد البر: " وقد تكلم ابن أبي ذئب في مالك بن أنس بكلام فيه جفاء وخشونة كرهت ذكره وهو مشهور عنه، قال إنكارا منه لقول مالك في حديث البيعين بالخيار، وكان إبراهيم بن سعد يتكلم وكان ابراهيم بن يحيى يدعو عليه، وتكلم في مالك أيضا - فيما ذكره الساجي في كتاب العلل - عبد العزيز ابن أبي سلمة وعبد الرحمن بن زيد بن اسلم وابن اسحاق وابن أبي يحيى وابن أبي الزناد، وعابوا أشياء من مذهبه، وتكلم فيه غيرهم لتركه الرواية عن سعد بن إبراهيم، وروايته
____________
1 - العلل ومعرفة الرجال، وصححه وصي الله عباس: 3 / 239.
2 - الانتقاء: ص 150.
3 - سلسلة الأحاديث الضعيفة: 1 / 465 عند حديث رقم: 458.
4 - راجع سر تأخر العرب والمسلمين، محمد الغزالي: ص 53 - 54.
وتحامل عليه الشافعي وبعض أصحاب أبي حنيفة في شئ من رأيه حسدا لموضع إمامته، وعابه قوم في إنكاره المسح على الخفين في الحضر والسفر، وفي كلامه في علي وعثمان، وفي فتياه بإتيان النساء في الأعجاز... " (1).
وفي تاريخ بغداد: " أن جماعة من أهل العلم عابوا مالكا بإطلاق لسانه في قوم معروفين بالصلاح والديانة والصدق والأمانة " (2).
أما الشافعي فقد تكلم فيه يحيى بن معين - إمام الجرح والتعديل - فقال عنه:
" ليس بثقة " (3).
قال ابن عبد البر: " وقد صح عن ابن معين من طرق أنه كان يتكلم في الشافعي " (4).
الأئمة الأربعة والسنة الشريفة
وبتتبع آراء الأئمة نجد أنهم خالفوا السنة، كطلاق الثلاث بلفظ واحد، فقد عده الأئمة الأربعة ثلاث طلقات خلافا لسنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، (5) وجمع المحقق ابن دقيق العيد المسائل التي خالف مذهب كل واحد من الأئمة الأربعة الحديث الصحيح فيها انفرادا واجتماعا، في مجلد ضخم ((6).
وقد ذكر الألباني خمسا وخمسين مسألة خالف بها الأئمة والفقهاء السنة
____________
1 - جامع بيان العلم: 2 / 1115.
2 - ترجمة ابن إسحاق من تاريخ بغداد.
3 - جامع بيان العلم: 2 / 1114.
4 - المصدر السابق: ص 394.
5 - صحيح مسلم: كتاب الطلاق، باب طلاق الثلاث.
6 - راجع صفة صلاة النبي، الألباني: ص 37.
وقال الليث بن سعد: " أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة كلها مخالفة لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مما قال فيها برأيه " (2).
وقد يقال: إن الأئمة خالفوا السنة لأنها لم تصلهم. نعم وهذا احتمال وارد، ولكن ما ذنبنا نحن؟! هل نقلدهم ونخالف السنة لأن السنة لم تصلهم؟! فالذي يظهر لي أننا أمام خيارين: أن نقلدهم ونخالف السنة، أو أن نترك تقليدهم لنتبع السنة، والثاني هو الصحيح، لأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أولى بالإتباع من الأئمة الأربعة، ومن قال غير ذلك فنسأل الله له السلامة!
الخلاصة
بعد ما مضى، نخلص إلى القول بأن هذا المنهج ليس هو المنظومة الإلهية التي يريد الله لنا أن نتبعها، لكثرة الثغرات والجوانب السلبية فيها (3)، فلا دليل على هذا المنهج ورموز هذا المنهج أموات، ولا نستطيع ترجيح مذهب على آخر. كما أن هؤلاء الأئمة كثيرا ما يختلفون ويتعثرون في آرائهم ويخالفون السنة ولو بدون قصد. فضلا عن هذا كله فقد نهوا الناس عن تقليدهم، كل هذا يجعلنا ننتقل نقلة لا رجعة فيها لنرى الأطروحة الثانية فربما نجد بغيتنا.
يقول الزمخشري المفسر المعروف:
____________
1 - الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام، الألباني: ص 58.
2 - جامع بيان العلم: 2 / 1080.
3 - ومع أننا انتهينا من مدرسة الأشاعرة وإشكالاتها إلا أن هناك إشكالات اخرى ترد عليها سنعرض لها - في الباب الثاني. ولا داعي لتشخيصها بل يدركها قارئنا اللبيب بنفسه.
____________
1 - ترجمة الزمخشري المطبوعة بالجزء الرابع من الكشاف: 310.
الباب الثاني
مدرسة السلفية
الفصل الأول
اشكالات في الطريق
سؤال وجواب
نبدأ بسؤال هذا الفريق: ما الدليل على وجوب اتباع منهج السلف - الصحابة والتابعين - في فهم الكتاب والسنة؟ وهل أمرنا الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) باتباع منهجهم؟
سيقولون: إن سلفنا الصالح الذين شهد الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم بالأفضلية على غيرهم أفضل من فهم الإسلام. قال الله تعالى محذرا من مخالفة سبيل السلف (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) (1).
وسبيل المؤمنين في هذه الآية سبيل الصحابة. وقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): " ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة في الجنة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي ". وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما فلن تضلوا أبدا: كتاب الله وسنتي ".
لكل هذا نحن نقتفي أثر السلف ونأخذ من الكتاب والسنة مباشرة ولا نخرج عن ظواهرهما كما كانوا يفعلون.
بعد ذكر أدلة هذا الفريق، فلننظر في هذه الأطروحة بموضوعية حتى نجد ضالتنا المنشودة والله الموفق.
الكتاب والسنة
الكتاب والسنة مرجعا المسلمين بلا خلاف، ولكننا نلاحظ أن هناك كثيرا من الأمور المستجدة لا نجد لها حكما صريحا فيهما يحدد الموقف العملي الذي أراده الشرع.
____________
1 - النساء: 115.
إذن فحتى يتضح الجواب فلنر هل كان السلف قادرين على الجواب عن كل المسائل التي كانت تعرض عليهم؟
نبدأ بابن عمر الذي يعتبر من علماء الصحابة. قال عتبة بن مسلم: " صحبت ابن عمر أربعة وثلاثين شهرا فكان كثيرا ما يسأل فيقول: لا أدري " وسئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أدري (1). وسئل مسروق عن مسألة فقال: لا أدري.
وروى عبد الرحمن بن مهدي شيخ علماء البصرة في زمانه - وكان يحضر مجلس مالك - إن رجلا سأل مالكا عن مسألة وذكر أنه قادم من مسيرة أربعة أشهر من المغرب لكي يسمع إجابته، فقال له الإمام: أخبر الذي أرسلك أن لا علم لي بها. فقال: ومن يعلمها؟ قال: من علمه الله، وسأله رجل من أهل المغرب عن مسألة كلفه بها أهل بلده فأجابه الإمام: ما أدري، ما ابتلينا بهذه المسألة في بلدنا. وما سمعنا أحدا من أشياخنا تكلم فيها... " (2).
قال ابن وهب: لو شئت أن أملأ ألواحي من قول مالك: " لاأدري " لفعلت (3).
ونقل الخطيب البغدادي: " أن رجلا سأل أحمد بن حنبل عن مسألة في الحلال والحرام. فقال له أحمد: سل عافاك الله غيرنا. قال: إنما نريد جوابك يا أبا عبد الله. قال:
سل عافاك الله غيرنا، سل الفقهاء، سل أبا ثور " (4).
وقال رجل لأحمد بن حنبل: " إني حلفت ولا أدري كيف حلفت، قال: ليتك إذ
____________
1 - إعلام الموقعين: 4 / 218 و 257. وراجع سنن الدارمي: 1 / 52.
2 - الإمام مالك بن أنس، مصطفى الشكعة: ص 96 عن ترتيب المدارك: ص 159.
3 - سير أعلام النبلاء: 8 / 108.
4 - تاريخ بغداد: 2 / 66.
" وجاءه رجل يسأل عن شئ، فقال: لا اجيبك في شئ ".
" وقال عبد الله: كنت أسمع أبي - أي ابن حنبل - كثيرا يسأل عن المسائل فيقول:
لا أدري (2).. ويقف إذا كانت مسألة فيها اختلاف، وكثيرا ما كان يقول: سل غيري " (3).
وبهذا نرى أن السلف أنفسهم واجهوا هذا الإشكال، فهذا الإمام أحمد وهو إمام هذا المنهج لم يسعفه الكتاب والسنة وحدهما في الإجابة على سؤال الرجل.
فكيف يستطيع أتباع هذا المنهج من هم أقل علما من أحمد بن حنبل أن يجيبوا على المستجدات؟!!
وهذا الإشكال الذي نحن بصدده قد تمثل واقعيا عند أتباع هذا المنهج فضلا عن إمامهم، فقد توقفوا في حكم التلغراف لأنه لا يوجد له حكم في الكتاب والسنة! وبهذا لو نظر أعداء الإسلام للإسلام من خلال هذا المنهج، لا تهموا الإسلام بالقصور والنقص وعدم مسايرة الأحداث المستجدة، إن الله يقول: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (4).
فإذا كان هذا هو المنهج الصحيح الذي يمثل الإسلام فلم التوقف في الإجابة عن كثير من الأحكام بعد أن أكمل الله الدين وأتم النعمة؟!! فهذه ثغرة كبيرة في هذا المنهج ولا
____________
1 - تلبيس إبليس، ابن الجوزي: ص 118.
2 - إذا كان كبار أئمة السلف مثل ابن عمر والشعبي ومالك وأحمد لا يدرون، فهلا قال لنا السلفية من الذي يدري؟!
3 - إعلام الموقعين: 4 / 206 و 1 / 33.