وهناك كلام طويل للإمام في الإمامة، نقتطف منه اليسير. قال (عليه السلام):
"... هل تعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة، فيجوز فيها اختيارهم؟
إن الإمامة أجل قدرا، وأعظم شأنا، وأعلى مكانا، وأمنع جانبا، وأبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، فيقيموها باختيارهم...
إن الإمامة: منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء..
إن الإمامة: خلافة الله عز وجل، وخلافة الرسول، ومقام أمير المؤمنين وميراث الحسن والحسين (عليهم السلام).
إن الإمامة: زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعز المؤمنين..
إن الإمامة: رأس الإسلام النامي وفرعه السامي.
بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام، والحج والجهاد، وتوفير الفئ والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف...
الإمام، كالشمس الطالعة للعالم في الافق، بحيث لا تناله الأيدي والأبصار..
الإمام: البدر المنير، والسراج الزاهر، والنور الساطع، والنجم الهادي في غياهب الدجى، والبيداء القفار ولجج البحار..
الإمام: الماء العذب على الظماء، والدال على الهدى، والمنجي من الردى..
____________
1 - وفيات الأعيان: 3 / 270، وفي سير أعلام النبلاء نسبها للحسن بن هانئ، وراجع نور الأبصار: 168.
الإمام: واحد دهره، لا يدانيه أحد، ولا يعادله عدل، ولا يوجد له بديل ولا له مثيل ولا نظير، مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه ولا اكتساب، بل اختصاص من المتفضل الوهاب. فمن ذا يبلغ معرفة الإمام ويمكنه اختياره؟ هيهات هيهات!! ضلت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب، وجسرت العيون، وتصاغرت العظماء، وتحيرت الحكماء، وتقاصرت الحلماء، وحصرت الخطباء، وجهلت الألباب، وكلت الشعراء، وعجزت الأدباء، وعيت البلغاء عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله، فأقرت بالعجز والتقصير.
وكيف يوصف أو ينعت بكنهه، أو يفهم شئ من أمره، أو يوجد من يقوم مقامه، ويغني غناه؟ لا وكيف وأين؟!
فأين الاختيار من هذا، وأين العقول عن هذا، وأين يوجد مثل هذا، ظنوا أن ذلك يوجد في غير آل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كذبتهم والله أنفسهم ومنتهم الباطل، فارتقوا مرتقى صعبا دحضا تزل عنه إلى الحضيض أقدامهم، راموا إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة ناقصة وآراء مضلة، فلم يزدادوا منه إلا بعدا... " (1).
من أقوال الإمام:
1 - روى بعضهم قال: كنت مع الرضا (عليه السلام) في سفره إلى خراسان، فدعا يوما بمائدة له، فجمع عليها مواليه من السودان وغيره فقلت له: جعلت فداك، لو جعلت لهؤلاء مائدة؟ قال: إن الرب تبارك وتعالى واحد، والأب واحد، والأم واحدة، والجزاء بالأعمال.
____________
1 - الاحتجاج: 2 / 226 - 231. تحف العقول: 436 - 442.
3 - قيل له: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت بأجل منقوص، وعمل محفوظ، والموت في رقابنا والنار من ورائنا، ولا ندري ما يفعل بنا.
4 - صديق كل امرئ عقله، وعدوه جهله.
5 - عونك للضعيف أفضل من الصدقة.
6 - الصمت باب من أبواب الحكمة.
الإمام محمد بن علي (الجواد) عليه السلام
(195 هـ - 220 هـ)
الإمام التاسع من الأئمة الاثني عشر " وكان يروي مسندا عن آبائه إلى علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)... " (1).
وبعد أن ذكر سبط ابن الجوزي نسب الإمام (عليه السلام) قال: " وكان على منهاج أبيه في العلم والتقى والزهد والجود " (2).
قال ابن طلحة الشافعي: " هو أبو جعفر الثاني... وإن كان صغير السن فهو كبير القدر، رفيع الذكر. القائم بالإمامة بعد علي بن موسى الرضا، ولده أبو جعفر محمد الجواد، للنص عليه والإشارة له بها من أبيه، كما أخبر بذلك جماعة من الثقات العدول " (3).
وقال محمود بن وهيب البغدادي الحنفي: " محمد الجواد بن علي الرضا، كنيته أبو جعفر.. وهو الوارث لأبيه علما وفضلا وأجل إخوته قدرا وكمالا " (4).
وقال الشبلنجي الشافعي عن المأمون: " وأحسن إليه - للجواد - وقربه وبالغ في إكرامه، ولم يزل مشغوفا به لما ظهر له بعد ذلك من فضله وعلمه وكمال عقله وظهور براهينه مع صغر سنه " (5).
____________
1 - وفيات الأعيان: 4 / 175.
2 - تذكرة الخواص: ص 202.
3 - راجع الفصول المهمة، ابن الصباغ المالكي: ص 253.
4 - جوهر الكلام: ص 147.
5 - نور الأبصار: ص 177.
محمد بن علي الرضا، فترحم على أبيه وساق جواده. وكان معه بزاة للصيد، فلما بعد عن العمار أرسل بازا على دراجة فغاب عنه ثم عاد من الجو في منقاره سمكة صغيرة وبها بقاء الحياة فتعجب من ذلك غاية العجب، ورأى الصبيان على حالهم ومحمد عندهم ففروا إلا محمد، فدنا منه، وقال: ما في يدي؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى خلق في بحر قدرته سمكا صغارا، يصيدها بازات الملوك والخلفاء، فيختبر بها سلالة أهل بيت المصطفى. فقال له: أنت ابن الرضا حقا. وأخذه معه وأحسن إليه وبالغ في إكرامه. فلم يزل مشغفا به لما ظهر له بعد ذلك من فضله وعلمه وكمال عظمته وظهور برهانه مع صغر سنه. وعزم على تزويجه بابنته أم الفضل وصمم على ذلك فمنعه العباسيون من ذلك خوفا من أنه يعهد إليه كما عهد إلى أبيه، فلما ذكر لهم أنه إنما اختاره لتميزه على كافة أهل الفضل علما ومعرفة وحلما مع صغر سنه، فتنازعوا في اتصاف محمد بذلك، ثم تواعدوا على أن يرسلوا إليه من يختبره فأرسلوا إلى يحيى ابن أكثم ووعدوه بشئ كثير إن قطع لهم محمدا، فحضروا للخليفة ومعهم ابن أكثم وخواص الدولة، فأمر المأمون بفرش حسن لمحمد فجلس عليه، فسأله يحيى مسائل أجاب عنها بأحسن جواب (1) وأوضحه، فقال له
____________
1 - وسؤال يحيى هو: ما تقول - جعلني الله فداك - في محرم قتل صيدا؟ فقال الإمام أبو جعفر (عليه السلام): قتله في حل أو في حرم؟ عالما كان المحرم أم جاهلا؟ قتله عمدا أو خطأ؟ حرا كان المحرم أم عبدا؟ صغيرا كان أو كبيرا؟ مبتدئا بالقتل أم معيدا؟ من ذوات الطير كان الصيدأم غيرها؟ من صغار الصيد كان أم من كبارها؟
مصرا على ما فعل أو نادما؟ في الليل كان قتله للصيد أم نهارا؟ محرما كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرما؟ ثم فصل الإمام الجواب، فراجع الاحتجاج: 2 / 240 - 245. إعلام الورى: ص 335 - 338.
وفي رواية: " فأقبل المامون على من حضره من أقربائه وقال لهم: إن أهل هذا البيت خصوا من دون الخلق بما ترون من الفضل، وإن صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال. أما علمتم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إفتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي، وهو ابن عشر سنين، وقبل منه الإسلام، وحكم له به. ولم يدع أحدا في سنه غيره.
وبايع الحسن والحسين، وهما دون ست سنين، ولم يبايع صبيا غيرهما. أفلا تعلمون الآن ما اختص الله به هؤلاء القوم؟ إنهم ذرية بعضها من بعض، يجري لآخرهم ما يجري لأولهم " (2).
أما عن موقف القاضي يحيى بن أكثم فيقول الشبلنجي الشافعي: " وظهر في وجه القاضي يحيى الخجل والتغير وعرف ذلك كل من بالمجلس " (3).
من أقوال الإمام:
1 - لا تكن ولي الله في العلانية، عدوا له في السر.
2 - كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة.
____________
1 - الصواعق المحرقة: 2 / 596 - 598.
2 - الاحتجاج: 2 / 245. إعلام الورى: ص 338.
3 - نور الأبصار: ص 178.
4 - من استفاد أخا في الله فقد استفاد بيتا في الجنة.
5 - إياك ومصاحبة الشرير، فإنه كالسيف المسلول يحسن منظره ويقبح أثره.
6 - من أطاع هواه، أعطى عدوه مناه.
الإمام علي بن محمد (الهادي) عليه السلام
(212 هـ - 254 هـ)
الإمام العاشر من الأئمة الاثني عشر " أبو الحسن علي بن محمد بن علي الرضا بن الكاظم موسى بن جعفر الصادق، العلوي الحسيني المعروف بالهادي... كان فقيها إماما متعبدا " (1).
وقال ابن كثير: " وأما أبو الحسن علي الهادي فهو ابن محمد الجواد... أحد الأئمة الاثني عشر، وهو والد الحسن بن علي العسكري، وقد كان عابدا زاهدا، نقله المتوكل إلى سامراء وأقام بها أزيد من عشرين سنة بأشهر " (2).
وجاء في كتاب الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي نقلا عن الإرشاد: " الإمام بعد أبي جعفر، ابنه أبو الحسن علي بن محمد، لاجتماع خصال الإمامه فيه، ولتكامل فضله وعلمه، وأنه لا وارث لمقام أبيه سواه، ولثبوت النص عليه من أبيه " (3).
قال ابن الصباغ: " قال بعض أهل العلم: فضل أبي الحسن علي بن محمد الهادي، قد ضرب على الحرة قبابه، ومد على نجوم السماء أطنابه، فما تعد منقبة إلا وإليه نحيلتها، ولا تذكر كريمة إلا وله فضيلتها، ولا تورد محمدة إلا وله تفصيلها وجملتها، ولا تستعظم حالة سنيه إلا وتظهر عليه أدلتها، استحق ذلك بما في جوهر نفسه من كرم تفرد بخصائصه، ومجد حكم فيه على طبعه الكريم بحفظه من الشرب حفظ الراعي لقلائصه، فكانت نفسه مهذبه، وأخلاقه مستعذبة، وسيرته عادلة، وخلاله فاضلة، وميازه إلى
____________
1 - شذرات الذهب: 2 / 129.
2 - البداية والنهاية: 11 / 15.
3 - الفصول المهمة: ص 265.
وقال الشبلنجي: " ومناجاته (رضي الله عنه) كثيرة، قال في الصواعق: كان أبو الحسن العسكري وارث أبيه علما وسخاءا " (2).
بعث المتوكل العباسي يحيى بن هرثمة لجلب الإمام (عليه السلام). يقول يحيى: " فذهبت إلى المدينة، فلما دخلتها ضج أهلها ضجيجا عظيما، ما سمع الناس مثله، خوفا على علي، وقامت الدنيا على ساق، لأنه كان محسنا إليهم، ملازما للمسجد، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا، قال يحيى: فجعلت أسكنهم، وأحلف لهم أني لم أؤمر فيه بمكروه، وأنه لا بأس عليه، ثم فتشت منزله، فلم أجد إلا مصاحف وأدعية، وكتب العلم، فعظم في عيني " (3).
وسعي بالإمام الهادي إلى المتوكل مرة أخرى وهو في سامراء وقيل له: إن في منزله سلاحا وكتبا وغيرها من شيعته، فوجه إليه من الأتراك وغيرهم من هجم عليه في منزله على غفلة ممن في داره، فوجده في بيت وحده مغلق عليه، وعليه مدرعة من شعر، ولا بساط في البيت إلا الرمل والحصى، وعلى رأسه ملحفة من الصوف، متوجها إلى ربه، يترنم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد فأخذ كل ما وجد عليه، وحمل إلى المتوكل في جوف الليل، فمثل بن يديه، والمتوكل يشرب وفي يده كأس، فلما رآه أعظمه وأجلسه إلى جنبه، ولم يكن في منزله شئ مما قيل فيه، ولا حالة يتعلل عليه بها، فناوله المتوكل الكأس الذي في يده، فقال له (عليه السلام): ما خامر لحمي ودمي قط، فاعفني منه
____________
1 - الفصول المهمة: ص 270.
2 - نور الأبصار: ص 149.
3 - تذكرة الخواص: ص 202.
فبكى المتوكل بكاء طويلا حتى بلت دموعه لحيته، وبكى من حضره، ثم أمر برفع الشراب، ثم رده إلى منزله مكرما بعد أن أحسن صلته (1).
من أقوال الإمام:
1 - الناس في الدنيا بالأموال، وفي الآخرة بالأعمال.
2 - الدنيا سوق، ربح فيها قوم وخسر آخرون.
3 - الحكمة لا تنجع في الطباع الفاسدة 4 - من رضي عن نفسه كثر عليه الساخطون.
5 - إن العالم والمتعلم شريكان في الرشد مأموران بالنصحية.
6 - ابقوا النعم بحسن مجاورتها، والتمسوا الزيادة فيها بالشكر عليها.
____________
1 - راجع وفيات الأعيان: 3 / 272. تذكرة الخواص: ص 361. مروج الذهب: 3 / 93. نور الأبصار:
ص 182 - 183.
الإمام الحسن بن علي (العسكري) عليه السلام
(232 هـ - 260 هـ)
الإمام الحادي عشر. قال سبط ابن الجوزي: " كان عالما ثقة، روى الحديث عن أبيه عن جده " (1).
وجاء في الفصول لابن الصباغ المالكي نقلا عن الإرشاد: " الإمام القائم بعد أبي الحسن علي بن محمد، ابنه أبو محمد الحسن، لاجتماع خلال الفضل فيه، وتقدمه على كافة أهل عصره فيما يوجب له الإمامة، ويقضي له بالمرتبة من العلم والورع والزهد وكمال العقل وكثرة الأعمال المقربة إلى الله تعالى، ثم لنص أبيه عليه وإشارته بالخلافة إليه " (2).
وقال ابن الصباغ: " مناقب سيدنا أبي محمد الحسن العسكري، دالة على أنه السري ابن السري، فلا يشك في إمامته أحد ولا يمتري. واعلم أنه يبعث مكرمة فسواه بايعها وهو المشتري، واحد زمانه من غير مدافع، ونسيج وحده من غير منازع، وسيد أهل عصره وإمام أهل دهره، أقواله سديدة، وأفعاله حميدة، وإذا كانت أفاضل زمانه قصيدة فهو بيت القصيد، وإن انتظموا عقدا، كان مكان الواسطة الفريدة، فارس العلوم الذي لا يجارى، ومبين غوامضها فلا يحاول ولا يماري، كاشف الحقائق بنظره الصائب، مظهر الدقائق بفكره الثاقب، المحدث في سره بالأمور الخفيات، الكريم الأصل والنفس والذات " (3).
وقال ابن حجر فيه: " وكان وارث أبيه علما وسخاءا. ومن ثم جاءه أعرابي من
____________
1 - تذكرة الخواص: ص 203.
2 - الفصول المهمة: ص 273.
3 - الفصول المهمة: ص 279.
وقال الشبلنجي: " ومناقبه (رضي الله عنه) كثيرة، ففي درر الأصداف وقع للبهلول معه أنه رآه وهو صبي يبكي والصبيان يلعبون، فظن أنه يتحسر على ما بأيديهم فقال له: اشتر لك ما تلعب به؟ فقال: يا قليل العقل ما للعب خلقنا. فقال له: فلماذا خلقنا؟ قال: للعلم والعبادة. فقال له: من أين لك ذلك؟ فقال: من قوله تعالى (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) (2).
ثم سأله أن يعظه، فوعظه بأبيات، ثم خر الحسن (رضي الله عنه) مغشيا عليه، فلما أفاق قال له: ما نزل بك وأنت صغير لا ذنب لك؟ فقال: إليك عني يا بهلول، إني رأيت والدتي توقد النار بالحطب الكبار فلا تتقد إلا بالصغار، وإني أخشى أن أكون من صغار حطب جهنم " (3).
وقال عبيدالله بن الخاقان الوزير العباسي لولده أحمد - وكان منحرفا عن أهل البيت شديد التعصب عليهم -: " يا بني: لو زالت الإمامة عن خلفائنا بني العباس، ما استحقها أحد من بني هاشم غيره - أبي محمد بن علي الهادي - لفضله وعفافه، وصيانته وزهده، وعبادته، وجميل أخلاقه وصلاحه، ولو رأيت أباه لرأيت رجلا
____________
1 - الصواعق المحرقة: 2 / 598 - 599.
2 - المؤمنون: 115.
3 - نور الأبصار: ص 183.
ودخل العباسيون على صالح بن وصيف عندما حبس أبو محمد - الإمام العسكري - فقالو له: ضيق عليه، فقال لهم صالح: ما أصنع به؟ فقد وكلت عليه رجلين شر من قدرت عليه، صارا من أمر العبادة والصلاة والصيام على أمر عظيم، ثم أمر بإحضار الموكلين فقال لهما: ويحكما! ما شأنكما في أمر هذا الرجل؟ فقالا: ما تقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كله، لا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة، وإذا نظرنا إليه أرعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا (2).
ولا بأس بوقفة قصيرة نرى فيها تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) لبعض الآيات. قال في تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض فراشا) جعلها ملائمة لطبايعكم، موافقة لأجسادكم، لم يجعلها شديدة الحمى والحرارة فتحرقكم، ولا شديدة البرودة فتجمدكم، ولا شديدة اللين كالماء فتفرقكم، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في حرثكم وابنيتكم ودفن موتاكم، ولكنه جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به، وتتماسكون وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم، وجعل فيها من اللين ما تنقاد به لحرثكم وقبوركم وكثير من منافعكم، فلذلك جعل الأرض فراشا لكم.
ثم قال: (والسماء بناء) يعني: سقفا من فوقكم محفوظا، يدير فيها شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم.
ثم قال: (وأنزل من السماء ماء) يعني: المطر ينزله من علو ليبلغ قلل جبالكم وتلالكم وهضابكم وأوهادكم، ثم فرقه رذاذا ووابلا وهطلا وطلا لينشفه أرضوكم، ولم يجعل ذلك المطر نازلا عليكم قطعة واحدة، ليفسد أرضيكم وأشجاركم وزروعكم وثماركم.
ثم قال: (وأخرج به من الثمرات رزقا لكم) يعني: مما يخرجه من الأرض
____________
1 - الإرشاد: ص 310.
2 - إعلام الورى: ص 390.
من أقوال الإمام:
1 - أعرف الناس بحقوق إخوانه، وأشدهم قضاء لها أعظمهم عند الله شأنا، ومن تواضع في الدنيا لإخوانه فهو عند الله من الصديقين ومن شيعة علي بن أبي طالب (عليه السلام) حقا.
2 - من التواضع السلام على كل من تمر به، والجلوس دون شرف المجلس.
3 - من وعظ أخاه سرا فقد زانه، ومن وعظه علانية فقد شانه.
4 - من أنس بالله استوحش من الناس.
5 - لا تمار فيذهب بهاؤك، ولا تمازح فيجترأ عليك.
6 - أضعف الأعداء كيدا من أظهر عداوته.
____________
1 - البقرة: 22.
2 - الاحتجاج: 2 / 261 - 262.
الإمام محمد بن الحسن (المهدي) عليه السلام
(255 هـ - حي غائب)
وهو آخر الأئمة الاثني عشر. والمهدي ليس " تجسيدا لعقيدة إسلامية ذات طابع ديني فحسب، بل هو عنوان لطموح اتجهت إليه البشرية بمختلف أديانها ومذاهبها، وصياغة لإلهام فطري، أدرك الناس من خلاله - على الرغم من تنوع عقائدهم ووسائلهم إلى الغيب - أن للإنسانية يوما موعودا على الأرض، تحقق فيه رسالات السماء بمغزاها الكبير وهدفها النهائي " (1).
إن البشرية الآن وبمختلف تياراتها تنتظر المصلح والمنقذ ليخلصها من الظلم والجور الذي تعيشه، والفرق الإسلامية بما فيهم أهل السنة والإمامية، متفقون على ظهور رجل في آخر الزمان، يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا، ويتفقون على أنه المهدي (عليه السلام).
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " المهدي منا أهل البيت، المهدي من ولد فاطمة " (2).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لم تنقض الأيام والليالي حتى يبعث الله رجلا من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا " (3).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم " (4).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي
____________
1 - بحث حول المهدي، محمد باقر الصدر (قدس سره): ص 15.
2 - سنن ابن ماجة.
3 - سنن أبي داود: 4 / 104.
4 - صحيح مسلم: 1 / 373.
والأحاديث من هذا القبيل كثيرة جدا في كتب أهل السنة، وهي في كتب الشيعة أكثر.
قال ابن تيمية: " إن الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم من حديث ابن مسعود وغيره " (2).
وقال ابن حجر: " تواترت الأخبار بأن المهدي من هذه الأمة، وأن عيسى ابن مريم سينزل ويصلي خلفه " (3).
قال ابن خلدون: " اعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام وعلى مر العصور أنه لابد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت، يؤيد الدين ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون ويستولي على الممالك الإسلامية، ويسمى بالمهدي " (4).
وقال الشوكاني في رسالته (التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر والمسيح):
" والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها: خمسون حديثا، فيها الصحيح، والحسن، والضعيف المنجبر، وهي متواترة بلا شك " (5).
إذن فالاعتقاد بالمهدي، اعتقاد إسلامي، اتفق عليه السنة والشيعة، ولكن المهم في بحثنا هو ولادة الإمام المهدي (عليه السلام): قال أهل السنة: إنه لم يولد وسيولد في آخر الزمان.
والشيعة يقولون بولادته وأنه ابن الإمام الحسن العسكري - المتقدم - ولد سنة 255 هـ، وما زال حيا حتى يظهره الله.
____________
1 - سنن ابن ماجة: 2 / 9082.
2 - إسلامنا، الرافعي نقلا عن منهاج السنة.
3 - فتح الباري: 5 / 362.
4 - المقدمة: ص 311.
5 - إسلامنا: ص 195.
وإذا قلنا بعدم ولادة الإمام المهدي فمعنى ذلك أن هناك افتراقا بين آل البيت والقرآن، وهذا خلاف الحديث فيلزمنا إثبات ولادة المهدي (عليه السلام)!
وقد كان أئمة آل البيت يبشرون بالمهدي، ويقولون إنه ابن الحسن العسكري (عليه السلام) حتى ساد هذا الاعتقاد بين الشعراء.
" يقول دعبل الخزاعي: لما أنشدت مولاي الرضا الإمام الثامن هذه القصيدة وهي قصيدة طويلة تعرف بالتائية - وانتهيت فيها إلى قول:
بكى الرضا ثم رفع رأسه إلي وقال: يا خزاعي، لقد نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين " (1).
كانت هذه القصيدة في زمن الرضا (عليه السلام) المولود سنة 148 هـ والمتوفى سنة 203 هـ، والمهدي ولد سنة 255 هـ.
قال الطبرسي الإمامي: " إن أخبار الغيبة قد سبقت زمان الحجة (عليه السلام) بل زمان أبيه وجده، وإن المحدثين من الشيعة خلدوها في أصولهم المؤلفة في أيام السيدين الباقر والصادق (عليهما السلام) وآثروها عن النبي والأئمة واحدا بعد واحد " (2).
إن القول بولادة المهدي (عليه السلام) وإنه ابن الحسن العسكري هو القول الصحيح، فإن عدم ولادته إلى الآن لا يتناسب مع مهمته الملقاة عليه. فمن المتفق عليه أن المهدي يحيي
____________
1 - نور الأبصار: ص 170.
2 - إعلام الورى: ص 416.
فقول الإمامية: إن الإمام المهدي ابن الحسن العسكري، وإنه ورث من أبيه الإسلام الصحيح الذي أملاه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على علي (عليه السلام) وكتبه بخطه، هو القول المناسب والصحيح.
وقد ذهب كثير من جهابذة علماء أهل السنة إلى الاعتقاد بولادة المهدي (عليه السلام).
يقول الدكتور مصطفى الرافعي: " ولد الإمام المهدي في سامراء عام 255 هـ - وكان يوم الجمعة - وفي ليلة النصف من شعبان وذلك اثر عهد المعتز العباسي المعروف بأنه كان شديد القسوة على الإمام العسكري، وحريصا على القضاء عليه قبل أن ينجب آخر قادة أمة الإسلام وخاتم أوصياء نبي الإسلام المهدي المنتظر. ويشاء القدر أن يطاح بالمعتز العباسي ويبايع بالخلافة لمحمد المهتدي وتتم ولادة الإمام القائد بشكل هادئ.
وليس أدل على ابتهاج الإمام العسكري بوليده القائم المنتظر، ولما يؤمل فيه من خير عميم للإسلام والمسلمين، أنه أمر أن يتصدق شكرا لله على ما أنعم بعشرة آلاف رطل من الخبز ومثلها من اللحم، وأن يعق عنه ثلاثمائة رأس من الغنم ".
قال: " وقبل أن أعرض لفكرة المهدي في ضوء الكتاب والسنة والعقل والحكمة، أود أن أشير إلى أن القائلين بظهور المهدي - وأنه الآن على قيد الحياة - ليسوا الشيعة الإمامية وحدهم، بل إن كثيرا من علماء السنة وافقوهم في اعتقادهم هذا... " (2).
وقد تتبع علماء الشيعة أقوال علماء السنة الذين قالوا بولادة الإمام المهدي (عليه السلام).
وقام الأستاذ ثامر هاشم العميدي بجمع وترتيب أسماء هؤلاء العلماء بحسب القرون فكانوا (128) عالما اخترنا منهم:
____________
1 - أخذنا هذه الفكرة من كتاب (في انتظار الإمام) للدكتور عبد الهادي الفضلي فراجعه.
2 - إسلامنا: ص 187 - 188.
2 - أبو نعيم الأصبهاني (ت / 430 هـ) في: الأربعين حديثا في المهدي.
3 - أحمد بن الحسين البيهقي (ت / 458 هـ) في: شعب الإيمان، ط 1، دار المعارف - الهند.
4 - الخوارزمي الحنفي (ت / 568 هـ) في: مقتل الإمام الحسين (عليه السلام)، كما في الإمام المهدي في نهج البلاغة.
5 - محيي الدين بن العربي (ت / 638 هـ) في: الفتوحات المكية، باب 366 في المبحث الخامس والستين كما في اليواقيت والجواهر للشعراني.
6 - كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي (ت / 652 هـ) في: مطالب السؤول.
7 - سبط ابن الجوزي الحنبلي (ت / 654 هـ)، في: تذكرة الخواص.
8 - محمد بن يوسف أبو عبد الله الكنجي الشافعي (المقتول سنة / 658 هـ) في كتابه:
كفاية الطالب.
9 - الجويني الحموئي الشافعي (ت / 732 هـ) في: فرائد السمطين 2 / 337، طبع بيروت.
10 - نور الدين علي بن محمد بن الصباغ المالكي (ت / 855 هـ)، في: الفصول المهمة.
11 - جلال الدين السيوطي (ت / 911 هـ) في رسالته: إحياء الميت بفضائل أهل البيت (عليهم السلام).
12 - الشيخ حسن العراقي (ت بعد / 958 هـ) دفن قرب كوم الريش بمصر، كما في يواقيت الشعراني، في المبحث الستين.
13 - عبد الوهاب بن أحمد الشعراني الشافعي (ت / 973 هـ) في: اليواقيت والجواهر.
المسلسلات المعروف بالفضل المبين (1).
قال مصطفى الرافعي بعد ذكره لسبعة من علماء السنة الذين قالوا بولادة المهدي (عليه السلام): " وكثير غيرهم من علماء السنة الأجلاء الذين ذاع صيتهم ويذكرون بكل إعجاب وتقدير.
هؤلاء وكثير غيرهم ممن لا يتسع المقام لذكرهم يقولون بمقولة الإمامية من أن المهدي هو محمد بن الحسن العسكري وأنه حي.. ولا يجدون في مقولتهم هذه ما يناهض العقل، وبخاصة إذا اعتبرت حياة المهدي من الأمور الخارقة للعادة كالتي أجراها الله معجزة لبعض أنبيائه أو كرامة لبعض أوليائه، وذلك كحياة المسيح والخضر من الأتقياء وإبليس والدجال من الأشقياء " (2).
قال الشيخ محمد بن يوسف الكنجي الشافعي في كتابه " البيان في أخبار الزمان ":
" من الأدلة على كون المهدي حيا باقيا بعد غيبته وإلى الآن، أنه لا امتناع من بقائه بقاء عيسى بن مريم والخضر وإلياس من أولياء الله وبقاء الأعور الدجال وإبليس اللعين من أعداء الله تعالى وهؤلاء قد ثبت بقاوهم بالكتاب والسنة " (3).
وقال الشعراني في (اليواقيت والجواهر) عن الإمام (عليه السلام): " ومولده ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، وهو باق إلى أن يجتمع بعيسى بن مريم (عليه السلام)، وهكذا أخبرني الشيخ حسن العراقي... ووافقه على ذلك سيدي علي الخاص " (4).
____________
1 - راجع هذه الأسماء وغيرها في كتاب: دفاع عن الكافي، ثامر العميدي: 1 / 569 - 592، ويمكن أن نضيف لهذه الأسماء الدكتور مصطفى الرافعي صاحب كتاب (إسلامنا) فيكون هناك (129) عالما سنيا يقولون بولادة الإمام المهدي (عليه السلام).
2 - إسلامنا: ص 189 - 190.
3 - راجع نور الأبصار: ص 186.