الصفحة 101
فإنه لو فرض أنه كتب الكتاب وهو لم يكتبه في نفس الأمر لا يضره ذلك لأنه قد يكون رأى في ذلك مصلحة للأمة في إزالة شوكة هؤلاء البغاة الخارجين على الإمام. وأما إذا لم يكن قد علم فأي عجز ينسب إليه إذا لم يكن قد أطلع عليه وزور على لسانه وليس هو بمعصوم بل الخطأ والغفلة جائزان عليه. وإنما هؤلاء الجهلة البغاة متعنتون خونة ظلمة مفترون (26).

لقد تمادى ابن كثير في تبريره لانحرافات عثمان إلى الحد الذي دفعه إلى تغليف هذه الانحرافات بالنصوص النبوية التي تضفي المشروعية عليها. فهو قد اعتبر أن الحاكم من حقه أن يفعل ما يشاء بالأمة تحت شعار المصلحة وعلى الأمة أن تلتزم بالسمع والطاعة لأن الرسول أمر بذلك. ومعنى ذلك أن عثمان بعد ما وافق الثوار على مطالبهم ثم عاد وانقلب عليهم وأرسل كتابه المذكور الذي يأمر فيه ولاة الأمصار التي سوف يصلون إليها بقتلهم - معنى ذلك أن هذا الغدر مبرر في عرف ابن كثير.

ثم تأمل الألفاظ العصبية التي تنم عن عدم معالجته الحدث برؤية حيادية منصفة والتي وصف بها الثوار فهو قد نصب نفسه قاضيا وجلادا في آن واحد (27).

ونفس هذا النهج في تفسير أحداث التاريخ المتعلقة بالخط القبلي وخط بني أمية التزم به ابن تيمية والذهبي والنووي وابن خلدون وابن حزم وغيرهم (28).

ومثلما دافع هؤلاء عن عثمان دافعوا أيضا عن معاوية ومروان وسائر بني أمية وزكوهم وأضفوا المشروعية على مواقفهم وممارساتهم في الوقت الذي وقفوا فيه من الإمام علي موقفا مشبوها ومعاديا في أحيان كثيرة (29).

ولقد كان مصرع عثمان هو بداية الصراع العسكري بين الخط الأموي وخط آل البيت. ذلك الصراع الذي انتهى بسيادة الخط الأموي.

____________

(26) ابن كثير ج‍ 7 / 180.

(27) ابن كثير من فقهاء الشام وهو يسير على نهجهم وخاصة نهج أستاذه ابن تيمية..

(28) أنظر تاريخ الإسلام للذهبي وفتاوى ابن تيمية وشرح مسلم للنووي وتاريخ ابن خلدون والفصل في الملل والنحل لابن حزم.

(29) أنظر المراجع السابقة. وانظر العواصم من القواصم. وقد شكك ابن تيمية في كثير من الروايات الواردة في حق الإمام علي. أنظر منهاج السنة وكذلك الفتاوى. وقد نقل ابن حزم في كتابه المحلى ج‍ 10 / 484 إجماع الأمة على أن ابن ملجم لم يقتل الإمام علي إلا متأولا.

الصفحة 102
يروي ابن الأثير: وحمل عبد الله بن سعد بن أبي سرح خمس إفريقية إلى المدينة فاشتراه مروان بن الحكم بخمسمائة ألف دينار فوضعها عنه عثمان وكان هذا مما أخذ عليه. وهذا أحسن ما قيل في خمس إفريقيا فإن بعض الناس يقول أعطى عثمان خمس إفريقيا عبد الله بن سعد وبعضهم يقول أعطاه مروان بن الحكم وظهر بهذا أنه أعطى عبد الله خمس الغزوة الأولى وأعطى مروان خمس الغزوة الثانية التي افتتحت فيها جميع إفريقيا (30).

ويروي ابن سعد أن عثمان كتب لمروان خمس مصر (31).

ويروي ابن كثير والطبري أن نائلة زوجة عثمان قالت له ناصحة إنك متى أطعت مروان قتلك ومروان ليس له عند الله قدر ولا هيبة ولا محبة (32).

إلا أن عثمان ضرب بنصح زوجته عرض الحائط وقام بتعيين مروان (سكرتيرا) له فكان أن استغل ثقة عثمان به فخطط وتآمر على الإسلام والمسلمين (33).

وبدافع أبو بكر بن العربي عن موقف عثمان من معاوية بقوله: وأما معاوية فعمر ولاه وجمع له الشامات وأقره عثمان بل إنما ولاه أبو بكر لأنه ولى أخاه يزيد واستخلفه يزيد فأقره عمر لتعلقه بولاية أبي بكر لأجل استخلافه واليا له فتعلق عثمان بعمر وأقره. فانظروا إلى هذه السلسلة ما أوثق عراها وأقدر سردها ولن يأتي مثلها بعدها أبدا (34).

ويدافع عن موقفه من الوليد بن عقبة بقوله: وأما تولية الوليد بن عقبة فلأن الناس على فساد النيات أسرعوا إلى السيئات قبل الحسنات.

وأما قول القائل في مروان والوليد فشديد عليهما وحكمهم عليهما بالفسق فسق منهم. مروان رجل عدل من كبار الأمة عند الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين (35).

____________

(30) أنظر الكامل في التاريخ لابن الأثير ج‍ 3 / 46.

(31) طبقات ابن سعد ج‍ 2.

(32) أنظر الطبري ج‍ 3 / 396 وابن كثير ج‍ 7 / 172.

(33) أنظر المراجع السابقة.

(34) أنظر العواصم من القواصم.

(35) المرجع السابق.

الصفحة 103

المحطة الخامسة
علي




نهاية الصراع الفكري 
وبداية الصراع العسكري





الصفحة 104

الصفحة 105
بعد مصرع عثمان هرع الناس نحو الإمام علي ليولوه أمرهم (إنه لا يصلح الناس إلا بأمرة ولا بد للناس من إمام ولا نجد اليوم أحدا أحق بهذا الأمر منك لا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأمام إصرار الجماهير وافق الإمام مشترطا أن تكون بيعته علنا ولا تكون إلا عن رضى المسلمين. وتمت البيعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).

ولقد كانت بيعة الإمام أول حركة انتخاب جماهيري حق في تاريخ الإسلام فمن ثم فإن دولة الإمام قامت على أكتاف الجماهير لتعبر عن مصالح الجماهير رافعة راية الإسلام النبوي.

من هنا فقد اصطدم بها أنصار الخط القبلي والمنتفعين والمنافقين ثم بني أمية وعملوا على هدمها والحيلولة دون أن تأخذ امتدادها الطبيعي على ساحة الواقع ويتحقق لها الاستقرار والتمكن.

إن جميع القوى التي واجهت الإمام كان يتزعمها صحابة كان لهم موقفهم الثابت من الإسلام النبوي ومن آل البيت من قبل وفاة الرسول وقد برز هذا الموقف بوضوح بعد وفاته وأخذ في التطور حتى وصل إلى صورته التي واجهها الإمام وتصدى لها.

لقد كانت القوى المناوئة للإسلام النبوي تعمل جاهدة منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لتقضي على معالم هذا الإسلام وحصار آل البيت وعزل الإمام علي عن جماهير

____________

(1) أنظر الطبري ج‍ 3. والبداية والنهاية ج‍ 7. والإستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر.

ويذكر أن عدد من الصحابة فروا من المدينة إلى الشام فور تسلم الإمام علي الحكم.. يروي ابن كثير عن الطبري قوله: هرب قوم من المدينة إلى الشام ولم يبايعوا عليا ولم يبايعه قدامة بن مظعون وعبد الله بن سلام والمغيرة بن شعبة..

وقال ابن كثير: وهرب مروان بن الحكم والوليد بن عقبة وآخرون إلى الشام.. وبايع الأنصار إلا سبعة:

عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص. وصهيب وزيد بن ثابت ومحمد بن أبي سلمة ومسلمة بن سلامة وأسامة بن زيد. أنظر البداية ج‍ 7 / 227.

الصفحة 106
المسلمين. وكان وصول علي إلى الحكم بمثابة ضربة قاصمة لهم ولمخططاتهم. فمن ثم فإن المواجهة العسكرية فرضت نفسها كوسيلة وحيدة لإجهاض دولة الإمام.

وهكذا دخل الإمام علي في مواجهات عسكرية مع هذه القوى بقيادة كبار الصحابة وزوجة النبي صلى الله عليه وسلم ثم بقيادة بني أمية وأخيرا بقيادة الخوارج.

وهذه القوى الثلاث إنما تمثل خطوطا استمرت باقية في واقع الأمة وتفرخت منها الاتجاهات المعادية للإسلام النبوي وخط آل البيت تلك الاتجاهات التي صبت في النهاية في دائرة الإسلام الأموي.

ولم تكن مواجهة الإمام علي لهذه القوى من باب الحفاظ على كيان الدولة واستقرارها فهذا السبب لا يعكس حقيقة الصراع وهو سبب ظاهري يستنتجه من لا يفقه حقيقة الإسلام النبوي وحقيقة الإسلام الأموي.

إن فقه الإسلام النبوي سوف تقود إلى فقه حقيقة الإسلام الأموي وبالتالي سوف تقود إلى فقه حركة الصراع الذي دار بين الإمام وبين هذه القوى وإن فهم حقيقة الإسلام النبوي لن يتم إلا بفهم شخصية الإمام علي ودوره ومكانته..

شخصية الإمام

هناك عدة ملامح رئيسية لشخصية الإمام علي:

الملمح الأول: الربانية فهذه الشخصية قد تربت على يد الرسول صلى الله عليه وسلم وارتوت من معينه وهذا أمر له دلالته وانعكاساته على شخصية الإمام فتربية الرسول له ثم مصاهرته إنما يعني الاصطفاء فكما أن الرسول تم اصطفاؤه فإن عليا أيضا تم اصطفاؤه.

وهذا الاصطفاء لا يمكن أن يكون عبثا وإنما له أبعاده المستقبلية وهذا ما تشير إليه كثير من النصوص الواردة عن الرسول:

ومن هذه النصوص: أنت مني بمنزلة هارون من موسى (2).

____________

(2) أنظر البخاري ومسلم كتاب فضائل الصحابة. باب فضائل علي.. وأنظر الترمذي..

الصفحة 107
علي مني وأنا منه (3).

من كنت مولاه فعلي مولاه. (4).

لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق (5).

سدوا أبواب المسجد إلا باب علي (6).

ومثل هذه النصوص كثير لا يتسع المجال لذكرها هنا وما ذكرناه فيه الكفاية للاستدلال على ما نقول.

ويكفي في حق علي شموله قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) فهذا النص هو الدليل الساطع والبرهان القاطع على ربانيته (7).

الملمح الثاني: العلم فإن من يتربى على يد الرسول صلى الله عليه وسلم لا بد وأن ينهل من علمه. فما دام الرسول قد أعطاه هذه الخصوصية فلا بد أن يسلحه بالعلم حتى يتمكن من القيام بدوره.

وقد تفوق الإمام علي بفقهه على جميع الصحابة ولم يضاهيه في ذلك أحد حتى أن عمر الذي يشهدون له بالفقه والعلم شهد لصالح علي وأقر بتفوقه عليه (8).

هناك الكثير من النصوص النبوية التي تؤكد هذه الحقيقة:

أنا مدينة العلم وعلي بابها (9).

____________

(3) أنظر البخاري. باب فضائل علي..

(4) أنظر مسند أحمد ج‍ 1..

(5) أنظر مسلم كتاب الإيمان..

(6) أنظر الترمذي كتاب المناقب. ومسند أحمد ج‍ 1. وفتح الباري ج‍ 7 /.

(7) أنظر مسلم كتاب فضائل الصحابة. مناقب علي وآل البيت..

(8) أنظر طبقات ابن سعد ج‍ 2. ومسند أبو داود الطيالسي..

(9) ورد هذا الحديث في الترمذي كتاب المناقب بلفظ: أنا دار الحكمة وعلي بابها. وورد لفظ أنا مدينة العلم في

الصفحة 108
أعلمهم بما أنزل الله علي (10).

من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه فلينظر إلى علي (11).

أعلم أمتي بعدي علي (12).

أقضاكم علي (13).

وهناك شهادات للإمام علي على لسان كثير من الصحابة وعلى رأسهم عمر الذي كان يستعين بعلي في كل معضلة وكان يتعوذ بالله من معضلة ليس فيها أبو الحسن (14).

ويقول الإمام علي عن نفسه: سلوني عن كتاب الله فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار في سهل أم في جبل.. والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت وعلى من نزلت. إن ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا طلقا (15).

ومثل هذه النصوص إنما تشير إلى أن الإمام لديه علم خاص ورثه عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى أساس هذا العلم كان يواجه الواقع والأحداث. فلم يكن الإمام مجرد قائد وجد في ظرف قاس فواجه هذا الظرف بما لديه من خبرة وكفى.

ولم يكن الإمام مجرد حاكم واجه تمرد من الرعية فتحرك لمواجهته وحسمه.

لم يكن الإمام مجرد صحابي كبقية الصحابة كما يحاول أهل السنة أن يصوروه.

____________

= مستدرك الحاكم ب 3 / 126. وانظر مناقب الخوارزمي وأسد الغابة وتاريخ. بغداد / والبداية والنهاية لابن كثير ج‍ 7 / 358..

(10) أنظر مسند الطيالسي ومسند أحمد...

(11) أنظر سنن البيهقي.. ومسلم.

(12) أنظر مناقب الخوارزمي.. ومسلم (13) أنظر مجمع الزوائد للهيثمي ج‍ 9 / 114. وحلية الأولياء 1 / 65. والإستيعاب..

(14) أنظر طبقات ابن سعد ومستدرك الحاكم.. والإصابة في تمييز للصحابة لابن حجر. وسير أعلام النبلاء للذهبي (15) المرجع السابق..

الصفحة 109
لقد كان الإمام نموذجا خاصا تربى تربية خاصة ومنح علما خاصا ووضع على كاهله القيام بدور خاص..

ولعل قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الإمام: إن منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن كما قاتلت على تنزيله (16). وهو علي خاصف النعل كما أشارت الرواية. قول الرسول هذا يؤكد وجود هذا العلم الخاص لدى الإمام. فالرسول كان يقاتل المشركين على علم. والإمام يقاتل المسلمين على علم أيضا. بل الحاجة للعلم في مقاتلة أهل القبلة من المسلمين أشد من الحاجة إليه في مواجهة المشركين.

فكون الإمام يواجه عائشة زوجة النبي ويقاتلها لا بد وأن يكون لديه علم خاص.

وكون الإمام يواجه معاوية وابن العاص والمغيرة وغيرهم ويقاتلهم لا بد وأن يكون لديه علم خاص.

وكون الإمام يواجه الخوارج وقد كانوا من أتباعه ويقاتلهم لا بد وأن يكون لديه علم خاص..

إن الإمام علي لم يشهر سيفا في مواجهة المشركين بعد الرسول صلى الله عليه وسلم بل شهر سيفه في مواجهه أهل القبلة وهذا أمر له دلالاته الهامة والتي تشير إلى اختصاصه بهذا العلم.

ولقد بشر الرسول صلى الله عليه وسلم بخروج عائشة وقتالها لعلي (17).

وبشر بظهور بني أمية وقتالهم علي (18).

____________

(16) مسند أحمد ج‍ 3.

(17) تنبأ رسول الله (ص) أن عليا سيقاتل قريشا في سبيل الله. أنظر الترمذي. كتاب المناقب ومسند أحمد ج‍ 2، ويروي أن الرسول (ص) حذر عائشة من الخروج وتنبأ بقتالها علي. أنظر الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي. وانظر طبقات ابن سعد. وتنبأ بقتل عمار على يد الفئة الباغية فئة معاوية. أنظر مسلم كتاب الفتن باب / 18. وانظر طبقات ابن سعد ج‍ 3 والحاكم.

(18) أنظر البخاري كتاب الفتن..

الصفحة 110
وبشر بظهور الخوارج وقتالهم علي (19).

ومثل هذه النبوءات التي ارتبطت بعلي من دون بقية الصحابة إنما تؤكد أن للإمام علي خاصية يتفرد بها على الآخرين وهي خاصية العلم.

أما الملمح الثالث فهو القيادة. وهي صفة خاصة جعلت من الإمام قائدا نبويا وليس مجرد قائد كبقية القادة الذين برزوا على ساحة التاريخ. والقيادة النبوية شئ متفرد واختص به الإمام ليلعب دورا من بعد الرسول ويسد الفراغ الذي حدث بغيابه.

وبتأمل سلوك الرسول صلى الله عليه وسلم مع الإمام وعلاقته به تتحدد لنا بوضوح هذه الخاصية.

يروي ابن عباس: دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية إلى علي وهو ابن عشرين سنة (20).

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله. ويحبه الله ورسوله: فلما كان الغد دعا عليا فدفعها إليه (21).

وكان الصحابة يرددون لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي. وقد قتل أشهر فرسان العرب يوم الخندق وأصاب المشركين بنكسة معنوية كبيرة (22).

وشجاعة الإمام علي ليست بحاجة إلى برهان وسيرته مع الرسول تشهد بذلك.

____________

(19) أنظر مسلم كتاب الزكاة. باب ذكر الخوارج وصفاتهم والتحريض على قتلهم.

ويروي علي عن الرسول (ص) قوله: يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية. لا يجاوز إيمانهم حناجرهم فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة.. أنظر مسند أحمد والبخاري كتاب الفتن ومسلم.، وانظر أحاديث حذيفة في كتاب الفتن بالبخاري وهي تبين أن هناك ردة وكفر بعد رسول الله. وحديث كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر. وحذيفة من خط الإمام علي. ويمكن للباحث أن يقارن بين روايات أنصار الخط القبلي وروايات أنصار الإمام ليدرك مدى الهوة السحيقة بين الطرفين ومدى الفارق العلمي بينهما.

(20) رواه الطبراني..

(21) أنظر البخاري ومسلم. باب فضائل علي. ومسند أحمد ج‍ 2.

(22) الفارس الذي قتله علي هو عمرو بن الود.

الصفحة 111
وقد كان الرسول يوطن فيه من صغره الشجاعة والمواجهة والخشونة. وكان اختياره له ليبيت في مضجعه ليلة الهجرة صورة من صور التربية النبوية له والتي تعده ليكون قائدا فذا يحمل راية الإسلام النبوي من بعده. وتروي كتب التاريخ. أن عليا كان صاحب لواء الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر وفي كل المشاهد (23) وشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي في حجة الوداع أمام أكبر حشد من الصحابة والمسلمين في تاريخ الدعوة إنما تؤكد هذه الخاصية وهذا الدور الذي وكل إليه.

وهي تؤكد من جانب آخر شرعية هذا الدور وارتباط خطوات الإمام ومواقفه المستقبلية بحدود الشرع وبالإسلام النبوي..

يروى أن عليا نشد الناس قائلا: من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم إلا قام. فقام اثنا عشر بدريا فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي يوم غدير خم: أليس الله أولى بالمؤمنين قالوا: بلى قال: اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه (24).

ويوم غدير خم أيضا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي (25).

وقال صلى الله عليه وسلم: أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال وأهل بيتي (26).

وغدير خم موضع ماء يقع في واد بين مكة والمدينة توقف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم حين عودته من حجة الوداع وخطب فيه خطبة طويلة جزء منها كان خاصا بالإمام علي وبأهل البيت وهم علي وفاطمة والحسن والحسين.

____________

(23) أنظر طبقات ابن سعد ج‍ 3.

(24) أنظر مسند أحمد 1.

(25) أنظر مسلم كتاب فضائل الصحابة. باب مناقب علي..

(26) المرجع السابق..

الصفحة 112
وكون الرسول يوصي بعلي وأهل البيت في خطبة الوداع فكأنه يؤكد للأمة ضرورة الالتزام بالإسلام النبوي الذي سوف يمثله علي من بعده. ويحذرها من الانحراف عن هذا الإسلام بترك موالاة الإمام علي وأهل البيت.

لقد ترك الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة الكتاب وربط هذا الكتاب بآل البيت بزعامة الإمام علي فمن التزم بالكتاب التزم بآل البيت. ومن حاد عن الكتاب حاد عن آل البيت.

إن ربط الكتاب بالإمام يضفي المشروعية على كل خطوات الإمام ومواقفه. فهو قد اختير من قبل الرسول ليكون مفسر هذا الكتاب والمعبر عنه والناطق بلسانه.

ومن هنا يتبين لنا أن شخصية الإمام ومكانته ودوره لا يقاس به أحد. وإن محاولة فهم حركة الإمام علي بمعزل عن هذه الرؤية سوف يموه على حقيقة الصراع الذي دار بينه وبين أنصار الخط القبلي بقيادة أبي بكر وعمر وعثمان والذي تطور إلى الصدام العسكري مع عائشة وطلحة والزبير ومع الخوارج ثم في النهاية مع بني أمية بقيادة معاوية.

وأن محاولة رفع بني أمية أو التقليل من شأن الإمام علي أو مساواته بمعاوية كما هي عقيدة أهل السنة ليست فقط سوف تؤدي إلى التمويه على حقيقة الصراع الذي دار بين الإمام وخصومه كما هو الهدف الظاهر منها. وإنما سوف تؤدي إلى التمويه على حقيقة الإسلام النبوي الذي يمثله الإمام نيابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وبالتالي سوف تكون النتيجة هي ارتفاع الإسلام القبلي إسلام بني أمية وعلو مكانته على حساب الإسلام النبوي (27).

وتلك هي النتيجة التي استقرت عليها الأمة بعد وقعة صفين وبعد اختفاء الإسلام النبوي وسيادة الإسلام القبلي على يد بني أمية ذلك الإسلام الذي تعبر عنه عقيدة أهل السنة والذي تحول إلى دين الأغلبية بدعم الحكومات المتعاقبة من عصر بني أمية وحتى اليوم.

____________

(27) يروى عن عبد الله بن حنبل قال: سألت أبي ما تقول في علي ومعاوية؟ فأطرق. ثم قال: إعلم أن عليا كان كثير الأعداء ففتش أعداؤه له عيبا فلم يجدوه، فعمدوا إلى رجل قد حاربه فأطروه كيادا منهم لعلي.. وقال ابن حجر معلقا على هذا الكلام. فأشار بهذا - أي ابن حنبل - إلى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل مما لا أصل له.. أنظر فتح الباري ج‍ 7 / 104.

الصفحة 113

رجال الإمام

إن المتتبع لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يكتشف أن هناك عدد من الصحابة كان يناصر الإمام علي ويلتف حوله وكما زكى الرسول الإمام علي وجعل له خصوصية زكى أيضا هؤلاء الصحابة وباركهم.

ولكثرة ما ورد في علي على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم أوجب هذا على المؤمنين المخلصين أن يشايعوه ويتبعوه لكون مشايعته واتباعه هو امتداد للالتزام بنهج الرسول. فما دام حب عليا من الإيمان وبغضه من النفاق ولكون القرآن مع علي وعلي مع القرآن أصبح موالاة الإمام علي مسألة شرعية وواجب إيماني (28).

ومن الصحابة الذين شايعوا الإمام علي في حياة الرسول وبعد وفاته: أبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر وبلال بن أبي رباح والمقداد وحذيفة بن اليمان. وجابر بن عبد الله وخباب بن الأرت وسلمان الفارسي وحجر بن عدي. وحسان بن ثابت.

وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن عباس والعباس بن عبد المطلب وأبو أيوب الأنصاري وخزيمة ذي الشهادتين وأبي بن كعب وسهل بن حنيف وقيس بن سعد بن عبادة والبراء بن مالك وعثمان بن الأحنف وخالد بن سعيد بن العاص وهند بن أبي هالة وأبي الطفيل عامر بن وائلة وأنس بن الحرث بن نبيه وجعدة بن هبيرة المخزومي وأبي التيهان ورفاعة بن مالك الأنصاري (29).

ومن الواضح أن هذه النماذج من الصحابة ذات مكانة ودور خاص في واقع الدعوة وبمقارنتها بالنماذج الأخرى التي التفت حول معاوية يتضح لنا مدى الهوة السحيقة بينهما.

إن النماذج التي تحالفت مع الإمام علي وناصرته هي من خلص الصحابة الذين توفي الرسول وهو عنهم راض.

هذه النماذج لم يقتصر دورها في حدود مناصرة الإمام علي أثناء صراعه مع معاوية. بل إن دور هذه العناصر بدأ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد وقفت هذه

____________

(28) حديث علي مع القرآن رواه الحكم ج‍ 3 / 124. وانظر مناقب الخوارزمي وتاريخ الخلفاء للسيوطي..

(29) أنظر ترجمة هؤلاء في كتاب الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر. وأسد الغابة لابن الأثير..

الصفحة 114
العناصر مع الإمام في مواجهة الخط القبلي كما وقفت معه في موجهة عثمان وعائشة والخوارج.

أما النماذج الأخرى التي تحالفت مع معاوية فقد حامت من حولها الشكوك وليس في تاريخها ما يوجب الثقة فيها.

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم إن الله أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم. قيل يا رسول الله سمهم لنا؟ قال: علي منهم. يقول ذلك ثلاثا. وأبو ذر والمقداد وسلمان (30).

وجميع هذه العناصر المذكورة من خواص الرسول صلى الله عليه وسلم وأصفياؤه ولهم تاريخ مشرق ومكانة فذة..

فبلال مؤذن الرسول..

وحذيفة صاحب سره..

وأبي بن كعب من قراء القرآن..

و عبد الله بن عباس حبر الأمة..

وعمار بن ياسر ابن الشهيدين..

وخزيمة ذي الشهادتين..

وحسان بن ثابت شاعر الرسول.

ولا تجد في صفوف أنصار الخط القبلي أو الخط الأموي من يضاهي هؤلاء.

شخصية معاوية

كان معاوية من الطلقاء الذين أطلقهم الرسول بعد فتح مكة. وظل هو وأبوه في عداد المؤلفة قلوبهم حتى عهد عمر الذي قام بإلغاء نصيب المؤلفة قلوبهم وتم بالتالي رفع معاوية إلى مرتبة المسلمين هو وأبوه.

____________

(30) أنظر الترمذي كتاب المناقب. وانظر سنن ابن ماجة المقدمة. ومسند أحمد ج‍ 5..

الصفحة 115
إلا أن النصوص التاريخية والنبوية لا تؤكد دخوله هو وأبوه في دائرة الإسلام فلم يظهر من كلاهما ما يبدد شبهة الكفر عنهما.

لكن فقهاء القوم بدلا من أن يبحثوا هذه المسألة قاموا بدعم بني أمية وعلى رأسهم معاوية وإضفاء المشروعية عليهم ولم يحاول أحد منهم التشكيك في الروايات المخترعة من أجل رفع مكانته ودفع المسلمين إلى الثقة فيه..

وإذا أردنا تتبع تاريخ معاوية فلن نكتشف له شيئا يذكر في المحيط الإسلامي.

فلا هو بصاحب شجاعة ولا هو رجل سيف..

ولا هو صاحب علم ولا هو صاحب فضل..

ولا هو احتك بالرسول ولا هو احتك بالصحابة.

فمن أين جاءته تلك المكانة التي وضعوه فيها؟.

وكيف للقوم إن يساووا مثل هذا بالإمام علي..؟ إن أهم ملامح شخصية معاوية هي المكر والخديعة والغدر وهي ملامح عباد الدنيا وأهل الفجور ولولا تحالف ابن العاص وأبو هريرة معه ما استقام له الأمر ولا ظل له ذكر..

فابن العاص دعمه بخططه ودهائه.

وأبو هريرة دعمه برواياته التي نسبها إلى الرسول (ص)..

ثم إن الأحداث خدمته في النهاية ويسرت له الطريق نحو التمكن والسيادة على المسلمين ولم يكن له دور أو فضل في ذلك..

فالذين وقفوا على الحياد خدموه..

والذين حاربوا الإمام علي خدموه..

والذين اغتالوا الإمام علي خدموه..

والذين خذلوا الإمام الحسن خدموه..

والتي اغتالت الإمام الحسن خدمته.

يروي ابن حجر: كان معاوية بمنى وهو غلام مع أمه إذ عثر. فقالت قم

الصفحة 116
لا رفعك الله فقال لها أعرابي لم تقولين هذا والله إني لأراه يسود قومه. فقالت:

لا رفعه الله إن لم يسد إلا قومه (31).

ويروى عن ابن عباس قوله: ما رأيت أحدا أحلى للملك من معاوية.. (32).

ويروى على لسان الرسول (ص) قوله لمعاوية: يا معاوية إن وليت أمرا فاتق الله وأعدل.

يقول معاوية معلقا: فما زلت أظن أني مبتلى بعمل سويد فيه مقال.. (33).

رجال معاوية

لم تكن لمعاوية مكانة ولا قدرا في الإسلام. ولم يكن بصاحب علم أو دين.

إنما كان صاحب جاه ونفوذ لذا فإن الذين التفوا من حوله كانوا من أصحاب الدنيا والمغنم ولم يكونوا من أصحاب الدين..

وكانت وسائل معاوية في جذب الرجال إليه تتركز. في المال والإغراء بالمناصب كما تتركز في الدعاية المضللة التي تهدف إلى التمويه على الباطل الذي يمثله ويرفع رايته..

المال والمناصب كانت وسيلة جذب من يعرفه وعاصره..

والدعاية كانت وسيلة جذب من لا يعرفه من التابعين..

وكلا من الطرفين كان يرتبط بمعاوية ارتباطا مصيريا إذ أن تركه معاوية يعني أنه لن يجد مكانا لدى الطرف الآخر طرف الإمام علي..

ومن أبرز العناصر التي التفت حول معاوية وتحالفت معه: عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وأبو هريرة وأبو موسى الأشعري ومروان بن الحكم.

____________

(31) أنظر الإصابة ج‍ 3 / 433 / 434. ترجمة معاوية حرف الميم. القسم الأول.. ومثل هذه الروايات لا يحكم أهل السنة بثبوتها فلم تصح في معاوية منقبة كما صرح بذلك إسحاق بن راهويه شيخ البخاري لكن القوم اخترعوها لدعم معاوية وتبرير مواقفه وإخفاء المشروعية على حكمه (32) المرجع السابق..

(33) المرجع السابق..

الصفحة 117
ومثل هذه العناصر صاحبة تاريخ مشبوه وليست بذا ثقل في واقع الدعوة ولم تكن صاحبة مكانة (34) في حياة الرسول (ص) بل كانت منبوذة مذمومة..

من هنا فقد عملت هذه العناصر على القيام بحملة دعاية واسعة الهدف منها إضفاء المشروعية على مواقفهم وممارساتهم ورفع مكانتهم أمام المسلمين: فكان أن قاموا باختراع الروايات ونسبتها للرسول تلك الروايات التي تزكيهم وتضع الحق إلى جانبهم وتموه على الجانب الآخر وتسهم في جذب المسلمين من التابعين إلى صفوفهم.. (3).

من هنا فقد استطاع معاوية بمعونة أبي هريرة وابن العاص أن يشكلوا جبهة دعاية واسعة استطاعوا بواسطتها أن يغرروا بالمسلمين ويعزلوهم من خط آل البيت..

وكان وقوف عدد من الصحابة على الحياد في الصراع الدائر بين الإمام ومعاوية قد شكل وسيلة دعم لمعاوية وضربة للإمام علي. إذ دفع بكثير من المسلمين إلى التشكك في جدوى الصراع وهذا أمر في صالح معاوية بلا شك..

وعلى رأس الذين وقفوا على الحياد عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة.

وليس من المعقول تصور أن ابن عمر وهؤلاء المحايدين كانوا يجهلون حقيقة الموقف. وإن سلمنا (36) لهم بذلك. فكيف نسلم بجهلهم بحقيقة أبي هريرة وابن العاص ومعاوية..؟.

____________

(34) أنظر لنا فقه الهزيمة باب الرجال. وكتاب الخدعة..

(35) نهج البلاغة. ج‍ 1 / خطبة رقم 198..

(36) أنظر تراجم هؤلاء في أسد الغابة والإصابة والإستيعاب.. وابن عمر أحد ركائز الخط الأموي وعقيدة وفقه أهل السنة

الصفحة 118

الصفحة 119

المواجهة




سيف الإيمان يقارع سيف الشيطان..





الصفحة 120

الصفحة 121
لم تكن المواجهة العسكرية التي حدثت بين الإمام علي وبين عائشة ومعاوية والخوارج يعود سببها إلى الصراع على الحكم كما قد يتصور البعض ممن يقرأون أحداث التاريخ على أسس سياسية بحتة بمعزل عن الدين. فالإمام لم يواجه هؤلاء كخارجين على الجماعة فلم تكن هناك جماعة إنما كانت هناك شيع وأحزاب..

كانت سيوف القوم على الإمام وقلوبهم مع سواه مما دفع بالإمام إلى نقل عاصمته من المدينة إلى الكوفة حيث توجد القاعدة الجماهيرية العريضة المناصرة له..

لقد كان الصراع بين الإمام وبين هذه الجبهات الثلاث صراعا عقائديا ولم يكن صراعا سياسيا.. فهذه الجبهات كانت تواجه الإمام بعقيدة ومنهج وراية..

كانت عائشة ترفع راية الخط القبلي..

وكان معاوية يرفع راية بني أمية..

وكان الخوارج يرفعون راية التكفير..

وكان الإمام في مواجهتهم يرفع راية الإسلام النبوي..

إن عائشة أو معاوية أو الخوارج لم يظهروا من فراغ إنما هم يمثلون خطوطا تهدف إلى فتنة المسلمين. وإن المتأمل في الروايات الواردة حول هؤلاء في كتب السنن يتبين له هذا الأمر بوضوح..

ولقد بدأت المواجهة بين الإمام وبين هؤلاء فور وفاة الرسول (ص) وطوال عهد الخلفاء الثلاثة لم تكن تخرج هذه المواجهة عن حدود الصدام الفكري. أما حين برز دور الإمام بعد مصرع عثمان خرجت المواجهة عن حدود الصدام الفكري إلى الصدام العسكري بعد أن أحست الجبهات الثلاث بخطورة الأمر وتهديده لوجودها ومستقبلها..

فلم يكن يضر عائشة وجود عثمان على دفة الحكم أو سواه..

ولم يكن يضر معاوية وجوده أو وجود سواه..


الصفحة 122
أما وجود الإمام فهو يمثل تهديدا صارخا لأنه يرفع راية إسلام آخر يكشف زيف إسلامهم وفي حالة وجود عثمان أو سواه على دفة الحكم كان معاوية سيخرج رافعا رايته. فقد كانت المسألة بالنسبة له مسألة وقت كان وصول الإمام إلى الحكم قد اختصره..

وأما مواجهة الإمام للخوارج فهي تعكس خصوصيته بمواجهتهم والتصدي لنمطية الفكر والطرح الذي يطرحونه والذي يمثل تهديدا للإسلام النبوي. ويمثل نمطية ثابتة ومستمرة في مواجهة هذا الإسلام على مر الزمان. وكما تم القضاء على الخوارج على يد الإمام علي فلن يتم مواجهتهم والقضاء عليهم بعد الإمام إلا بواسطة خط الإمام..

إن الإمام علي لم يكن يهدف من وراء هذه المواجهة إلى القضاء على عائشة أو معاوية أو الخوارج بقدر ما كان يهدف إلى إقامة الحجة وإظهار الحق وتعرية الباطل ورفع راية الإسلام النبوي.

وهذه هي حقيقة دور الإمام..

إظهار الحق وإن لم يتحقق تمكينه وسيادته..

وتعرية الباطل وإن لم يتم القضاء عليه..

الجمل

يروى أن أبا بكر استأذن على النبي (ص) فسمع صوت عائشة عاليا وهي تقول: والله لقد علمت أن عليا أحب إليك من أبي.. (1).

وسئلت عائشة من كان رسول الله (ص) مستخلفا؟ قالت: أبو بكر. قيل ثم من؟ قالت: عمر. قيل ثم من لله قالت: أبو عبيدة بن الجراح.. (2).

إن الرواية الأولى تكشف لنا أن هناك موقفا معاديا من علي تتبناه عائشة. وأن هذا الموقف يعود سببه إلى تفضيل الرسول (ص) لعلي على أبيها..

____________

(1) أنظر أحمد وأبو داود والنسائي. وفتح الباري ح‍ 7 / 27..

(2) أنظر فتح الباري ح‍ 7 / 32. والحديث رواه مسلم..

الصفحة 123
والرواية الثانية تكشف لنا أن عائشة لم تكن تعترف بخلافة عثمان ولا بخلافة علي ووضعت مكان عثمان ابن الجراح وهو ما لم يقل به أحد من الرواة ولم يذكر على لسان أحد من الصحابة. ويخالف عقيدة أهل السنة في الاقرار بخلافة علي بعد عثمان.

ومن خلال الروايتين معا يتبين لنا أن موقف عائشة من الإمام علي ليس موقفا هامشيا أو سطحيا عارضا كما يحاول مؤرخو القوم وفقهاؤهم أن يصوروه رابطينه بحادثة الإفك.. (3).

وباستعراض الروايات السابقة الخاصة بعائشة خاصة تلك التي تتعلق بوفاة الرسول (ص) يتبين لنا عمق هذا الموقف وجذريته.. (4).

ولقد تبلور هذا الموقف في حياة الرسول (ص) حين كانت لعلي مكانته المرموقة والعالية التي فاقت جميع الصحابة وعلى رأسهم أبيها.. (5).

ثم أخذ هذا الموقف امتداده وتطوره بعد وفاة الرسول (ص) في حماية أبيها وقد تحقق لها ما كانت تطمح من مكانة ومقام لأبيها وعزل الإمام علي عن واقع المسلمين..

وطوال عهد أبيها وعهد عمر لم تكن لتهتز مكانة عائشة وسلطانها ولم تكن لترتفع مكانة علي عن الحدود المرسومة من قبل الخليفتين..

إلا أنه بعد مصرع عمر ووصول عثمان إلى الحكم تغير الوضع إذ برز بنو أمية وناطحوا عائشة وعلى والجميع مما دفع بعائشة إلى التصدي لعثمان ومنابذته..

وعندما ثار المسلمون على عثمان وقتلوه وبايع الناس الإمام علي الخلافة وجدت

____________

(3) يحاول مؤرخي السنة ربط الموقف العدائي الذي اتخذته عائشة من الإمام علي بحادثة الإفك حين قال الإمام للرسول صلى الله عليه وسلم: تزوج يا رسول الله فإن النساء كثيرات. فحملت عليه عائشة منذ ذلك الحين. والحق أن هناك شك في أن عائشة هي المقصودة بحادثة الإفك. أنظر تفاصيل هذه الحادثة في كتب التفسير وكتب التاريخ..

(4) أنظر الباب الأول من الكتاب. وانظر تفسير سورة التحريم وموقف القرآن من عائشة وحفصة (5) كانت عائشة من الحزب المناهض للإمام علي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم..

الصفحة 124
عائشة نفسها بين أمرين، إما أن تذعن لعلي وتدين له بالطاعة وذلك يعني انتهاء دورها وضياع مكانتها..

وإما أن تخرج على علي وتقاتله من أجل الخلاص منه.

وقد اختارت عائشة الموقف الثاني فكانت وقعة الجمل الشهيرة التي راح ضحيتها أكثر من عشرة آلاف نفس وانتهت بهزيمة عائشة.

يروي البخاري لما بعث علي عمارا والحسن إلى الكوفة ليستنفرهم - أثناء وقعة الجمل - خطب عمار فقال: إني لأعلم أنها - أي عائشة - زوجته في الدنيا والآخرة ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها.. (6).

ويقول ابن حجر معلقا على هذه الرواية: وقوله في الحديث لتتبعوه أو إياها قيل الضمير لعلي لأنه كان الذي يدعو إليه عمار. والذي يظهر أنه لله والمراد باتباع الله اتباع حكمه الشرعي في طاعة الإمام وعدم الخروج عليه. ولعله أشار إلى قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن) فإنه أمر حقيقي خوطب به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كانت أم سلمة تقول: لا يحركن ظهر بعير حتى ألقى النبي.

والعذر في ذلك عن عائشة أنها كانت متأولة هي وطلحة والزبير وكان مرادهم إيقاع الاصلاح بين الناس وأخذ القصاص من قتلة عثمان وكان رأي علي الاجتماع وطلب أولياء المقتول للقصاص ممن يثبت عليه القتل.. (7).

وابن حجر كما هو واضح من كلامه يعترف بأن عائشة خالفت القرآن بخروجها من بيتها بينما التزمت أم سلمة بنص القرآن. إلا أن ما لم يعترف به ابن حجر هو أن هذا الخروج قد كلف الأمة الكثير من الرجال والأموال ونتجت عنه مفسدة عظيمة حاول التغطية عليها وسترها بدعوى التأويل كما هو حال فقهاء القوم في مواجهة النصوص والأحداث التي ترتبط بكبار الصحابة وتشكل حرجا لهم.. (8)

____________

(6) أنظر البخاري. باب فضل عائشة. وفتح الباري ح‍ 7 / 108..

(7) المرجع السابق..

(8) أنظر كتاب العواصم من القواصم. وانظر لنا كتاب الخدعة..

الصفحة 125
ولم يكن أمام عائشة من مبرر تؤلب عليه الناس ضد الإمام وتدفعهم إلى قتاله سوى المطالبة بدم عثمان. وهو نفس الشعار الذي رفعه معاوية في مواجهة الإمام علي..

وكان انضمام طلحة والزبير إلى عائشة ونقضهما لبيعة الإمام قد دعم موقفها وزاد من حميتها للقتال وأسهم في تنظيم صفوفها. وهو نفس ما حدث مع معاوية حين انتمى إلى صفه عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة.، إن تبني كلا من عائشة ومعاوية قضية عثمان في مواجهة الإمام يدل دلالة واضحة على افتقادهما للمبررات الشرعية في مواجهته.

ومن جهة أخرى هو يدل على ضعف موقفهما ويضفي عليه الانتهازية.

يقول الإمام علي ذاما أهل البصرة أنصار عائشة: كنتم جند المرأة وأتباع البهيمة رغا فأجبتم وعقر فهربتم. أخلاقكم دقاق. وعهدكم شقاق. ودينكم نفاق. وماؤكم زعاق والمقيم بين أظهركم مرتهن بذنبه والشاخص عنكم متدارك برحمة من ربه..

كأني بمسجدكم كجؤجؤ سفينة قد بعث الله عليها العذاب من فوقها ومن تحتها وغرق من في ضمنها.. بلادكم أنتن بلاد الله تربة. أقربها من الماء وأبعدها من السماء وبها تسعة أعشار الشر. المحتبس فيها بذنبه والخارج بعفو الله.. (9).

ويقول الإمام في ذم عائشة بعد حرب الجمل: معاشر الناس إن النساء نواقص الإيمان. نواقص الحظوظ. نواقص العقول.. فاتقوا شرار النساء وكونوا من خيارهن على حذر ولا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر.. (10).

وقعة صفين

أصدر الإمام علي قراره بعزل معاوية عن الشام بمجرد أن تولى أمر الخلافة. إلا أن معاوية رفض الانصياع لقرار الإمام وأعلن العصيان رافعا قميص عثمان على منبر دمشق داعيا الناس إلى الثأر من قتلته مشيرا بإصبع الاتهام إلى الإمام علي وشيعته..

____________

(9) نهج البلاغة ح‍ 1 / خطبة رقم 13..

(10) المرجع السابق ح‍ 1 / خطبة رقم 78..

الصفحة 126
ويحاول المؤرخون توجيه اللوم للإمام علي وتخطئته لإصداره قرار عزل معاوية فور توليه الحكم وكان الواجب عليه أن يتركه على الشام حتى تنجلي الأمور..

ومثل هذا التصور إنما ينبع من رؤية سطحية لطبيعة الصراع. رؤية تنبنى على أساس أن المسألة لا تخرج عن كونها مجرد - صراع داخلي بين حاكم وواحد من ولاته. وتنبنى أيضا على أساس أن معاوية يتحرك وفق دائرة المصلحة..

ولو كان هؤلاء المؤرخون يفقهون شخصية الإمام علي ويقدرون دوره ويعطونه مكانته لكان من الممكن أن يفهموا أن موقف الإمام من معاوية إنما هو موقف يفرضه المبدأ الإسلامي..

لوفقه هؤلاء شخصية معاوية وتاريخه ومكانته الوضيعة ما تبنوا هذه الرؤية..

إن هؤلاء. المؤرخين كغيرهم من الفقهاء سقطوا ضحية السياسة وسلموا بما بين يديهم من أطروحات وروايات دون أن يعقلوها ويراجعوها على أساس أن هذا الأطروحات والروايات إنما وصلتهم من رجال عدول ثقات.. (11).

لقد حكم معاوية الشام سبعة عشر عاما مكن لنفسه فيها وارتبط مصيره بها وكانت بالنسبة له بمثابة دولة وليست ولاية..

ولأن الإمام كان يفقه حقيقة معاوية والاتجاه الذي يمثله والدور الذي سوف يلعبه كان لا بد من أن يتبنى هذا الموقف تجاهه..

حقيقة معاوية أنه شيطان هذه الأمة..

والاتجاه الذي يمثله هو الباطل..

والدور الذي سوف يلعبه هو ضرب الإسلام النبوي..

وأمام شخص كهذا لا تصح المساومات والمداهنات وأنصاف الحلول لأنها سوف تكون على حساب الحق وسوف ينتج عنها دعم الباطل..

من هنا كان السيف هو الحل الذي فرض نفسه. فلم يكن أمام معاوية سواه ليواجه به الإمام فهو لا يملك أية مقومات أخرى ليواجهه بها..

____________

(11) أنظر لنا كتاب فقه الهزيمة فصل الحديث وانظر باب انعكاسات الخط الأموي..

الصفحة 127
لا يملك الشرعية..

ولا يملك العلم..

ولا يملك الرصيد التاريخي..

وعندما بدأ الصدام كان في صف الإمام ثمانون بدريا ومائة وخمسون ممن بايع تحت الشجرة أما في صف معاوية فكان عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة أما أبو هريرة فلم يكن من المقاتلين وإنما كان يتزعم جهاز الدعاية لمعاوية..

أعلن الإمام في عسكره: لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم وأنتم بحمد الله على حجة وترككم قتالهم حجة أخرى فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تكشفوا عورة ولا تمثلوا بقتيل وإذا وصلتم إلى رجال القوم فلا تهتكوا سترا ولا تدخلوا دارا ولا تأخذوا شيئا من أموالهم ولا تهيجوا امرأة وأن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم.. (12).

وهذا الخلق النبوي الذي التزم به الإمام في المعركة واجهه معاوية بالغدر والخديعة حين رأى الهزيمة به لا حقة خاصة بعد مصرع رجل الإمام عمار بن ياسر الذي أخبر الرسول بمصرعه على يد الفئة الباغية.. (13).

ولقد شكل مصرع عمار هزة كبيرة لمعاوية وابن العاص خاصة بعد أن شاع بين جيش الشام خبر نبوءة الرسول في عمار..

يقول أبو بكر الجصاص: قاتل على الفئة الباغية بالسيف ومعه من كبراء الصحابة وأهل بدر من قد علم مكانهم وكان محقا في قتاله لهم لم يخالف فيه أحد إلا الفئة الباغية التي قابلته واتباعها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار تقتلك الفئة الباغية وهذا خبر مقبول من طريق التواتر حتى أن معاوية لم يقدر على جحده لما قال له عبد الله بن عمر. فقال: إنما قتله من جاء به فطرحه بين أسنتنا. رواه أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الحجاز وأهل الشام.. (14)

____________

(12) أنظر الطبري ح‍ 4 / 6. والكامل لابن الأثير ح‍ 3 / 149..

(13) أنظر سلم كتاب الفتن وابن كثير ح‍ 7 / 267. والإستيعاب وسيرة ابن هشام..

(14) أنظر أحكام القرآن للجصاص. وانظر ابن كثير والطبري وكتب التاريخ..