الصفحة 252

فقلت: والله لأسوءنك، إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثم حيث يقع قضيبك.

قال: فانقبض.

تفرد به البزار من هذا الوجه، وقال: لا نعلم رواه عن حميد غير يونس بن عبدة، وهو رجل من أهل البصرة مشهور، وليس به بأس.

ورواه أبو يعلى الموصلي: عن إبراهيم بن الحجاج، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أنس فذكره. ورواه قرة بن خالد، عن الحسن، عن أنس فذكره.

وقال أبو مخنف: عن سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم قال.

دعاني عمر بن سعد فسرحني إلى أهله لأبشرهم بما فتح الله عليه وبعافيته، فأجد ابن زياد قد جلس للناس، وقد دخل عليه الوفد الذين قدموا عليه فدخلت فيمن دخل، فإذا رأس الحسين موضوع بين يديه، وإذا هو ينكت فيه بقضيب بين ثناياه ساعة.

فقال له زيد بن أرقم: ارفع هذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فوالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هاتين الثنيتين يقبلهما، ثم انفضخ الشيخ يبكي.

فقال له ابن زياد: أبكى الله عينك، فوالله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك.

قال: فنهض فخرج، فلما خرج قال الناس: والله لقد قال زيد بن أرقم كلاماً لو سمعه ابن زياد لقتله.

قال: فقلت ما قال؟ قالوا: مر بنا وهو يقول:


ملك عبد عبيداًفاتخذهم تليداً

أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة، وأمرتم ابن مرجانة فهو يقتل خياركم ويستعبد شرار كم، فبعداً لمن رضي بالذل. وقد روي من طريق أبي داود بإسناده عن زيد بن أرقم بنحوه. ورواه الطبراني من طريق ثابت عن زيد.

وقد قال الترمذي: حدثنا واصل بن عبد الأعلى، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير قال. لما جيء برأس عبيد الله بن زياد وأصحابه، فنصبت في المسجد في الرحبة فانتهيت إليهم وهم يقولون: قد جاءت قد جاءت، فإذا حية قد جاءت تتخلل الرؤوس حتى دخلت في منخري عبيد الله بن زياد، فمكثت هنيهة ثم خرجت فذهبت حتى تغيب. ثم قالوا: قد جاءت، قد جاءت، ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثاً. ثم قال الترمذي: حسن صحيح.


الصفحة 253
وأمر ابن زياد فنودي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فصعد المنبر فذكر ما فتح الله عليه من قتل الحسين الذي أراد أن يسلبهم الملك ويفرق الكلمة عليهم، فقام إليه عبد الله بن عفيف الأزدي.

فقال: ويحك يا ابن زياد!! تقتلون أولاد النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين! فأمر به ابن زياد فقتل وصلب.

ثم أمر برأس الحسين فنصب بالكوفة وطيف به في أزقتها، ثم سيره مع زحر بن قيس ومعه رؤوس أصحابه إلى يزيد بن معاوية بالشام، وكان مع زحر جماعة من الفرسان، منهم: أبو بردة بن عوف الأزدي، وطارق بن أبي ظبيان الأزدي، فخرجوا حتى قدموا بالرؤوس كلها على يزيد بن معاوية.

قال هشام: فحدثني عبد الله بن يزيد بن روح بن زنباع الجذامي، عن أبيه، عن الغاز بن ربيعة الجرشي من حمير.

قال: والله إني لعند يزيد بن معاوية بدمشق إذ أقبل زحر بن قيس فدخل على يزيد، فقال له يزيد: ويحك ما وراءك؟

فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله عليك ونصره، ورد علينا الحسين بن علي بن أبي طالب وثمانية عشر من أهل بيته، وستون رجلاً من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسلموا وينزلوا على حكم الأمير عبيد الله بن زياد أو القتال، فاختاروا القتال.

فغدونا إليهم مع شروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية حتى أخذت السيوف مأخذها من هام القوم، فجعلوا يهربون إلى غير مهرب ولا وزر، ويلوذون منا بالآكام والحفر، لواذاً كما لاذ الحمام من صقر.

فوالله ما كانوا إلا جزر جزور، أو نومة قائل، حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مزملة، وخدودهم معفرة، تصهرهم الشمس وتسفي عليهم الريح، زوارهم العقبان والرخم.

ولما وضع رأس الحسين بين يدي يزيد قال: أما والله لو إني صاحبك ما قتلتك، ثم أنشد قول الحسين بن الحمام المري الشاعر:


يفلقن هاماً من رجالٍ أعزّةٍعلينا وهم كانوا أعق وأظلما

قال أبو مخنف: فحدثني أبو جعفر العبسي قال: وقام يحيى بن الحكم -أخو مروان بن الحكم - فقال:


لهام بجنب الطف أدنى قرابةًمن ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل


الصفحة 254

سميةً أضحى نسلها عدد الحصىوليس لآل المصطفى اليوم من نسل

قال: فضرب يزيد في صدر يحيى بن الحكم وقال له: اسكت.

وقال محمد بن حميد الرازي حدثنا محمد بن يحيى الأحمري، ثنا ليث، عن مجاهد قال: لما جيء برأس الحسين فوضع بين يدي يزيد تمثل بهذه الأبيات:


ليت أشياخي ببدرٍ شهدواجزع الخزرج في وقع الأسل
فأهلّوا واستهلوا فرحاًثم قالوا لي هنياً لا تسل
حين حكت بفناء بركهاواستحر القتل في عبد الأسل
قد قتلنا الضعف من أشرافكموعدلنا ميل بدرٍ فاعتدل

قال مجاهد: نافق فيها، والله ثم والله ما بقي في جيشه أحد إلا تركه أي: ذمه وعابه.

وقال أبو مخنف: عن أبي حمزة الثمالي، عن عبد الله اليماني، عن القاسم بن بخيت، قال: لما وضع رأس الحسين بين يدي يزيد بن معاوية جعل ينكت بقضيب كان في يده في ثغره، ثم قال: إن هذا وإيانا كما قال الحصين ابن الحمام المري:


يفلقن هاماً من رجال أعزةٍعلينا وهم كادونا أعق وأظلما

فقال له أبو برزة الأسلمي: أما والله لقد أخذ قضيبك هذا مأخذاً لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشفه، ثم قال: إلا إن هذا سيجيء يوم القيامة وشفيعه محمد، وتجيء وشفيعك ابن زياد.

ثم قام فولى.

وقد رواه ابن أبي الدنيا، عن أبي الوليد، عن خالد بن يزيد بن أسد، عن عمار الدهني، عن جعفر.

قال: لما وضع رأس الحسين بين يدي يزيد وعنده أبو برزة، وجعل ينكت بالقضيب فقال له: ارفع قضيبك فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثمه.

قال ابن أبي الدنيا: وحدثني مسلمة بن شبيب، عن الحميدي، عن سفيان، سمعت سالم بن أبي حفصة قال: قال الحسن: لما جيء برأس الحسين جعل يزيد يطعن بالقضيب.

قال سفيان: وأخبرت أن الحسن كان ينشد على إثر هذا:


سمية أمسى نسلها عدد الحصىوبنت رسول الله ليس لها نسل


الصفحة 255
وأما بقية أهله ونسائه فإن عمر بن سعد وكّل بهم من يحرسهم ويكلؤهم، ثم أركبوهم على الرواحل في الهوادج، فلما مروا بمكان المعركة ورأوا الحسين وأصحابه مطرحين هنالك بكته النساء، وصرخن، وندبت زينب أخاها الحسين وأهلها. فقالت وهي تبكي:

يا محمداه، يا محمداه، صلى عليك الله، ومليك السماء، هذا حسين بالعراء، مزمل بالدماء، مقطع الأعضاء يا محمده، وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة، تسفي عليها الصبا.

قال: فأبكت والله كل عدوٍ وصديق.

قال قرة بن قيس: لما مرت النسوة بالقتلى صحن ولطمن خدودهن.

قال: فما رأيت من منظر من نسوة قط أحسن من منظر رأيته منهن ذلك اليوم، والله إنهن لأحسن من مهابيرين.

وذكر الحديث كما تقدم.

ثم قال: ثم ساروا بهم من كربلاء حتى دخلوا الكوفة.

قال: دخلت زينب ابنة فاطمة في أرذل ثيابها قد تنكرت وحفّت بها إماؤها، فلما دخلت على عبيد الله بن زياد قال: من هذه؟

فلم تكلمه.

فقال بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة.

فقال: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وكذّب أحدوثتكم.

فقالت: بل الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد وطهرنا تطهيراً لا كما تقول، وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر.

قال: كيف رأيت صنع الله بأهل بيتكم؟

فقالت: كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فيحاجونك إلى الله.

فغضب ابن زياد واستشاط.

فقال له عمرو بن حريث: أصلح الله الأمير! إنما هي امرأة، وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها؟ إنها لا تؤاخذ بما تقول ولا تلام على خطل.

وقال أبو مخنف: عن المجالد، عن سعيد: إن ابن زياد لما نظر إلى علي بن الحسين زين العابدين قال لشرطي: أنظر أأدرك هذا الغلام، فإن كان أدرك فانطلقوا به فاضربوا عنقه؟

فكشف إزاره عنه فقال: نعم!


الصفحة 256
فقال: اذهب به فاضرب عنقه.

فقال له علي بن الحسين: إن كان بينك وبين هؤلاء النسوة قرابة فابعث معهن رجلاً يحافظ عليهن.

فقال له ابن زياد: تعال أنت! فبعثه معهن.

قال أبو مخنف: وأما سليمان بن أبي راشد فحدثني عن حميد بن مسلم قال: إني لقائم عند ابن زياد حين عرض عليه علي بن الحسين، فقال له: ما اسمك؟

قال: أنا علي بن الحسين.

قال: أولم يقتل الله علي بن الحسين؟

فسكت.

فقال له ابن زياد: مالك لا تتكلم؟

قال: كان لي أخ يقال له: علي أيضا، قتله الناس.

قال: إن الله قتله.

فسكت.

فقال: مالك لا تتكلم؟

فقال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}[الزمر: 42]

]{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلا بِإذن اللَّهِ}[آل عمران: 145].

قال: أنت والله منهم، ويحك!! انظروا هذا أدرك؟ والله إني لأحسبه رجلاً.

فكشف عنه مري بن معاذ الأحمري فقال: نعم قد أدرك.

فقال: اقتله.

فقال علي بن الحسين: من يوكل بهذه النسوة؟

وتعلقت به زينب عمته فقالت: يا ابن زياد حسبك منا ما فعلت بنا، أما رويت من دمائنا؟

وهل أبقيت منا أحداً؟

قال: واعتنقته وقالت: أسألك بالله إن كنت مؤمناً إن قتلته لما قتلني معه.

وناداه علي فقال: يا ابن زياد!! إن كان بينك وبينهن قرابة فابعث معهن رجلاً تقياً يصحبهن بصحبة الإسلام.