فهل ترى أي شذوذ في هذا الفهم؟ إن الذي يشذ هو الذي يؤول الحديث بما يتناسب مع أعمال الرجال.
ولو فرضنا أن هذا الحديث مجرد فضيلة لعلي، فهي كافية لتفضيله على غيره.
فكما أنه لم يكن هناك أفضل من هارون بعد موسى، فكذلك ليس هناك أفضل من علي بعد محمد، لأنه بمنزلة هارون من موسى!
وهناك لفظ لهذا الحديث صريح في الخلافة ولا يمكن أحد تأويله والتلاعب بألفاظه، روى ابن أبي عاصم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي (عليه السلام): " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنك لست نبيا [ إنه لاينبغي أن أذهب إلا ] وأنت خليفتي في كل مؤمن من بعدي " (1).
حديث الأئمة الاثني عشر:
روى مسلم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثناعشر خليفة، كلهم من قريش " (2).
وعن سماك بن حرب قال: سمعت جابر بن سمرة يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " لايزال الاسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة " ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي:
ما قال؟ فقال: " كلهم من قريش " (3).
ما زال هذا الحديث لغزا عند أهل السنة، فكل من تعرض له فسره تفسيرا يخالف به غيره.
قال السيوطي: " وقد وجد من الاثني عشر، الخلفاء الأربعة، والحسن ومعاوية وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز، هؤلاء ثمانية، ويحتمل أن يضم إليهم المهدي العباسي،
____________
1 - السنة: ابن أبي عاصم: 2 / 551، وقال الألباني: إسناده حسن.
2 - كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش.
3 - نفس المصدر.
وقال ابن حجر: " وقد مضى منهم الخلفاء الأربعة ولا بد من تمام العدة قبل قيام الساعة " (2).
لكن العدة تمت عند شيعة آل البيت قبل أكثر من ألف سنة، وتحقق عندهم قول الرسول هذا.
أما عند أهل السنة فلا أعتقد أن العدة ستكتمل ما داموا معرضين عن أئمة آل البيت، لأنهم هم مصداق الحديث.
والعجب أن ابن حجر في القرن التاسع الهجري، ويرى أن العدة لم تكتمل بعد. مع أن الحديث ينص على أن عدد الخلفاء بعد النبي اثنا عشر حتى قيام الساعة وعدد الخلفاء حتى عصر ابن حجر كثير جدا، والنبي قال: اثنا عشر لم يزد ولم ينقص عن هذا العدد.
وفي هذا الحديث قيد النبي الخلافة بالقرشية. وإذا أضفنا لهذا القيد قول النبي:
" قال جبريل (عليه السلام): قلبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم " (3).
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في صحيح مسلم "... إن الله اصطفى قريشا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم "، يظهر لنا أن الخلفاء من بني هاشم. فبما أن الله اصطفى بني هاشم من قريش، فلا يبقى لقائل قول: إن الخلافة في غير بني هاشم، لانه بذلك يصطفي من لم يصطفه الله!!
____________
1 - تاريخ السيوطي: ص 12.
2 - فتح الباري: 16 / 341.
3 - أخرجه أحمد والمحاملي والمخلص والذهبي وغيرهم عن عائشة، انظر الصواعق: ص 189، وذكره الصبان في إسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار: ص 143.
حديث الثقلين:
في حديث الثقلين المشهور - ولا داعي لذكره - قرن الله العترة بالكتاب، فدل هذا على أنهم مراجع للمسلمين، كمرجعية القرآن لهم. ومن لا يفترق عن القرآن فجدير به أن يخلف الرسول.
والمتتبع لروايات الثقلين يجد أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعبر عنهما - أحيانا - ب (خليفتين) (1) - وفي هذه الكلمة ما لايخفى من الدلالة، فالقرآن خليفة المسلمين - الجانب النظري - والعترة خلفاء المسلمين - الجانب العملي!!
حديث السفينة:
وهو قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق ".
وهذا الحديث يدل ضمنا على أن الخلافة في آل البيت، فالنبي جعل النجاة بركوب سفينة آل البيت. وكل سفينة لا بد لها من قائد (قبطان)، وكان النبي هو القائد لسفينة الإسلام، وحين مات عهد لآل بيته بقيادتها، كما في حديث السفينة.
ولما كان التعبير بالسفينة تعبيرا مجازيا يعبر عن مسيرة الحياة، علمنا أن آل بيته هم خلفاء المسلمين في هذه الدنيا!!
(هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) (2).
____________
1 - انظر السنة: ابن أبي عاصم: 2 / 337، وصححه الألباني.
2 - آل عمران: 138.
الأدلة من القرآن
الإمامة منصب إلهي:
قال تعالى مخاطبا نبيه إبراهيم (عليه السلام): (إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) (1).
بعد أن أصبح إبراهيم نبيا أعطاه الله منصب الإمامة (إني جاعلك للناس إماما) فاستبشر إبراهيم بهذا وقال (ومن ذريتي) هل ستجعل أئمة يا رب؟ قال (لا ينال عهدي الظالمين) فاستثنى الله الظالمين ومنعهم من نيل هذا المنصب.
لقد سمى الله الإمامة بالعهد (لا ينال عهدي) وفي هذا أكبر رد على من يقول:
إن الإمامة من عهود البشر. فهي من عهود رب البشر، فهل سنأخذ بنص القرآن ونسلم له؟!
وفي هذه الآية منع الله الظالمين من نيل عهده " الإمامة " فكل من ظلم نفسه، أو ظلم غيره، ومن أشرك بالله (إن الشرك لظلم عظيم) (2)، لا نصيب له في الإمامة!
وليس هناك من تنطبق عليه مواصفات الآية غير علي بن أبي طالب وولده المعصومين (عليهم السلام). وكل الذين ادعوا الخلافة وإمامة المسلمين، من غير أهل البيت (عليهم السلام) لا يخلو أحدهم من ممارسة نوع من أنواع الظلم السالفة.
قال تعالى على لسان موسى (عليه السلام): (واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي اشدد به أزري * وأشركه في أمري) (3).
إن نبي الله موسى مع عصمته يسأل الله أن يجعل له وزيرا. والوزارة فرع من الإمامة. فموسى عرف أن الجعل بيد الله لذلك نسب الجعل إلى الله.
____________
1 - البقرة: 124.
2 - لقمان: 13.
3 - طه: 29 - 32.
إنما وليكم...:
قال تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) (1).
نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب (عليه السلام)، حين تصدق بخاتمة وهو راكع، بإجماع المفسرين.
ففي الدر المنثور: " أخرج الخطيب في المتفق عن ابن عباس قال: تصدق علي (عليه السلام) بخاتمه وهو راكع فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للسائل من أعطاك هذا الخاتم؟ قال: ذاك الراكع. فأنزل الله: (إنما وليكم...).. (2).
وبعد نزول هذه الآية أنشد حسان بن ثابت:
____________
1 - المائدة: 55 - 56.
2 - 2 / 293 وراجع: تفسير الطبري: 6 / 186. تفسير ابن كثير: 2 / 74. تفسير الرازي: 4 / 383.
تفسير القرطبي: 6 / 221. تفسير الكشاف: 1 / 624. فتح القدير، الشوكاني: 2 / 53. زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزي: 2 / 383. التسهيل لعلوم التنزيل، الكلبي: 1 / 181. التفسير المنير لمعالم التنزيل، الجاوي: 1 / 210. فتح البيان في مقاصد القرآن: 3 / 51. أسباب النزول، الواحدي: 148.
تفسير النسفي: 1 / 289. شواهد التنزيل، الحاكم الحسكاني: 1 / 161. مناقب علي، ابن المغازلي:
ص 311 و 355 و 356 - 358. كفاية الطالب، الكنجي الشافعي: 228 و 250 و 251. ذخائر العقبى، محب الدين الطبري: ص 88 و 102. المناقب، الخوارزمي: ص 187. ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق: 2 / 409. الفصول المهمة، ابن الصباغ: ص 108 و 123. لباب النقول، السيوطي بهامش تفسير الجلالين: ص 213. تذكرة الخواص: ص 18 و 208. نور الأبصار: ص 71. ينابيع المودة:
ص 151. أحكام القرآن، الجصاص: 4 / 102. مجمع الزوائد: 7 / 17. أنساب الأشراف: 2 / 150.
كنز العمال: 15 / 146. منتخب الكنز بهامش المسند: 5 / 38. الرياض النضرة: 2 / 273...
ملحق المراجعات: 384.
ويشكل البعض: كيف تكون الآية نازلة في علي وقد جاءت بصيغة الجمع (والذين آمنوا)؟
يقول الزمخشري: " فإن قلت: كيف صح أن يكون لعلي (رضي الله عنه) واللفظ لفظ جماعة؟
قلت: جئ به على لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلا واحدا ليرغب الناس في مثل فعله " (2).
وهذا الأسلوب موجود في لغة العرب. قال الطبري في تفسير قوله تعالى: (إذا جآءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله) (3) قال: " إنما عنى بهذه الآيات كلها عبد الله بن أبي سلول " (4).
في آية الولاية حصر الله الولاية بنفسه ورسوله وعلي. ولا يخفى على كل بصير - جعل الحق رائده - أن الولاية، المقصودة في الآية ولاية الأمر ولا معنى لكون الولاية هنا المحبة والنصرة، لاشتراك كل المؤمنين بها (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) (5) فلما حصر الله الولاية بنفسه وبرسوله وعلي، علمنا أنها غير المحبة والنصرة.
فيبقى الوجه الثاني وهو ولاية الأمر.
____________
1 - فرائد السمطين: 1 / 189. المناقب، الخوارزمي: ص 186. تذكرة الخواص: ص 15 - 16.
كفاية الطالب: ص 228 - 229.
2 - تفسير الزمخشري: 1 / 624.
3 - المنافقون: 1.
4 - تفسير الطبري: 28 / 68. الدر المنثور: 8 / 171.
5 - التوبة: 71.
عود على بدء:
إن الآيات التي استدللنا بها على إمامة آل البيت الدينية، يستدل بها على إمامتهم السياسية، فأخالني لست بحاجة للإعادة، ونضعها بين أيدي القراء هنا. قال تعالى:
- (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (1).
- (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (2).
- (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (3).
- (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (4).
- (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) (5).
- (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم...) (6).
- (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (7).
- (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) (8).
- (وقفوهم إنهم مسؤولون) (9).
____________
1 - النساء: 59.
2 - النحل: 43.
3 - الأحزاب: 33.
4 - الشورى: 23.
5 - الأحزاب: 56.
6 - آل عمران: 61.
7 - آل عمران: 103.
8 - الرعد: 7.
9 - الصافات: 24.
الإمامة والعقل
بعد أن عرضنا النصوص من الكتاب والسنة، الدالة على إمامة آل البيت بقيادة علي (عليه السلام)، بقي أن نسأل عقولنا: هل من الحكمة أن يترك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمته دون أن يستخلف عليها أحدا؟!
سيرة العقلاء توجب الاستخلاف:
تؤكد سيرة العقلاء وما جرت به العادة على أن الإنسان إذا شعر بدنو أجله أو أراد السفر، فإنه يعهد لأحد أبنائه أو أقاربه بتولي شؤون عائلته. هذا على مستوى الأسرة، إحدى لبنات المجتمع.
وكذلك إذا أراد رئيس دائرة أو مؤسسة أو قبيلة أو مدينة أو دولة، السفر فإنه يجعل له نائبا عليها الى حين عودته.
وهذه السيرة لم تخف على الصحابة. فهذا أبو بكر حين شعر بدنو أجله عهد بالخلافة لعمر وقال: " فإنكم إن أمرتم في حياة مني، كان أجدر ألا تختلفوا بعدي " (1).
فتأمل بربك قوله وقل لي: هل كان أبو بكر أحرص على هذه الأمة من نبي الرحمة؟!
وقالت عائشة لابن عمر: " يا بني، أبلغ عمر سلامي وقل له: لا تدع أمة محمد بلا راع، استخلف عليهم، ولا تدعهم بعدك هملا، فإني أخشى عليهم الفتنة " (2)!!
سبحان الله! فهل هذا يعني أن النبي لا يخشى على أمته الفتنة وتركها بعده هملا؟!
وهل كانت عائشة أحرص على الأمة من سيد الخلق؟!
____________
1 - سيرة عمر، ابن الجوزي: ص 44، وراجع تاريخ الطبري: 2 / 429. تاريخ ابن خلدون: 2 / 58.
2 - الإمامة والسياسة: 1 / 23.
نعم فكيف بأمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ هل يعقل أن يتركها النبي ضائعة على حد تعبير ابن عمر أم استخلف عليها؟!
وهكذا سار الخلفاء طوال فترات التاريخ فكل واحد يشعر بدنو أجله يوصي لمن بعده. فهل خفي على سيد الحكماء (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه البديهة العقلية؟
ولو صح أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ترك أمته بلا راع، فقد أخطأ حكام المسلمين على مر التاريخ إذ أوصوا لمن بعدهم، خلافا للنبي!
سألني أحد الأصدقاء، أن أثبت له وجوب تعيين النبي لخليفته، فقلت له: لو أن عندك زوجة وأولادا، وأردت أن تسافر بضعة أيام، وتعلم أن هناك من يريد الفتك بك وبعائلتك في أقرب فرصة تسنح له، فهل كنت تتركهم دون قيم عليهم يهتم بأمورهم ويلم شملهم؟!!
قال: لا أستطيع تركهم دون قيم عليهم.
قلت: لو فعلت ذلك وتركتهم، ألا تكون بفعلك هذا ساعيا في هدم بيتك؟ قال:
نعم.
قلت: كيف توجب على نفسك وضع مسؤول على عدة أفراد ستعود إليهم بعد أيام، ولا توجب أن يضع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مسؤولا على أمة لن يعود إليها؟! أليس ذلك في حقه أولى؟! وقد كان النبي يعلم أن أمته على ساحل بحر من الفتن. والمنافقون بين الصفوف يتحينون الفرص، وهاهم قبل فترة حاولوا قتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
____________
1 - مروج الذهب: الجزء الثاني. حلية الأولياء: 1 / 44.
لقد جاهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كثيرا في سبيل بناء دولته، حتى إذا نشأت ووقفت على قدميها يتركها دون قيم؟! لو كان قد فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا - حاشاه - ألم يكن كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا؟
النبي يستخلف في غزواته:
كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كل غزوة يغزوها يستخلف على المدينة أحد أصحابه، وما غاب عنها قط أياما معدودات إلا واستخلف عليها من ينوب عنه. ففي غزوة أحد استخلف ابن أم مكتوم، وفي غزوة بني المصطلق استخلف زيد بن حارثة، وفي غزوة ذات الرقاع استخلف عثمان بن عفان، وفي غزوة تبوك استخلف عليا. حتى ان جبل أحد كان على بعد ميل من المدينة، فجعل النبي عليه خمسين من الرماة وجعل ابن جبير قيما عليهم ولم يتركهم هملا.
إذا كان هذا هو دأب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في غيابه عن المدينة بضعة أيام، فهل يعقل أن يترك أمة بأسرها دون خليفة وهو سيتركها للأبد؟!
يستخلف على مدينة، ويترك أمة!! إنه أمر لا يجوز على أعظم سياسي عرفه التاريخ. أيتهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بفعل المهم وترك الأهم، من أجل الحفاظ على كرامة السلف؟
لا والله، فمن كان غيورا ومحبا لنبي الإسلام، لا نتصور أنه يوافق على هذا.
وها هو النبي يبعث جيشا لمؤته ويقول: أميركم زيد، فإن قتل فجعفر، فإن قتل فعبدالله. هذا ما فعله في مؤته. أفتراه (صلى الله عليه وآله وسلم) يترك أمته ولم يبين لهم الخليفة من بعده، ليختاروا هم لأنفسهم، وكأن رأيهم واختيارهم أهدى وأرشد لهم من رأيه واختياره!!
النبي الحكيم يضع ثلاثة قواد على جيش مؤته، البالغ ثلاثة آلاف فرد، ويترك أكثر من مئة ألف دون قائد؟!
قال: لا، قال: ثبت أن موته أعظم من سفره، فكيف أمن على الأمة بعد موته ما خافه عليها في سفره وهو حي؟ فسكت!
سئل إمام:
سئل إمام من أئمة آل البيت: أخبرني عن العلة التي تمنع القوم من اختيار إمام لأنفسهم؟ قال: مصلح أو مفسد؟ قيل: بل مصلح. قال: هي العلة التي أبديها لك ببرهان يقبله عقلك. قيل: نعم. قال: أخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله وأنزل عليهم الكتاب وأيدهم بالوحي والعصمة، إذ هم أعلام الأمم وأهدى إلى الاختيار ومنهم موسى وعيسى (عليهما السلام).
هل يجوز مع وفور عقلهما وكمال علمهما، إذ هما بالاختيار، أن يقع خيرتهما على المنافق، وهما يظنان أنه مؤمن؟! قيل: لا.
قال: فهذا موسى كليم الله مع وفور عقله وكمال علمه ونزول الوحي عليه، اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربه سبعين رجلا ولم يشك في إيمانهم وإخلاصهم. فوقعت خيرته على المنافقين، إذ قال (1): (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا) (2) فلما وجدنا من قد اصطفاه الله تعالى للنبوة واقعا على الأفسد دون الأصلح، وهو يظن أنه الأصلح دون الأفسد، علمنا أن الاختيار لمن لا يعلم ما تخفى الصدور، وما تكن الضمائر ولا يعرف السرائر، مفسدة، وأن الأخطر اختيار
____________
1 - الأعراف: 155.
لا يحل لثلاثة:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة، إلا أمروا عليهم أحدهم " (2).
إن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يرضى أن يكون ثلاثة دون أمير، فهل يعقل أن يترك أمة دون أمير؟ مفارقة تستحق التأمل.
تدبير النبي ليؤكد خلافة علي
يوم الخميس:
على الرغم من تصريحات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باستخلاف علي (عليه السلام)، ومع انه أخذ له البيعة من أكثر من 100 ألف صحابي يوم الغدير، إلا أنه كان يعلم أن أغلب صحابته لن يرضوا بعلي إماما.
عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي (عليه السلام): " أما إنك ستلقى بعدي جهدا... " (3).
وقال علي (عليه السلام): " عهد إلي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الأمة ستغدر بك من بعدي " (4).
____________
1 - الاحتجاج: 2 / 530 - 531.
2 - مسند أحمد: 2 / 177، وهناك لفظ آخر للحديث صححه الألباني في: سلسلة الأحاديث الصحيحة، المجلد الأول، حديث رقم 1322.
3 - المستدرك: 3 / 140 وقال: صحيح الإسناد.
4 - المصدر السابق وصححه، وكذا الذهبي. ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق: 3 / 148. دلائل النبوة:
6 / 440. تذكرة الحفاظ: 3 / 995. البداية والنهاية: 7 / 338. تاريخ بغداد: 11 / 216. كنز العمال:
11 / 297. الخصائص الكبرى: 2 / 235. شرح النهج: 6 / 45.
قلت: يا رسول الله، ما يبكيك؟ قال: " ضغائن في صدور أقوام، لا يبدونها لك إلا من بعدي " (1) ".
لكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - ذلك العظيم - لا ينحني أمام العاصفة، فأراد أن يقيم الحجة على الناس بأن يكتب خلافة علي (عليه السلام) على الورق.
ففي أخريات حياته (صلى الله عليه وآله وسلم) وبينما كان على فراشه، قال لأصحابه: " ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي ". فقال عمر: إن رسول الله قد غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله....
لقد (أشفق) هؤلاء الصحابة بقيادة عمر على النبي ولم يقبلوا بهذه النعمة، لكنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يشفق عليهم بل طردهم!
وعمر الشفيق علم ماسيكتبه النبي، وأنه سيعهد لهارونه، فحال دون ذلك.
وليس هذا الكلام جزافا بل هناك قرائن تؤيد مقالتنا. فعندما قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتابا... علم عمر أن النبي سيذكر كتاب الله وشيئا آخر كان يقرنه معه دائما. فقال فورا: حسبنا كتاب الله. أي يكفينا كتاب الله، ولا نريد ذلك الشئ الملازم له.
أجل إن الرسول أراد أن يكتب شيئين أحدهما: كتاب الله كما فهم عمر وشيئا آخر ملازم له، وهم (آل البيت)، ليؤكد خلافتهم. ومما يؤكد قولنا قول النبي في يوم الخميس ".. أكتب لكم كتابا لن تضلوا.. " وقوله في حديث الثقلين " ما إن تمسكتم بهما فلن تضلوا " فدقق النظر في هذا واحكم.
____________
1 - مسند أبي يعلى: 1 / 427. وقريب منه في المستدرك: 3 / 139 وصححه، ابن أبي الحديد: 4 / 107.
الرياض النضرة: 3 / 184. مجمع الزوائد: 9 / 118. المناقب، الخوارزمي: ص 36. كنز العمال: 13 / 176.
" وكان النبي نفسه قد هم بكتابة عهد يمنع شغب الطامعين في الحكم ". قال الألباني معلقا على هذا الكلام: " يشير إلى حديث ابن عباس مرفوعا: هلموا اكتب لكم كتابا... " (1).
فالشيخ الغزالي والألباني يوافقاننا بأن الكتاب عهد لمنع شغب الطامعين في الحكم!
ولرب معترض يقول: حتى لو أقرا بذلك فمن غير المعلوم أنه كان سيعهد لعلي.
قلنا: المهم إنهما أقرا معنا على الهدف من الكتاب. والقرائن تشير إلى أن الكتاب هو تأكيد لحق آل البيت في الخلافة. وعمر يقول لابن عباس في حق علي: " لقد هم النبي أن يصرح باسمه في مرضه الذي توفي فيه، فمنعت من ذلك، إشفاقا وحيطة على الإسلام " (2)!!
بقي إشكال يكرر وهو: لو كان محتوى الكتاب مهما، لأعاد النبي كتابته، لأنه لا يجوز للنبي أن يكتم شيئا.
لقد وقع الخلاف بين الصحابة أنفسهم، هل كان النبي يهذي - والعياذ بالله - أم لا؟
فإذا اعتقدوا أنه يهذي في كلامه وهو حي بينهم، فكذا سيكون اعتقادهم في كتابه، هل هو هذيان أم لا؟ ويدب الخلاف...
حقا لقد كان الكتاب - الذي أراد النبي أن يكتبه - مهما للغاية، لذلك رأينا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد طرد أصحابه. وكان ابن عباس يبكي حتى يخضب دمعه الحصباء ويقول:
إن الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وشتان بين موقف عمر هنا وموقفه من كتاب أبي بكر في مرضه. فبحضرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أشفق عليه! وقال: غلبه الوجع، أما حين كتب أبو بكر كتابا يوصي له بالخلافة قال: اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله!! (3) وهاتان الحادثتان يجدر
____________
1 - فقه السيرة: ص 498 وكلام الألباني في الحاشية.
2 - شرح النهج، ابن أبي الحديد.
3 - تاريخ الطبري: 2 / 618.
سرية أسامة:
بعد أن منع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من تحقيق ما أراد، عبأ الصحابة تحت قيادة أسامة بن زيد، بما فيهم أبو بكر وعمر وأرسلهم إلى مكان بعيد، وأبقى عنده علي بن أبي طالب.
لكن الصحابة تثاقلوا عن المسير، وطعنوا في الأمير، فخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غاضبا ووبخهم وشدد عليهم في الذهاب، إلى آخر ما كان مما فصلناه سابقا.
لقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم بدنو أجله، ومع هذا يرسل الصحابة دون علي مع أسامة. فماذا يعني هذا؟
لو افترضنا أن الجيش ذهب ومات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فماذا سيكون حال الإسلام ولا قائد له؟! ويروي أهل السنة أن النبي قال: " من مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية " فماذا يكون مصير من يموت بعد النبي وقبل قدوم الجيش؟! هل يعد موته ميتة جاهلية؟ ألم يفكر النبي بهذا؟ وماذا يكون الحال لو تأخر جيش المسلمين؟
المنافقون بالمرصاد ينتظرون أقرب فرصة للفتك بالإسلام. وقد ارتدت العرب، والفرس والروم يتجهزان لضرب المسلمين. فلو مات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والحال على ماذكرنا لقضي على الإسلام؟ لكن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تخفى عليه هذه الأمور، فحتى لا يموت أحد ميتة جاهلية، وحتى يفوت على الأعداء الفرصة، أبقى هارونه بالمدينة، ولم يبعثه مع الجيش. فإذا عاد الجيش من القتال يكون الأمر قد انتشر أن عليا تسلم الخلافة عمليا.
وبذلك يقطع الطريق على الطامعين في الحكم!
فلا مندوحة عن القول: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اتخذ إجراءا إيجابيا إزاء هذه الأخطار، وهو إبقاء علي ليستلم الخلافة.
وبعث أبي بكر مع أسامة، فيه دليل لا أقوى منه على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يفكر بأن يعهد لأبي بكر بالخلافة، كما يزعم بعضهم. فالنبي يعلم أن أبا بكر قد يتعرض للقتل، ويعلم بإمكان تأخر الجيش بسبب القتال أو لطول المسافة. فلا يعقل أن يترك أمر الخلافة فارغا حتى يعود الجيش ويبايعوا أبا بكر. هذا على افتراض أنه لم يعين خليفته، وهو مرفوض.
لكن هؤلاء الصحابة رفضوا الذهاب لأنهم علموا قصد النبي من بعثهم في هذه الفترة، وإبقاء علي دونهم.
وغابت شمس النبوة
وينتقل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جوار ربه، بعد أن بلغ رسالته، حزينا على أمته. وبينما كان الناس وبنو هاشم مذهولين لهول المصيبة، ويحضرون لتجهيز النبي، اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليختاروا من بينهم خليفة. ولم يكن اجتماعهم في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان ملتقى المسلمين السياسي والديني. فلماذا لم يجتمعوا في المسجد يا ترى؟ ألأنهم أرادوا الأمر لأنفسهم ولكي يسبقوا المهاجرين إليه؟!!
ولكن الأمر لم يتم لهم فقد علم عمر بن الخطاب بخبر السقيفة، فأرسل إلى أبي بكر وحده! وأخبره باجتماع السقيفة (1).
____________
1 - راجع تاريخ الطبري: 2 / 456.
ويأخذون الأمر من يد الأنصار ويتداولون أمر الخلافة فيما بينهم. فعمر يرشح أبا بكر وأبو بكر يرشح عمر (1).
قيل: إن اجتماع السقيفة كان ضروريا في هذا الوقت، لأنه لا يجوز أن يكون المسلمون بحال من الأحوال دون خليفة. هكذا يقال.. ولكن هل كان هدف المجتمعين تعيين شخص الخليفة - أيا كان - أم أن كل فريق أراد الأمر لنفسه؟! والجواب الأخير هو ما نذهب إليه، وإلا فلماذا يحصر أبو بكر وصاحباه الأمر بأنفسهم دون سائر المهاجرين؟ ولماذا اعرضوا عن مرشحي الأنصار؟!
وهذا الحباب بن المنذر يجلي الصورة ويبين لنا هدف الاجتماع. فقد قال كما في تاريخ الطبري: " يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا - أي عمر - وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر!! " (2).
فالأنصار كانوا يطمعون في أن يكون لهم نصيب من هذا الأمر! لقد اتضح الحق لذي عينين.
وسعد بن عبادة المرشح عن الخزرج لم يعط صوته لأبي بكر، فلهذا عرض للسب والإهانة، ففي حقه قال عمر: (قتل الله سعدا!!) (3) وسعد من الذين آووا ونصروا. وبعد أن بايع عمر أبا بكر تبعه أسيد بن حضير زعيم الأوس والناس تبع لكبيرهم فبايع
____________
1 - راجع تاريخ الطبري: 2 / 444.
2 - راجع تاريخ الطبري: 2 / 458.
3 - المصدر السابق: ص 447. شرح النهج: 2 / 25.
وصبر علي على طول المدة وشدة المحنة وهو لا يتوانى لحظة في تقديم مشورته لخدمة الإسلام (2).
وتتوالى الأحداث ويبايع علي بالخلافة، ولكن بعد أن اختلط الحابل بالنابل.
يحدثنا الإمام علي (عليه السلام) عن محنته في خطبته الثابتة المعروفة بالشقشقية فيقول:
" أما والله لقد تقمصها (3) فلان وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحا، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلي الطير، فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه! فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهبا، حتى مضى الأول لسبيله، فأدلى بها إلى فلان من بعده. ثم تمثل بقول الأعشى:
فياعجبا!! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته - لشد ما تشطرا
____________
1 - راجع شرح النهج: 1 / 219.
2 - هذه إطلالة سريعة على السقيفة ومن أراد المزيد فليراجع: السقيفة، محمد رضا المظفر. الخلافة المغتصبة، إدريس الحسيني وغيرهما من الكتب.
3 - قال محمد عبده: الضمير يرجع إلى الخلافة وفلان كناية عن الخليفة الأول أبي بكر (رضي الله عنه)، نهج البلاغة: