وهكذا بدأ التحالف القرشي الجديد يظهر على السطح، وكان هذا التحالف بحاجة الى غطاء يبرّر التمرد على السلطة الجديدة، وبما أن المطالب التي طرحها الحلف على الخليفة لم تكن تمتلك المسوّغ القانوني الذي يبيح لها ذلك، فقد قرر المتحالفون تبنّي نظرية تبدو أكثر قبولا عند الناس- وبخاصة الذين كانوا بعيدين عن الأحداث- فكان الطلب بدم الخليفة المقتول هو أفضل وسيلة لتحقيق ذلك، ومن العجب أن من بين اُولئك الذين طلبوا القصاص من قتلة عثمان، عدد كبير من الخاذلين لعثمان، بل ومن المحرّضين عليه! ولقد اعترف بعض زعماء الحلف الجديد بذلك، فقد روي أن الزبير قال في ملأ من الناس: هذا جزاؤنا من علي! قمنا له في أمر عثمان حتى قُتل، فلما بلغ بنا ما أراد، جعل فوقنا من كنّا فوقه!
وقال طلحة: ما اللّوم علينا، كنا معه أهل الشورى ثلاثة، فكرهه أحدنا- يعني سعداً- وبايعناه، فأعطيناه ما في ايدينا، ومنعنا ما في يده، فأصبحنا وقد أخطأنا اليوم ما رجوناه أمس، ولا نرجو غداً ما أخطأنا اليوم(2).
بدء التمرد
بعد أن تحقق زعماء التحالف الجديد من نوايا الخليفة، وأدركوا أنهم لا يستطيعون أن يثنوه عن السياسة التي يريد اتباعها، بدأوا تحركهم بشكل عملي، وكان الأمر يتطلب تنفيذ خطة العصيان خارج المدينة المنورة، لأن
____________
1- شرح نهج البلاغة 7: 38.
2- شرح نهج البلاغة 7: 42.
قالوا: يا أمير المؤمنين، فمر بردّهما عليك. قال: ليقضي الله أمراً كان مفعولا...
وكان التنصل من البيعة ونكثها أول خطوة لبدء التمرد، إذ أن طلحة والزبير ما كادا يخرجان من المدينة الى مكة، حتى "لم يلقيا أحداً إلاّ وقالا له: ليس لعلي في أعناقنا بيعة، وإنما بايعناه مكرهين.
فبلغ علي (عليه السلام) قولهما، فقال: أبعدهما الله وأغرب دارهما! أما والله لقد علمت أنهما سيقتلان أنفسهما أخبث مقتل، ويأتيان من وردا عليه بأشأم يوم، والله ما العمرة يريدان، ولقد أتياني بوجهَي فاجرين، ورجعا بوجهي غادرين ناكثين، والله لا يلقيانني بعد اليوم إلاّ في كتيبة خشناء يقتلان فيها أنفسهما، فبعداً لهما وسحقاً(1).
____________
1- شرح نهج البلاغة 1: 232، أنساب الاشراف 3: 22.
عائشة والتحالف
كان التحالف الجديد بحاجة الى عناصر اُخرى مؤثرة في الرأي العام الاسلامي يعطي لحركته غطاء مقبولا عند الناس، وكانت اُم المؤمنين عائشة خير عنصر يحتاجه هذا التحالف، فقد كانت اُم المؤمنين عائشة قد بدأت تتصدى للأحداث السياسية المهمة في خلافة عثمان، وكانت مؤهلة لذلك، لمنزلتها -كونها زوج النبي- ولما كانت تمتلك من مواهب اُخرى، كقوة الشخصية وفصاحة المنطق. وكانت عند مقتل عثمان في مكة، فقد مرّ بنا سابقاً أن الطبري قد روى عن سيف بأن بعض المسلمين قد جاءوا الى عائشة ورجوها أن تلغي زيارتها للبيت الحرام وتتولى مدافعة الناس وردهم عن عثمان، وأنها اعتذرت خوفاً من أن يصيبها ما أصاب اُم حبيبة!
لكن المؤرخين -ومن بينهم الطبري- قد أوردوا رواية معاكسة لرواية سيف عن موقف عائشة من عثمان، فقد قالوا -واللفظ للبلاذري-:
لما اشتد الأمر على عثمان أمر مروان بن الحكم وعبدالرحمان بن عتاب ابن اُسيد; فأتيا عائشة وهي تريد الحج، فقالا لها: لو أقمت، فلعل الله يدفع بك عن هذا الرجل. فقالت: قد قرّبت ركابي وأوجبت الحج على نفسي; و والله لا أفعل، فنهض مروان وصاحبه ومروان يقول:
وحرّق قيس عليَّ البلاد | حتى إذا اضطرمت أجذما |
فقالت عائشة: يا مروان! وددت والله أنه في غرارة من غرائري هذه، وإني طوّقت حمله حتى اُلقيه في البحر.
ومرّ عبدالله بن عباس بعائشة وقد ولاّه عثمان الموسم، وهي بمنزل من
وقال ابن أبي الحديد المعتزلي:
قال كل من صنّف في السير والأخبار، إن عائشة كانت من أشدّ الناس على عثمان، حتى إنها أخرجت ثوباً من ثياب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فنصبته في منزلها وكانت تقول للداخلين عليها: هذا ثوب رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يَبلَ، وعثمان قد أبلى سنّته!
قالوا: أول من سمى عثمان نعثلا عائشة; والنعثل الكثير شعر اللحية والجسد، وكانت تقول: اقتلوا نعثلا، قتل الله نعثلا(2).
وروى المدائني في كتاب (الجمل) قال:
لما قُتل عثمان كانت عائشة بمكة، وبلغ قتله إليها وهي بشَراف، فلم تشُك في أن طلحة هو صاحب الأمر، وقالت: بُعداً لنعثل وسحقاً! إيه ذا الاصبع! إيه أبا شبل! إيه يابن عم، لكأني أنظر الى إصبعه وهو يبايع له، حثّوا الابل ودعدعوها(3).
كما روى الطبري عن عمر بن شبة بسنده قال: خرجت عائشة(رض) وعثمان محصور، فقدم عليها مكة رجل يقال له أخضر، فقالت: ما صنع الناس؟ فقال: قتل عثمانُ المصريّين! قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، أيقتل قوماً
____________
1- أنساب الأشراف 6: 195، تاريخ الطبري 4:، الطبقات الكبرى 5: 36،العقد الفريد 4: 229، تاريخ المدينة 4: 1172.
2- قال ابن منظور: ونعثل رجل يهودي كان بالمدينة، قيل شُبّه به عثمان(رض)... وشاتمو عثمان يسمونه نعثلا... وفي حديث عائشة: اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا، تعني عثمان. لسان العرب 14:198.
3- شرح نهج البلاغة 6: 215.
كما روى البلاذري بسنده الى الزهري قال: وقد كانت عائشة واُم سلمة حجَّتا ذلك العام، وكانت عائشة تؤلب على عثمان، فلما بلغها أمره وهي بمكة، أمرت بقبّتها فضُربت في المسجد الحرام، وقالت: إني أرى عثمان سيشأم قومه كما شأم أبو سفيان قومه يوم بدر!(2).
ونقل ابن أبي الحديد عن أبي مخنف قوله: وقد روي من طرق مختلفة أن عائشة لما بلغها قتل عثمان بمكة، قالت: أبعده الله، ذلك بما قدَّمت يداه وما الله بظلام للعبيد.
فيرشح مما سبق أن عائشة كانت من أشد المحرضين على عثمان(3). والداعين الى قتله، وكانت ترجو انتقال الخلافة الى ابن عمها طلحة، إلاّ أن الاُمور قد سارت بغير الاتجاه الذي تمنته، ونال الخلافة علي بن أبي طالب، فانقلبت عائشة من محرّض على دم عثمان الى مطالب به، وانضمت الى التحالف الجديد، بعد أن كتب إليها طلحة والزبير:
أن خذّلي الناس عن بيعة علي، وأظهري الطلب بدم عثمان، وحمّلا الكتاب مع ابن اُختها عبدالله بن الزبير. فلما قرأت الكتاب كاشفت وأظهرت الطلب بدم عثمان(4).
____________
1- تاريخ الطبري 4: 449.
2- أنساب الأشراف 6: 212.
3- شرح نهج البلاغة 6: 216.
4- شرح نهج البلاغة 6: 216.
المسير الى البصرة
لخّص القاضي ابن العربي دوافع خروج المتحالفين الى البصرة بقوله:
ويروى أن تغيّبهم قطعاً للشغب بين الناس، فخرج طلحة والزبير وعائشة اُم المؤمنين(رضي الله عنهم) رجاء أن يرجع الناس الى اُمّهم، فيرعوا حرمة نبيهم، واحتجوا عليها بقوله تعالى (لا خَيرَ في كثير مِنْ نَجواهُم إلاّ مَنْ أَمرَ بصدقة أو مَعروف أو إصلاح بينَ الناسِ).
وقد خرج النبي (صلى الله عليه وآله) في الصلح وأرسل فيه، فرجت المثوبة، واغتنمت الفرصة، وخرجت حتى بلغت الأقضية مقاديرها(1).
أما البلاذري فروى قصة خروج المتحالفين الى البصرة بسنده الى الزهري قال: صار طلحة والزبير الى مكة، وابن عامر بها يجرّ الدنيا، قد قدم من البصرة، وبها يعلى بن اُميّة - وهي اُمه وأبوه اُمية تميمي- ومعه مال كثير قدم به من اليمن، وزيادة على أربعمائة بعير.
فاحتجوا عند عائشة فأداروا الرأي فقالوا: نسير الى المدينة فنقاتل علياً.
فقال بعضهم: ليست لكم بأهل المدينة طاقة.
قالوا: فنسير الى الشام فيه الرجال والأموال، وأهل الشام شيعة لعثمان، فنطلب بدمه ونجد على ذلك أعواناً وأنصاراً ومشايعين! فقال قائل منهم: هناك معاوية، وهو والي الشام والمطاع به، ولن تنالوا ما تريدون، وهو أولى منكم بما تحاولون لأنه ابن عم الرجل. فقال بعضهم: نسير الى العراق; فلطلحة
____________
1- العواصم من القواصم: 155.
فاجتمعوا على المسير الى البصرة، وأشار عبدالله بن عامر عليهم بذلك وأعطاهم مالا كثيراً قوّاهم به، وأعطاهم يعلى بن اُمية التميمي مالا كثيراً وإبلا.
فخرجوا في تسعمائة رجل من أهل المدينة ومكة، ولحقهم الناس حتى كانوا ثلاثة آلاف رجل.
فبلغ علياً مسيرهم، ويقال: إن اُم الفضل بنت الحارث بن حزن كتبت به الى علي، فأمر علي سهل بن حنيف الأنصاري، وشخص حتى نزل ذا قار.
وقال البلاذري أيضاً:
وكان بمكة سعيد بن العاص بن اُمية، ومروان بن الحكم بن أبي العاص ابن اُمية، وعبدالرحمان بن عتاب بن اُسيد بن أبي العاص بن اُمية، والمغيرة بان شعبة الثقفي، قد شخصوا من المدينة; فأجمعوا على فراق علي والطلب بدم عثمان، والمغيرة يحرّض الناس ويدعوهم الى الطلب بدمه، ثم صار الى الطائف معتزلا للفريقين معاً. فجعلت عائشة تقول: إن عثمان قتل مظلوماً، وأنا أدعوكم الى الطلب بدمه وإعادة الأمر شورى.
وكانت اُم سلمة بنت أبي اُمية بمكة، فكانت تقول: أيها الناس، آمركم بتقوى الله، وإن كنتم تابعتم علياً فارضوا به، فوالله ما أعرف في زمانكم خيراً منه(1).
وهكذا بدأ التحالف الذي صار يضم خصوم الأمس مسيره الى البصرة للانتقاض على الحكم الجديد بدعوى تأليف الكلمة والقضاء على الشغب
____________
1- أنساب الأشراف 3: 21، 23، وانظر الطبري 4: 452 عن أحمد بن زهير، تاريخ اليعقوبي2:179، مروج الذهب للمسعودي 3: 182.
ولقد كان في أفراد التحالف من يعرف أن قتلة عثمان الحقيقيين هم الذين كانوا يحرضون على قتله، لذا قال سعيد بن العاص لمروان بن الحكم عندما لقيه بذات عرق وهم في طريقهم الى البصرة: أين تذهبون وثأركم على أعجاز الابل؟! اقتلوهم ثم ارجعوا الى منازلكم لا تقتلوا أنفسكم.
قالوا: بل نسير فلعلنا نقتل قتلة عثمان جميعاً; فخلا سعيد بطلحة والزبير، فقال: إن ظفرتما، لمن تجعلان الأمر؟ اصدقاني. قالا: لأحدنا، أيّنا اختاره الناس. قال: بل اجعلوه لولد عثمان فانكم خرجتم تطلبون بدمه. قالا: ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأبنائهم! قال: أفلا أراني أسعى لاخراجها من بني عبدمناف(1).
وهكذا بدأت تتكشف الأهداف الحقيقية لبعض أعضاء هذا التحالف، وإن ما فعله مروان بن الحكم أثناء معركة الجمل، حينما رمى طلحة بسهم قاتل وقال: لا أطلب بثأري بعد اليوم، لأصدق دليل على حقيقة تلك النوايا.
الحوأب
من الاُمور التي تبعث على الاستغراب حقاً، أن ينبري القاضي ابن العربي لينسف قضية الحوأب جملة وتفصيلا، بقوله:
فإن قيل: لم خرجت عائشة(رض) وقد قال (صلى الله عليه وآله) لهم في حجة الوداع: "هذه، ثم ظهور الحصر". قلنا: حدث حديثين امرأة، فإن أبت فأربعة، يا عقول
____________
1- الطبري 4: 453 عن عمر بن شبة.
وأما الذي ذكرتم من الشهادة على ماء الحوأب، فقد بؤتم في ذكرها بأعظم حوب! ما كان شيء قط مما ذكرتم! ولا قال النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك الحديث! ولا جرى ذلك الكلام! ولا شهد أحد بشهادتهم! وقد كتبت شهادتكم بهذا الباطل وسوف تُسألون(1).
فابن العربي يتهم كل المحدثين والمؤرخين الذين أخرجوا حديث الحوأب ويصفهم بقلة العقول، ويحمّلهم أوزار ذلك!
لكن الذين أثبتوا قضية الحوأب أكثر من أن يُحصوا، وقد أخرجوا هذا الحديث وأرسلوه إرسال المسلمات، بل إنه يكاد يكون من المسائل المتواترة تماماً. ذكر ابن أبي الحديد أن أبا مخنف قال:
حدثنا إسماعيل بن خالد، عن قيس بن حازم، وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وروى جرير بن يزيد عن عامر الشعبي، وروى محمد ابن إسحاق عن حبيب بن عمير، قالوا جميعاً:
لما خرجت عائشة وطلحة والزبير من مكة الى البصرة، طرقت ماء الحوأب -وهو ماء لبني عامر بن صعصعة- فنبحتهم الكلاب، فنفرت صعاب إبلهم، فقال قائل منهم: لعن الله الحوأب فما أكثر كلابها!
فلما سمعت عائشة ذكر الحوأب، قالت: أهذا ماء الحوأب؟ قالوا: نعم.
____________
1- العواصم من القواصم: 159.
فسألوها ما شأنها، ما بدا لها! فقالت: إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "كأنّي بكلاب ماء يدعى الحوأب قد نبحت بعض نسائي"، ثم قال لي: "إياك يا حميراء أن تكونيها".
فقال الزبير: مهلا يرحمك الله، فإنا قد جُزنا ماء الحوأب بفراسخ كثيرة، فقالت: أعندك من يشهد بأن هذه الكلاب النابحة ليست على ماء الحوأب؟
فلفّق لها الزبير وطلحة خمسين أعرابياً جعلا لهم جعلاً، فحلفوا لها وشهدوا أن هذا الماء ليس بماء الحوأب. فكانت هذه أول شهادة زور في الإسلام، فسارت عائشة لوجهها!(1).
قال القرطبي تعليقاً على كلام ابن العربي حول قضية الحوأب:
والعجب من القاضي أبي بكر بن العربي كيف أنكر هذا الحديث في كتبه، منها في كتاب العواصم من القواصم، وذكر أنه لا يوجد أصلا، وأظهر العلماء المحدّثين بانكاره غباوة وجهلا. وشهرة هذا الحديث أوضح من فلق الصبح!(2).
يوم الجمل الأصغر
كانت حرب الجمل التي استتبعت خروج المتحالفين الى البصرة على يومين، اُولاهما المعركة التي دارت بين المتحالفين من جهة وبين والي
____________
1- شرح نهج البلاغة 9: 310، الطبري 4: 469 عن احمد بن زهير، انساب الأشراف 3: 24 وفيه أن الذي جاء بالشهود هو عبدالله بن الزبير.
2- التذكرة في احوال الموتى: 621.
إن جمهور المؤلفين مالوا الى اعتماد رواية الطبري المطوّلة بطريق سيف بن عمر للأحداث، مع العلم بأن الطبري قد أورد روايات اُخرى مختصرة عن تلك الأحداث بغير طريق سيف، وهي تتفق الى حد بعيد جداً مع الروايات التي جاءت في المصادر التاريخية الاُخرى، إلاّ أنها لاقت الإعراض من قبل معظم المؤلفين قديماً وحديثاً، ومنهم القاضي ابن العربي الذي لخص لنا أحداث معركة الجمل الأصغر بقوله:
واحتل بهم أهل البصرة، فحرّض من كان بها من المتألبين على عثمان الناس، وقالوا: اخرجوا إليهم حتى تروا ما جاءوا إليه; فبعث عثمان بن حنيف حكيم بن جبلة، فلقي طلحة والزبير بالزابوقة، فقُتل حكيم، ولو خرج مسلماً مستسلماً لا مدافعاً، لما أصابه شيء، وأي خير كان له في المدافعة، وعن أي شيء كان يدافع وهم ما جاءوا مقاتلين ولا ولاة! وإنما ساعين في الصلح، راغبين في تأليف الكلمة، فمن خرج إليهم ودافعهم وقاتلهم، دافعوا عن مقصدهم، كما يُفعل في سائر الأسفار والمقاصد.
فلما وصلوا الى البصرة، تلقّاهم الناس بأعلى المربد مجتمعين، حتى لو رمي حجر لما وقع إلاّ على رأس إنسان، فتكلم طلحة، وتكلمت عائشة(رض)
وانحدروا إلى بني فهد; فرماهم الناس بالحجارة حتى نزلوا الجبل، والتقى طلحة والزبير وعثمان بن حنيف - عامل علي على البصرة- وكتبوا بينهم أن يكفوا عن القتال، ولعثمان دار الامارة والمسجد وبيت المال، وأن ينزل طلحة والزبير من البصرة حيث شاءوا، ولا يعرض بعضهم لبعض حتى يقدم علي.
وروي أن حكيم بن جبلة عارضهم حينئذ، فقُتل بعد الصلح(1).
هذا هو ملخص الأحداث عن مجيء أصحاب الجمل الى البصرة وما جرى فيها من أحداث قبل مجيء علي بن أبي طالب، كما يرويها لنا القاضي ابن العربي، ويقول عنها: انها صحاح الأخبار! وقبل أن اُناقش رواية القاضي ابن العربي هذه، أود أن أنقل ما أضافه الشيخ محب الدين الخطيب إليها من معلومات، لأنه رأى أن رواية ابن العربي المختصرة لا تشفي الغليل، فقال معلقاً عليها بقوله:
حفظ لنا الطبري وصفاً دقيقاً نقله سيف بن عمر التميمي عن شيخيه محمد وطلحة عن موقف أصحاب الجمل السلمي في هذه الوقعة، وإسراف حكيم بن جبلة في إنشاب القتال، قالا:
وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا حتى انتهوا الى مقبرة بني مازن، ثم حجز الليل بين الفريقين.
وفي اليوم التالي انتقل أصحاب الجمل الى جهة دار الرزق، وأصبح عثمان
____________
1- العواصم من القواصم: 155.
فتبين لنا من تعليق الخطيب على رواية ابن العربي - نقلا عن الطبري بطريق سيف- أن عثمان بن حنيف وحكيم بن جبلة هما المسؤولان عن نشوب القتال، فضلا عما تظهره لنا رواية محب الدين الخطيب عن حكيم بن جبلة من سوء خلق هذا الرجل الذي كان يسبّ اُم المؤمنين عائشة ولا يفرق في القتل بين الرجال والنساء، بينما يظهر لنا موقف أصحاب الجمل السلمي، ودعوة عائشة لايقاف القتال دون جدوى! وليس غريباً أن يتهم الخطيب حكيم بن جبلة ويصفه بهذه النعوت الشنيعة، فهو ليس إلاّ مقتفياً لأثر سيف ابن عمر الذي قال في وصف حكيم بن جبلة:
وكان حكيم بن جبلة رجلا لصاً، إذا قفل الجيوش خنس عنهم، فسعى في أرض فيغير على أهل الذمّة ويتنكر لهم ويفسد في الأرض، ويصيب ما يشاء ثم يرجع، فشكاه أهل الذمة وأهل القبلة الى عثمان، فكتب الى عبدالله بن عامر أن احبسه ومن كان مثله فلا يخرجن من البصرة حتى تأنسوا منه رشداً، فحبسه(2).
____________
1- العواصم من القواصم: هامش 262.
2- الطبري 4: 326.
حقيقة الأمر
قلنا إن جمعاً من المؤرخين -ومنهم الطبري- قد أخرجوا روايات عديدة عن حقيقة أحداث معركتي الجمل بغير رواية سيف التي تخالف جميع الروايات، لذا أجد من المستحسن أن نتابع الأحداث ابتداءً بوصول المتحالفين الى مشارف البصرة، حيث أخرج ابن أبي الحديد المعتزلي عن أبي مخنف بسنده الى ابن عباس "أن الزبير وطلحة أغذّا السير بعائشة حتى انتهوا الى حفر أبي موسى الأشعري -وهو قريب من البصرة- وكتبا الى عثمان بن حنيف الانصاري، وهو عامل علي (عليه السلام) على البصرة: أن أخلِ لنا دار الامارة! فلما وصل كتابهما اليه، بعث إلى الأحنف بن قيس، فقال له: إن هؤلاء القوم قدموا علينا ومعهم زوجة رسول الله، والناس إليها سراع كما ترى.
فقال الأحنف: إنهم جاؤوك بها للطلب بدم عثمان، وهم الذين ألّبوا على عثمان الناس وسفكوا دمه! وأراهم والله لا يزايلون حتى يُلقوا العداوة بيننا ويسكفوا دماءنا! وأظنهم والله سيركبون منك خاصة مالا قبل لك به إن لم تتأهب لهم بالنهوض إليهم فيمن معك من أهل البصرة، فإنك اليوم الوالي عليهم، وأنت فيهم مطاع; فسر إليهم بالناس، وبادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة، فيكون الناس لهم أطوع منهم لك(1).
ذكرنا فيما سبق بأن المتحالفين كانوا بحاجة الى شخصيات ذات تأثير جماهيري يدعم دعواهم، وأن عائشة اُم المؤمنين كانت خير من يمثل ذلك،
____________
1- شرح نهج البلاغة 9: 311.
قال: يا اُم المؤمنين، ما كبرت السن ولا طال العهد، وإن عهدي بك عام أول تقولين فيه وتنالين منه!
قالت: ويحك يا أحنف! إنهم ماصوه موص الاناء ثم قتلوه.
قال: يا اُم المؤمنين، إني آخذ بأمرك وأنت راضية، وأدعه وأنت ساخطة"(1).
وقد راسلت اُم المؤمنين عائشة شخصية مهمة اُخرى فيما بعد، فإنه "لما نزل علي (عليه السلام) بالبصرة، كتبت عائشة الى زيد بن صوحان العبيدي: من عائشة بنت أبي بكر الصديق، زوج النبي (صلى الله عليه وآله) الى ابنها الخالص زيد بن صوحان، أما بعد: فأقم في بيتك، وخذّل الناس عن علي، وليبلغني عنك ما اُحب، فإنك أوثق أهلي عندي، والسلام.
فكتب إليها: من زيد بن صوحان الى عائشة بنت أبي بكر، أما بعد: فإن الله أمرك بأمر، وأمرنا بأمر، أمرك أن تقرّي في بيتك، وأمرنا أن نجاهد، وقد أتاني كتابك، فأمرتني أن أصنع خلاف ما أمرني الله، فأكون قد صنعت ما أمرك الله
____________
1- الاستيعاب بهامش الاصابة 2: 192 ترجمة صخر بن قيس.
التفاوض
على الرغم من أن رواية ابن العربي عن الطبري بطريق سيف، ومن بعده الخطيب تظهر عثمان بن حنيف رجلا نزقاً ميالا الى الشر، فإن باقي المصادر تبرز مدى حكمة هذا الرجل وتأنّيه، فهو على الرغم من استماعه الى الأحنف ابن قيس -وهو المعروف بحلمه وسعة صدره- الذي كان يحرض عثمان بن حنيف على المبادرة الى قتال القوم قبل دخولهم البصرة، وقد تبعه في ذلك حكيم بن جبلة فقال مثل قول الأحنف من تحريض عثمان على المناجزة وأخذ زمام المبادرة من خصومه، وهذا في الحقيقة منطق عسكري سليم، إلاّ أن عثمان بن حنيف قرر التأني وعدم المبادرة بانشاب القتال، وكان جوابه للأحنف بن قيس: الرأي ما رأيت، لكنني أكره الشر، وأن أبدأهم به، وأرجو العافية والسلامة الى أن يأتيني كتاب أمير المؤمنين ورأيه فأعمل به.
وتبعاً لذلك فإنه لم يبدأ بشن الغارة على أصحاب الجمل، بل فعل ما يفعله الرجل الحكيم المسالم حين أرسل إلى خليفته بكتاب يخبره بما جرى، فأجابه الخليفة علي بن أبي طالب بكتاب جواباً عليه، يتضمن هو الآخر نفس الروحية في عدم المبادأة بالقتال، والاكتفاء بدعوة القوم الى الدخول في الطاعة والسلم، فكان مما جاء في كتابه:
____________
1- شرح نهج البلاغة 6: 226، الطبري 4: 476.
أما بعد: فإن البغاة عاهدوا الله ثم نكثوا، وتوجهوا الى مصرك، وساقهم الشيطان لطلب ما لا يرضى الله به، والله أشد بأساً وأشد تنكيلا، فإذا قدموا عليك فادعهم الى الطاعة والرجوع الى الوفاء بالعهد والميثاق الذي فارقونا عليه، فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا عندك، وإن أبوا إلاّ التمسك بحبل النكث والخلاف، فناجزهم القتال حتى يحكم الله بينك وبينهم وهو خير الحاكمين; كتابي هذا إليك من الربذة وأنا معجل المسير إليك إن شاء الله.
فلما وصل كتاب علي (عليه السلام) الى عثمان، أرسل الى أبي الأسود الدؤلي وعمران بن الحصين الخزاعي، فأمرهما أن يسيرا حتى يأتياه بعلم القوم، وما الذي أقدمهم. فانطلقا حتى إذا أتيا حفر أبي موسى وبه معسكر القوم، فدخلا على عائشة، فنالاها ووعظاها وأذكراها وناشداها الله، فقالت لهما: القيا طلحة والزبير، فقاما من عندها ولقيا الزبير فكلماه فقال لهما: إنا جئنا للطلب بدم عثمان وندعو الناس الى أن يردوا أمر الخلافة شورى ليختار الناس لأنفسهم.
فقالا له: إن عثمان لم يُقتل بالبصرة ليطلب دمه فيها، وأنت تعلم قتلة عثمان من هم وأين هم! وإنك وصاحبك وعائشة كنتم أشد الناس عليه وأعظمهم اغراء بدمه، فأقيدوا من أنفسكم، وأما إعادة أمر الخلافة شورى، فكيف وقد بايعتم علياً طائعين غير مكرهين! وأنت يا أبا عبدالله لم يُبعد العهد بقيامك دون هذا الرجل يوم مات رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنت آخذ قائم سيفك تقول: ما أحد أحق بالخلافة منه ولا أولى بها منه! وامتنعت من بيعة أبي بكر! فأين ذلك الفعل من هذا القول!
فقال لهما: إذهبا فالقيا طلحة، فقاما الى طلحة فوجداه أخشن الملمس،
كان المتحالفون يحاولون استمالة الرأي العام إليهم بظهورهم بمظهر المدافع عن الحق والمطالبة بدم الخليفة المقتول، حتى إنهم ولتحقيق تلك الغاية، اتهموا علي بن أبي طالب صراحة بقتل عثمان أو التواطؤ على قتله، وتناوبوا إلقاء الخطب على أهل البصرة لاستمالة قلوب أهلها إليهم وإيغار صدورهم على علي بن أبي طالب، واجتمع أهل البصرة يستمعون إليهم، فقام طلحة بن عبيدالله أولا فخطب فيهم، وقال بعد أن ذكر فضل عثمان: "وقد كان أحدث احداثاً نقمنا عليه، فأتيناه فاستعتبناه فأعتبنا، فعدا عليه امرؤ ابتز هذه الاُمة أمرها غصباً بغير رضا منها ولا مشورة فقتله! وساعده على ذلك قوم غير أتقياء ولا أبرار، فقُتل مُحرماً بريئاً تائباً. وقد جئناكم أيها الناس نطلب بدم عثمان، وندعوكم الى الطلب بدمه، فإن نحن أمكننا الله من قتلته قتلناهم به، وجعلنا هذا الأمر شورى بين المسلمين، وكانت خلافة رحمة للاُمة جميعاً، فإن كان أخذ الأمر من غير رضا من العامة ولا مشورة منها ابتزازاً، كان ملكاً عضوضاً وحدثاً كبيراً.
ثم قام الزبير فتكلم بمثل كلام طلحة.
فقام إليهما ناس من أهل البصرة فقالوا لهما: ألم تبايعا علياً فيمن بايعه! ففيم بايعتما ثم نكثتما!
فقالا: ما بايعناه، وما لأحد في أعناقنا بيعة، وإنما استكرهنا على بيعته! فقال ناس: قد صدقا وأحسنا القول وقطعا الثواب.
____________
1- شرح نهج البلاغة 9: 312.