يروي أهل السنة: إن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقبل بعثته أراد أن يلتحق بإحدى احتفالات قريش ليشاركهم الشرب واللهو... فأنامه الله في الطريق (1)!
ويروون إن الله بعث ملكين لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو صبي فاستخرجا علقة سوداء من قلبه وغسلاه ونقياه حتى يكون في أعلى درجات الكمال وخاليا من أية رواسب، وتعرف هذه بحادثة شق الصدر (2). قال طه عبد الرؤوف سعد في تعليقه على هذه الحادثة: " إن هذا التقديس وهذا التطهير كان مرتين، الأولى في حالة الطفولة لينقى قلبه من مغمز الشيطان، وليطهر ويقدس من كل خلق ذميم حتى لا يلتبس بشئ مما يعاب عليه الرجال، وحتى لا يكون في قلبه شئ... " (3).
ومع موقفنا الرافض لامكانية حصول وصحة وقوع هاتين الحادثتين إلا أننا نتساءل: لماذا هذا الاهتمام من الله برسوله وحرصه أن لا يمارس سلوكا جاهليا ولو لمرة واحدة؟!
الجواب واضح، فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أمامه عملية تغيير كبرى، فحتى ينجح في تنفيذها ويتقبلها الناس: لابد أن يكون خاليا من أية أفكار مخالفة لها وحتى يكون مهيأ لاستقبال الوحي...
وهذ سنة إلهية اتبعها الله مع جميع رسله وسفرائه، فكيف يمكن أن يختار الله لتبليغ دينه أناسا جسدوا الجاهلية قولا وسلوكا، حتى تشبعت أجسامهم ونمت على الربا وشرب الخمر؟...!
____________
1 - راجع مستدرك الحاكم: 4 / 245.
2 - راجع سيرة ابن هشام: ص 152.
3 - المصدر السابق: ص 153.
إن من يستقرئ حياة الصحابة يجد كثيرا من الرواسب الجاهلية قد عاشت معهم بعد الإسلام، كشرب الخمر والزنا وأكل الربا (2)، وهذا الأمر يسلب منهم خاصية القيمومة على الدعوة. فالرواسب الجاهلية تؤثر سلبا على الداعية.
أخرج البخاري: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي " فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله، أنا والله أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية، فقال:
كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على ذلك، فقام اسيد بن الحضير، فقال: كذبت لعمر الله، والله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على المنبر فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا وسكت (3).
وأخرج البخاري: " إن رجلا من المهاجرين كسح (4) رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: ياللأنصار، وقال المهاجري: ياللمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
____________
1 - الأحزاب: 62.
2 - وهذا أمر قد وثقناه في مبحث عدالة الصحابة.
3 - 3 / 156، و 6 / 8.
4 - كسح: بمعنى ضرب.
نستخلص من هذا " أن من أوليات ما يقتضيه ضمان التطبيق أن يكون القائم على تطبيقها - أي الفكرة - شخصا تتجسد فيه مبادئ فكرته تجسدا مستوعبا لمختلف المجالات التي تكفلت الفكرة تقويمها من نفسه. ولا نريد من التجسد أكثر من أن يكون صاحبها خليا عن الأفكار المعاكسة لها من جهة، وتغلغلها في نفسه كمبدأ يستحق من صاحبه التضحية والفناء فيه من جهة أخرى، ومتى كان الإنسان بهذا المستوى استحال في حقه من وجهة نفسية أن يخرج على تعاليمها بحال. وإذا لم يكن القائم بالحكم بهذا المستوى من الإيمان بها وكانت لديه رواسب على خلافها، لم يكن بالطبع أمينا على تطبيقها مائة بالمائة، لاحتمال انبعاث إحدى تلكم الرواسب في غفلة من غفلات الضمير، واستئثارها في توجيهه الوجهة المعاكسة التي تأتي على الفكرة في بعض مناحيها وتعطلها عن التأثير ككل، وربما استجاب الرأي العام له تخفيفا لحدة الصراع في أعماقه بين ما جد من تعاليم هذه الفكرة وما كان معاشا له ومتجاوبا مع نفسه من الرواسب.
على أن الناس - كل الناس - لا يكادون يختلفون - إلا نادرا - في قدرتهم على التفكيك بين الفكرة وشخصية القائم عليها... وبما أن الإسلام يعالج الإنسان علاجا مستوعبا لمختلف جهاته - الداخلية والخارجية -، احتجنا لضمان تبليغه وتطبيقه إلى العصمة في الرسول، ثم العصمة في الذي يتولى وظيفته بعده... " (2).
____________
1 - ج 6 باب قوله: سواء عليهم استغفرت لهم.
2 - الاصول العامة للفقه المقارن: 185 - 186.
الصحابة يفتون بآرائهم
كان الصحابة يفتون بآرائهم في الوقائع الشرعية إذا لم يجدوا نصا في كتاب الله أو سنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم). ونحن نعلم أن الدين قد كمل على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبين الله كل شئ يحتاجه الناس. قال تعالى: (اليوم اكملت لكم دينكم) (1) وقال تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) (2)، (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) (3).
فكل شئ حسب منطوق هذه الآيات فيه نص. فإذا كان الله قد أكمل الدين وبين كل شئ فلماذا يفتي الصحابة بآرائهم؟!
فهم لم يحرزوا جميع النصوص الصادرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلا لما أفتوا بآرائهم. من هنا نعلم أن الصحابة غير مخولين: بنقل وبيان الدين للناس. فالمفترض بمن يخلف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكون لديه من النصوص ما يكفي لمعرفة أحكام الوقائع الشرعية كلها.
الصحابة يعترفون بأنهم ليسوا نقلة الإسلام!!
إن الصحابة لم يكونوا يرون أنفسهم في مرتبة القيمومة على الدعوة التي جعلها أهل السنة لهم.
قال أبو مجلز: شهدت ابن عمر والناس يسألونه، فقال: إياكم عني، فإني كنت مع من هو أفقه مني، ولو علمت أني أبقى حتى يفتقر إلي لتعلمت لكم!!! " (4).
____________
1 - المائدة: 3.
2 - الأنعام: 38.
3 - النحل: 89.
4 - تذكرة الحفاظ: 1 / 40.
وذكر المناوي " ان ابن عمر كان إذا سئل قال: اذهب إلى هذا الأمير الذي تولى أمر الناس، فضعها في عنقه ".
وقال: " يريدون أن يجعلونا جسرا يمرون علينا على جهنم " (1).
(يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا) (2).
____________
1 - فيض القدير شرح الجامع الصغير: 1 / 158. إحياء علوم الدين: 1 / 23.
2 - النساء: 174.
الفصل الرابع
عدالة الصحابة
بادئ ذي بدء:
لقد جعل أهل السنة كل الصحابة عدولا لأنهم كما يقولون حملة الشريعة للناس.
يقول ابن الصلاح: " ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة... وكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة " (1).
وقال الجويني: " والسبب في عدم الفحص عن عدالتهم، انهم حملة الشريعة، فلو ثبت توقف في رواياتهم لانحصرت الشريعة على عصره (صلى الله عليه وآله وسلم) ولما استرسلت إلى سائر العصور " (2).
وقال القرشي: " إن حفظ الدين يقتضي عدالة الصحابة، إذ كيف يعد الله سبحانه بحفظ دينه (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (3) بينما حملته ونقلته عن نبيه مطعون في عدالتهم ونزاهتهم " (4).
نعم، لقد قرر هؤلاء عدالة جميع الصحابة لأنهم نقلة الشريعة. ونحن في بحثنا هذا سنتناول عدالة الصحابة، فإن كانوا عدولا فسنتنازل عن كل ما كتبناه، ونقول: إنهم حملة الشريعة حقا، ولكن إذا لم يكونوا عدولا فلا يجوز لنا أن نأخذ عنهم الشريعة. وإلا فكيف نأخذ ديننا عنهم " بينما حملته ونقلته عن نبيه مطعون في عدالتهم ونزاهتهم " على حد تعبير القرشي!!
____________
1 - مقدمة ابن الصلاح.
2 - فتح المغيث: 3 / 103. تدريب الراوي: 2 / 214.
3 - الحجر: 9.
4 - تنبيه ذوي النجابة إلى عدالة الصحابة: ص 25.
إشارة:
إن تعديل جميع الصحابة بناءا على أنهم نقلة الدين لا يصح، لأن غالبية الصحابة لم ينقلوا لنا شيئا من الشريعة!!!
يقول ابن خلدون: " إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم، وإنما كان ذلك مختصا بالحاملين للقرآن، العارفين بناسخه ومنسوخه، ومتشابهه ومحكمه وسائر دلالته، بما تلقوه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو ممن سمعه، منهم ومن عليتهم، وكانوا يسمون لذلك " القراء " أي: الذين يقرأون الكتاب، لأن العرب كانوا أمة امية، فاختص من كان منهم قارئا للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ وبقي الأمر كذلك صدر الملة " (1).
هذه شهادة من ابن خلدون تؤكد لنا " إن الصحابة لم يكونوا كلهم أهل فتيا ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم... " فلماذا نعدلهم جميعا إذا كان الدين لا يؤخذ عن جميعهم؟! وكيف نعدلهم ونحن نجهل أكثرهم؟! وهل يليق بالعاقل أن يحكم على مايجهله؟!
تعريف الصحابي:
قال ابن حجر: " كل من روى عن النبي حديثا أو كلمة، أو رآه وهو مؤمن به، فهو من الصحابة، ومن لقي النبي مؤمنا به ومات على الإسلام، طالت مجالسته معه أو قصرت، روى عنه أو لم يرو، غزا أو لم يغز. من رآه ولم يجالسه ومن لم يره لعارض " (2).
وقال النووي في تعريف الصحابي: " فأما الصحابي فكل مسلم رأى
____________
1 - المقدمة: 563، الفصل السابع من الباب الرابع.
2 - الإصابة: 1 / 10.
عطفا على ما تقدم آنفا:
قال ابن حجر: " اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة " (2).
وقال الذهبي: " من الكبائر سب أحد من الصحابة، فمن طعن فيهم أو سبهم فقد خرج من الدين ومرق من ملة المسلمين " (3). هذا هو حكم أهل السنة على الصحابة، فالكل عدول. ولكن ما هو حكم الله ورسوله فيهم، هل يعدلونهم جميعا أم لا؟ فلنر حكم الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) (4).
الصحابة في القرآن
الصحابة والنفاق:
ظهر المنافقون في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوة لا يستهان بها، وقد نزلت الآيات الكريمة كاشفة عنهم ومحذرة منهم ومبينة لصفاتهم، قال تعالى: (واذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون) (5)، (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) (6)، (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) (7)، (يحلفون
____________
1 - صحيح مسلم شرح النووي: 1 / 35 - 36.
2 - الإصابة: 1 / 6.
3 - الكبائر: ص 233.
4 - المائدة: 50.
5 - البقرة: 14.
6 - التوبة: 49.
7 - البقرة: 8.
وهناك الكثير من الآيات التي تتحدث عنهم، حتى أن سورة التوبة سميت بالفاضحة. وقلما يجد قارئ القرآن سورة تخلو من ذكر المنافقين، وإن شئت فاقرأ سور: الأحزاب، والنساء، والأنفال، والحشر، والمنافقين، والبقرة، وآل عمران، والمجادلة... وقد جمع بعض المحققين الآيات الخاصة بالمنافقين فبلغت ما يقرب من عشر القرآن (2)!
ومع بيان الآيات هذه لهم فقد بقي الكثير من المنافقين مجهولين عند المسلمين، قال تعالى: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) (3).
ونحن نسأل: من هؤلاء الذين نزل فيهم عشر القرآن؟ أليسوا هم ممن صحب رسول الله؟ بلى، هم كذلك بشهادة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
أخرج البخاري: إن عمر بن الخطاب طلب من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يضرب عنق عبد الله بن أبي، فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" دعه، لا يتحدث الناس بأن محمدا يقتل أصحابه " (4)!!
ومرة أشار الصحابة على النبي بقتل ابن أبي، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (فلعمري، لنحسنن صحبته ما دام بين أظهرنا) (5).
يقول النووي: " ولم يقتل - النبي - المنافقين لهذا المعنى ولإظهارهم الإسلام، وقد أمر بالحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر، ولأنهم كانوا معدودين في أصحابه " (6).
____________
1 - التوبة: 74.
2 - النفاق والمنافقون، الاستاذ إبراهيم علي سالم المصري.
3 - التوبة: 101.
4 - كتاب تفسير القرآن، حديث رقم: 4525، صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما.
5 - طبقات ابن سعد: 2 / 56.
6 - صحيح مسلم بشرح النووي: 16 / 139.
كل هذا العدد كان بين الألف ذاك!! وليس في هذا الأمر غرابة، فكلما قوي المسلمون ازدادت شوكة النفاق وانتشار المنافقين بينهم.. ومن ذلك يمكن أن نستنتج حجم عدد المنافقين بين الصحابة بعد أن اكتسح الإسلام جزيرة العرب؟! فإذا كان بين الألف صحابي قرابة ثلاثمائة منافق، فكم سيكون عدد المنافقين بين مائة وأربعة عشر ألف صحابي؟!
في أصحابي:
روى مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " في أصحابي اثنا عشر منافقا، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط... " (2).
وأخرج البيهقي عن ابن مسعود قال: خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " أيها الناس إن فيكم منافقين، فمن سميت فليقم، قم يا فلان، ثم يا فلان حتى عد ستا وثلاثين " (3).
إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عرف ستة وثلاثين منافقا من أصحابه وعدهم بأسماءهم، والله يقول: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لاتعلمهم نحن نعلمهم) (4) فالآية
____________
1 - صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة احد، والتصريح برجوع ثلث الناس في سنن البيهقي: 9 / 31.
2 - صحيح مسلم: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، حديث رقم 9.
3 - راجع معالم الفتن، سعيد أيوب: ص 67، عن الخصائص الكبرى، السيوطي: 2 / 174.
4 - التوبة: 101.
وليت أهل السنة يبينون لنا أسماء هؤلاء الستة وثلاثين صحابيا حتى نتجنب أخذ الأحاديث عنهم! وإذا لم يستطيعوا بيان أسمائهم فكيف يقبل المسلم العاقل أن يأخذ السنة عن جميع الصحابة ما دام فيهم ستة وثلاثون منافقا؟!
الصحابة الأعراب:
يمثل الأعراب نسبة كبيرة من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال أبو زرعة الرازي:
" توفي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن رآه وسمع منه زيادة على مائة ألف إنسان من رجل وامرأة وهذا لا تحديد فيه، وكيف يمكن الاطلاع على تحرير ذلك مع تفرق الصحابة في البلدان والبوادي والقرى " (1). فأهل البوادي - وهم الأعراب - صحابة.
وروى الساجي في المناقب بسند جيد عن الرافعي، قال: قبض رسول الله والمسلمون ستون ألفا، ثلاثون ألفا في المدينة وثلاثون ألفا في قبائل العرب... " (2) فعدد الصحابة الأعراب ثلاثون الفا.
وحين أشرف عمر بن الخطاب على الموت أوصى للخليفة من بعده بقوله:
" وأوصيه بالأعراب خيرا، فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام " (3).
هؤلاء الأعراب الذين يشكلون ثلاثين ألفا: حكم أهل السنة عليهم جميعا بالعدالة. ولكن أين هذا الحكم من حكم الله؟
قال تعالى: (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله
____________
1 - تدريب الرواي: 2 / 221.
2 - المصدر السابق.
3 - صحيح البخاري: كتاب المناقب، حديث رقم 3424.
(وممن حولكم من الأعراب منافقون) (2).
(ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء) (3).
(سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) (4).
(قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) (5).
فأين حكم أهل السنة من حكم الله؟ ومن أولى بالاتباع؟ (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) (6) وأين أتباع الكتاب والسنة في وصفهم لجميع الأعراب من الصحابة بالعدالة من هذه الآيات البينات؟ نحن لاننكر وجود المؤمنين من الأعراب، فالله عزوجل قال في كتابه العزيز: (ومن الأعراب من يؤمن بالله وباليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم) (7).
ولكن الأعراب المنافقين - كما يظهر هنا - أكثر من هؤلاء الأعراب، المؤمنين لأن " من " في الآية الأخيرة: تبعيضية عند العلماء. ومع ذلك، فان الآيات التي جاءت تذم
____________
1 - التوبة: 97.
2 - التوبة: 101.
3 - التوبة: 98.
4 - الفتح: 11.
5 - الحجرات: 14.
6 - المائدة: 50.
7 - التوبة: 99.
فهل نسي، أو تناسى أهل السنة حين حكموا على الصحابة الأعراب بالعدالة:
الآيات السابقة! فمن الواجب أن يقرأ القرآن وحدة واحدة.
ويمكننا أن نكتفي بهذا الدليل القرآني لنقض نظرية عدالة الصحابة من اسسها الواهية!
الصحابة والصلاة:
عن جابر بن عبد الله قال: " بينما نحن نصلي مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ أقبلت عير تحمل طعاما فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا اثنا عشر رجلا، فنزلت هذه الآية: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما) " (1) (2).
إنه لأمر عجيب أن يترك العبد صلاته خلف نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلتفت إلى العير والطعام!
والأعجب منه، كل من يقرأ هذه الحادثة ولا يتملكه الغضب من موقف هؤلاء الصحابة!!
فما هو عذرهم في فعلهم هذا؟ هل فعلوا ذلك لأنهم جياع؟ ألا يبدو في هذا الفعل:
استخفاف هؤلاء " الصحابة " بالصلاة وبالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه؟
وبماذا نفسر فعلهم هذا؟ أفتونا يا أيها الملأ.
أهذه هي " العدالة " التي حملتهم على هذا الفعل؟ إن العدالة بعيدة كل البعد عن هذا التصرف القبيح.
ولقد رأيت مصلين في عصرنا إذا وقف أحدهم بين يدي ربه ارتجف جسمه وعلا صوته بالبكاء وسالت دموعه، فما بال أهل القرون الأولى؟!
____________
1 - الجمعة: 11.
2 - صحيح البخاري: كتاب الجمعة، باب إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة فصلاة الإمام ومن بقي جائزة.
الصحابة والزكاة:
قال تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن ءاتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلما ءاتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) (1).
هذه الآيات نزلت بالصحابي ثعلبة (2). الذي حكم الله تعالى بنفاق قلبه، وحكم أهل السنة بطهارة قلبه وعدالته!!
مسجد ضرار:
في غزوة تبوك تخلف اثنا عشر رجلا من الصحابة عن الرسول وبنوا مسجدا كفرا وتفريقا بين المسلمين. قال تعالى: (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون) (3).
هذا حكم الله فيهم، فكيف يعطون صفة العدالة؟!
عدالة الصحابة في القرآن:
في بحثنا عن عدالة الصحابة وجدنا القرآن ينقض نظرية " عدالة الصحابة " هذه.. ففي الصحابة كثير من المنافقين، وفيهم الأعراب الذين هم أشد كفرا ونفاقا.
وفيهم من يترك الصلاة لينظر للعير، وفيهم وفيهم... وهناك المؤمنون وهم الذين مدحهم
____________
1 - التوبة: 75 و 76.
2 - راجع: تفسير الطبري: 6 / 130. تفسير ابن كثير: 2 / 388. تفسير فتح القدير: 2 / 385. تفسير الخازن: 2 / 125. تفسير البغوي بهامش تفسير الخازن: 2 / 125.
3 - التوبة: 107.
الصحابة في السنة
الصحابة والارتداد:
أخرج البخاري " عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا فرطكم على الحوض، ليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول:
أي رب أصحابي، فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك) (1).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " بينما أنا قائم فإذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، قال: هلم، قلت: أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم " (2).
وأخرج مسلم عن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا فرطكم على الحوض ولأنازعن أقواما ثم لاغلبن عليهم، فأقول: يارب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " (3).
وفي تاريخ ابن كثير قال: أخرج البيهقي عن أبي الدرداء، قال: " قلت:
يارسول الله بلغني إنك تقول: (ليرتدن أقوام بعد إيمانهم) قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " أجل ولست منهم ".
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن من أصحابي من لا يراني بعد أن افارقه " (4).
هذه الأحاديث تعرف بأحاديث الحوض، وهي متواترة ولها طرق أخرى
____________
1 - كتاب الفتن، ماجاء في قوله تعالى: * (واتقوا فتنة لاتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) *.
2 - المصدر السابق: كتاب الرقاق، باب في الحوض.
3 - كتاب الفضائل، باب اثبات حوض نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) وصفاته.
4 - سلسلة الأحاديث الصحيحة: 6 / 1202، رقم الحديث 2982.
ويبدو لنا أن هذه الأحاديث أقلقت مضاجع أهل السنة، ففسروها بالمنافقين والمرتدين، ولكن هذا التفسير بعيد عن معطيات الأحاديث، ولا يصح، وذلك لأسباب نذكر منها:
أولا: إن المنافقين قليلون، لايزيد عددهم على عدد أصابع اليدين، عند أهل السنة، وهو يناقض قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث الحوض: (فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم) وهو قول يؤكد على نجاة القليل منهم، وفي رواية: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
(ولأنازعن أقواما ثم لأغلبن عليهم)، فتأمل كلمة " أقواما "، ليسوا عشرة ولا مائة، إنما هم أقوام!
وحتى إذا فسرنا الحديث الشريف هذا بأنه يشير الى المنافقين والمرتدين، فهو يعني أن كثيرا من الصحابة منافقون ومرتدون. وهذا ما ينطق به ماجاء في نص الحديث:
(فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم)!! وكفى بقول الرسول حجة. فأين أهل السنة من هذه الحقيقة؟ وهل سيسلمون بها؟ إن التأويل غير مجد هنا، بل يوقع صاحبه في مطبات لا تحمد عقباها. فمن فسر الذين ورد ذكرهم في الحديث بالمنافقين والمرتدين، فهو كالذي اختبأ من المطر، ولكنه وقف تحت الميزاب!!
ثانيا: هناك أحاديث مفسرة لهذا الحديث بما لا يبقى معه مجال لتأويل الحديث بالشكل الذي يؤدي الى غرضهم في الحفاظ على نزاهة الصحابة. والأحاديث يفسر بعضها بعضا.
روى البخاري بسنده عن العلاء بن المسيب عن أبيه، قال: لقيت البراء بن عازب (رضي الله عنهما)، فقلت: طوبى لك صحبت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبايعته تحت الشجرة.
فقال: يابن أخي، إنك لا تدري ما أحدثنا بعده " (1)!!
____________
1 - كتاب المغازي: رقم الحديث 3852.
وروى ابن حجر " عن العلاء بن المسيب عن أبيه عن أبي سعيد، قلنا له: هنيئا لك برؤية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحبته. فقال: إنك لا تدري ما أحدثنا بعده " (2).
وروى مالك في الموطأ عن مولى عمر بن عبيدالله: انه بلغه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لشهداء أحد: (هؤلاء أشهد عليهم). فقال أبو بكر الصديق: ألسنا يارسول الله إخوانهم، أسلمنا كما أسلموا وجاهدنا كما جاهدوا؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (بلى، ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي) فبكى أبو بكر، ثم بكى، ثم قال: " أئنا لكائنون بعدك؟ " (3).
وقال أنس بن مالك: ما أعرف شيئا مماكان على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)! قيل: الصلاة، قال: أليس ضيعتم ما ضيعتم فيها (4)؟
وأخرج البخاري عن الزهري قال: " دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي فقلت: ما يبكيك؟ فقال: لاأعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيعت " (5).
وأخرج البخاري قال: سمعت سالما قال: سمعت أم الدرداء تقول: دخل علي أبو الدرداء وهو مغضب، فقلت: ما أغضبك؟ فقال: والله ما أعرف من أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئا إلا انهم يصلون جميعا (6).
____________
1 - مستدرك الحاكم: 4 / 6، وصححه وكذا الذهبي في تلخيص المستدرك.
2 - الإصابة: 3 / 84.
3 - 2 / 462 كتاب الجهاد - باب الشهداء في سبيل الله. وقال ابن عبد البر عن الحديث: " مرسل عند جميع الرواة لكن معناه يستند من وجوه صحاح كثيرة " ذكر ذلك فؤاد عبد الباقي راجع الموطأ: 2 / 4.
4 - صحيح البخاري: كتاب مواقيت الصلاة، باب تضييع الصلاة.
5 - المصدر السابق.
6 - صحيح البخاري: كتاب الأذان، رقم الحديث 613.
فقلت له: غيرتم والله، فقال: يا أبا سعيد قد ذهب ما تعلم... " (1).
ومن حديث لجابر بن عبد الله (رضي الله عنه): " ما منا أحد إلا غير " (2).
وقال أعين ابن امرأة الفرزدق لعثمان: " يا نعثل بدلت " (3).
كل هذه النصوص تؤكد على أن الذين أحدثوا، هم من صحابة رسول الله من غير المنافقين والمرتدين. ففي حديث الحوض يقال للنبي: (انك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، والبراء يقول: إنك لا تدري ما أحدثناه (4) بعده، وعائشة تقول: إني قد أحدثت بعده، وقال أبو سعيد الخدري غيرتم والله، والرسول نفسه لم يشهد لأبي بكر ومن قاتل في أحد ويقول: (ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي)!
وهذا أنس يقول: ما أعرف شيئا مما كان على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقوله هذا يدل على أن كل شئ تغير وبدل، وحتى الصلاة ضيعت!!
وهذا أبو الدرداء يقول: والله ما أعرف من أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئا إلا أنهم يصلون جميعا. وهو اصرح قول في أن أهل القرون الأولى تركوا من السنة أشياء كثيرة، واحدثوا بدلا منها بدعا. وجابر يقول: ما منا أحد إلا غير...
____________
1 - المصدر السابق: ج 2 - باب الخروج إلى المصلى بغير منبر.
2 - مستدرك الحاكم: 3 / 560.
3 - مجمع الزوائد: 7 / 463.
4 - إن البراء يتكلم عن الإحداث بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتعبير الجمع " أحدثناه " فشمل قوله هذا إخوانه من
الصحابة " العدول "..