المرجعية اختصاص وعمل فني تماما
فالعقيدة هي السفينة، والمرجع بمثابة القبطان لهذه السفينة. والعقيدة هي المخططات اللازمة لمشروع الإنقاذ الإلهي، والمرجع هو المهندس الذي يتولى عملية توضيح وشرح هذه المخططات وبيانها وترجمتها مرحليا إلى واقع مادي ملموس ومحسوس. فالمرجع هو معلم البناء، ومن الجنون تحضير المواد الأولية اللازمة للبناء والشروع بالبناء دون مشورة وعلم المهندس أو معلم البناء. وعلى صعيد العقيدة الإسلامية يجب أن يكون المرجع أعلم أهل زمانه بهذه العقيدة، وأكثر أهل زمانه إخلاصا لها، وأكثرهم اعتصاما بالله وأفضل الموجودين وأنسبهم للقيادة والمرجعية لأن المرجع هو الحكم (بفتح الحاء والكاف) وهو الناطق بالحكم الإلهي. ويفترض أن ما تتبناه هذه المرجعية هو عين المقصود الإلهي.
تعددية المراجع
لا يوجد في العقيدة الإلهية الواحدة إلا مرجع واحد، فالنبي هو المرجع الأعلى لكل ما يتعلق بالإسلام. وموسى هو المرجع الأعلى في زمانه، فإذا افترق عن هارون يصبح هارون مرجعا مرتبطا بموسى وتابعا له، وإذا اجتمعا فالمرجع هو موسى. وهكذا عيسى فهو المرجع في كل الأمور المتعلقة بالديانة المسيحية، لأن تعدد المراجع في العقيدة الواحدة يؤدي بصورة حتمية لتفسخ العقيدة وتفرق أتباعها، واستنباط عقائد جديدة من الناحية الواقعية.
فالمرجعية في الإسلام هي مرجعية واحدة وهي اختصاص ومن أعظم ضرورات الدين. فإذا انعدمت المرجعية الشرعية يركب كل مسلم رأسه، أو تركب كل مجموعة من المسلمين رأسها، وتعتقد لكثرة ممارستها للخطأ أن الحق معها، وتتفرق الكلمة، ويتشتت شمل الأمة ولا يلمها ثانية إلا وجود مرجع واحد تعتبر كلمته حقيقة عقلية وإيمانية يتقبلها المسلمون عن رضى خاطر. وهذه هي السبيل الوحيد لتوحيد المسلمين
الفارق بين العقيدة والمرجعية
هو الفارق بين الدعوة وبين الداعية، فالدعوة المحمدية تقوم على أساسين:
القرآن الكريم والسنة المطهرة بفروعها الثلاثة: القول والفعل والتقرير، وهذه خاصية لمحمد (صلى الله عليه وآله). فالعقيدة هي القرآن الكريم، وبيان هذا القرآن المتمثل بقول الرسول (ص) وفعله وتقريره على اعتبار أن الشخص المبين وهو الرسول جزء لا يتجزأ من العقيدة والوثوق به وموالاته والتسليم بصحة فهمه للدين جزء لا يتجزأ من الدين. لذلك فقوله فصل في كل أمر من الأمور لأنه الأعلم والأفهم بالعقيدة والأفضل والأنسب لقيادة أتباعها.
ثم اكتمل الدين وتمت النعمة الإلهية، وبين القرآن كل شئ، وانتقل الرسول إلى جوار ربه، فترك العقيدة، وهي القرآن الكريم، والبيان وهو قول الرسول وفعله وتقريره. أما المرجعية بعده فموضوع آخر حيث تكون مهمتها بيان العقيدة الإلهية وتكييفها على الوقائع الحياتية في زمن ذلك المرجع.
وللتوضيح نقول: إن العقيدة هي بمثابة السفينة، وإن المرجع هو بمثابة القبطان، وإن العقيدة هي بمثابة المخططات العامة والتفصيلية، وإن المرجع هو بمثابة المهندس المختص بفهم هذه المخططات. إن العقيدة هي المواد الأولية اللازمة لبناء الصرح المنشود، وإن المرجع هو معلم البناء. إن العقيدة بناء فكري، أو إن شئت فقل شخص اعتباري قائم بذاته، وإن المرجع هو المعبر عن موقف هذا الشخص الاعتباري من القضايا المطروحة. ولك أن تقول: إن العقيدة هي الصيدلية الكبرى التي تحوي العلاج الشافي من كل داء وإن المرجع هو الطبيب والصيدلاني الذي يشخص المرض ويصرف العلاج اللازم المناسب تماما لهذا المرض من الصيدلية الكبرى، وهي العقيدة.
تجذير الحكمة من وجود المرجعية
إذا أوحى الله تبارك وتعالى لكل إنسان وجره إلى الخير جرا، وخصص له ملكا من السماء يرافقه ويقومه، فإن هذا الإنسان لا يستحق الأجر لأنه مكره على الفعل أو
والأمر الذي يتناسب مع نظرية الابتلاء الإلهية هو أن يرزق الإنسان القدرة على التمييز بين الحق والباطل بعد أن بين له الله الحق من الباطل ويؤتيه القدرة على فعل الحق وفعل الباطل. ثم يبين له الله الحق من الباطل المباح والحلال والحرام، ثم يعطي الإنسان بعد ذلك الحرية ليعمل الحق بإرادته وحريته ورضاه أو يأتي الباطل بحريته ورضاه وإرادته. هنا فقط يستحق الإنسان المكلف الثواب إذا أصاب والعقاب إذا أخطأ.
تلك هي الأرضية التي انطلقت منها فكرة الرسالات الإلهية إلى بني البشر، وانطلقت منها فكرة المرجعية كضرورة من ضرورات بيان الرسالات الإلهية، فدارت فكرة الرسالة الإلهية حول محورين:
1 - رسول يبلغ الرسالة وهي مرجعها الأرضي.
2 - رسالة لها مضمون يتعذر تبليغها بدون رسول أو مرجع. وهذه الرسالة معدة من قبل الله وهي مشروع هداية إلهية. فالله تعالى هو المرجع الأعلى للرسول في كل ما يتعلق بالرسالة ومضمونها وبيانها.
فالخطوة الأولى هي اختيار الرسول أو المرجع.
والخطوة الثانية هي إفهام الرسول مضامين هذه الرسالة الإلهية (العقيدة).
والخطوة الثالثة هي قيام الرسول بتبليغ هذه الرسالة لأصحابها وبيانها بيانا كاملا، ورصد ردة فعلهم عليها ليكون هو الشاهد. الناس يرجعون إلى الرسول بوصفه المرجع الذي يفهم الرسالة فهما يقينيا، وما أشكل على الرسول من أمور الرسالة يرجع به إلى الله. تلك حقيقة لا يجادل بها إلا جاهل.
كان الرسول - أي رسول - هو المرجع لمن اتبعه ليوضح وليبين للأتباع ومن بلغ مضامين الرسالة وكيف تتحول هذه المضامين الإلهية من النصوص النظرية إلى التطبيق العملي، وكيف تنفذ على الوجه الذي يرضي الله تعالى.
فإذا مات الرسول - أي رسول - فإن العقيدة باقية بالضرورة ما دام لها أتباع ويستدعي بالضرورة وجود مرجع ليقوم بدور البيان والشهادة. وهذا من ضرورات الرسالة، وعملية الابتلاء أن يكون للعقيدة الواحدة مرجع واحد ليقوم بقيادة مسيرة
المرجعية أكبر من أن تنكر
قلت في مقال نشر في عدد جريدة اللواء الأردنية رقم 955 تاريخ 17 صفر عام 1412 ه ما يلي: الأحزاب الدينية العربية لا تجهل أن الرسالات الإلهية لبني البشر لم تتوقف طوال تاريخ الجنس البشري على الأرض. فهل تتفضل الأحزاب الدينية العربية مشكورة ومأجورة فتبين للمسلمين متى أرسل الله رسالة بدون رسول ؟
ومتى خصهم بعقيدة من دون مرجع ؟ معكم الدنيا طولا وعرضا، فوقا وتحتا من لدن آدم حتى محمد (صلى الله عليه وآله)، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا بإذن الله فقد آن الأوان أن تتركوا التقليد الأعمى وأن تتقوا الله في دينكم وأنفسكم، وفي أمتكم وفي الجنس البشري الذي يعلق ضميره كبير الآمال على دينكم لينقذه والعالم من براثن المادية المقرفة إلى رحابة التكييف الإلهي للأحداث والأحكام.
فالعقيدة الإسلامية لها مرجع وهو رسول الله، وبعد موته بينت هذه العقيدة المرجعية من بعده، لأن المرجعية ضرورة من ضرورات الحياة.
فالأسرة لها مرجع، والدولة لها مرجع، والنظام له مرجع. وكل عقيدة إلهية أو وضعية لها مرجع بالضرورة، لأن المرجع عنصر أساسي لكل دعوة ولكل تجمع بشري ولكل عقيدة ولكل دولة. وسبب المصائب التي حلت بالمسلمين يعود في جوهره إلى استبعاد المرجعية الشرعية التي عينها الله، والتمسك بالمرجعية البديلة التي فرضتها الغلبة واستكان الناس لها بحكم التقليد.
الفصل الثاني
العقيدة
الرابطة بين العقيدة وبين المرجعية رابطة عضوية. فحيثما وجدت العقيدة يستتبع بالضرورة وجود مرجعية لأن التلازم والتكامل حاصل وبالضرورة بين العقيدة والمرجعية، ولتوضيح المرجعية توضيحا كافيا لا بد من بحث موضوع العقيدة إذ يتعذر فهم إحداهما دون فهم الآخر.
ما معنى العقيدة ؟
تعني العقيدة عموما مجموعة الأفكار والقواعد والمبادئ والقيم المترابطة والمتكاملة والتي تقدم تصورا للوجود لما هو كائن، ولما ينبغي أن يكون أو تصورا للحال وللمآل بغض النظر عن صحة هذا التصور أو فساده، عن شموليته أو محدوديته، عن كماله أو قصوره. فتجتذب هذه العقيدة جماعة معينة تقتنع بهذا التصور، فتحدد هذه الجماعة قناعاتها وأهدافها وطرق بلوغ تلك الأهداف وفق مقاييس تلك العقيدة، فتكون هذه العقيدة هي القائدة وهي الموجهة ومنبع الشرعية والمشروعية في حياة تلك الجماعة وهي منبع خيرها العام.
ومن الطبيعي أن كل عقيدة بهذا المفهوم تدعي القدرة على سياسة حياة معتنقيها، والقدرة على تقديم الحلول الناجعة لمشكلاتهم، واستشراق المستقبل الأفضل لهم، وتزعم أنها تمتلك الوسيلة لتحقيق الخير العام لهذه الجماعة. وما تزال تلك العقيدة تعتمل في نفوس معتنقيها وتحرك إرادتهم حتى يقدموها كمذهب سياسي له الجاهزية على إثبات دعوى القدرة تلك أو عدم إثباتها من خلال سلطة تسوس الجماعة وفق تصورات تلك العقيدة، لأن المذهب السياسي هو بمثابة
نوعا العقائد
عرفت البشرية نوعين من العقائد: 1 - عقائد إلهية من صنع الله 2 - عقائد وضعية من صنع فرد أو مجموعة من الأفراد أو إن شئت فقل من تجميع فرد أو مجموعة من الأفراد.
صناعة العقائد ولوازم إيجادها
ومن يتعمق بالموضوع يكتشف أن بإمكان الإنسان أن يفهم عقيدة - أي عقيدة صالحة كانت أم طالحة - ولكن الإنسان عاجز عن صنع وإيجاد عقيدة صحيحة، وهو بطبعه غير مؤهل لإيجادها، بل ويمكنك القول بكل ارتياح أن الجنس البشري لو اجتمع كله على صعيد واحد لما استطاع أن يصنع عقيدة صحيحة ويقينية، مع أن اجتماع الجنس البشري كله على صعيد واحد غير وارد وغير ممكن، وبالتالي فإيجاد العقيدة الصحيحة أمر فوق مستوى البشر، وفوق طاقتهم لأن هذا يتطلب معرفة يقينية بماضي الجنس البشري وبتفاصيل تجاربه، وهذا ركن أساسي يبنى فوقه، ويتطلب إيجاد العقيدة الصحيحة معرفة يقينية بالفطرة الإنسانية وحاجات الإنسان ودوافعه وميوله، بالإضافة إلى معرفة يقينية بالمستقبل لأنه هو الذي سيشهد زمنيا نجاح أو فشل هذه العقيدة أو تلك، ويتطلب أخيرا معرفة بالكون المحيط بالإنسان معرفة يقينية وهذه المعارف لا يدعيها فرد ولا تدعيها جماعة ولا يدعيها الجنس البشري كله.
فالعقيدة التي يضعها بشر ستنهار عاجلا أم آجلا لسبب بسيط هو أن الإنسان غير مؤهل بطبعه لإيجاد عقيدة. والعقيدة اليقينية التي تصلح أن تكون أساسا دائما للسلطة
ملامح عقيدة الإسلام
1 - على الصعيد العملي: الإسلام هو الانقياد التام لله جل وعلا في كل شأن من شؤون الحياتين الدنيا والآخرة، بحيث يكون عمل الإنسان وعمل الجماعة المسلمة وعمل الدولة المسلمة - وعلى كافة الأصعدة - خاضعا لموازين الأوامر والنواهي الإلهية المحددة بالرسالة الإلهية (العقيدة) النافذة المفعول وهي رسالة الإسلام، ومتجها لتحقيق غاياتها الشرعية، ونعني بالعمل: الحركة المضبوطة بالفكرة الشريعة والنية الشرعية.
2 - على الصعيد النظري: تعني العقيدة الإسلامية مجموعة القواعد والأحكام والمبادئ والأوامر والنواهي والمعلومات العامة والتفصيلية التي أنزلها الله تبارك وتعالى على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقام هذا النبي ببيانها للناس نظريا عبر دعوة وعبر دولة. ثم وضعها موضع التطبيق من خلال دعوة قادها بنفسه ومن خلال دولة ترأسها بنفسه.
فالعقيدة تشمل ما أنزله الله وأوحاه إلى نبيه، وتشمل قول النبي وفعله وتقريره.
وهذه العقيدة بمجموعها تبين كيف وجدت الحياة ؟ ولماذا ؟ وكيف تنتهي ؟
ومتى ؟، وما هي مآلاتها ؟ وتنظم العلاقات بين الأحياء على الاطلاق، علاقات الكائنات الحية مع الخالق ومع بعضها ومع الكون الضروري لوجودها والمسخر لخدمتها، وتبين كيفية انتهاء دورة الحياة كلها، وكيف تنتهي الدورة الحياتية لكل كائن حي مخلوق، وتكشف عن وجود حياة أخرى هي بمثابة قاعة محاكمة لكل الذين مروا بدورة الحياة الدنيا على ما قدموه، وهي بمثابة نتيجة فيأخذ المصيب أجره كاملا ويلقى المخطئ عقابه.
وهذه العقيدة سجل حافل لتاريخ الخلق عامة والجنس البشري خاصة حفظت تجاربهم بصدق وموضوعية تصل إلى درجة التصوير الفني المشاهد صوتا وشكلا وحركة، ظاهرا وباطنا.
وهذه العقيدة غائية، بمعنى أنها تحدد الأهداف. فلكل قاعدة من قواعدها هدف وجدت من أجله ورصدت عليه، وللفرد هدف وللمجتمع هدف، وللسلطة هدف، وللجنس البشري هدف. وهذه الأهداف كلها تصب في مكان واحد هو نفس الهدف العام للإسلام. وهذه الأهداف محددة و (معيرة) بشكل تعكس طوعيا كامل الطاقة الكامنة في ذات الفرد وذات الجماعة وذات السلطة وذات الجنس البشري وذات الكائنات المحيطة بهم والمسخرة لخدمتهم، كامل الطاقة لا زيادة ولا نقصان، لأن الشئ لا يملك إلا طاقته ولم تكتف العقيدة الإسلامية بتحديد الأهداف، إنما حددت الوسائل والسبل والطرق اللازمة لتحقيق هذه الأهداف وبينتها على وجه يزيل كل غموض.
التصور اليقيني
بمعنى أن الإسلام كعقيدة يقدم تصورا يقينيا شاملا وكاملا ويقينا يقوم على الجزم واليقين. وهذا التصور اليقيني يغطي بالكامل ساحة الأهداف والوسائل العامة والخاصة وفي كافة نواحي الحياة وعلى كافة الأصعدة الفردية والجماعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والدولية... الخ. وهذا التصور اليقيني هو بمثابة مخططات عامة وتفصيلية دقيقة لواقع ما هو كائن ومستقبل هذا الكائن في دائرة الواقع، وما ينبغي أن يكون عليه هذا الكائن في دائرة المنى الذي سيتحول إلى واقع بحيث تقودك هذه المخططات درجة درجة وخطوة خطوة حتى تصل بك إلى الغاية الشرعية من أقصر الطرق وبأقل التكاليف، وفي كل أمر من الأمور. عندئذ تكون العقيدة هي القائدة والموجهة، وهي منبع الشرعية، وتستقر كبنية فكرية كاملة، وتدعم هذا الاستقرار القناعة الذاتية والرضى بهذه العقيدة القائمة على الجزم واليقين، بعكس العقائد الوضعية التي تقوم على الافتراض والتخمين والتي ستنهار في النهاية عاجلا أم آجلا.
المنظومة الحقوقية الإلهية
بمعنى أن العقيدة الإسلامية هي مجموعة القواعد والأحكام والمبادئ والأوامر والنواهي والمعلومات العامة والتفصيلية التي أنزلها الله تبارك وتعالى على عبده محمد (صلى الله عليه وآله)، وقام هذا النبي ببيانها للناس عبر دعوة قادها بنفسه، وعبر دولة ترأسها بنفسه. فالمنزل من عند الله والمبين من رسول الله بالقول والفعل والتقرير يشكل منظومة حقوقية إلهية هي بمثابة القانون النافذ، الصالح لكل زمان.
ومنظر هذه المجموعة ومبينها بعد وفاة النبي هو المرجع الشرعي.
الفصل الثالث
من هو المختص بتعيين المرجعية
قلنا: إن كل عقيدة إلهية على الاطلاق لا بد لها بالضرورة من مرجعية شرعية تتلازم معها وتتكامل. ومن المستحيل أن تكون هنالك عقيدة إلهية بدون مرجعية تتولى بيان هذه العقيدة الإلهية. وهذا المرجع يجب أن يكون بالضرورة هو الأعلم في هذه العقيدة، والأكثر فهما لها، والأكثر إخلاصا لها، وخير الموجودين وأفضلهم وأنسبهم لا على سبيل الافتراض والتخمين، إنما على سبيل الجزم واليقين. وتلك أمور خفية لا يعلمها العلم اليقيني إلا الله العالم بالسر وأخفى. ومن هنا اختص تعالى بتعيين هذه المرجعية واختيارها، تلك حقيقة لا يجادل فيها إلا جاهل.
وهذه الصفات مجتمعة أعلنت العناية الإلهية أنها متوفرة في كل الأنبياء الذين اختارهم الله وحده عبر التاريخ البشري لتبليغ رسالات ربهم. ولم يحفل باعتراضات المعترضين * (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * * (هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين) * لأن هذه الاعتراضات على الحكم الإلهي تنبع من الافتراض والتخمين، بينما الحكم الإلهي باختيار هؤلاء الأنبياء وتعيينهم مراجع قائم على الجزم واليقين بأنهم الأعلم والأفهم والأكثر إخلاصا، والأخير والأفضل والأنسب لبيان العقيدة الإلهية وقيادة سفينة الإسلام والولاية على الأتباع.
والخلاصة أن الله جلت قدرته هو الذي اختص بتعيين المراجع التي تولت بيان العقائد الإلهية طوال التاريخ لأنه هو وحده الذي يعلم من هو المؤهل لبيان هذه العقائد. ولم يصدف في التاريخ البشري كله أن ترك أمر تعيينهم واختيارهم إلى أهواء الناس أو آرائهم.
ما هي المهام والوظائف المناطة بالمرجع الذي عينه الله ؟
لا خلاف بأن الأنبياء الكرام مراجع عينهم الله كلهم بلا استثناء، واختارهم بنفسه وأعلن هذا الاختيار. والسؤال: ما هي المهام والوظائف المناطة بهؤلاء المراجع الكرام ؟
1 - البيان: من المهام المشتركة بين كل الأنبياء والموكولة لكل الأنبياء كمراجع بيان قواعد العقيدة الإلهية، من صميم مهمة كل مرجع توضيح كامل العقيدة الإلهية، توضيحا كاملا على الصعيدين النظري والعملي من خلال دعوة بالضرورة تتمخض عن دولة، كما حدث لمحمد ولدعوة الإسلام. وقد لا تتمخض هذه الدعوة عن دولة كما حدث للكثير من الأنبياء، فالمرجع يبين القاعدة الإلهية نظريا كما تلقاها من الله بالضبط لا زيادة ولا نقصان، ثم يقوم بترجمة هذه القاعدة من عالم النظر إلى الحركة والتطبيق. فيكون البيان كاملا من الوجهتين النظرية والتطبيقية. فهو الذي يكيف النص على الواقعة بنفس التكييف الإلهي، وهو الذي يتأكد أن النص الإلهي قد حقق الغاية من وجوده على هذه الواقعة وعلى كل واقعة.
2 - تحديد دائرة الشرعية والمشروعية: يختص النبي المرجع ببيان حدود دائرة الشرعية والمشروعية، وقد حددها كل نبي مرجع ب: - 1 - عقيدة إلهية تشكل مركز دائرة الشرعية والمشروعية، وهي ما أنزله الله على المرجع سواء باللفظ والمعنى معا كالتوراة والإنجيل والقرآن، أو بالمعنى كالحديث القدسي.
2 - بيان النبي المرجع لهذه العقيدة الإلهية بشقيه النظري والعملي.
3 - وحدة العقيدة مع بيان المرجع، إذ يتعذر الفصل بينهما. فالعقيدة الإلهية والبيان وجهان لعملة واحدة، إذ يتعذر فهم العقيدة بدون بيان، ويتعذر استيعاب البيان دون الرجوع لأساسه. فما أنزل الله هو الأساس وبناء الهدى والبيان هو أبواب هذا البناء. 3 - الولاية على الأتباع: ومن مهام النبي المرجع أن يكون الولي والإمام على أتباع
4 - منع حدوث الضلالة: في عهد النبي المرجع يتحقق الهدى وتختفي الضلالة بتوفر ركنين:
1 - ركن عقائدي حقوقي وهو اتباع قواعد العقيدة الإلهية (المنظومة الحقوقية الإلهية) وبيان النبي المرجع لهذه المنظومة.
2 - ركن شخصي وهو الولاية والإمامة للنبي المرجع بحيث يسوس هذا النبي المرجع أتباعه ويطبق عليهم العقيدة الإلهية بنفس الفهم والكيفية التي يتلقاها من الله، والمحافظة على وحدة هذين الركنين ضمانة لسيادة الهدى والشرعية وأي خلل تطبيقي فيهما أو بأحدهما يؤدي حتما إلى الضلالة، لأن الركن الشخصي تماما كالركن العقائدي، وهما معا صفقة واحدة.
فغير ممكن لشخص أن يؤمن بالعقيدة الإلهية ويرفض ولاية محمد، لأن الولاية جزء لا يتجزأ من العقيدة، وأي محاولة للتجزئة تدخل صاحبها بالضلالة بحجم تلك المحاولة.
5 - سفينة نجاة: النبي المرجع سفينة نجاة، من يركب معه فقد نجا ومن يتخلف عنه أو يركب بأي سفينة أخرى يغرق لا محالة.
6 - النبي المرجع باب للمغفرة: من دخله غفر الله له، ومن أبى دخول هذا الباب بقي حاملا لأوزاره.
7 - النبي المرجع يقود أتباعه للهدى: فمن يتبع النبي ويطعه فكأنما أطاع الله، لأن طاعة النبي طاعة لله، وطاعة الله هي الهدى، ومن يعص الله ويتبع سواه فقد عصى الله، ومن عصى الله فقد ضل ضلالا بعيدا.
8 - النبي المرجع أمان للأمة المؤمنة ومانع للخلاف: فعندما تتبع الأمة المؤمنة النبي
9 - المرجع ثقل لاتباعه يتمسكون به فلا يسقطون ولا يضيعون.
10 - المرجع هو القدوة في العلم والتقوى والالتزام والحكم، وهو النموذج المتحرك للرباني المتمسك بالعقيدة الإلهية.
11 - تكثيف الجهود وتنسيق الطاقات المؤمنة لتعميم الهداية على الجنس البشري كله.
المرجعية خلال حياة النبي
طاعة الله تتمثل باتباع أوامره واجتناب نواهيه. والذي يعرف كنه الأوامر والنواهي هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فطاعة الرسول عمليا هي طاعة الله، ومعصية الرسول عمليا هي معصية الله. وقد تأكدت هذه الحقيقة في القرآن الكريم تسع مرات، لأن الرسول هو القيم على هذا الدين، وهو العالم بأسراره المطلع على خفاياه، والقادر على تخصيص العام من أحكامه وبيان المعنى المطلوب إن تعددت المعاني في النص الواحد، وبالتالي فإن المرجعية أثناء حياة الرسول محصورة به وبه وحده، لأن الله عصمه واصطفاه لهذه الغاية، ولا يمكن لأحد من أتباعه أن يفهم أوامر الله ونواهيه كما فهمهما الرسول بالتمام، لأن الرسول مميز ويجب أن يكون الأعلم والأفهم والأفضل ليرجع إليه أتباعه. فخلال حياته هو المرجع المختص ببيان الإسلام وبقيادة المسلمين بالإجماع ولا أحد يخالف هذه الحقيقة لأنها إيمانية وعقلية معا.
المرجعية بعد وفاة النبي قراءة أولية للواقع
حقيقة أنه قبل أن ينتقل الرسول إلى جوار ربه. اكتمل الدين وتمت النعمة،
لكن طبيعة الإسلام كآخر دين، وطبيعة قواعده المتعمقة بالعموم والشمول، وطبيعة المهمة الملقاة على عاتق المسلمين والمتمثلة بتقليص رقعة الكفر، وهداية الجنس البشري تقتضي بالضرورة وجود مرجعية بعد وفاة الرسول (ص)، وهذا أمر من البداهة بحيث أنه لا يحتاج إلى دليل لولا التقليد الأعمى، والتسليم بالواقع، وفطرة أغلبية الناس بإطاعة الغالب.
سيقول البعض - وخاصة الأحزاب الدينية العربية - إن علماء المسلمين هم المرجع بالمعنى الذي تقصده. والخليفة هو مرجع المراجع أيضا. ونحن نجيبهم بأن قولكم الأول غير عملي، فماذا يكون الموقف لو أن علماء المسلمين - على فرض إمكانية جمعهم في مكان واحد - قد افترقوا على فرقتين أو ثلاثة أو أكثر، وكل مجموعة لها وجهة نظر مستندة إلى ظاهر من الشرعية، وكلهم عمالقة بفقههم، وأصر كل فريق على رأيه، فأي فريق نتبع ؟ وأي رأي ننفذ ؟ ستقول الأحزاب الدينية العربية: إن الحاكم يتبنى الرأي الذي يراه مناسبا من هذه الآراء خلال فترة حكمه!!
إذن هم يعترفون أن الحاكم هو المرجع أو هو الذي يقوم بدور المرجع بوصفه خليفة النبي، ولكنكم تعلمون أنه قد توالى على رئاسة الدولة أعداد لا حصر لها من الخلفاء منهم التقي كعلي وأبي بكر، ومنهم أيضا مروان بن الحكم ومعاوية بن أبي سفيان ويزيد ابنه، ومنهم ترأس الدولة بالطريقة الشرعية، ومنهم ترأس الدولة ودانت له الناس لأنه الغالب وبحكم الحال والاضطرار. فمروان ليس عالما وغير مؤهل لاختيار الحكم الأمثل.
الحاجة لمرجعية بعد وفاة النبي
رأينا أن كل نبي على الاطلاق مرجع بالضرورة، كلفه الله تعالى بمهام ووظائف وسيد الأنبياء وخاتمهم محمد (صلى الله عليه وآله) قاد الدعوة إلى الله فنجحت دعوته، وأسفرت عن دولة طبقت قواعد العقيدة الإلهية بيانا كاملا نظريا وعمليا، وأعلن الله أنه قد أكمل للمسلمين دينهم وأتم عليهم نعمته. وخير النبي
من هو باب المغفرة ؟ من هو الأمان المخلص لهذه الأمة ؟ من هو ثقلها ؟ من هو مثلها الأعلى بعده ؟ من الذي يقود موكب المؤمنين لتحرير سكان العالم وانتشالهم من الظلمات إلى النور ؟
تساؤلات تحتاج إلى أجوبة
فإذا قال المسلمون إنه لم يعين المرجع من بعده، ولم يحدد من الذي سيقوم بوظائفه، ولا حدد من سيبين للناس أحكام العقيدة، ولا من الذي يحدد لهم دائرة الشرعية والمشروعية ولا بين من هو ولي الأمة من بعده، ولا من هو ركن مجدها القائم مقامه، ولا من هو ثقلها ؟ ولا من هو مثلها الأعلى ؟ ولا من هو الذي سيقود معركة تحرير البشرية وإنقاذها.
فإذا قال المسلمون ذلك، فإن قولهم هذا يناقض كمال الدين وتمام النعمة، لأن هذه الأمور من صلب الدين ومن صميم النعمة ؟ ومن المحال أن تغفلها العقيدة الإلهية، ثم إنهم لو أصروا على ذلك لوجدوا أن العقيدة الإلهية تتحدى إصرارهم هذا وتعيبه ولا تقره، وأن هذا الاصرار يتعارض مع المنطق والعقل وأساسيات الحياة فضلا عن تناقضه الصارخ مع قواعد العقيدة الإلهية.
الفصل الرابع
مواقف المسلمين من المرجعية بعد وفاة النبي (ص)
وحول المرجعية بعد وفاة النبي انقسم المسلمون إلى قسمين رئيسين، وكل قسم من هذين القسمين يزعم أنه على الحق المبين:
1 - التاريخيون: وهم الذين سوغوا ما جرى في التاريخ السياسي الإسلامي واعتبروه شرعيا من كل الوجوه، وبشكل خاص عهد الخلفاء الراشدين، ويعرفون بأهل السنة، واصطلاح التسنن وأهل السنة نشأ في العهد الأموي، وبالتحديد في زمن معاوية حيث انتصرت القوة على الشرعية، واستقر الأمر نهائيا لمن غلب، ودانت الأكثرية الساحقة لهذا الغالب. ومن هنا سمي ذلك العام بعام الجماعة، وسمي الذين دانوا لمن غلب بالجماعة وهم حزب الدولة، فهم وإن اختلفوا معها في بعض المواقف إلا أن السمة الغالبة هي موالاة الدولة، لأن بيدها الأرزاق، فهي تعطيها لهم وتمنعها عمن يوالي غيرها، ومن جهة ثانية فإنهم قد اعتبروا الدولة رمزا لوحدة المسلمين.
2 - الشرعيون: وهم الذين عارضوا ما جرى في التاريخ واعتبروه غير شرعي مع اختلاف بحجم المعارضة ونسبة الخروج على الشرعية. فعصر الخلفاء الراشدين عصر ذهبي بالنسبة لعصر بني أمية، ولا مجال للمقارنة بين العصرين. وعصر بني العباس أكثر سوءا من العصر الأموي، وهم يعتقدون أن العقيدة الإلهية عينت المرجع بعد وفاة النبي، وأن الله لم يترك الأمر سدى، إنما رشح المرجعية للناس وحولها صلاحية الجمع بين الحكم والمرجعية، وأن المرجع المعين شرعا بعد وفاة النبي هو علي بن أبي طالب (عليه السلام). وقد رتب الشرع طريقة تعيين المرجعية بنص كل مرجع على الذي يليه، ويعرفون بالشيعة. وقد نشأ التشيع في
وسنقوم ببيان رأي الفريقين بالمرجعية بعد وفاة النبي وإيراد حجة كل واحد منهما تباعا.
من هو المرجع بعد وفاة النبي ؟
رأي أهل السنة
زعم ترك النبي الأمة بدون خلف ولا مرجعية
يقول أهل السنة أن النبي قد ترك الأمة بدون خلف ولا مرجعية، وأنه لم يبين للمسلمين الإمام أو الولي الذي سيخلفه من بعده ويقوم بوظائفه الدنيوية والأخروية، ومنها المرجعية من بعده. وقد استدلوا على ذلك برد الخليفة عمر بن الخطاب على الذين أشاروا عليه أن يستخلف من بعده على المسلمين فقال: " إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني " يعني أبا بكر " وإن أدع فقد ودع من هو خير مني " يعني النبي (صلى الله عليه وآله) (1).
ثم إن النبي برأيهم لم يوص لأحد قط بأن يقوم بوظائفه الدنيوية والأخروية، ومنها المرجعية من بعده، ويستدلون على ذلك بقول السيدة أم المؤمنين عائشة " بأن النبي مات بين سحرها ونحرها ورأسه على فخذها، ولو أنه قد أوصى لسمعته ".
ومن هنا فقد أنكر بخاري ومسلم الوصية بهذا الشأن مستندين إلى قول أم المؤمنين.
ومن المؤكد حسب رأيهم أن النبي إذا بين هذا الإمام والولي والمرجعية من بعده فإنه قطعا ليس عليا بن أبي طالب كما تزعم الشيعة، لأنه لو كان عليا لما كان من المعقول أن يتجاهل الصحابة الكرام بيان النبي هذا ويولوا ويوالوا غيره، لماذا ؟
____________
(1) راجع الإمامة والسياسة لابن قتيبة ص 23 وراجع الطبري مجلد 3 ص 34 وراجع مروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 353.
والخلاصة أن النبي ترك ولاية وإمامة المسلمين ومرجعية الدين للمسلمين أنفسهم على اعتبار أن خلافة النبي شأن من شؤون المسلمين، والإمامة والمرجعية تتبعان بالضرورة لرئاسة الدولة.
تلاشي عملية ترك الأمة بدون مرجع
وقد اكتشف أهل السنة أن ترك الإمام القائم الأمة دون أن يسمي وليا للعهد من بعده خطر ماحق ما بعده خطر، وأن من مصلحة المسلمين ومصلحة الإسلام أن يقوم الحاكم باختيار ولي عهده ليخلفه من بعده.
أنظر إلى قول السيدة عائشة مخاطبة عبد الله بن عمر: " يا بني أبلغ عمر، سلامي وقل له: لا تدع أمة محمد بلا راع، استخلف عليهم، ولا تدعهم بعدك هملا، فإني أخشى عليهم الفتنة ". فأتى عبد الله فأعلم الخليفة بما قالت أم المؤمنين (2). لقد أصابت أم المؤمنين لأن ترك الأمة بدون راع ولا مرجعية يؤدي للفتنة ويترك الناس هملا.
وقد انتبه لهذه الناحية ابنه عبد الله بن عمر فدخل عليه وهو يجود بنفسه، فقال: يا أمير المؤمنين، استخلف على أمة محمد، فإنه لو جاءك راعي إبلك أو غنمك وترك إبله وغنمه لا راعي لها للمته وقلت له: كيف تركت أمانتك ضائعة ؟.
فكيف يا أمير المؤمنين بأمة محمد ؟ فأجابه الفاروق بمقالته السابقة " إن أدع فقد ودع من هو خير مني... الخ " (3).
وأمكن تلاشي عملية ترك النبي للأمة بدون مرجع عن طريق ما عرف بولاية
____________
(1) راجع الإصابة في تمييز الصحابة ج 1 ص 8 وما فوق وبهامشها الاستيعاب لابن عبد البر.
(2) راجع الإمامة والسياسة ص 23.
(3) راجع مروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 353 وراجع الإمامة والسياسة ص 23 وتاريخ الطبري ص 34.
وكذلك عهد عمر في الشورى إلى الستة... (1) وقد شرعت ولاية العهد بسبب فعل أبي بكر وعمر وعدم معارضة الصحابة لهم مما جعلها وليدة الاجماع، والإجماع سند شرعي كما يرى ابن خلدون، وذلك حرصا على وحدة المسلمين ومصلحتهم وهروبا من الفتنة، وحتى لا تبقى أمة محمد هملا بغير راع على حد تعبير السيدة عائشة أم المؤمنين (2)، وتجنبا للوم على حد تعبير عبد الله بن عمر بن الخطاب (3).
ويبدو أن الإمام الوحيد برأي أهل السنة الذي لم يسم خليفته، ولم يتخذ وليا للعهد هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فهو بالمفهوم عند ابن خلدون:
ينظر للناس عند حياته، ويتبع ذلك أن لا ينظر لهم بعد وفاته، بعكس بقية الخلفاء، أو رؤساء الدول الإسلامية حيث ينظر الواحد منهم عند حياته ويتبع ذلك أن ينظر لهم بعد وفاته. (4) والخلاصة أن الصحابة الكرام اكتشفوا بعد طول معاناة أن ترك الأمة دون بيان المرجع والإمام وولي العهد دمار محقق، وأن الوصية والتسمية أفضل لمصلحة المسلمين فشرعوها، أو هكذا صور.
والأهم من ذلك أن الشريعة الإسلامية شريعة سماوية، وقد بينت كل شئ
____________
(1) راجع مقدمة ابن خلدون ص 210 دار الفكر.
(2) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ص 23.
(3) مروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 353.
(4) مقدمة ابن خلدون ص 210 دار الفكر.
هذا أمر غير وارد قطعا، تدحضه النصوص الشرعية القاطعة وتكذبه، بالرغم من تقديرنا للواقع التاريخي الذي ساد.
فأهل السنة تشبثوا بكل شئ ليبرروا هذا الواقع الذي حدث. تشبثوا بالنص، وعندما خذلهم النص تشبثوا بالإفتراض، وعندما انهار الافتراض تشبثوا بالشورى وعندما انهارت الشورى تشبثوا بالرأفة بالمسلمين والحرص على مصلحتهم ووحدتهم ومستقبلهم حتى لا يتركوا هملا وبلا راع. واستقروا بعد طول ترحال على مبدأ أن الإمام القائم أو الخليفة القائم هو الذي يسمي من يليه، أي يحدد للأمة الشخص الذي عليها أن تبايعه. (1)
المرجع بعد وفاة النبي (ص) عند أهل السنة
الخليفة أو الإمام أو رئيس الدولة الإسلامية، القائم مقام النبي هو المرجع الديني والدنيوي معا، كيف لا وهو خليفة رسول الله. فما كان الرسول يقوم به يقوم به الخليفة. فهو ينظر في مصالح الأمة لدينهم ودنياهم، وهو وليهم والأمين عليهم ينظر لهم ذلك في حياته ويتبع ذلك أن ينظر لهم بعد مماته، ويقيم لهم من يتولى أمورهم كما كان يتولاها ويثقون بنظره لهم في ذلك كما وثقوا به فيما قبل (2)، فهو
____________
(1) راجع كتابنا النظام السياسي في الإسلام فقد استعرضنا فيه كافة النظريات التي تشبث بها أهل السنة ونقدناها نقدا علميا ص 8 وما فوق.
(2) راجع مقدمة ابن خلدون دار الفكر ص 210.
ولقد حاول الإمام الماوردي أن يكشف ويحدد هذه الاختصاصات على الصفحتين 15 و 16 من الأحكام، وكذلك الفراغ على الصفحة 11. ولقد لخصنا هذه المحاولة في كتابنا " النظام السياسي " ص 194. والمرجعية الدينية تابعة بالضرورة لرئاسة الدولة، لأن رئيس الدولة هو خليفة النبي، والنبي كان هو المرجع الديني والدنيوي معا. فما كان يمارسه النبي يمارسه الخليفة، لأنه هو القائم مقام النبي في كل أمر من الأمور عدا النبوة، بل إن هنالك أمور دخلت باختصاصهم وقالوا بأن النبي نفسه لم يمارسها وهي ولاية العهد. فالنبي ترك الأمة بدون راع وبدون ولي وبدون مرجع وبدون إمام برأيهم، ثم قام أبو بكر بمبادهة منه وتشجيع من أكابر الصحابة باتخاذ عمر وليا لعهده وتوليته خليفة من بعده. ثم جاء عمر فعهد لستة، ومن يدقق بالعهد يكتشف أنه عهد عمليا لعثمان، لأن عثمان كان يعرف بالرديف، والرديف بلسان العرب هو الرجل الذي بعد الرجل، والعرب تقول ذلك للرجل الذي يرجونه بعد زعيمهم (3). ومن جهة ثانية فإن طلحة كان غائبا، فلو وقف الزبير وطلحة وعلي في صف، ووقف الثلاثة الآخرون في صف عثمان لكان عثمان هو الخليفة لأن التنفيذ الحرفي لوصية الفاروق يؤدي حتما لاستخلاف عثمان - دقق بكل المصادر ستصل إلى هذه النتيجة.
وفي خلافة بني أمية كان رئيس الدولة هو الذي يسمي خليفته على الغالب، أو كان الغالب هو الخليفة وهو المرجع وهو الذي يعين المرجع من بعده. وفي خلافة
____________
(1) النظام السياسي ص 187.
(2) راجع الحكم للأستاذ ظافر القاسمي ص 353.
(3) راجع نظام الحكم للأستاذ ظافر القاسمي وقد نقلها عن الطبري ص 197 - 198.
وهذا المبدأ - أي أن الخليفة هو المرجع وأنه هو صاحب الحق بتولية الخليفة الذي يليه ليكون خليفة من بعده ومرجعا - سنه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ونسج الخلفاء على منوالهما. والفرق أن أبا بكر وعمر كانا يتوخيان أن لا يسند هذا الأمر لقريب لهما، بينما كانت الأمور فيما بعد عكس ذلك، وقد جرت العادة فيما بعد واستقرت على أن يسمي رئيس الدولة الحالي خليفته من بعده ويرشحه للأمة. وقد صور هذا الأمر كأنه حق للخليفة القائم، وقد فهم كثير من علماء أهل السنة ذلك ومنهم ابن خلدون إذ يقول بالحرف: إن الإمام ينظر للناس في حال حياته ويتبع ذلك أن ينظر لهم بعد وفاته (1).
الحاكم القائم هو المرجع عند أهل السنة
أهل السنة يعتبرون الخليفة الذي يتولى رئاسة الدولة ويمارسها بالفعل هو المرجع بالذات في كل الأمور الدينية والدنيوية. فأبو بكر هو المرجع الأعلى في زمانه، وعمر هو المرجع الأعلى في زمانه، وعثمان ومعاوية ويزيد ومروان بن الحكم... الخ كل واحد منهم يقوم بدور ومهمة المرجعية في زمانه. وينطبق هذا الوصف على خلفاء بني العباس وبني عثمان. فكل واحد منهم مرجع في زمانه، هو بالذات أو من يوكل له هذه المهمة. فالعبرة بالمرجعية الفعلية هو الغلبة. فالحاكم الغالب على الأمة هو وليها وإمامها ومرجعها في كافة الشؤون الدينية والدنيوية.
ذكر أبو يعلى العز فقال: روي عن الإمام أحمد ما دل على أن الخلافة تثبت بالغلبة والقهر، ولا تفتقر إلى العقد. فقال في رواية عبدوس بن مالك العطار: ومن غلب بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما برا كان أم فاجرا. وقال في رواية أبي الحارث في الإمام يخرج عليه: من يطلب الملك فيكون مع هؤلاء قوم ومع هذا قوم (تكون الجماعة مع من غلب) وذلك إعمالا للقاعدة الشرعية التي وضعها عبد الله بن عمر بن الخطاب عندما صلى بأهل المدينة يوم الحرة وقال للناس: نحن مع من غلب والناس يبايعون
____________
(1) المقدمة لابن خلدون.
ألا ترى كيف انتهت الأمور واقعيا بالنظام السياسي الإسلامي. فعلى الأمة أن تبايع الغالب بغض النظر عن دينه وصفاته، وبغض النظر عن موقف الشرع منه، بل أصبحت تلك المقولات جزءا من الشريعة السياسية.
والخلاصة أن الحاكم القائم الغالب هو المرجع في كافة شؤون الأمة عند أهل السنة.
من الذي يقوم مقام الحاكم في المرجعية
ما دام الحاكم حيا وغالبا فهو المرجع الأعلى للأمة في كافة شؤونها الدينية والدنيوية. وقبل أن ينتقل هذا الحاكم إلى جوار ربه ولو كان في النزع الأخير يعين للأمة إماما ووليا ومرجعا لها من بعده، وهو أهل لذلك ومخول بذلك. ولم لا ؟
فهو وليهم والأمين عليهم ينظر لهم في ذلك في حياته، ويتبع ذلك أن ينظر لهم بعد وفاته، ويقيم لهم من يتولى أمورهم كما كان هو يتولاها ويثقون بنظره لهم في ذلك كما وثقوا به فيما قبل. وقد عرف ذلك من الشرع بإجماع الأمة إذ وقع بعهد أبي بكر لعمر بمحضر من الصحابة فأجازوه وأوجبوا على أنفسهم به طاعة عمر (2).
ونضيف: إن تولية معاوية ليزيد تمت بمحضر من بقي من الصحابة. فإذا عين الحاكم القائم خليفته ومرجعية الأمة من بعده تقوم الأمة عمليا بمبايعته، ومن يعارض الأمة فهو مفسد في الأرض.
وصلاحيات الخليفة القائم بتعيين من يخلفه صلاحيات مطلقة لا راد لها ومعللة بكونه موضع الثقة على حد تعبير ابن خلدون وأبو بكر على فراش الموت عهد إلى عمر وقال لكاتب عهده عثمان: لو كتبت لك لكنت أهلا لها (3).
ثم ها هو عمر وهو على فراش الموت أيضا يفكر بأمر المسلمين ويقلب الأمر
____________
(1) نظام الحكم للقاسمي.
(2) مقدمة ابن خلدون ص 210 دار الفكر.
(3) راجع ص 429 ج 3 من تاريخ الطبري و ص 37 من سيرة عمر لابن الجوزي.