" سمعت عثمان بن عفان على المنبر يقول: لا يحل لأحد يروي حديثا لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر "... (1).
وفي المحدث الفاصل بسنده إلى السائب بن يزيد قال: " أرسلني عثمان إلى أبي هريرة، فقال: قل له: يقول لك أمير المؤمنين: ما هذا الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ لقد أكثرت لتنتهين أو لألحقنك بجبال دوس، واءت كعبا، فقل له: يقول لك أمير المؤمنين عثمان: ماهذا الحديث؟ قد ملأت الدنيا حديثا، لتنتهين أو لألقينك بجبال القردة " (2).
وعن عمرو بن ميمون قال: " اختلفت إلى عبد الله بن مسعود سنة، فما سمعته فيها يحدث عن رسول الله، ولا يقول قال رسول الله، إلا أنه حدث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه: قال رسول الله، فعلاه الكرب حتى رأيت العرق ينحدر عن جبينه، ثم قال:
إن شاء الله إما فوق ذاك أو قريب من ذاك، وإما دون ذاك " (3).
وعن السائب بن يزيد قال: " صحبت سعد بن أبي وقاص سنة، فما سمعته يحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا حديثا واحدا " (4).
وقال معاوية: " اتقوا الروايات عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا ما كان يذكر فيها في زمن عمر، فإن عمر كان يخوف الناس في الله تعالى ".
وقال الشعبي: " جالست ابن عمر سنة، فما سمعته يحدث عن رسول الله " (5).
____________
1 - منتخب الكنز بهامش المسند: 4 / 64. وراجع معالم المدرستين: 2 / 46.
2 - ص 554.
3 - راجع أضواء على السنة المحمدية: 29. المحدث الفاصل: 549. مسند أحمد: 6 / 46. الكفاية: 255.
4 - المحدث الفاصل: ص 557، وقال عجاج: انظر سنن ابن ماجة: 1 / 12 وطبقات ابن سعد: 3 / 102 قسم 1.
5 - المحدث الفاصل: ص 551، قال عجاج: أخرجه ابن ماجة، انظر سنن ابن ماجة: ص 1 / 11 حديث 126. وسنن الدارمي: 1 / 84، والسنن الكبرى: ص 1 / 11.
وعنه قال: كتبت عن أبي كتبا كثيرة، فقال: ائتني بكتبك فأتيته بها فغسلها (1).
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: " أدركت مائة وعشرين من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول ".
وقال ابن أبي ليلى: " لقد أدركت في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار وما منهم من أحد يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث ولا يسأل عن فتيا إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا " (2).
قال ابن قتيبة: " وكان كثير من الصحابة وأهل الخاصة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس بن عبد المطلب يقلون الرواية عنه، بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئا كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل... " (3).
وقال ابن القيم: " إن الصحابة كانوا يهابون الرواية عن رسول الله ويعظمونها ويقللونها - خوف الزيادة والنقص - ويحدثون بالشئ الذي سمعوه من النبي مرارا ولا يصرحون بالسماع ولا يقولون: قال رسول الله " (4).
وقال الحافظ ابن حجر: " قال ابن بطال وغيره: كان كثير من الصحابة لا يحدثون عن رسول الله خشية المزيد والنقصان " (5).
____________
1 - جامع بيان العلم: ص 81. تقييد العلم: ص 39.
2 - سنن الدرامي: 1 / 53. جامع بيان العلم: 2 / 163. تلبيس إبليس: 117. إعلام الموقعين: 1 / 34.
3 - راجع أضواء على السنة: ص 29.
4 - إعلام الموقعين: 4 / 128.
5 - فتح الباري: 6 / 28.
وجاء رجل يوما إلى ابن عمر فسأله عن شئ، لا أدري ما هو، فقال له ابن عمر:
" لا تسأل عما لم يكن، فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن من يسأل عما لم يكن " (2).
واستفتى رجل أبي بن كعب فقال: " يا أبا المنذر ما تقول في كذا وكذا؟ قال:
يا بني: أكان الذي سألتني عنه، قال: لا، قال: أما لا، فأحلني حتى يكون فنعالج أنفسنا حتى نخبرك " (3).
تعليق
لقد ثبت أن الصحابة كانوا ينهون عن الرواية، ويقلونها، وقاموا بحرق السنن ومحوا الصحف، وحبس عمر بعض الصحابة ليمنعهم من الحديث، وكان الصحابة ينهون عن سؤال ما لم يقع.
" فهل ترى بربك ان ذلك الاتجاه الساذج - إن كانت المسألة مسألة سذاجة - الذي ينفر من السؤال عن واقعة قبل حدوثها ويرفض تسجيل سنن النبي بعد صدورها، كفوءا لزعامة الرسالة الجديدة وقيادتها في أهم وأصعب مراحل مسيرتها الطويلة... وقد أثبتت الأحداث بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن جيل المهاجرين والأنصار لم يكن يملك اي تعليمات محددة عن كثير من المشاكل الكبيرة التي كانت من المفروض ان تواجهها الدعوة
____________
1 - سنن الدارمي: 1 / 50. جامع بيان العلم: 1 / 141.
2 - المصدر السابق.
3 - سنن الدارمي: 1 / 56.
فهل يمكننا أن نتصور ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤكد للمسلمين انهم سوف يفتحون أرض كسرى وقيصر ويجعل من جيل المهاجرين والأنصار القيم على الدعوة والمسؤول عن هذا الفتح ثم لا يخبره بالحكم الشرعي الذي يجب أن يطبق على تلك المساحة الهائلة من الدنيا التي سوف يمتد إليها الإسلام " (1).
إن التقليل من الرواية ومنعها وحرق السنن ومحوها ليس من صفات الدعاة إلى الله. فالمفترض بالصحابة إذا كان قد انتدبهم الله لبيان دينه: أن يقوموا بأعباء هذه المهمة خير قيام، خاصة وإن أمامهم عملا شاقا وطويلا. لكننا وجدنا الصحابة قد عملوا ما يؤثر سلبا على الدعوة. إن الله يريد لدينه أن ينتشر في كل مكان، فما معنى امتناع الصحابة عن الرواية إذا كان الله قد اختارهم لتبليغ دينه؟!
هذا قرظة بن كعب لما قدم العراق قالوا له: حدثنا، فقال: " نهانا عمر ". عجبا كيف سيعرف هؤلاء دينهم وسنة نبيهم، وحملة الدين لا يتكلمون؟! إن الداعية يفرح إذا وجد من يصغي له. فلماذا يمتنع هذا الصحابي وغيره عن الدعوة؟ وأين ذهب قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ليبلغ الشاهد الغائب "؟ (2).
وقوله: " نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها عني، فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " (3).
إن الإسلام لا يقبل بمنع الرواية وتقليلها، بل يشجع على نشرها بكل الطرق حتى
____________
1 - بحث حول الولاية: ص 45 - 47.
2 - صحيح البخاري: كتاب العلم، باب يبلغ العلم الشاهد الغائب، سنن ابن ماجة: 1 / 85.
3 - ابن ماجة: ج 1 باب 18 حديث 236. سنن أبي داود: كتاب العلم، باب فضل نشر العلم.
(وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) (1) وقال تعالى: (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) (2) فالسنة هي المصدر الثاني بعد القرآن يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معي).
فلماذا امتنع الصحابة عن الرواية واقلوها وأحرقوا السنن وهم حملة الدعوة إلى الناس؟!
إن الله يخاطب نبيه: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) فمهمة الرسول البيان.
وإذا كان الصحابة خلفاءه في حمل الدعوة فمهمتهم أيضا البيان.
أما أن يقلوا الرواية وينهوا عنها ويحرقوا السنن ويحبسوا... فهذا لم يحصل في تاريخ الدعاة إلى الله!
إن الله لم يبعث أنبياءه (عليهم السلام) دعاة يحتكرون رسالات ربهم ويكتمون ما أمرهم الله بتبليغه ويحرقون السنن ويمحونها.
هذا نوح (عليه السلام) على الرغم من محدودية رسالته مكانا وزمانا ومع بقائه تسعمائة وخمسين سنة في قومه لم يتوان عن الدعوة في أي لحظة، ولم يحرق ويمح ما أمره الله بتبليغه، بل كان يدعو الناس ليلا ونهارا سرا وإعلانا، قال تعالى على لسانه:
(إني دعوت قومي ليلا ونهارا) (3)، (ثم إني دعوتهم جهارا * ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا) (4).
____________
1 - النحل: 44.
2 - النحل: 64.
3 - نوح: 5.
4 - نوح: 8 و 9.
(يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) (1) من ذلك يتضح لنا أن الله لم يرض بتقليل العمل الرسالي في الرسالات المحددة مكانا وزمانا، فكيف يصطفي لآخر رسالاته وأخطرها، والتي ينتظرها عمل كثير، دعاة يمنعون الرواية ويحرقونها ويمحونها؟
لقد مر علينا قول ابن أبي ليلى: " أدركت في هذا المسجد مائة وعشرين من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول ".
فلماذا لا يجيب هؤلاء الصحابة عن المسائل التي يسألونها؟ فإذا كانوا يجهلون فلا يصلحون لتبيين الإسلام، وإذا كانوا يعرفون فلم يردون المسائل؟ أهو الورع الذي يمنعهم؟ فهل هم أورع من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي لم يرد سائلا في حياته؟ (2) لا أعتقد أن مسلما يقبل بهذا!
أما التعليلات التي تذكر لتبرير موقف الصحابة هذا، فهي مرفوضة.
قيل: إن الصحابة منعوا تداول السنة كيلا تختلط بالقرآن، ومعنى هذا القول: إن الله قد أنزل كتابه المعجز لقوم لا يميزون بين كلام الخالق وكلام المخلوق!! وبهذا يتبين ضعف هذا التعليل الذي نسمعه دائما!
وقيل: إن الصحابة منعوا الرواية كي ينشغل الناس بالقرآن، ولا يتكلون على الصحف.
____________
1 - يوسف: 49.
2 - قد يقال: إن الرسول معصوم ولهذا كان لا يتحرج في الجواب، أما الصحابة فكانوا يخافون الزيادة والنقص في الحديث. ولكننا نقول: أما كان الله قادرا على أن يختار شخصا معصوما بعد نبيه كي يسير بسيرة النبي في التبليغ بدلا من حرمان الناس من الحديث؟ فذلك خير ضمان لحفظ السنة بلا زيادة ولا نقصان ولا تغيير بالمعنى.
وبناء على هذا القول يجب ألا تدون السنة مطلقا وأن لا تنشر كي لا يتكل الناس عليها!!
إن السنة موجودة الآن في كتب السنن، ولا نرى المسلمين منشغلين بها دون القرآن.
إذن فما محل هذه التعليلات من الصحة؟!
ولذلك فلابد من التأكيد على أن سيرة الصحابة في تعاملهم مع السنة من حرق ومحو ومنع انتشارها لدليل واضح على أن الله لم يختر الصحابة لبيان دينه...
قلة تلقي الصحابة عن النبي وانشغالهم
أنكر عمر بن الخطاب على أبي قراءته وقال بأنه لم يسمع بها من قبل، فقال له أبي:
" إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق بالأسواق " (1).
وحين شهد أبو سعيد الخدري لأبي موسى الأشعري في قضية الاستئذان قال:
" قد كنا نؤمر بهذا. فقال عمر: خفي علي هذا من أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ألهاني الصفق بالأسواق " (2).
وقال البراء بن عازب: " ما كل الحديث سمعناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كانت ضيعة وأشغال، ولكن الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ، فيحدث الشاهد الغائب ".
وورد عنه قوله: " ما كل الحديث سمعناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كان يحدثنا أصحابنا عنه، كانت تشغلنا رعية الإبل " (3).
____________
1 - تاريخ ابن عساكر: 7 / 339.
2 - صحيح البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الحجة على من قال إن أحكام النبي كانت ظاهرة.
3 - قال محمد زهو في الحديث والمحدثون: ص 158: " رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، ورواه الحاكم...
قال الحاكم: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه، وأقره الذهبي ".
قال ابن حزم في بيان حال الصحابة بأنهم كانوا " مشاغيل في المعاش، وتعذر القوت عليهم بجهد العيش بالحجاز، وأنه كان يفتي بالفتيا ويحكم بالحكم بحضرة من حضره من أصحابه فقط، وانه إنما قامت الحجة على سائر من لم يحضره بنقل من حضره وهم واحد أو اثنان ".
" وإذا صح هذا - أي كلام ابن حزم - وهو صحيح جدا لأن التاريخ لم يحدثنا عنه انه - أي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - كان يجمع الصحابة جميعا، ويبلغهم بكل ما يجد من أحكام، ولو تصورناه في أقواله فلا نتصوره في أفعاله وتقريراته وهي من السنة. فماذا يصنع من يريد التمسك بسنته - ولنفترضه من غير الصحابة - أيظل يبحث عن جميع الصحابة وفيهم الولاة والحكام وفيهم القواد والجنود في الثغور ليسألهم عن طبيعة ما يريد التعرف عليه من أحكام؟ أم يكتفي بالرجوع إلى الموجودين، وهو لا يجزيه لاحتمال صدور الناسخ أو المقيد أو المخصص أمام واحد أو اثنين ممن لم يكونوا بالمدينة، والحجة - كما يقول ابن حزم - لا تقوم إلا بهم، والعمل بالعام أو المطلق لا يجوز قبل الفحص عن مخصصه مادمنا نعلم من طريقة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في التبليغ هو الاعتماد على القرائن المنفصلة، فالإرجاع إلى شئ مشتت وغير مدون تعجيز للأمة وتضييع للكثير من أحكامها الواقعية.
وإذا كانت هذه المشكلة قائمة بالنسبة إلى من أدرك الصحابة وهم القلة نسبيا، فما رأيكم بالمشكلة بعد تكثر الفتوح وانتشار الإسلام ومحاولة التعرف على احكامه من قبل غير الصحابة من رواتهم، وبخاصة بعد انتشار الكذب والوضع في الحديث... " (2).
____________
1 - تاريخ ابن كثير: 4 / 109، قال: وقد رواه الترمذي بنحوه.
2 - الاصول العامة للفقه المقارن: محمد تقي الحكيم، 172. إن هذا الكلام الرائع كاف لإثبات أن النبي لم يفكر بأن يحمل صحابته الدعوة من بعده!
ونحن نعلم إن الإسلام هو خاتم الرسالات وللعالم أجمع. لذلك لا بد من القول: إن هناك شخصا ممن رافق الدعوة خطوة خطوة واستوعب الإسلام استيعابا كاملا بحيث يجسده في قوله وسلوكه وهذا هو الواجب، أما الصحابة فقد خفي عليهم الكثير من الرسول، وكانوا يأتون طرفي النهار ولا يحضر إلا الواحد أو الاثنان على حد تعبير ابن حزم.
ولو فكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يعهد للصحابة القيادة الفكرية للامة لقام بتعبئتهم التعبئة الكاملة بالإسلام حتى ينقلوه للأجيال، وحتى لا يصطدموا بالمستجدات.
فقلة تلقي الصحابة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تتدفعنا الى القول بأنه لم يفكر بأن يسند إليهم حمل الدعوة من بعده. وكيف يمكن لإنسان عاش مع النبي بضعة أشهر (1) أن يستوعب الإسلام الذي بقي ينزل ثلاثا وعشرين سنة؟! والذي يصعب تصديقه هو القول: إن النبي قد حمله أمانته العظمى!
إن "... أي افتراض يتجه إلى القول بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يخطط لإسناد قيادة التجربة والقيمومة على الدعوة بعده مباشرة إلى جيل المهاجرين والأنصار يحتوي ضمنا على اتهام أكبر وأبصر قائد رسالي في تاريخ العمليات التغييرية بعدم القدرة على التمييز بين الوعي المطلوب على مستوى القاعدة الشعبية للدعوة، والوعي المطلوب على مستوى قيادة الدعوة وإمامتها الفكرية والسياسية " (2).
____________
1 - كمعاوية بن أبي سفيان وأبيه ووفود العرب الذين رأوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لساعات.
2 - بحث حول الولاية.
الصحابة ينقلون آخر الحديث أحيانا!
قد يسمع الصحابي طرفا من حديث النبي، ولم يكن قد حضر أوله، فيظن أنه سمع حديثا تاما، فيحدث بما سمع، وهذه واحدة من أخطر علل الحديث.
حدث ابن الجوزي " أن الزبير بن العوام سمع صحابيا يحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فاستمع إليه حتى قضى حديثه، فقال له: أنت سمعت هذا من رسول الله؟ فقال الرجل: نعم، فقال الزبير: هذا وأشباهه مما يمنعانني أن أتحدث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قد لعمري سمعت هذا من رسول الله، وأنا يومئذ حاضر، ولكن رسول الله ابتدأ بهذا الحديث، فحدثناه عن رجل من أهل الكتاب حديثه يومئذ، فجئته أنت بعد انقضاء صدر الحديث وذكر الرجل الذي هو من أهل الكتاب فظننت انه من حديث رسول الله " (1).
هذا صحابي يروي حديثا على أنه من النبي مع أن النبي يحكيه عن رجل من أهل الكتاب.
إنه أمر طبيعي أن يأتي بعض الصحابة والرسول يتحدث فلا يسمعون منه أول حديثه.
لكن المصيبة الكبرى أن يتحدث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أهل الكتاب، فيأتي صحابي ويروي كلامهم على أنه تعبير عن الإسلام! فهل نصدق أن الله جعل كل واحد من الصحابة مرجعا لنا نأخذ عنه الدين، وهذا حالهم؟ وهل يقبل الله أن يصبح كلام أهل الكتاب جزءا من الإسلام؟! من قال هذا فهو أظلم اتهام لله بالتفريط في دينه، فالله لم يجعل الصحابة مراجع لنا لأنه يعلم أنهم قد يأخذون كلام النبي على غير حقيقته، كما حدث لهذا الصحابي السالف الذكر.
____________
1 - شبهة التشبيه: ص 38.
فطارت شفقا ثم قالت: كذب والذي أنزل القرآن على أبي القاسم!! من حدث بهذا؟! إنما قال رسول الله: كان أهل الجاهلية يقولون: إن الطيرة في الدابة والمرأة والدار، ثم قرأت: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) (2) (3).
انظر أيها القارئ اللبيب إلى هذا الحديث. فأبوهريرة يرويه على أنه من كلام النبي مع أن النبي كان يتكلم على لسان أهل الجاهلية كما ورد. ويعد أبوهريرة راوية الإسلام، فإذا كان هذا حال راوية الإسلام بالنقل فكيف بباقي الرواة؟!
ألا يدفع فينا هذا الحديث الشك والريبة حول الأحاديث الموجودة؟ - ولنقل الأحاديث التي تفرد بها كل صحابي - من يدري؟ فلعل بعض الأحاديث التي نعتقد بها، هي من كلام الجاهلية أو أهل الكتاب. ولكن خفي ذلك على الراوي كما خفي على راوية الإسلام أبي هريرة!!
قد يقال: إن أبا هريرة سمع آخر الحديث " إن الطيرة... " وظنه من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فرواه، لا أنه يتعمد الكذب.
قلنا: وما ذنبنا نحن حتى يصل إلينا الإسلام بشكل خاطئ؟
وروى الحاكم في " المستدرك " في كتاب العتق، بإسناده عن عروة بن الزبير، أنه قال: بلغ عائشة رضي الله عنها أن أبا هريرة يقول: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لأن امتع بسوط في سبيل الله أحب إلي من ان أعتق ولد الزنا " وأن رسول الله قال: " ولد الزنا شر الثلاثة، وأن: الميت يعذب ببكاء الحي ".
____________
1 - الحديد: 22.
2 - تأويل مختلف الحديث: ص 126 و 127.
وأما قوله: " ولد الزني شر الثلاثة " فلم يكن الحديث على هذا، إنما كان رجل من المنافقين يؤذي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " ومن يعذرني من فلان؟ "، قيل: يا رسول الله مع ما به ولد زنا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " هو شر الثلاثة " والله (2) يقول: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)... " (3) (4).
هذا مثال آخر يبين لنا عدم أهلية الصحابة لنقل الإسلام لمن بعدهم. فقد أخفق أبو هريرة في نقل الحديث حتى أصلحت له عائشة خطأه. والذي ينبغي الوقوف عنده أن لأبي هريرة في كتب السنن 5374 حديثا، فمن يضمن لنا أن لا يكون أبو هريرة قد أخطأ في نقلها كما حصل له في هذا الحديث والذي قبله؟ نحن لا نقول: جميع أحاديثه بل لنقل الأحاديث التي تفرد بها. نعم، من يضمن لنا ذلك؟ وإذا لم نجد جوابا فكيف يمكن لنا أن نعتمد على أبي هريرة في نقل سنة النبي؟! إننا في حاجة لجواب يحل لنا هذه المعضلة التي تمس الإسلام أجمعه. وهل حقا أن الله اختار أبا هريرة لتبليغ سنة نبيه؟ أنا لا أتصور مسلما يقول بالإيجاب بعدما عرف إخفاق أبي هريرة في النقل. والذي يقول إن الله اختار أبا هريرة لهذه المهمة متهم لله بأنه فرط في دينه، إذ رضي أن تتغير تعاليم الإسلام بمعتقدات جاهلية...
____________
1 - البلد: 1 و 12.
2 - المستدرك: 2 / 215 وصححه.
3 - فاطر: 18.
الصحابي يأخذ عن مخبر وينسب للنبي
ومن الإشكالات التي تظهر لنا في مرجعية الصحابة: إن هناك من الصحابة من كان يسمع الحديث من مخبر وينسبه للنبي، كأبي هريرة مثلا، يقول ابن قتيبة فيه:
" وكان مع هذا يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كذا، وإنما سمعه من الثقة عنده فحكاه " (2).
أخرج البخاري: عن الزهري قال أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن أباه عبد الرحمن أخبر مروان أن عائشة وام سلمة أخبرتاه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم (3). وقال مروان لعبد الرحمن بن الحارث: أقسم بالله عليك لتقرعن أبا هريرة - لأنه كان يقول: من أصبح جنبا أفطر ذلك اليوم - ومروان يومئذ على المدينة. فقال أبو بكر فكره ذلك عبد الرحمن ثم قدر لنا أن نجتمع بذي الحليفة وكانت لأبي هريرة هناك أرض فقال عبد الرحمن لأبي هريرة: إني ذاكر لك أمرا ولولا مروان أقسم علي فيه لم أذكره لك. فذكر قول عائشة وأم سلمة، فقال: كذلك حدثني الفضل بن عباس وهو أعلم (4).
وفي رواية معمر، عن ابن شهاب إن أبا هريرة لما ذكر له عبد الرحمن قول عائشة " تلون وجهه " (5).
____________
1 - البداية والنهاية: 4 / 109، سير أعلام النبلاء: 2 / 606، وليت أحدا يدلنا على هؤلاء الذين كانوا مع بشر بن سعيد، وما أسماؤهم؟ فربما وصلت لنا مروياتهم وهي من كعب!
2 - تأويل مختلف الحديث: ص 50.
3 - نحن لانقبل مانسب الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وننزهه من هذا الفعل، ولكن نحتج بالرواية على من يثبتونها.
4 - صحيح البخاري: كتاب الصوم، باب الصائم يصبح جنبا.
5 - راجع شيخ المضيرة: ص 138.
وقد يأخذ الصحابي عن مخبر يهودي ممن دخلوا الإسلام ليكيدوا له ككعب الأحبار مثلا.
روى أحمد عن أبي هريرة: " إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذين عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدا فيعودون... ".
قال ابن كثير: " لعل أبا هريرة تلقاه من كعب - الأحبار -، فإنه كان كثيرا ما يجالسه ويحدثه، فحدث به أبو هريرة، فتوهم بعض الرواة عنه أنه مرفوع فرفعه... " (2).
قال يزيد بن هارون: " سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلس، أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله ولا يميز هذا من هذا " (3).
قال رشيد رضا حين تكلم عن كعب الأحبار ووهب بن منبه: " وما يدرينا أن تلك الروايات المرفوعة أو الموقوفة ترجع إليهما، فإن الصحابة (4) لم يكونوا يذكرون ما يسمع بعضهم من بعض ومن التابعين على سبيل الرواية والنقل. بل يذكرونه من غير عزو غالبا، وكثير من التابعين كذلك، بل أكثر ما روي عن أبي هريرة من الأحاديث
____________
1 - التوبة: 101.
2 - تفسير ابن كثير: 3 / 111.
3 - رواه ابن عساكر، انظر علوم مصطلح الحديث صبحي الصالح، البداية والنهاية: 4 / 109، وهناك رواية قريبة منها في سير أعلام النبلاء: 2 / 608.
وقال: " وأنا لا آمن أن يكون بعض أحاديث أبي هريرة المرفوعة الغريبة المتون - التي لم يصرح فيها بالسماع - مما رواه كعب الأحبار، فقد صرحوا أنه روى عنه " (2).
روى مسلم عن أبي هريرة: " أخذ رسول الله بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الأثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم (عليه السلام) بعد العصر يوم الجمعة في آخر الخلق من آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل ".
وقد قدح أئمة الحديث في هذا الحديث. قال البخاري: " الصحيح انه موقوف على كعب الأحبار " (3) ومع أن هذا الحديث من كعب الأحبار إلا أن أبا هريرة ينسبه للنبي ويؤكد ذلك بقوله: " أخذ رسول الله بيدي "!!
وعن أبي هريرة، قال: " سمعت رسول الله يحكي عن موسى على المنبر قال: وقع في نفس موسى هل ينام الله (4)؟ فأرسل الله تعالى إليه ملكا فأرقه ثلاثا، وأعطاه قارورتين، في كل يد قارورة، وأمره أن يحتفظ بهما، فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان، ثم يستيقظ فيحبس إحدى القارورتين عن الأخرى، حتى نام نومه فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان " (5).
قال ابن كثير: " والظاهر أن هذا الحديث ليس بمرفوع، بل من الإسرائيليات
____________
1 - مجلة المنار: 19 / 97. راجع شيخ المضيرة: ص 150.
2 - وأنا لا آمن!... راجع مجلة المنار: 27 / 342 وشيخ المضيرة.
3 - تفسير سوة الإخلاص لابن تيمية: ص 16.
4 - تفسير ابن كثير: 3 / 568.
لقد كان أبو هريرة يأخذ عن مخبرين ككعب وغيره وينسب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دون ذكر لاسم الشخص الذي أخذ عنه، فهل يرضى الله أن نأخذ ديننا عن رواة يأخذون عمن هب ودب من اليهود والمنافقين؟ وإذا كانت أم المؤمنين كذبته في قوله عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من أصبح جنبا أفطر ذلك اليوم " فكيف نأمن أن لا تكون أحاديث أبي هريرة كهذا؟
وإذا أخطأ في هذا الحديث فهو معرض لأن يخطئ في غيره.
فالحق إن جعل الصحابة نقلة للسنة أمر خطير، وأنا لا أريد أن آخذ ديني عن مجهول قد يكون يهوديا ماكرا أو منافقا خبيثا. فعلى علماء الحديث أن يبينوا لنا هؤلاء المخبرين الذين كان يأخذ عنهم أبو هريرة حتى نطمئن بأنهم ليسوا من اليهود أو المنافقين، ثم ننظر فإن لم يقدروا على ذلك فليرحموا أنفسهم بالبحث عن مرجعية أفضل..
الصحابة يخطئون بالنقل
كان هناك قسم من الصحابة يغلطون بالرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا أمر خطير، فلربما نقلوا لنا الكثير من الروايات المغلوطة، ويتعبد بها الملايين، وهي ليست كما قال النبي، والأمثلة على ذلك كثيرة.
عن مطرف قال: " قال لي عمران بن حصين: أي مطرف، والله إن كنت لأرى أني لو شئت حدثت عن نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يومين متتابعين لا أعيد حديثا، ثم لقد زادني بط ءا عن ذلك وكراهية له، أن رجلا من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) - أو من بعض أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) - شهدت كما شهدوا وسمعت كما سمعوا يحدثون أحاديث ما هي كما يقولون، ولقد علمت
____________
1 - تفسير ابن كثير: 3 / 568.
هذه شهادة لصحابي كبير في أن الصحابة كانوا يخطئون في نقل أحاديث النبي.
وقول عمران هذا يدخل علينا الشك في الأحاديث التي بين أيدينا. فلربما يكون بعضها عن هؤلاء الصحابة الذين كانوا يغلطون. إننا لو علمنا أسماءهم أو علمنا رواياتهم لربما يحل الإشكال بورود رواياتهم عن طريق آخر، ولكن للأسف لا نستطيع إحراز أسمائهم ولا رواياتهم.
فكيف يطمئن المسلم بجعل هؤلاء الصحابة همزة الوصل بينه وبين منبع تعاليم الإسلام؟! وكيف يطمئن بكل الأحاديث التي وصلت إلينا مما قد تكون من الأحاديث الخاطئة؟! وهل يمكن القول إن الله (2) - وهو الحريص على إيصال دينه الى عباده بصورة صحيحة - وضع لنا بعد نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) مرجعية تخطئ في النقل؟! لا أعتقد أن مسلما يقول ذلك.
قال زيد بن ثابت: " لعل كل شئ حدثتكم به ليس كما حدثتكم " (3)!!!
إن زيدا يدعونا الى التشكيك في كل أحاديثه التي وصلت إلينا، فلا ندري كيف نأخذ بأحاديثه بعد هذا؟
إنني لا أستطيع أن آخذ ديني عن زيد بن ثابت بعد شهادته هذه على نفسه. كما إن كل حديث مرسل يواجهنا سنفترض أنه مأخوذ عن زيد وسنشكك به لأنه قد لا يكون كما حدثهم به!!
وإنني أرى في قول زيد هذا أكبر عائق يقف أمامنا ويمنعنا عن جعل زيد والصحابة مراجعنا بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). فإذا شك زيد في أحاديثه - وهو من علماء الصحابة - فهذا الشك وارد في حق الصحابة الآخرين ممن هم أقل حفظا وضبطا للحديث من زيد!!
____________
1 - مسند أحمد: 5 / 599، مجمع الزوائد: 1 / 141، تأويل مختلف الحديث: 40.
2 - جامع بيان العلم: 1 / 65، وذكره عجاج الخطيب في السنة قبل التدوين: 313 نقلا عن نفس المصدر.
هذا صحابي آخر يعتبر من المكثرين، له في كتب السنن 2630 حديثا وقد أخطأ في نقل حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعكس المعنى حتى أصلحت قوله أم المؤمنين. ولولاها لنقل إلينا هذا الحديث على صورته المقلوبة!!
فإذا كان ابن عمر يخطئ في الرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكيف نطمئن بالأخذ عنه؟
فربما روى أحاديث خاطئة كما فعل في الحديث السابق ووصلت إلينا رواياته على أنها من الإسلام! أليس هذا أمرا جائزا ومحتملا؟ فالأمثلة على ذلك كثيرة.
أخرج أحمد عن ابن عمر أنه قال: وقف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على القليب يوم بدر قال: يافلان يافلان هل وجدتم ماوعدكم ربكم حقا أما والله إنهم الآن ليسمعون كلامي. قال يحيى: فقالت عائشة: غفر الله لأبي عبد الرحمن إنه وهم إنما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنهم ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم حقا (2)...
وأخرج أحمد عن عائشة أنه بلغها أن ابن عمر يحدث عن أبيه عمر بن الخطاب أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " الميت يعذب ببكاء أهله عليه ". فقالت: يرحم الله عمر وابن عمر فوالله ما هما بكاذبين (3) ولا مكذبين ولا متزيدين، انما قال ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في رجل من اليهود ومر بأهله وهم يبكون عليه، فقال: " إنهم ليبكون عليه وان الله (4) ليعذبه في قبره " (5).
____________
1 - الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة: الزركشي، 97، ونقله عن الدارقطني.
2 - مسند أحمد: 4 / 427.
3 - حتى لو كانا غير كاذبين، فالله لايعتمد لنقل شريعته من يخطئ في نقل الحديث بالشكل الذي يغير المعنى الأصيل له كله.