إلا أن يعنينا هنا هو كشف موقف عمر العدائي تجاه آل البيت وبحضور عدد من خصومهم مثل أنس وسعد وعثمان والزبير و عبد الرحمن والذين من الصعب أن نحمل تواجدهم في هذا الوقت من قبيل الصدفة..
وحتى لا يتبادر إلى ذهن المسلم ما يشير إلى وجود موقف عدائي من قبل عمر للإمام علي حرص أنصار الخط الأموي على تبديد أي شك حول وجود أي خلاف بين الطرفين..
تأمل رواية مسلم عن ابن عباس يقول: وضع عمر بن الخطاب على سريره فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه قبل أن يرفع وأنا فيهم. قال فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي فالتفت إليه فإذا هو علي فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحدا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وذاك إني كنت أكثر أسمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر. وخرجت أنا وأبو بكر وعمر فإن كنت لأرجو ولأظن أن يجعلك الله معهما.. (21).
ويروي البخاري على لسان الإمام جوابا على سؤال ولده محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: أبو بكر. قلت ثم من؟ قال: ثم عمر. وخشيت أن يقول عثمان قلت ثم أنت. قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين..
ويلاحظ من هاتين الروايتين أنهما لا تهدفان فقط إلى إثبات رضا الإمام عن عمر ومودته له واعترافه بأفضليته عليه. وإنما تهدفان أيضا إلى إثبات نفس الموقف على أتباع الإمام علي وشيعته من الصحابة وحتى من آل البيت. إن هؤلاء الأشياع والأتباع يوالون عمر ويحبونه مما ينفي تبعا وجود أي خلاف أو عداء بين عمر وعلي..
____________
(21) مسند أحمد 1 / 49. وانظر البخاري.
عمر ومعاوية
إن الراصد لسيرة عمر يكتشف عدم وجود أية مواقف عدائية تجاه بني أمية وعلى رأسهم أبو سفيان ومعاوية ولده. بل من الممكن للراصد أن يجد العكس من ذلك. فقد قام عمر بوقف نصيب المؤلفة قلوبهم الذي كان يعطى من الزكاة على عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) وعهد أبي بكر وأصبح بالتالي معاوية وأبوه كبقية المسلمين بعد أن كانا من المؤلفة قلوبهم.. (22).
ولم يقف الأمر عند حد تحرير معاوية وأبوه من إطار المؤلفة قلوبهم ورفعه إلى درجة المسلمين. بل تمادى عمر في موقفه المبارك لبني أمية وقام بتولية معاوية على الشام مكان أخيه يزيد.. (23).
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا فعل عمر ذلك..؟
ألم يجد بين المسلمين من هو أجدر منه بهذه المهمة..؟
وهل نسي عمر تاريخ بني أمية وتاريخ أبو سفيان في مواجهة الدعوة ومحاربة الرسول..؟
وما هي المقومات التي كان يملكها معاوية حتى يسلمه الشام..؟
هل كان من المهاجرين..؟
هل كان من المجاهدين..؟
هل كان من المقربين للرسول (صلى الله عليه وسلم).
هل كان من أهل العلم..؟
بالطبع لم يكن من هؤلاء والثابت أنه. كان من الطلقاء.. (24)
____________
(22) أنظر الإستيعاب ترجمة معاوية.. وكتب التاريخ..
(23) أنظر الإصابة في تمييز الصحابة والإستيعاب ترجمة معاوية وانظر كتب التاريخ.
(24) كان معاوية وأبوه من الطلقاء. والطلقاء تعبير أطلقه الرسول صلى الله عليه وسلم لا على أهل مكة حين فتحها بقوله: اذهبوا فأنتم الطلقاء. والطلقاء كانوا من المؤلفة قلوبهم. والثابت عند أهل العلم أنه لم تصح في معاوية منقبة أي لم يذكر الرسول فيه شيئا حسنا. أنظر فتح الباري ج 7 / كتاب فضائل أصحاب رسول الله باب ذكر معاوية.
وانظر سنن النسائي وكتابه خصائص الإمام علي. ويذكر أن النسائي قتل على أيدي أهل الشام لرفضه =
وكيف بعمر على شدته في الحق وتقواه أن يقدم على مثل هذا الأمر..؟
يبدو لنا من خلال رصد علاقة عمر بمعاوية أن هناك شيئا غامضا يبلور علاقته به وهذا الشئ غير واضح في كتب التاريخ..
ربما يكون عمر قد أحس بضعفه في مواجهة خصومه فأراد أن يتحصن ببني أمية..
وربما أراد أن يضع حجر عثرة في طريق حركة آل البيت من بعده..
وربما يكون في الأمر شيئا آخر. إلا أن ما يعنينا قوله هو أن تولية معاوية على الشام لا يمكن اعتباره مجرد خطأ..
لقد أخذ الخط الأموي دفعته الأولى من عمر بتمكين معاوية على أرض الشام وبدأ يعد العدة لتحطيم العوائق التي تقف في طريقه وعلى رأسها دولة الخلافة..
ولا بد لنا من استقصاء الروايات التي تتعلق بموقف عمر من معاوية حتى يتبين لنا الأمر بصورة كثر وضوحا..
يروي ابن حجر: كان عمر إذا نظر إلى معاوية قال هذا كسرى العرب.. (25).
أما مناسبة هذا الكلام فيرويها ابن عبد البر: قال عمر إذ دخل الشام ورأى معاوية: هذا كسرى العرب. وكان قد تلقاه معاوية في موكب عظيم. فلما دنا منه قال له أنت صاحب الموكب العظيم. قال نعم يا أمير المؤمنين. قال ما يبلغني عنك من وقوف ذوي الحاجات ببابك..؟ قال مع ما يبلغك من ذلك. قال: ولم تفعل هذا..؟
قال نحن بأرض جواسيس العدو بها كثير فيجب أن نظهر من عز السلطان ما نرهبهم به. فإن أمرتني فعلت وإن نهيتني انتهيت فقال عمر لمعاوية: ما أسألك عن شئ إلا تركتني في مثل رواجب الضرس إن كان ما قلت حقا إنه لرأي أريب وإن
____________
= كتابه كتاب يثني فيه على معاوية ويجمع في مناقبه كما فعل مع الإمام علي. أنظر ترجمة النسائي في وفيات الأعيان لابن خلكان وغيره من كتب التراجم...
(25) أنظر الإستيعاب ومقدمة ابن خلدون.
والمتأمل في هذه الرواية يكتشف مدى تواطؤ عمر مع معاوية وتغاضيه عن انحرافاته الخطيرة. فكيف نوفق بين موقف عمر هذا وبين موقفه من الصحابة الآخرين الذين ولا هم على الأمصار وكان يوجعهم بدرته ويصادر أموالهم ويعزلهم عن وظائفهم..؟
وإذا ما تأملنا حجة معاوية بإرهاب العدو بعز السلطان فإننا نكتشف أنها حجة واهية وهي تضع عمر بين أموين:
إما أنه ساذج استغفله معاوية..
وإما أنه متواطئ معه..
وقول عمر لمعاوية لا آمرك ولا أنهاك إنما يرجح الأمر الثاني..
ولقد كان العرب يخرجون للغزو حفاة عراة رجالا وركبانا يواجهون الروم والفرس وينتصرون عليهم بدون أبهة الملك وعز السلطان..
وإذا كان عز السلطان يرهب العدو كما يدعي معاوية فمن الأولى أن يظهره عمر وهو الخليفة لا أن يظهره معاوية وهو الوالي من قبل عمر..
ويروي أن معاوية صحب عمر في رحلة الحج وكان في كامل هيئته فقال عمر بخ بخ إذ نحن خير الناس أن جمع لنا خير الدنيا والآخرة. حمى إذا جاء ذا طوى أخرج معاوية حلة فلبسها فوجد عمر منها ريحا كأنه ريح طيب. فهاجمه عمر:
فقال معاوية: إنما لبستها لأدخل بها على عشيرتي يا عم والله لقد بلغني أذاك ههنا وبالشام.. (27).
ومن الواضح من خلال هذه الرواية أن علاقة عمر بمعاوية تفوق كونها علاقة
____________
(26) أنظر الإستيعاب. ويذكر أن راتب معاوية السنوي بلغ عشرة آلاف دينار. وفي رواية بلغ راتبه الشهري ألف دينار.
(27) أنظر الإصابة ترجمة معاوية.
ويروى أن معاوية دخل على عمر وعليه حلة خضراء فنظر إليه الصحابة. فلما رأى ذلك عمر قام ومعه الدرة فجعل ضربا بمعاوية ومعاوية يقول الله الله يا أمير المؤمنين فيم فيم. فلم يكلمه حتى رجع فجلس في مجلسه. فقالوا له لم ضربت الفتى وما في قومك مثله؟
فقال ما رأيت إلا خيرا وما بلغني إلا خير ولكني رأيته وأشار بيده يعني إلى فوق فأردت أن أضع منه.. (28).
فتأمل قول عمر ما رأيت إلا خيرا وما بلغني إلا خير. أي أن سيرة معاوية ومواقفه محل رضا عمر التام والشئ الوحيد الذي استفز عمر في شخصية معاوية هو غروره فقام بضربه ليحط منه ويقضي على غروره.. فهل قضى عمر على غرور معاوية وحال بينه وبين تطلعاته..؟
وتلفت انتباهنا ملاحظة هامة من خلال هذه الرواية وهي قول جلساء عمر: لم ضربت الفتى وما في قومك مثله..؟
فمن الواضح أن أصحاب هذا القول هم من أنصار الخط الأموي. إذ كيف يجعلون معاوية لا يساويه أحد من الصحابة. وكيف يقبل عمر منهم هذا القول؟
إننا بعد عرض هذه الروايات لا نكون مبالغين إذا ما قلنا أن معاوية إنما هو من صناعة عمر. استظل به واحتمى بحمايته.
وإن عمر كان يدرك تماما مدى خطورة معاوية وأطماعه ولعله قد بلغه تحذير الرسول (صلى الله عليه وسلم) من بني أمية.. (29)
____________
(28) المرجع السابق (29) وردت عدة أحاديث تذم بني أمية على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم مثل قوله. هلاك أمتي على يدي غلمة من قريش. قال أبو هريرة إن شئت أن أسميهم بني فلان وبني فلان. وقوله يهلك الناس هذا الحي من قريش.
قالوا فما تأمرنا؟ قال: لو أن الناس اعتزلوهم. كما ورد عن الرسول قوله إن بني أمية هم الشجرة الملعونة في القرآن. أنظر الدر المنثور 4 / 191 وانظر البخاري كتاب الفتن...
إذن معاوية يتأهب للاستيلاء على الحكم..
وعمر يدرك ذلك ويحذر الصحابة منه قبل وفاته وكان يضرب عرض الحائط بتحذيرات الصحابة من معاوية أثناء حياته..
تأمل قول عمر: دعونا من ذم فتى من قريش. من يضحك في الغضب.
ولا ينال ما عنده من الرضا. ولا يؤخذ من فوق رأسه إلا من تحت قدميه.. (31).
وما كان عمر يقول مثل هذا الكلام لولا أن هناك اتجاه من بين الصحابة يذم معاوية ويحذر عمر منه. فهل أدرك عمر خطورة معاوية متأخرا..؟
إن الروايات التي بين أيدينا لا تقودنا إلى هذا الاستنتاج بالطبع..
عمر والاستخلاف
حين طعن عمر جعل الشورى في ستة يختار من بينهم من يخلفه وهؤلاء الستة هم طلحة والزبير و عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعثمان ثم الإمام علي..
وبالتأمل في سيرة الخمسة غير الإمام علي نجدهم لا يمكن بحال أن يتفقوا على الإمام بل هم من خصومه وهم في الأساس من أركان الخط القبلي الذي أوصل عمر للحكم.. فلماذا اختار عمر هؤلاء الستة وهو يعلم يقينا أنهم لن يجمعوا على الإمام علي ولن يرضى علي بأحد منهم..؟ (32).
ولقد سارت عملية الشورى بطريقة هزلية لتستقر في النهاية بالخلافة في أحضان الخط الأموي وكأنه أمر مدبر ومرسوم..
____________
(30) الإصابة ترجمة معاوية.
(31) أنظر الإستيعاب بهامش الإصابة.
(32) أنظر سيرة الخمسة وتبين مواقفهم من الرسول ومواقف الرسول منهم ومدى سيطرة الروح القبلية على مواقفهم وممارساتهم. في كتب التراجم.
ثلاثة مع عثمان وواحد مع علي فعبد الرحمن عندما مال لعثمان مال طلحة معه. (33).
وفي رواية أخرى انتهت النتيجة اثنين في مواجهة اثنين أي تعادلت الأصوات وهنا عرض عبد الرحمن على الإمام علي أن يبايع على كتاب الله وسنة رسوله وسنة الشيخين فأبى إلزامه بسنة الشيخين. فطلب من عثمان ذلك فوافق فأعلن بيعته (34).
والطريف في الأمر أن عثمان حين استخلف واستتب له الأمر خرج على الكتاب والسنة وسنة الشيخين وكفر به القوم حتى الذين رشحوه واختاروه..
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل عمل عمر هذا يطابق الشورى وروح الإسلام..؟
والجواب بالطبع لا. فقد كان اختيار عمر لمجموعة الشورى يقوم على أساس قبلي بحت ولم يكن وضع الإمام علي في هذه المجموعة سوى محاولة للتغطية على الهدف الحقيقي من وراء اختيار هذه المجموعة التي أشار البعض على عمر أن يضع ولده عبد الله فيها. (35).
لقد سن عمر للخط الأموي بهذا العمل سنة أتاحت له فرصة البروز والحصول على الشرعية من خلال عثمان.. واستثمار هذه السنة فيما بعد في ضرب فكرة الشورى في الإسلام ودعم نظام الوراثة..
وجعل الشورى في ستة أفراد متناقضين متنافرين فضلا عن كونه أمر مغرض
____________
(33) أنظر فتح الباري شرح صحيح البخاري ج 7 / 59 وما بعدها، وانظر كتب التاريخ.
(34) المرجع السابق.
(35) أنظر فتح الباري ج 7 / 67.
وإذا كان عمر وهو ينازع في حيرة من أمره يستخلف أو لا يستخلف مرددا إن لم أستخلف فلم يستخلف الذي هو خبر مني - أي الرسول - وإن أستخلف فقد استخلف أبو بكر. (36).
وقد انتهز فرصة حيرة عمر هذه رجل لم تكشف لنا الروايات من يكون. وقال له: استخلف عبد الله بن عمر..
فقال عمر: قاتلك الله. والله ما أردت الله بهذا. أستخلف من لم يحسن أن يطلق امرأته... (37).
إلا أن عمر مال إلى الاستخلاف في حدود مجموعة لن تحيد عن الخط القبلي الذي وضع أساسه مع أبي بكر وهي في النهاية سوف تستقر على واحد من أنصار هذا الخط ولن تتجه بحال إلى الحيدة عنه والاتجاه نحو علي..
وعلى الرغم من موقف عمر من ولده عبد الله وكونه صاحب شخصية ضعيفة تجعل منه عديم القدرة على اتخاذ القرار. على الرغم من ذلك جعله في أهل المشاورة جبرا لخاطره.
وقال عمر: إذا اجتمع ثلاثة على رأي وثلاثة على رأي فحكموا عبد الله بن عمر فإن لم ترضوا بحكمه فقدموا من معه عبد الرحمن بن عوف وإن ولي عثمان فرجل فيه لين وإن ولي علي فستختلف عليه الناس وإن ولي سعدا وإلا فليستعن به الوالي (38).
____________
(36) البخاري ومسلم.
(37) أنظر فتح الباري ج 7 / 67 وانظر تاريخ الخلفاء.
(38) المرجع السابق. والسؤال هنا لماذا لم يرشح عمر أبو ذر أو عمار مثلا بدلا من ولده..؟ وما يجب ذكر. هنا هو أن ابن عمر هذا رفض بيعة علي بعد عثمان وبايع معاوية وولده يزيد وقد أطال الله في عمره حتى لحق بالحجاج وكان يصلي خلفه ومعه أنس بن مالك. أنظر تاريخ ابن عمر في كتب التراجم..
يقول الإمام علي حول هذه الحادثة: لقد قرن بي عثمان.. وقال كونوا مع الأكثر. ثم قال كونوا مع عبد الرحمن بن عوف. وسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن. وعبد الرحمن صهر لعثمان.. وهم لا يختلفون. فإما أن يوليها عبد الرحمن عثمان أو يوليها عثمان عبد الرحمن (39).
ويبدو أن الإمام قد أقحم في أمر الشورى متضررا مع علمه الكامل بخبايا هذه اللعبة وكونها سوف تستقر على خط عمر الذي استحى على ما يبدو من تطبيق سنة صاحبه الذي استخلفه دون مشورة المسلمين فأراد أن يوسع دائرة الاستخلاف قليلا في حدود من يريد أن يستخلفه لتستقر في النهاية على واحد بعينه هو من يريده.
إن عمر كان يعلم مسبقا أن الأمر سوف يستقر في النهاية على اثنين. علي وعثمان ولأن علي لا يمثل مصالح القوم بل سوف يضربها فإن الأمر سوف يستقر لعثمان. وكأن عمر يريد أن يستخلف عثمان واخترع أمر الشورى ليموه على غايته (40).
يقول عمر: إن تولاها الأجلح لسار بهم على الطريق. فقال له ولده: فلم لا توله. قال: لا أريد أن أحملها حيا وميتا (4).
ولعل هذا القول يؤكد صحة الاستنتاج الذي توصلنا إليه فالأجلح هنا المقصود به الإمام علي.
____________
(39) تاريخ الطبري وانظر نهج البلاغة...
(40) هناك تصريح لعمر يؤكد هذا أنظر فتح الباري ج 7 / 67 وما بعدها.
(41) فتح الباري ج 7 / 68.
المحطة الرابعة
عثمان
ووضع حجر الأساس للخط الأموي
لقد تجاوز عثمان حدود الخط القبلي الذي رسمه من قبله أبي بكر وعمر وحصر هذا الخط في دائرة بني أمية.
وهو قد خالف الكتاب والسنة.
وضرب عرض الحائط بنصح الآخرين ولم يعبأ بأحد.
فهل كان مركز عثمان من القوة بحيث جعله يتمادى في موقفه هذا..؟.
أم أنه وجد الخط القبلي قد ترسخ وتمكن على ساحة الواقع ولم تعد هناك حاجة للتمويه أو المواربة..؟.
إن الضربات التي وجهت لخط آل البيت بقيادة الإمام علي بداية من عهد أبي بكر وحتى عهد عمر أضعفت من شوكة هذا الخط وقدراته. فقد كانت كل الضغوط مركزة عليه وكل العوائق تقف في طريقه لكونه يمثل الاتجاه الفاعل والوحيد الذي يقف في مواجهة الخط القبلي. فمن ثم فإن صدام الخط القبلي به أمر حتمي ومصيري.
فالخط القبلي لن يعيش إلا على حساب خط آل البيت..
وخط آل البيت ليس أمامه إلا التعايش مع الخط القبلي والاعتراف به أو قبول الفناء التدريجي كجماعة لها وجودها ولها أنصارها وليس كاتجاه له عقيدته وفكره المتميز.
ولقد عمل أبو بكر وعمر على تشتيت الصحابة الموالين للإمام في الأمصار حف لا يشكلوا بتواجدهم حوله قوة ضغط على الخط القبلي.
وعندما جاء عثمان وجد الظروف والأوضاع مهيأة لإعلان نتيجة الخط القبلي ووضع أساس الخط الأموي. فالخط القبلي من شأنه أن يضعف مع مرور الزمن ولا بد له من أن يتركز في النهاية في دائرة أقوى عائلة من عائلات هذا الخط.
عثمان والصحابة
وقف عثمان من الصحابة موقفين متناقضين:
موقف مؤيد ومناصر..
وموقف معاد مجاهر..
أما الذين أيدهم وناصرهم فهم الذين أيدوه وبايعوه ومهدوا له طريق الوصول للحكم وعلى رأسهم سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وهؤلاء قد أغدق عثمان عليهم العطاء وكافئهم أحسن مكافأة ليجمعوا ثروات طائلة بعد أن فتح الباب أمامهم على مصراعيه للثراء بلا حدود. (2).
ويبدو أن هؤلاء قد رضوا أن يكونوا من الرأسماليين على أن يكونوا من السياسيين. أي أنهم اختاروا الثراء على الحكم الذي تركوه لبني أمية.
أما الذين عاداهم فهم الذين صدعوا بالحق في وجهه وتحالفوا مع علي ضده وعلى رأسهم أبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود.
وموقفه من أبي ذر إنما يعد من أشد المواقف حدة وعداءا نظرا لشدة موقف أبي ذر من الخط الأموي بشكل عام ومن عثمان ومعاوية بشكل خاص.. ومن الخطأ
____________
(1) أنظر كتاب النزاع والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم للمقريزي ط القاهرة. وانظر تفاصيل الصراع بين البيتين في كتب التأريخ.
(2) مات الزبير وله الكثير من العقارات والأراضي منها إحدى عشر دارا بالمدينة. ودارين بالبصرة ودارا بالكوفة ودارا بمصر. ونزل أرضا تسمى الغابة اشتراها بسبعين ومائة ألف. وكان الزبير متزوجا أربعة نسوة. كان نصيب الواحدة منهن في ميراثه ألف ألف ومائتا ألف. أما ثروة عبد الرحمن بن عوف فهي أضعاف ذلك..
ويروي ابن عساكر أن قيمة ما ترك طلحة من المال والعقار ثلاثين ألف ألف درهم وترك من العين ألف ألف ومائتين ألف دينار أنظر ج 7 / 90.
إن الصدام بين أبي ذر وعثمان لم يكن وليد عصره وإنما كانت له جذوره من عصر أبي بكر وعمر حين بدأت عملية الانحراف عن خط الرسول صلى الله عليه وسلم. فإن أبا ذر الذي كان يصدع بالحق في مواجهة مشركي مكة ويلاقي ما يلاقي. لم يكن ليتوقف عن الصدع بالحق في عهد أبي بكر وعهد عمر وقد روى فيه الرسول ما روى. (3).
ومن هنا يتبين لنا أن الصدام بين أبي ذر وعثمان كان صداما عقائديا. بين عقيدة ملتزمة وعقيدة مخالفة..
بين صحابي موال لآل البيت ورمز بني أمية..
بين خط آل البيت وخط بني أمية..
وعلى هذا الأساس كان حكم عثمان على أبي ذر قاسيا فهو حكم على قدر الموقف الذي اتخذه أبو ذر. ألا وهو الحكم بالنفي..
وربما يكون عثمان هو أول من طبق سنة نفي القادة والمصلحين في تاريخ الحكام الطغاة الذين هيمنوا على بلاد المسلمين.
وموقف عثمان من عمار هو نفس موقفه من أبي ذر. فكلا من أبي ذر وعمار من أتباع الإمام وموقفهما من الخط الأموي واحد وثابت. فمن ثم فقد تصدى عثمان لعمار كما تصدى لأبي ذر وقرر نفيه ليحل محل أبو ذر الذي كان قد توفي لولا تدخل الإمام الذي نهر عثمان قائلا:
إتق الله. فإنك سيرت رجلا صالحا من المسلمين فهلك في تسييرك. ثم أنت الآن تريد أن تنفي نظيره (4).
وكانت النتيجة أن هدد عثمان الإمام علي بالنفي قائلا له: أنت أحق بالنفي منه. وكان رد الإمام: إفعل إن شئت ذلك (5).
____________
(3) قال الرسول صلى الله عليه وسلم في قبيلة أبي ذر: غفار غفر الله لها. أنظر سيرته في كتب التراجم..
(4) أنظر البداية والنهاية لابن كثر ج 7 / 173 وما بعدها وانظر الطبري وابن عساكر ومروج الذهب.
(5) أنظر المراجع السابقة وطبقات ابن سعد والكامل لابن الأثير.
ويروى أنه حين بويع عثمان خطب عمار في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر قريش أما إذا صرفتم هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم ههنا مرة وههنا مرة. فما أنا بآمن من أن ينزعه الله منكم فيضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهله (7).
وقام المقداد فقال: ما رأيت مثل ما أوذي به أهل هذا البيت بعد نبيهم.
فتصدى له عبد الرحمن بن عوف قائلا: وما أنت وذاك يا مقداد بن عمرو.؟.
فقال المقداد: إني والله لأحبهم لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم وإن الحق معهم وفيهم. يا عبد الرحمن. أعجب من قريش - وإنما تطولهم على الناس بفضل أهل هذا البيت - قد اجتمعوا على نزع سلطان رسول الله بعده من أيديهم. وأيم الله يا عبد الرحمن لو أجد على قريش أنصارا لقاتلتهم كقتالي إياهم مع النبي يوم بدر (8).
ولقد تصدى عبد الله بن مسعود لعثمان وحرض عليه المسلمين وكان على الكوفة يعظ الناس ويعلمهم كتاب الله فعزله عثمان وأرسل مكانه الوليد بن عقبة فاصطدم به ابن مسعود وأسمعه كلاما شديدا في حق عثمان. ثم رحل إلى المدينة تاركا الكوفة في وداع أهلها (9).
وفي المدينة وقع صدام بينه وبين عثمان الذي أمر زبانيته فضربوه حتى دق ضلعه ثم أمر بقطع رزقه. مما دفع بالإمام علي إلى التصدي له وحمل ابن مسعود إلى بيته ليكون تحت رعايته (10).
____________
(6) أنظر المراجع السابقة.
(7) أنظر المراجع السابق.
(8) أنظر المراجع السابق.
(9) أنظر المراجع السابق.
(10) أنظر المراجع السابق.
عثمان وعلي
كان تعايش الإمام علي مع أبي بكر وعمر تعايش المحافظ والمدافع. فقد كانت الضغوط الموجهة إليه تتركز على دوره كممثل شرعي للأمة وكقائد لتيار آل البيت الذي يضم الكثير من كبار الصحابة. وقد تنازل الإمام عن هذا الدور حفاظا على وحدة الأمة. لكنه لم يتنازل عن المبدأ الذي ورثه عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
أي أن الإمام تنازل عن السلطة ولم يتنازل عن الفكرة.
تنازل عن الحكم ولم يتنازل عن الدعوة. فهو قد أفسح الطريق للخط القبلي ليحكم لكنه لم يفسح له الطريق ليعبث بالإسلام.
ويبدو أن الخليفتين أبو بكر وعمر لم يكونا من المتحرشين بهذا الجانب. جانب الإسلام فقد احترم كل منهما قدرات الإمام العلمية وأقرا بتفوقه عليهما.
وهذا لا يعني أن صورة الإسلام كانت سوية ومستقيمة بشكل كامل في عهد الخليفتين وإنما كان هناك انحراف. لكنه لم يكن كبيرا بالقدر الذي يستفز الإمام ويدفعه إلى الصدام به. وما كان يقلق الإمام هو ما سوف يترتب على هذا الانحراف في المستقبل.
وعندما جاء عثمان برز الانحراف بصورة تجاوزت الحدود التي وقف عندها الشيخان وتعدى حدود الحكم ليصل إلى الإسلام.
وهنا تغير موقف الإمام وشيعته وانتقل بهم من المقاومة السلبية إلى المقاومة الإيجابية. وتصدى لعثمان وبني أمية الذين رفعوا رايتهم لأول مرة بعد سقوطهم على أيدي الرسول حين فتح مكة.
لقد كان ظهور بني أمية في عهد عثمان بداية لتحول الأمة إلى طريق الجاهلية وبداية لظهور إسلام آخر مناقض لإسلام آل البيت ومعاد له ومعلنا هذا العداء.
____________
(11) أنظر المراجع السابق
لقد انتهز بني أمية فرصة وصول عثمان للحكم وأحاطوا به موحدين صفوفهم للثأر والانقضاض على بني هاشم ممثلين في آل البيت تحت زعامة الإمام علي.
وفي مواجهة وضع كهذا لا بد على الإمام علي أن يعلن المواجهة والتصدي لا أن يلتزم بالمهادنة والتعايش السلبي كما كان حالة مع أبي بكر وعمر.
ومما تقدم تتضح لنا طبيعة العلاقة بين الإمام وعثمان وطبيعة الموقف الذي تبناه في مواجهة سياساته وممارساته.
فقد كان موقفه من أبي بكر وعمر موقف الموجه الشرعي أمام تجاوزاتهم للنصوص أما موقفه من عثمان فهو موقف شرعي سياسي تجاوز الحدود النظرية إلى الحدود العملية.
يقول الإمام في عثمان:.. إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه. وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع. إلى أن انتكث فتله وأجهز عليه عمله وكبت به بطنته (12).
والإمام هنا يهاجم عثمان ويتهمه بالغرور والتكبر والتواطئ مع بني أمية وتبديد مال المسلمين على قومه الذين فتحت أمامهم الأبواب على مصراعيها ليحثو من هذا المال مشبها إياهم بالإبل التي ترعى في النبات وقت الربيع وتأكله بشراهة وملء الفم.
وليس بعد هذا التشبيه الدقيق من تشبيه يصور حال عثمان مع بني أمية.
وحالهم مع أموال المسلمين.
ولم يكن هذا حال سابقيه. فقد كان على الرغم من موقفهما من النصوص ومن آل البيت يلتزمان بسياسة التقشف على أنفسهما ويحرصان على صيانة المال العام ولم تكن لهما ميول للتحصن والاحتماء بقومهما كما فعل عثمان.
____________
(12) نهج البلاغة ج 1 / خطبة رقم 3.
يقول الإمام حين آل الأمر لعثمان: لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة التمسا لأجر ذلك وفضله وزهدا فيما تنافستموه من زخرفة وزبرجه (13).
وفي هذا القول دلالة على موقف الإمام الثابت من الخلفاء. ذلك الموقف المبنى على التضحية بشخصه من أجل صالح الإسلام والمسلمين. فإذا ما حدث مساس بمصالح المسلمين أو مساس بالإسلام فإن الإمام لا يقف ساكنا وهو ما نراه بوضوح من خلال مواقفه من عثمان.
وحين أصدر عثمان قراره بنفي أبي ذر نادى في الناس أن لا يكلم أحدا أبا ذر ولا يشيعه ضرب الإمام بقرار عثمان هذا عرض الحائط وخرج يشيعه إلى الربذة ومعه عقيل أخوه والحسن والحسين وعمار بن ياسر.
يقول الإمام في وداع أبي ذر: يا أبا ذر إنك غضبت لله فارج من غضبت له.
إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك. فاترك في أيديهم ما خافوك عليه. واهرب منهم بما خفتهم عليه. فما أحوجهم إلى ما منعتهم. وما أغناك عما منعوك؟.
وستعلم من الرابح غدا والأكثر حسدا. ولو أن السماوات والأرض كانتا على عبد رتقه ثم اتقى الله لجعل الله له منهما مخرجا.
لا يؤنسنك إلا الحق. ولا يوحشنك إلا الباطل. فلو قبلت دنياهم لأحبوك. ولو قرضت منها لأمنوك (14).
لقد تراكمت التجاوزات والمفاسد والانحرافات في عهد عثمان حتى حاصرته ودفعت بالمسلمين إلى الثورة عليه.
____________
(13) المرجع السابق.
(14) المرجع السابق ج 2 / خطبة رقم 126.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما دور الإمام علي في الصدام الذي وقع بين المسلمين وعثمان..؟.
هل تحالف الإمام مع الثوار ضد عثمان. أم صد عن الثورة..؟.
إن المؤرخين يحاولون جاهدين تبييض وجه عثمان بإظهار الإمام علي بمظهر المؤيد له والمتعاطف معه. حتى أنه تصدى للثوار الذين يحاصرون بيت عثمان ووضع الحسن والحسين على بابه شاهرين سيوفهما في وجه الثوار وقد وبخهم توبيخا شديدا على تهاونهما في الدفاع عنه بعد مصرعه (16).
إلا أن المتتبع لأحداث تلك الفترة يكتشف أن الإمام قد بذل جهدا كبيرا في نصح عثمان ومحاولة تحريره من سيطرة بن أمية. لكن جهوده هذه قد ضاعت هباءا منثورا أمام إصرار عثمان وموقفه المتصلب والمتعصب لقومه (17).
وأمام موقف عثمان هذا اضطر الإمام إلى التنحي جانبا مفسحا الطريق أمام الثوار الذين يدافعون عن حقوق المسلمين لينالوا من عثمان..
وإذا كان معظم الذين شاركوا في الثورة والذين تزعموها هم من أتباع الإمام ومن تلامذته. فبهذا يتأكد لنا أن الإمام هو المحرك الأول لهذه الثورة التي كانت ترفع لواء الإسلام الحق في مواجهة بني أمية. أو بصورة أخرى ترفع لواء آل البيت في. مواجهة الخط القبلي الذي كشف عن وجهه القبيح على يد عثمان.
إن الصراع لم يكن صراع بين ظالم ومظلوم كما يحلو للبعض تصويره بذلك وإنما كان صراعا بين الحق والباطل.
الحق المتمثل في الثوار..
والباطل المتمثل في عثمان وبني أمية.
____________
(15) أنظر كتب التاريخ. وكتاب العواصم من القواصم. والمغني للقاضي عبد الجبار ج 20.
(16) أنظر الطبري والبداية والنهاية والكامل لابن الأثير.
(17) أنظر مروج الذهب والإمامة والسياسة والطبري والبداية والنهاية لابن كثير.
ولعل موقف الإمام هذا هو الذي استثمره معاوية فيما بعد في تزكية نار الصراع بينه وبين الإمام من أجل تحقيق مآربه في التسلط على المسلمين. وقد كان بإمكانه نصرة عثمان وإنقاذه لكنه رأى أن التضحية به أنفع له في صراعه مع الإمام (18).
عثمان وبني أمية
قال أبو سفيان حين تولى عثمان مخاطبا بني أمية: يا بني أمية. تلقفوها تلقف الكرة فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة (19).
ويحاول الكثير من المؤرخين إنكار نسبة هذا الكلام لأبي سفيان وإنكار عثمان له إلا أن سياسة عثمان ومواقفه تكشفان صحة هذا القول وصدق نبوءة أبو سفيان.
يقول المودودي: غير أن عثمان حين خلفه - أي عمر - أخذ يحيد عن هذه السياسة رويدا رويدا فطفق يعهد إلى أقاربه بالمناصب الكبرى ويخصهم بامتيازات أخرى اعترض الناس عليها عامة.. ولم يكن رد فعل هذه الأمور سيئا على العامة وحدهم بل على أكابر الصحابة أيضا. مثال ذلك حينما أخذ الوليد بن عقبة مرسوم حكومة الكوفة وجاء إلى سعد بن أبي وقاص قال له سعد: والله ما أدري أكست بعدنا أم حمقنا بعدك. فأجابه. لا تجزعن أبا إسحاق فإنما هو الملك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون. فقال سعد: أراكم والله ستجعلونها ملكا (20).
إن أفراد العائلة الأموية الذين تغلغلوا في الحكم بمعونة عثمان ودعمه لم تكن تتوافر بهم المؤهلات الشرعية والسياسية فضلا عن أن مكانتهم الشرعية كانت حرجه فقد ذمهم الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث صريحة وحذر منهم لكن عثمان ضرب
____________
(18) أنظر المراجع السابق. وانظر كتاب عثمان إلى معاوية يستنصر. في الطبري ج 1 / 185 يقول الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة ونكثوا البيعة فابعث إلى من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كل صعب وذلول.. وانظر ابن كثير ج 7 / 185.
(19) أنظر تاريخ الطبري..
(20) أنظر الخلافة والملك وانظر الإستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر ج 2 / 604 هامش الإصابة.
يقول المودودي: إن أفراد العائلة الذين ارتقوا في عهد عثمان كانوا جميعا من الطلقاء. والمراد بالطلقاء تلك البيوت المكية التي ظلت لآخر وقت معادية للنبي صلى الله عليه وسلم وللدعوة الإسلامية فعفا الرسول صلى الله عليه وسلم عنهم بعد فتح مكة ودخلوا في الإسلام.
ومعاوية والوليد بن عقبة ومروان بن الحكم كانوا من تلك البيوتات التي أعطيت الأمان وعفا الرسول عنهم. أما عبد الله بن أبي سرح فقد ارتد بعد إسلامه وكان واحدا من الذين أمر الرسول في فتح مكة بقتلهم حتى ولو وجدوا تحت أستار الكعبة (22).
ولقد وسع عثمان من نفوذ معاوية على الشام وضم إليه حمص وقنسرين وفلسطين والأردن حي بسط نفوذه على كل الشام وأصبح من أقوى الولاة وأغناهم مما أتاح له الفرصة على منازعة الإمام علنا. فالشام كانت على هوى بني أمية فلم تكن موطنا للعرب والصحابة كما هو حال العراق. فمن ثم لم يجد معاوية وبني أمية من بعده من ينازعهم فيها وهم استطاعوا التعايش مع أهلها وأهلها تعايشوا معهم ولم يجدوا اختلافا كبيرا بين حياتهم قبل الإسلام وحياتهم بعده بعد أن فتح لهم، معاوية الدنيا على مصراعها. ومثل هؤلاء يكونون سيفا واحدا على كل من يحاول المساس بدنياهم ولأجل هذا وقفوا صفا واحدا من خلف معاوية في مواجهة الإمام.
لقد اختار أهل الشام إسلام بني أمية ورفضوا إسلام آل البيت فإسلام بني أمية سوف يحفظ لهم دنياهم ومصالحهم.
وإسلام آل البيت سوف يحرمهم من هذه الدنيا وسوف يضرب هذه المصالح اختار أهل الشام معاوية لكونه يمثل استمرارا لخط هرقل والروم والدنيا..
ورفضوا الإمام لكونه استمرارا لخط النبوة والإسلام والآخرة.
يقول عثمان: لو أن بيدي مفاتيح الجنة لأعطيتها بني أمية حتى يدخلوا من عند آخرهم (23).
____________
(21) أنظر نماذج من هذه الأحاديث في البخاري كتاب الفتن.
(22) أنظر كتب التاريخ وكتب السيرة.
(23) رواه أحمد. نقلا عن البداية والنهاية لابن كثير ج 7 / 178.
ولقد كانت سياسة عثمان وممارساته المعوجة وتحالفه مع قومه ونبذه لكبار الصحابة وفساد ولاته على الأمصار كل ذلك قد أفقده تعاطف المسلمين وأهل المدينة على الخصوص الذين لم يتحرك أحد منهم لنصرته والدفاع عنه حين حوصر وتركوه ليلقي مصيره ويجني ما كسبت يداه وإذا كان قومه الذين والاهم وارتبطت مصالحهم به لم يتحركوا لنصرته فكيف يتحرك الغرباء للدفاع عنه.
يبرر ابن كثير الموقف السلبي للصحابة وأهل المدينة تجاه عثمان بقوله: إن كثيرا منهم بل أكثرهم أوكلهم لم يكن يظن أنه يبلغ الأمر إلى قتله.
ثانيا: إن الصحابة مانعوا دونه أشد الممانعة ولكن لما وقع التضييق الشديد عزم.
عثمان على الناس أن يكفوا أيديهم ويغمدوا أسلحتهم ففعلوا فتمكن أولئك مما أرادوا.. ومع هذا ما ظن أحدا من الناس أن يقتل بالكلية.
الثالث: أن هؤلاء (الخوارج) لما اغتنموا غيبة كثير من أهل المدينة في أيام الحج ولم تقدم الجيوش من الآفاق للنصرة بل لما اقترب مجيئهم انتهزوا فرصتهم وصنعوا ما صنعوا من الأمر العظيم.
الرابع: إن هؤلاء (الخوارج) كانوا قريبا من ألفي مقاتل من الأبطال وربما لم يكن في أهل المدينة هذه العدة من المقاتلة لأن الناس كانوا في الثغور وفي الأقاليم وفي كل جهة.
ومع هذا فإن كثير من الصحابة اعتزل هذه الفتنة ولزموا بيوتهم. ومن كان يحضر منهم المسجد لا يجئ إلا ومعه السيف.. وربما لو أرادوا صرفهم عن المدينة لما أمكنهم ذلك وأما ما يذكره بعض الناس من أن بعض الصحابة أسلمه ورضي بقتله فهذا
وكلام ابن كثير هذا - وهو فقيه أموي النزعة - يحمل الكثير من المتناقضات إذ كيف للصحابة وأهل المدينة وهم يرون هذه الثورة العارمة ضد عثمان ولا يتوقعون مقتله؟ وكيف لهم أن يتركوا الدفاع عنه وهم يرونه ضائع لا محالة في مواجهة ألفي مقاتل..؟
وكيف يستقيم هذا التفسير مع قوله أن كثير من الصحابة اعتزلوا الفتنة؟.
وعلى أي أساس نفي ابن كثير وجود موقف من عثمان ورضي بقتله في الوقت الذي تؤكد الروايات أن هناك عدد من الصحابة كان يتزعم هذه الثورة ويحرض المسلمين على عثمان؟
وكيف له أن يؤكد أن عمار أو ابن أبي بكر وابن الحمق تراجعوا عن موقفهم العدائي..؟
ثم أين معاوية وجيشه..؟
وابن كثير يدافع عن عثمان دفاعا مستميتا مبررا منكراته مضيفا عليها الشرعية وهو بهذا إنما يدافع عن خطه وفقهه الذي ورثه من القوم والذي هو نابع من الخط الأموي. فمن ثم ليس مستغربا منه هذا الموقف ولا من أي من فقهاء الشام مثل الذهبي والنووي وابن تيمية وابن عساكر وغيرهم ممن ناصبوا خط آل البيت العداء (25).
يقول ابن كثير: أنه قيل لعثمان حين أنكر أمر البريد - أي الكتاب الذي زوره مروان وعاد على أساسه الثوار لحصار عثمان بعد أن تركوا حصاره لرضوخه لمطالبهم -: إن لم تكن قد كتبته بل كتب على لسانك وأنت لا تعلم فقد عجزت ومثلك لا يصلح للخلافة. إما لخيانتك وإما لعجزك.
ويعلق ابن كثير على هذا الكلام بقوله: وهذا الذي قالوه باطل على كل تقدير
____________
(24) المرجع السابق ص 186، 187.
(25) أنظر تاريخ الإسلام للذهبي. وفتاوى ابن تيمية ج 3. والنووي شرح مسلم باب مناقب عثمان.