الصفحة 218

وفي " الانصاف " لشاه صاحب، فقضت عائشة بأنه لم يأخذ الحديث على وجهه (1).

لقد أخطأ ابن عمر في نقل حديث قليب بدر، وكذا أخطأ عمر بن الخطاب في نقل حديث " الميت يعذب ببكاء أهله " فمع أن الحديث جاء في رجل من اليهود إلا أن عمر حدث به على أنه من نصوص الإسلام، ونقله ابن عمر وحدث به عن أبيه إلى أن صححت له عائشة الحديث.

ألا ترى أن اعتماد هكذا مرجعية بعدالنبي فيه خطر على تعاليم الإسلام ونصوصه؟!

وهل يعقل أن يختار الله لتبليغ دينه من يقلب نصوصه رأسا على عقب - ولو بدون قصد؟!

من عقل ذلك فهو يتهم الله بأنه فرط في دينه، إذ رضي أن يجعل حملته قاصرين عن فهم النص وملابساته.

إن هذه الإشكالات التي وقع فيها ابن عمر وأبوه تجعلنا نشك في أحاديث عمر وابنه، وإذا صححت لهم عائشة بعض أحاديثهم فلا نضمن أنها صححت لهم كل أحاديثهم. مع أنها هي أيضا عرضة للخطأ والسهو فهي غير معصومة!

وقد يرد البعض علينا أمام هذه الإشكالات بقوله: إذا وردت أحاديث عمر وابنه من طرق أخرى فسيحل الإشكال. ويبدو أن هذا الحل غير مجد، فماذا نفعل بالأحاديث التي تفرد بها عمر وابنه؟! بل قل: وأحاديث بقية الصحابة التي تفردوا بها؟! فالذي وقع فيه عمر وابنه قد يقع فيه غيرهم.

أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم " (2).

" هذا الحديث مما استدركت به عائشة على ابن عمر وكانت تقول: غلط ابن

____________

1 - الغدير: 10 / 43.

2 - كتاب الأذان، باب أذان الأعمى اذا كان له من يخبره.

الصفحة 219
عمر، وصحيحه: إن ابن مكتوم ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال " (1).

وروي أن ابن عمر " كان يقول: اعتمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمرة في رجب، فسمعت بذلك عائشة فقضت عليه بالسهو " (2)!!

وأخرج أحمد: قال عبد الله بن عمر: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الشهر تسعة وعشرون، وصفق بيديه مرتين، ثم صفق الثالثة وقبض إبهامه. فقالت عائشة: غفر الله لأبي عبد الرحمن انه وهم، إنما هجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نساءه شهرا فنزل لتسعة وعشرين فقالوا: يا رسول الله إنك نزلت لتسعة وعشرين فقال: إن الشهر يكون تسعة وعشرين " (3).

وهكذا لو لم تصحح عائشة هذا الحديث لابن عمر لحلت مشكلة الهلال في رمضان، ولكان العيد بعد اليوم التاسع والعشرين مباشرة ولصمنا تسعة وعشرين يوما لا نزيد عليها وان لم ير هلال رمضان كما كان يفعل ابن عمر (4).

إن هناك الكثير من الأحاديث التي لم تصححها عائشة لابن عمر، فماذا نفعل بها، ألا يحتمل فيها الخطأ كما حصل عنده في أحاديثه السابقة؟!

أعتقد أن طريق الخلاص من هذه المشكلة واضح للعيان، وهو اتباع المرجعية التي جعلها الله لنا بعد نبيه وهي ليست مرجعية الصحابة.

عن الزهري قال: كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه كان عند معاوية وفد من قريش، فقام معاوية فحمد الله، ثم قال: " بلغني أن رجالا منكم يتحدثون أحاديث

____________

1 - الغدير: 10 / 44. قال الأميني: " وبهذا جزم الوليد، وكذا أخرجه ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان من طرق عن شعبة، وكذلك أخرجه الطحاوي والطبراني من طريق منصور بن زادان عن خبب بن عبد الرحمن ". وراجع الإجابة: 97 و 98.

2 - جمع الفوائد: 1 / 345 - 346.

3 - المسند: 2 / 31، وانظر الإجابة للزركشي: ص 98.

4 - راجع مسند أحمد: 2 / 13.

الصفحة 220
ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله فأولئك جهالكم " (1).

إذا كانت هذه الأحاديث التي يروونها لا تؤثر عن رسول الله، فمن يضمن لنا أن لا تكون قد وصلت إلينا؟!

فالأحرى بكل مسلم عاقل أن يترك مرجعية الصحابة التي تخطئ في نقل السنن وأن يبحث معنا عن المرجعية التي وضعتها السماء لحفظ الإسلام وإسعاد البشرية.

صحابة مشكوك في روايتهم

روي عن أبي حنيفة أنه قال: " أقلد جميع الصحابة ولا أستجيز خلافهم برأي إلا ثلاثة نفر: أنس بن مالك وأبو هريرة وسمرة. فقيل له في ذلك. فقال: أما أنس فاختلط في آخر عمره. وكان يستفتى فيفتي من عقله، وأنا لا أقلد عقله، وأما أبو هريرة، فكان يروي كل ما سمع من غير أن يتأمل في المعنى، ومن غير أن يعرف الناسخ والمنسوخ " (2).

هذا أنس قد خلط في آخر عمره وأفتى من عقله بشهادة أبي حنيفة الذي أدركه وسمع منه، فهل يستطيع أحد أن يميز لنا الأحاديث التي رواها أنس قبل أن يخلط عن تلك التي رواها بعد أن خلط؟!! فلربما وصل إلينا عنه بعض من أحاديثه التي قالها بعد أن خلط ونقلها الرواة على أنها صحيحة، أليس هذا أمرا محتملا؟ فكل حديث رواه أنس، ليس له طريق آخر ينبغي لنا التوقف عنده لأنه قد يكون من عقله. وليس هذا فحسب، بل إن الأحاديث المرسلة - وهي التي كان يأخذها الصحابة عن بعضهم البعض وينسبوها للنبي دون ذكر لاسم الصحابي الذي أخذوا عنه - هذه الأحاديث المرسلة وما أكثرها نحتمل في كل حديث يواجهنا منها على أنه قد يكون مأخوذا عن أنس!!

____________

1 - ذكره ابن حزم في ملخص ابطال القياس، وراجع صحيح البخاري: كتاب المناقب، باب مناقب قريش.

2 - مرآة الاصول شرح مرقاة الوصول، محمد بن فراموز المعروف بملا خسرو الحنفي (ت / 885 هـ‍) وهو مخطوط، راجع شيخ المضيرة: ص 146، وذكر ذلك أبو شامة الشافعي في مختصر المؤمل: ص 31 و 32.

الصفحة 221
وبعد هذا، هل يجيز المسلم لنفسه الاعتماد على هكذا رواة؟ وهل حدث في منطق الرسالات الإلهية أن بعث الله سفيرا قد اختلط عقله؟! فالحق أن المسلم الغيور على دينه لا يلج من هذا الباب بحثا عن الإسلام!

وروي أن الشافعي " أسر إلى الربيع أن لاتقبل شهادة أربعة من الصحابة، وهم:

معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة، وزياد " (1)!!

أما الصحابة المشكوك في الثقة برواياتهم فهم كثر، ونكتفي هنا بواحد وهو أبو هريرة. وقد أنكر عليه السلف رواياته وشكوا في صحتها. قال له عمر: " لتتركن الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو لالحقنك بأرض دوس " (2) وقال له بعد أن ضربه بالدرة: " أكثرت يا أبا هريرة، وأحرى بك أن تكون كاذبا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " (3).

وأرسل عثمان يقول لأبي هريرة: " لقد أكثرت، لتنتهين أو لألحقنك بجبال دوس " (4).

وقال علي (عليه السلام) فيه: " ألا اكذب الناس على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبو هريرة الدوسي " (5) وكان أبو هريرة يقول: " حدثني خليلي، ورأيت خليلي، وقال لي خليلي رسول الله، فبلغ عليا ذلك فقال له: متى كان النبي خليلك يا أبا هريرة؟! قال ابن قتيبة:

" وكان - علي - سئ الرأي فيه " (6).

وقال: خالفت عائشة أبا هريرة وأنكرت عليه في أكثر من موضع. ففي حديث من أصبح جنبا كذبته عائشة وكذا أم سلمة ورجع أبو هريرة إلى قولهما. وروى أبو هريرة

____________

1 - تاريخ الطبري، ابن الأثير، ابن عساكر: 2 / 379، راجع شيخ المضيرة: ص 185.

2 - أخرجه ابن عساكر: 5 / 239 حديث رقم 4885 من كنز العمال، البداية والنهاية: 4 / 106، سير أعلام النبلاء: 2 / 600.

3 - رواه الإسكافي، راجع " أبو هريرة "، شرف الدين: ص 195.

4 - المحدث الفاصل، الرامهرمزي: ص 554.

5 - رواه أبو جعفر الإسكافي راجع أبو هريرة، شرف الدين: ص 195.

6 - تأويل مختلف الحديث: 41، ولم ينكر ابن قتيبة كلام علي في أبي هريرة!

الصفحة 222
حديثا في النهي عن المشي بالخف الواحد، فبلغ عائشة ذلك فمشت بخف واحد وقالت:

لاخالفن أبا هريرة " (1).

وقال إبراهيم النخعي - إمام العراق، وقيل عنه: إنه كان صيرفيا في الحديث -:

" كان أصحابنا يدعون من حديث أبي هريرة. وعنه قال: ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة. وعن الأعمش قال: كان إبراهيم صحيح الحديث فكنت إذا سمعت الحديث أتيته فعرضته عليه، فأتيته يوما بأحاديث من أحاديث أبي صالح عن أبي هريرة فقال:

دعني من أبي هريرة إنهم كانوا يتركون كثيرا من أحاديثه " (2).

وقد مرت بك أيها القارئ شهادة الإمام أبي حنيفة في أبي هريرة فلا تنسها. وأكد ابن قتيبة في رده على النظام أن الصحابة والسابقين الأولين اتهموه وأنكروا عليه، وكانت عائشة أشدهم إنكارا عليه (3).

وقال الآمدي: " أنكر الصحابة على أبي هريرة كثرة روايته وذلك لأن الإكثار لا يؤمن معه اختلاط الضبط الذي لا يعرف لمن قلت روايته " (4).

وقال ابن الأثير: " أما رواية أبي هريرة فشك فيها قوم لكثرتها " (5).

وقال الأستاذ مصطفى صادق الرافعي فيه: "... كان عمر وعثمان وعلي وعائشة ينكرون عليه ويتهمونه، وهو أول راوية اتهم في الإسلام، وكانت عائشة أشدهم إنكارا عليه " (6).

____________

1 - راجع " أبو هريرة "، شرف الدين: ص 197.

2 - هذه الأخبار في سير أعلام النبلاء: 2 / 602، البداية والنهاية: 4 / 109، شرح النهج 1 / 340، العلل ومعرفة الرجال: أحمد بن حنبل، 1 / 428.

3 - تأويل مختلف الحديث: 39.

4 - الإحكام: 2 / 106.

5 - المثل السائر: ص 81.

6 - آداب العرب: 1 / 282.

الصفحة 223
وقال المحدث رشيد رضا: " لو طال عمر عمر حتى مات أبو هريرة لما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة " (1).

وقال أحمد أمين عنه: " وقد أكثر الصحابة من نقده على الإكثار من الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشكوا فيه... " (2).

وقد اعترف أبو هريرة بتكذيب الناس له. روى مسلم عن ابن رزين قال:

" خرج علينا أبو هريرة فضرب بيده على جبهته فقال: انكم تقولون اني اكذب على رسول الله لتهتدوا وأضل... " (3) فأهل القرون الأولى كذبوا أبا هريرة باعترافه بنفسه!

فبعد هذا، كيف يمكن لنا الاطمئنان بصحة روايات أبي هريرة الكثيرة؟! وكيف نجعله سفيرا بيننا وبين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد كذبه السلف الصالح باعترافه؟! وهل يعقل أن الله اختار أبا هريرة لتبليغ دينه، بعد أن طعن فيه السلف، وبعد أن نسب أقوالا للنبي هي لكعب الأحبار، وبعد أن رفع للنبي قولا هو من أقوال الجاهلية؟! أفتونا يا أولي الألباب.

الصحابة يروون عن أهل الكتاب

كان هناك من الصحابة من يحدث عن أهل الكتاب، وينقل حديثه على أنه من الإسلام، ومن هؤلاء عبد الله بن عمرو بن العاص.

قال ابن حجر عنه: " إنه قد ظفر في الشام بحمل جمل من كتب أهل الكتاب، فكان ينظر فيها ويحدث منها، فتجنب الأخذ عنه لذلك كثير من أئمة التابعين " (4).

____________

1 - مجلة المنار 10 / 851.

2 - فجر الإسلام: ص 262، الفصل الثاني من الباب السادس.

3 - 2 / 75.

4 - فتح الباري: 1 / 167.

الصفحة 224
يظهر من كلام ابن حجر هذا أن ابن عمرو كان يحدث عن الرسول والزاملتين.

وقد التبس على السامعين مصدر كلامه، لذلك تجنب الأخذ عنه كثير من أئمة التابعين على حد تعبير ابن حجر. وكان عند عبد الله بن عمرو بن العاص مائتا زاملة وكان يحدث منها لمن نزل عليه من الناس! (1) وقال الحافظ ابن كثير في مقدمة تفسيره: " إن عبد الله بن عمرو أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب فكان يحدث منهما " (2). وقال ابن كثير عن الحديث الذي رواه البيهقي في بناء الكعبة عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: " إن الاشبه أن يكون موقوفا على عبد الله بن عمرو، ويكون من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك من كلام أهل الكتاب "!

فكلام ابن كثير هذا يؤكد قولنا: إن عبد الله كان يحدث عن الزاملتين وينسب حديثه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو إن الراوي عن عبد الله لا يميز مصدر كلامه، أهو من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أم من الزاملتين؟ وفي كلا الاحتمالين ضرر فادح على نصوص الإسلام.

تأمل طويلا في هذه العقبة الجديدة؟ فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص أحد العبادلة الأربعة وأحد علماء الصحابة الذين يعتمد عليهم في الرواية ينقل من الزاملتين!

أليس هذا هو الذي فتح باب الاسرائيليات إلى تراثنا الإسلامي وكان سلاحا بيد أعداء الإسلام؟

" والباحث المتثبت والناقد البصير لا ينكر أن الكثير من الاسرائيليات دخلت الإسلام عن طريق أهل الكتاب الذين أسلموا، وكذلك لا ينكر أثرها السئ في كتب العلوم وأفكار العوام من المسلمين وما جرته على الإسلام من طعون أعدائه " (3).

____________

1 - مستدرك الحاكم: 4 / 533.

2 - 1 / 4 وانظر شيخ المضيرة: ص 124.

3 - دفاع عن السنة، محمد أبو شهبة: ص 82.

الصفحة 225
ماذا سيفعل المسلم للتأكد من سلامة تعبده ومعرفته بدينه؟ أيعتمد في ذلك على الروايات المنقولة من زاملتي عبد الله بن عمرو؟ ومن يدري؟ فلعل قسما من أحاديثه كان من زاملتيه، إذ ثبت انه كان يتحدث منهما. إن جعل عبد الله واسطة بيننا وبين النبي تجعلنا في ريب من مروياته، فهل هي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حقا أو من الزاملتين؟! فمن يريد لنا أن نأخذ عن عبد الله، عليه أن يفصل الروايات التي رواها عبد الله من أهل الكتاب عن الروايات التي رواها عبد الله عن النبي!!

لا أعتقد أن أحدا يستطيع بيان ذلك، وإن فعل فستبقى محاولته ناقصة وظنية...

ولا أعتقد أن الله يريد لنا أن نسلك هذا الطريق الوعر. فالله بلطفه أرسل لنا سفراء معصومين من الخطأ حتى تصل إلينا تعاليم السماء بصورة صحيحة.

فحاشاك ربي أن تترك دينك بين يدي عبد الله الذي يأخذ عن أهل الكتاب وبين يدي أبي هريرة، وأنس الذي اختلط عقله...

الصحابة ينسون

لقد نسي بعض الصحابة ما أخذ عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن هؤلاء زيد بن أرقم، فعن يزيد بن حيان قال: " انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه قال له حصين:... لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: يا ابن أخي، والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)... " (1).

إن زيد بن أرقم يعترف على نفسه أنه نسي بعض الذي كان يحفظه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو معدود من كبار الصحابة، فلابد من أن مثله الكثير.

____________

1 - صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب.

الصفحة 226
الإشكال الذي يرد الآن هو: كيف يختار الله لتبليغ دينه من ينسى ماائتمنه عليه (1).

إن نظرة واحدة إلى أنبياء الله تكفي لإعطائنا فكرة واضحة عن صفات المبلغين عن الله. فلم يحدث أن عهد الله برسالته إلى إنسان علم أنه سينسى ما هو مأمور بتبليغه، فالله (2) وحفاظا على دينه من التغيير والنسيان اشترط العصمة في أنبيائه.

ومن يضمن لنا أن لا يكون زيد بن أرقم قد تحدث بعد أن كبر ونسي؟ أليس من الممكن أن يتحدث زيد بعد نسيانه؟ إذا جاز هذا فمن يضمن لنا أن لا تكون رواياته البالغة 70 رواية من هذا القبيل؟ نحن لا نعني جميعها، ولكن كل حديث ليس له شاهد نحتمل فيه أن يكون من نسيانه. فمن يستطيع أن يميز لنا روايات زيد قبل نسيانه من رواياته بعد نسيانه؟!

ولو افترضنا حل هذا الإشكال فماذا نفعل بالروايات المرسلة التي كان يأخذها الصحابة عن بعضهم البعض وينسبونها للنبي دون ذكر لاسم الصحابي الذي أخذوا عنه ؟! فكل حديث مرسل - ومراسيل الصحابة حجة - نحتمل فيه أن يكون مأخوذا عن زيد بن أرقم بعد نسيانه فماذا نفعل بهذه المعضلة؟!

الصحابة يخطئون في الجواب

كان الصحابة يخطئون في فهم بعض الآيات القرآنية، وكانوا يخطئون في الإجابة عن المسائل الشرعية، وفي تنفيذ الحدود الشرعية. وكل هذه السلبيات مرفوعة عن حملة دين الله، فمن يتصدى لمهمة بيان الدين عليه أن يكون عارفا بجميع أحكام الإسلام، وعدم توفر هذه الصفة في شخص المرجع بعد النبي، فيه ما فيه من الخطورة على

____________

1 - قد يقال: إن النسيان أمر ليس بيد الإنسان بل من الله، قلنا: هذا يعني أن الله قد أنسى زيدا ما حفظ عن النبي!! فلو اختار الله زيدا لتبليغ دينه لما أنساه ما وعى من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما هو واضح. وهذا مايدفعنا للتأكيد على أن خليفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في التبليغ منزه عن النسيان لكيلا تنسى أحكام الإسلام.

الصفحة 227
أحكام الإسلام وحقوق العباد. ولا يأمن المسلم - بدون هذه الصفة - من أن يأتيه الدين صحيحا، والأمثلة القادمة توضح ما قلنا خير توضيح.

سئل أبو بكر عن قول الله تعالى: (وفاكهة وأبا) (1) فقال: " أي سماء تظلني وأي أرض تقلني أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم " (2).

وسئل أبو بكر عن الكلالة فقال: " إني سأقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان... " (3).

قال ابن سيرين: " إن أبا بكر نزلت به قضيه فلم يجد في كتاب الله منها أصلا، ولا في السنة أثرا، فاجتهد رأيه، ثم قال: هذا رأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني واستغفر الله " (4).

وورد أن عمر بن الخطاب تلا هذه الآية: (فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا) قال: " فكل هذا قد عرفناه فما الأب؟ ثم نقض عصا كانت في يده، فقال: هذا لعمر الله التكلف! اتبعوا ما تبين لكم هداه من هذا الكتاب " (5).

وأخرج مسلم في صحيحه إن رجلا أتى عمر، فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء، فقال: لا تصل. فقال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب وصليت، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

" إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفيك! "

____________

1 - عبس: 31.

2 - فتح الباري: 13 / 230. تفسير القرطبي: 19 / 223. مقدمة في اصول التفسير، ابن تيمية: ص 30.

تفسير ابن كثير: 1 / 5.

3 - الدارمي في سننه: 2 / 365. تفسير ابن كثير: 1 / 471. إعلام الموقعين: 1 / 82.

4 - راجع إعلام الموقعين: ص 19. جامع بيان العلم: 2 / 830. تاريخ الخلفاء، السيوطي: 71.

5 - المستدرك: 2 / 514 وصححه وأقره الذهبي في تلخيصه. تفسير الطبري: 30 / 38.

الصفحة 228
فقال عمر: اتق الله يا عمار! قال: إن شئت لم أحدث به " (1).

وأخرج البيهقي عن الشعبي، قال: " خطب عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) الناس فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ألا لا تغالوا في صداق النساء، فانه لا يبلغني عن أحد ساق أكثر من شئ ساقه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو سيق إليه، إلا جعلت فضل ذلك في بيت المال، ثم نزل، فعرضت له امرأة من قريش، فقالت: يا أمير المؤمنين أكتاب الله تعالى أحق أن يتبع أو قولك؟ قال: بل كتاب الله؟ فما ذاك؟ قالت: نهيت الناس آنفا أن يغالوا في صداق النساء، والله تعالى يقول في كتابه: (وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) (2). فقال عمر (رضي الله عنه): كل أحد أفقه من عمر. مرتين أو ثلاثا " (3).

وفي رواية قال عمر: " امرأة أصابت ورجل أخطأ " (4).

وفي رواية أخرى قال: " كل أحد أعلم من عمر " (5).

وفي أخرى قال: " إن امرأة خاصمت عمر فخصمته " (6).

وأتي عمر بن الخطاب بامرأة حامل قد اعترفت بالفجور فأمر برجمها فتلقاها علي فقال: ما بال هذه؟ فقالوا: أمر عمر برجمها فردها علي وقال: هذا سلطانك عليها فما سلطانك على ما في بطنها؟ ولعلك انتهزتها أو أخفتها؟ قال: قد كان ذلك. قال: أوما سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لا حد على معترف بعد بلاء ". انه من قيد أو حبس أو

____________

1 - صحيح مسلم: كتاب الحيض، باب التيمم.

2 - النساء: 20.

3 - السنن الكبرى: 7 / 233، وذكره السيوطي في جمع الجوامع كما في الكنز: 8 / 298 نقلا عن سنن سعيد بن منصور والبيهقي، ورواه السندي في حاشية السنن لابن ماجة: 1 / 583، والعجلوني في كشف الخفاء: 1 / 269 و 2 / 118.

4 - تفسير ابن كثير: 1 / 478. تفسير القرطبي: 5 / 99.

5 - شرح صحيح البخاري، القسطلاني: 8 / 57. الكشاف: 1 / 357.

6 - إرشاد الساري: 8 / 57، تفسير ابن كثير: 1 / 478.

الصفحة 229
تهدد فلا إقرار له ". وخلى سبيلها، ثم قال: عجزت النساء أن تلدن مثل علي بن أبي طالب، لولا علي لهلك عمر " (1).

وفي حادثة مشابهة لهذه، قال عمر: كل أحد أفقه مني، ثلاث مرات (2).

وعن مجاهد قال: قدم عمر بن الخطاب الشام فوجد رجلا من المسلمين قتل رجلا من أهل الذمة فهم أن يقيده، فقال له زيد بن ثابت: أتقيد عبدك من أخيك فجعله عمر دية " (3).

وأخرج البيهقي " إن عثمان بن عفان (رضي الله عنه) أتى بإمرأة قد ولدت في ستة أشهر فأمر بها أن ترجم، فقال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه): " ليس ذلك عليها قال الله تبارك وتعالى (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) (4) وقال (وفصاله في عامين) وقال (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) فالرضاعة أربعة وعشرون شهر والحمل ستة أشهر، فأمر بها عثمان أن ترد فوجدت قد رجمت " (5) (6).

وهكذا كان الحال مع بقية الصحابة إلا من جعل منهم امناء على الشريعة، وكانوا يصححون أخطاء الخلفاء بعدما أقصوا عن مراتبهم التي وضعهم الله فيها.

وبعد هذا فلنتأمل في هذه المعضلات. إن أبا بكر لم يعرف معنى كلمة " الأب " مع

____________

1 - الرياض النضرة: 2 / 196. ذخائر العقبى ص 80. مطالب السؤول ص 13. مناقب الخوارزمي ص 48. الأربعين، الفخر الرازي: ص 66.

2 - الرياض النضرة: 2 / 196. ذخائر العقبى: ص 81. الكفاية، الكنجي: ص 105.

3 - أخرجه عبد الرزاق وابن جرير الطبري، كنز العمال: 7 / 304.

4 - الأحقاف: 15.

5 - لقد قلنا من قبل: إذا لم يكن خليفة النبي على علم تام بجميع الأحكام الإسلامية فان الأنفس وحقوق العباد ستتعرض للخطر، وما حدث لهذه المرأة خير دليل على مانقول، وحاشا لله أن يضع لعباده خلفاء لايعرفون أحكام الإسلام الشرعية.

6 - السنن الكبرى: 7 / 442، وابن كثير في تفسيره: 4 / 169، وابن الديبع في تيسير الوصول: 2 / 9، والعيني في عمدة القاري: 9 / 642، والسيوطي في الدر المنثور نقلا عن ابن المنذر وابن أبي حاتم.

الصفحة 230
أن الآية نفسها تفسر هذه الكلمة، قال تعالى: (وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم) (1)! فالفاكهة طعام للإنسان، والأب طعام للأنعام، فهل ترى في هذا أي غموض؟

ويسأل أبو بكر عن الكلالة، فلا يدري ما إذا كان قد أصاب القول فيها أم لا. ولم يعرف أبو بكر حد السرقة بعد قطع اليد والرجل حتى أعلمه عمر بذلك، مع علمنا في أن من المفترض، أن تكون هذه الأمور من البديهيات عند خلفاء المسلمين، فهم المخولون في القضاء بالدماء والأنفس والأعراض.

لقد أشكلت على عمر بن الخطاب كلمة " الأب " ومات عمر وفي نفسه أن يعرف معنى الكلالة. كما خفي عليه حكم الجنب فاقد الماء، وبعد أن ذكره عمار بالتيمم، قال:

اتق الله يا عمار. وكأن عمارا ارتكب جرما!

فهل في حكم التيمم غموض ما، حتى يخفى على من لازم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! فلا أدري كيف يصدق المسلم بأن الله حمل أمانته العظمى - التي لم يحملها إلا أفضل الخلق - من لا يعرف أوليات الإسلام من التيمم...

أما عثمان فقد أمر برجم أمرأة بدليل أنها وضعت لستة أشهر، وهذا غير جائز شرعا. وقصة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع المرأة الغامدية معروفة. فقد تركها النبي حتى بلغ ابنها سنتين ثم رجمها. وتكررت هذه الحادثة في عهد عمر بمحضر الصحابة وعثمان، فلماذا لم يمهلوا المرأة حتى يبلغ ابنها سنتين - هذا مع أنها بريئة -. فهل خفيت هذه الحوادث على عثمان والصحابة؟!

هذه الحقائق لا يستطيع أحد إنكارها؟ إن الصحابة أنفسهم يحتاجون إلى من يدلهم، فهم يفتقرون إلى الجواب في المسائل الواضحة!! وإذا أجابوا قد يخطئون، فكيف يفتون الناس وهم لا يعلمون؟ وكيف يسقون غيرهم وهم عطشى؟

____________

1 - عبس: 31 - 32.

الصفحة 231
إن الله لا يقبل بهكذا سفراء. ولم يحدث في تاريخ الرسالات الإلهية: أن بعث الله نبيا لا يدري ما يجيب به اتباعه. أو يجيبهم بشكل خاطئ كما كان يفعل الصحابة. ولو قلنا: إن الله رضي أن يبين الصحابة دينه للناس لكان مجيزا أن يأخذ الناس أحكامهم بشكل خاطئ، وهذا هو الباطل عينه.

فعلى المسلم أن يبحث عن قناة سليمة تربطه بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإسلام.

بين الصحابة منافقون ومرتدون

مما لايخفى على كل مسلم أن النفاق انتشر في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان يزداد قوة بازدياد قوة المسلمين. والقسم الأكبر من هؤلاء المنافقين لا يعلمهم إلا الله، قال تعالى:

(ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) (1)، وقال تعالى:

(وممن حولكم من الأعراب منافقون) (2).

بالاضافة الى أن هناك عددا غير قليل من الصحابة كانوا قد ارتدوا بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). فالإشكال الذي يرد إلينا هنا هو: إن كل صحابي من هؤلاء المنافقين والمرتدين سمع من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئا لم يسمعه صحابي غيره، ولهذا فالسنن التي تفرد بها هؤلاء الصحابة قد لا تصل إلينا بسبب حقدهم على الإسلام، فربما حدث أن تعرض الصحابة لمسألة ما فطرحوها على مسامع الناس لعل عند أحدهم نصا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان النص عند صحابي منافق أو مرتد ولكنه اسره في نفسه ولم يخرجه، أليس هذا من المحتمل حصوله؟!

وكذلك قد لا تصل إلينا بعض السنن التي تفرد بها بعض الصحابة بسبب انشغالهم بالحروب أو بسبب قلة الرواية عنهم، يقول محمد زهو في كتابه الحديث والمحدثون:

" الاشتغال بالخلافة والحروب عاق كثيرا من الصحابة من تحمل الحديث وروايته، كما

____________

1 و 2 - التوبة: 101.

الصفحة 232
في الخلفاء الأربعة وطلحة والزبير " (1).

إن هذه السنن التي نحتمل بقاءها في صدور المنافقين والمرتدين والمنشغلين بالحروب، قد يكون فيها الناسخ والمقيد والمخصص والمفسر، وهذا يوقعنا في مشكلة كبيرة. فمن يدري؟ فلعلنا نمارس بعض الأحكام المنسوخة أو المخصصة أو المقيدة بالسنن التي بقيت في صدور هؤلاء الصحابة (2).

فهل يقبل الله بهذا؟ هل يرضى أن نمارس حكما منسوخا أو مقيدا أو مخصصا؟

ولعل بعض هذه السنن التي بقيت مع الصحابة المذكورين تعكس جوانب إسلامية مهمة. فكيف يرضى الله بأن يحمل سنة نبيه لكل الصحابة، وفيهم المنافق الذي لا يظهرها أو يزورها وفيهم من سيرتد ويدفن السنن في صدره، وفيهم وفيهم...؟!

لذلك وجب القول في أن الله (3) حفاظا على دينه وسنة نبيه اتخذ اجراء مناسبا لتلافي هذه الإشكالات التي قد تحدث مستقبلا. والذي ظهر لي: إن الله عهد إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يجعل سنته عند شخص يتعهدها ويفهمها، وهذا الشخص ومن خلال موقعه السياسي والديني يقوم بتبليغ السنة للناس. هذا الاحتمال هو الذي يرتضيه العقل والنقل، أما توزيع السنة على مائة وأربعة عشر ألف صحابي ليبلغوها للناس ففيه خطر عظيم على السنة، وحسبك دليلا على ذلك أن هناك مائة وعشرة آلاف صحابي لم يصل إلينا منهم شئ.

أضف إلى ما سبق وجود المنافقين الذين يسعون لهدم الإسلام فكريا وسياسيا... فنسبوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحاديث مكذوبة في حياته وبعد مماته، وهذا ممكن حدوثه، فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد مات وهم مؤمنون في ظاهرهم فليس هناك ما يمنع الأخذ عنهم (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم) (4)!

____________

1 - ص 147.

2 - أو الصحابة الذين تفردوا ببعض السنن وماتوا في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل الحاجة إلى تبليغها!!

3 - المنافقون: 4.

الصفحة 233
ربما تكون بعض الأحاديث المرسلة المبثوثة في كتب الحديث مأخوذة عن هؤلاء المنافقين الماكرين (1)!! وهذه الفجوة التي تصدعت فيها أحقية مرجعية الصحابة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يستطيع المحدثون ردمها وإن اجتمعوا على ذلك، لأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه لم يكن يعلم هؤلاء المنافقين (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) (2).

ولا يمكن التخلص من هذه المعضلة إلا بالتأكيد على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - ولكي يقطع الطريق على هؤلاء الدجالين - جعل سنته بأيد أمينة، أليس هذا هو الحق المبين؟!

صحابة يساقون إلى النار

أخرج مسلم عن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا فرطكم على الحوض، ولانازعن أقواما ثم لاغلبن عليهم، فأقول: يا رب أصحابي أصحابي: فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " (3).

وأخرج البخاري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " بينما أنا قائم فإذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، قال: هلم، قلت: أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم " (4).

____________

1 - يقول السيوطي في تدريب الراوي: " وفي الصحيحين من ذلك - مراسيل الصحابة - ما لا يحصى "!

تدريب الراوي: 1 / 207، وعلى هذا فكل حديث مرسل سنشك فيما اذا كان قد رواه الصحابي عن صحابي عادل أو صحابي منافق لا يعلمه إلا الله!!!

2 - التوبة: 101.

3 - كتاب الفضائل، باب اثبات حوض نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) وصفاته.

4 - كتاب الرقاق، باب في الحوض. وهمل النعم: ضوال الإبل، قال ابن الأثير: " أي أن الناجي منهم قليل في قلة النعم الضالة " النهاية في غريب الحديث: 5 / 247.

الصفحة 234
لقد ثبت في الصحيحين وغيرهما: إن من الصحابة من يدخل النار. ولهذا لا نستطيع أن نجعل الصحابة قناة تربطنا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم). إذ كيف نأخذ ديننا عن أهل النار؟!

فلابد من تمييز الصحابة المساقين إلى النار من الناجين، ثم نفكر في من يصح الأخذ عنهم. فإن قيل إن المساقين إلى النار هم المنافقون والمرتدون، قلنا: إن القسم الأكبر من المنافقين لا يعلمهم إلا الله. فلا يمكن إحرازهم. فعدم إحرازنا للصحابة المساقين إلى النار يوجب علينا التوقف في الأخذ عن الصحابة. وليس في هذا تعطيل للإسلام. بل إن البديل موجود. فليحذر العقلاء من أن يجعلوا أهل النار أدلاء لهم في دين الله.

طريقة تلقي الصحابة

يقول ابن تيمية: " وقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يحدث، أو يفتي أو يقضي، أو يفعل الشئ، فيسمعه أو يراه من يكون حاضرا، ويبلغه اولئك - أو بعضهم - لمن يبلغونه فينتهي علم ذلك إلى من شاء الله من العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ثم في مجلس آخر قد يحدث، أو يفتي، أو يقضي، أو يفعل شيئا، ويشهده بعض من كان غائبا عن ذلك المجلس، ويبلغونه لمن أمكنهم، فيكون عند هؤلاء من العلم ما ليس عند هؤلاء، وعند هؤلاء ماليس عند هؤلاء " (1).

الإشكال الذي يرد هنا: إن الصحابي قد يسمع حديثا فيرويه فيما بعد ويعمل به الناس، ولنفترض أن هذا الصحابي في الشام، ولكن بما أنه " عند هؤلاء من العلم ما ليس عند هؤلاء، وعند هؤلاء ما ليس عند هؤلاء "، فقد يكون لهذا الحديث الذي رواه الصحابي للناس في الشام ناسخ مع صحابي آخر، ولنفترضه رواه لأهل العراق، فيصيب

____________

1 - رفع الملام: ص 6.

الصفحة 235
أهل العراق الحكم الإسلامي الصحيح ويخطئه أهل الشام!! وقد يكون للحديث الذي رواه الصحابي في العراق مخصص أو مقيد ولكنه لا يعلم بذلك، فيفتي للناس هناك بما عنده فيعمل الناس بالعام والمطلق، بينما المخصص أو المقيد للحديث نفسه عند الصحابي الذي في الشام مثلا! وهكذا.

إن الله (1) ليس عاجزا عن اختيار طريقة أمثل لتبليغ سنة نبيه. أما نسبة اختيار هذه الطريقة في التبليغ لله ففيها ما فيها من نسبة الظلم والجهل إلى الله، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، فهذه الطريقة قد تمنع المسلم من إصابة الواقع الشرعي، والله قادر على إيصال سنة نبيه بصورة صحيحة بدلا من أن يترك عباده يبحثون في البلدان وفي جبهات القتال عن الناسخ إذا احتمل وجوده أو المقيد أو المخصص منه، وقد يقطعون مسافات طويلة في سبيل الحصول على جواب فيموتون وفي أنفسهم من ذلك شئ.

لذلك نحن نقول: إن هناك شخصا أخذ السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كاملة، وهو الذي يقوم ببيانها للناس بسهولة ودون عناء، بعيدا عن الإشكالات السابقة.

الصحابة والرواسب الجاهلية

لقد عاش عدد كبير من الصحابة أكثر حياتهم في المجتمع الجاهلي، وشاركوا أهل الجاهلية في جميع أعمالهم، من وأد البنات وشرب الخمر وأكل الربا و... إلى غير ذلك من المحرمات التي حاربها الإسلام. وهذه الملاحظة وحدها تكفي لأن تجعلنا نقول: إن الله لم يخترهم لبيان دينه.

فالله منذ أوجد الإنسان لم يبعث له نبيا ولا سفيرا قد شارك قومه عاداتهم المنحرفة، بل كان يختار أناسا هم أكمل الناس، خالين من أية رواسب بيئية منحرفة.

هذه سنة الله في خلقه (ولن تجد لسنة الله تبديلا) (2).

____________

1 - الأحزاب: 62.