الصفحة 95
والجماعة التي وطد أركانها معاوية، كانت تعني العداء المطلق لآل البيت (ع) الجماعة التي بقيت وفية لمعاوية، حيث تجتمع جميعها على سب ولعن علي (ع) من على المنابر.

وروى عبد الله بن عمر عن الرسول صلى الله عليه وآله ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى أن كان منهم من أتى أمة علانية، لكان في أمتي من يصنع ذلك، وأن بني إسرائيل تفرقت ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله قال: ما أنا عليه وأصحابي) (36).

وعلى كل حال، فأنني لم أفهم من كلمة (الجماعة) حلا يشفي غليل عقلي علما أن الجماعة التي تحدث عنها معاوية، هي الجماعة التي استجابت له، في حكم الجاهلية. وبها قاتل الإسلام في شخص علي (ع) وبمثله قتل ابنه (يزيد) الإمام الحسين (ع) وباقي عترته الطاهرة.

والحق كما أفهمه، ليس مسألة كمية، عددية. والجماعة هي أن تكون على حق ولو كنت وحدك كما قالها ابن مسعود وليتني أعرف أي الصحابة الذين ذكرهم حديث ابن عمر الجديرين بالاتباع. وأيهم اتبع وقد تفرقوا فرقا ونحلا وسمعتهم مرة يقولون (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهديتم)، ولست أعلم إن هذا الحديث المشكوك فيه عند أهل الرواية (37) هل يحتوي على أقل قدر من المنطق. وكيف اهتدي سواء اتبعت عليا أو معاوية، أبا ذر أو عثمان. أبا هريرة أو عمار. ولعمري كيف يجتمع النقيضان؟!.

وهبني سلمت بهذا الحديث على علته، أفلست على السنة والهداية، إذا سلكت طريق علي (ع)؟ أو ليس هو على الأقل من الصحابة وإذا قالوا إنه برئ ونزيه، وأنه لم يخالف الجماعة، قلنا عن بعض الأصحاب لماذا قتلوا حسينا، لماذا،

____________

(36) سنن الترمذي (ج 5 ص 26) كتاب الإيمان: الحديث 2641.

(37) طعن فيه ابن حزم، وابن حنبل، بل واعتبره الأول موضوعا.

الصفحة 96
نفوا أبا ذر، لماذا قتلوا عمارا لماذا مثلوا بمحمد بن أبي بكر و... و.. وإذا قالوا إنها السياسة قلنا، ولماذا لم يتقوا الله في السياسة؟! (38).

إنني ورثت مجموعة تقديسات متناقضة، تجرعتها على حين غفلة من نضجي ووعي التاريخي. ورثت حب أبي ذر وعثمان، علي ومعاوية، وخالد بن الوليد، وفاطمة الزهراء.. سواء بسواء. لا ميزات ولا درجات. ولكن التاريخ، علمني ألا أكون مناقضا للحقيقة. وإلا كيف يتسع القلب لحب الشئ ونقيضه.

كيف أحب أبا ذر (رض) وعثمان الذي نفاه إلى (الربذة) حتى يرضى بني عشيرته، وواحدا من الطلقاء، (معاوية) إذ كان من المؤلفة قلوبهم.

وكيف أجمع بين حب معاوية ويزيد السفاكين، وبين حب علي وبنيه تركة النبوة ومشكاة النور الإسلامي؟! لم تتمكن مني مراوغات التاريخ، وحيل (القصاصين).

والسؤال الذي يجب أن يطرحه كل مسلم على نفسه: لماذا أنا مع هذه الفرقة ولست مع تلك؟.

هل الوراثة هي السبب أم الاجتهاد والقناعة؟؟.

إذا كانت القناعة كما يدعي البعض، فهي، تعني الانسحاب من المذهب والبدء في مسيرة البحث محايدة، ومتكافأة. أو قراءة التاريخ من أجل البحث عن الصواب، والاستعداد النفسي لخسران الكثير من المسلمات. والقراءة عن هذه الفرقة وكأنها فرقة القارئ. ثم تحكيم العقل، والقرآن، والوجدان.

وجدير بنا القول آنئذ: (اللهم ما عرفتنا من الحق فحملناه وما قصرنا عنه فبلغناه) (39).

أما أن نصم الآذان، ونعمي الأبصار، بحجة الإيمان والتقوى هو خداع

____________

(38) إنني أحكي ما دار بيني ونفسي في مسيرة البحث عن الحل العقيدي. وأنا لا أهدف أن أحول الكتاب كما سبق ذكره إلى معركة (إن قالوا قلنا).

(39) دعاء الإمام زين العابدين (الصحيفة السجادية).

الصفحة 97
نفسي، وهروب من ضغوط الحق، ودفن للرأس في الرمال.

كان قصدي هو بلوغ الحقيقة، والوصول إلى القافلة الناجية.. ولذلك كان من الضروري أن أخرج نفسي من ضيق التهذيب والفرقية، لأنظر من بعيد متحررا من ذلك الضباب الكثيف الذي يمكن أن يحجب عني الرؤية. كان شكي منهجيا. في البحث عن المعرفة التاريخية، فانطلقت. وبأدوات محايدة وبعقلية مشتاقة إلى سبر أغوار الحقيقة.


الصفحة 98

الصفحة 99

الفصل الرابع
من بؤس التاريخ إلى تاريخ البؤس!

(حقائق جديدة = رؤية جديدة!)





    (اضرب بعض الرأي ببعض
يتولد منه الصواب وافحص الرأي
فحص السقاء).
                أمير المؤمنين علي (ع)


الصفحة 100

الصفحة 101

رحلة جديدة مع التاريخ

أريد هنا، أن أوقف التاريخ الإسلامي على قدميه، بعد أن ظل في أذهاننا منقلبا على وجهه. وخطوة واحدة جديرة بإيقافه على رجليه، هي أن نفتح أعيننا مباشرة على كل ما وقع، ونحكم الوجدان، ليس إلا! وتاريخ الفتنة الكبرى أو مقتل عثمان، ليس بداية، بل نتيجة لمقدمات اختصرت بفعل التزامن والاستمرارية، لتنتج ما حصل.

وبذور الأزمة، يمكن ضبطها في عصر النبي صلى الله عليه وآله ولا أنكر أنني سوف أتوصل بمجموعة من المعطيات العلمية، الاجتماعية والسياسية والنفسية.

فالظاهرة التاريخية، هي من صنع الإنسان. فهو حر في اختياراته، مريد في مسالكه. وأحيانا تجده محاصرا ضمن محددات جغرافية وبيئية. لكن هذه الأخيرة لا تلغي (تحرره) على المستوى السياسي والاجتماعي والنفسي!.

ثم لا ننسى (العامل الاقتصادي) كأحد المحددات الأساسية لفهم الظاهرة الاجتماعية التاريخية. وذلك يمكن رصده من خلال التحولات الاجتماعية والسياسية والعقدية في ظل التطور الاقتصادي في المجتمع الإسلامي إننا نتعامل مع بشر، ذوي أبعاد مختلفة يعتريهم الضعف والقوة حسب التحولات التي تطرأ على تلك الأبعاد.

سوف نحفز في كل الاتجاهات، وفي كل الأبعاد من أجل الوقوف على حقيقة الظاهرة التاريخية، مجردة عن أوهامها، وبذلك يمكن للتاريخ الإسلامي أن يتمثل واقفا على رجليه.


الصفحة 102

الصفحة 103

سيرة الرسول: المنطلق والمسيرة!

نحن إذ نتحدث عن الرسول صلى الله عليه وآله لا نريد أن نرسم له سيرة تفصيلية كما هي عادة (السير). فهذا العمل لا يتناسب مع مقاصد الكتاب. ولكننا سنحاول قراءتها ضمن معطياتنا المنهجية، مركزين على المحطاة الحساسة، التي تعتبر مفتاحا لفهم الظاهرات التي شهدها التاريخ الإسلامي فيما بعد.

مع ذلك وحين نمسك (سفرا) عن السيرة، عادة لا نتجاوز بعض الأبعاد التي يذكره في البداية. وهي الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية المجتمع الذي ظهرت فيه (البعثة)!.

لقد جاء الرسول صلى الله عليه وآله مبشرا وهاديا، إلى قومه، ومعارضا لكل ما رزح به المجتمع العربي من أمراض اجتماعية وسياسية وأخلاقية. وأثناء ممارسته صلى الله عليه وآله للدعوة في المجتمع الجاهلي، كان يتعرض لنمط من الأذى، تقف وراءه نفوس، هي خلاصة ما أنتجه مجتمع الجزيرة العربية، وبكل المحددات التي تولدها البيئة الجاهلية، والإنسان العربي قبل الإسلام، كان يعاني انهيارا حضاريا يؤشر بالموت النهائي للمجتمع الجاهلي.

فسياسيا كانت أطراف الجزيرة العربية، خاضعة للنفوذ الاستعماري، من قبل قوتين عظيمتين، تمارسان توازنهما الحربي والسياسي في حين أن الوسط بقي منفلتا عن هاتين السلطتين ويعيش فراغا سياسيا قاتلا. وكانت تلكما القوتان، هما (فارس) و (الروم).


الصفحة 104
وبينما استولى الفرس على الشرق (1)، كان النفوذ الروماني في الشمال من الجزيرة العربية. وضمن هذا التمزق، بين إمبراطوريتين عظيمتين. كانت هنالك تشكيلة لاهوتية تتحرك في الداخل. وتؤسس لها كيانها الخاص في مجتمع الجزيرة، وتطمح إلى بناء مستقبلها البعيد، بنفس هادئ، ومخطط بعيد المدى، وكانت تلك هي المجموعة اليهودية التي انتشرت في ربوع الجزيرة العربية، وسيطرت على جزء من الاقتصاد فيها. مما خولها القدرة على السيطرة على القرار السياسي أحيانا.

وهذه الفئة بعكس النصارى (2) لم تكن لها جهة تسندها، ولا قوة تدعمها سوى الاعتماد على قدراتها الذاتية. وبالتالي استطاعت الفئة اليهودية كسب نفوذها في قلب الجزيرة، من خلال ممارستها لسلطتين؟.

الأولى: - سلطة لاهوتية، بحيث احتكر اليهود، وخصوصا في المدينة، الخطاب الديني - المغلق -.

ثانيا: - سلطة اقتصادية، من خلال السيطرة اليهودية على الانتاج الزراعي.

هاتان السلطتان منحتا فرصة لليهود، للسيطرة على جزء من المجتمع العربي، وأحيانا توجيهه، مستغلة بذلك وضع (التجزئة) العربية، والتفكك القبلي السائد. وكان من سلوكهم المزدوج، تجاه القضايا العربية يومها، ما تعرض له القرآن: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظهرون عليهم بالإثم والعدوان، وأن يأتوكم أسارى تفادوهم، وهو محرم عليكم إخراجهم. أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) (البقرة آية 85) وملخص الحالة إن اليهود في المدينة كانوا ثلاث فرق هم: بنو قريضة، بنو

____________

(1) عندما جاء الإسلام كان المنذر بن ساوى العبدي، واليا على منطقة البحرين في شرق الجزيرة من أبناء المنطقة، من قبل الفرس، وفي فترة قبل ذلك حكم الفرس اليمن، غير أنهم خرجوا منها بعد مجئ الأحباش المدعومين من الرومان. ثم ما لبثت المنطقة إن استقلت بعد ثورة (سيف بن ذي يزن)!.

(2) - كان ذراع النصارى في الجزيرة العربية، هم الرومان.

الصفحة 105
النضير، وبنو قينقاع. وحيث إن الوضع التجزيئي الغالب على المجتمع العربي يومها، أقتضى أن ينقسم إلى جبهتين متصارعتين على مدى السنين، هما الأوس، والخزرج. كانت هذه الفرق اليهودية تتمركز تكتيكيا ضمن الجبهتين. فبنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس. وعندما يقع القتال بين الفريقين، تجد كل فرقة من هؤلاء تقاتل إلى جنب حليفتها وبالنتيجة، يتم قتل اليهودي من قبل اليهودي. وكان قتل اليهودي لليهودي محرما في ميثاقهم. ثم لما تنتهي الحرب وتهدأ حدتها، ينظر اليهودي من كل الفرق إلى أخيه اليهودي الأسير في معسكره، فيلجأ إلى فديه، وذلك استجابة لنداء التوراة ولهذا عقب القرآن: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) (البقرة آية 86) ولقد أغرق اليهود العرب بالأساطير والخرافات. فنتج عن ذلك واقع مجتمعي مستلب. يعيش على سبيل الكهانة والسحر والخرافة. حيث انشلت إمكانياته على الترقي. فراح نحو الأقوال، واقترب من الغناء. وكان اليهود يمعنون في واقع التجزئة ويكرسون حالة التمزق القبلي لأنهم بذلك يحققون فرصتهم للبقاء والسيادة. وغالبا ما كانوا يصنعون الحروب الطوال بن القبيلة والأخرى، فيما لو أحسوا بخطر هذه القبيلة أو تلك.

وكان للعاملين القبلي والتجاري، دورهما في توجيه المجتمع العربي وبقي هذا هو السبب المانع لهم من السماع إلى دعوة الرسول، بمكة. فمن جهة رفضوا ميزة (النبوة) في محمد صلى الله عليه وآله لا لأنه الشخص المحترم، والأمين و.. ولكن لأنه ينتسب إلى عشيرة بني هاشم، العريقة بنبالتها، ومقامها في أرض الجريرة العربية. فأبوا عليها أن تجتمع لها كل الامتيازات التي ترفعها درجات، حيث يتعسر على القبائل الأخرى. أن تكون الرفادة والسقاية، ثم النبوة في بني هاشم، لذلك كانوا يبرزون وجهة نظرهم القبلية. مجددين بها (طبيعة) النبوة.

ويدلنا على ذلك ما عاناه الرسول صلى الله عليه وآله في دعوته. فيروي بن هشام في السيرة، أن النبي صلى الله عليه وآله عرض نفسه على بني عامر بن صعصعة وشرح لهم دعوته، وأجابه رجل منهم، قائلا:

(أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون

الصفحة 106
لنا الأمر من بعدك. قال: الأمر لله يضعه حيث يشاء. فقال له: أفنهدي نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه) وكان العامل القبلي، حاجزا ضد إسلامهم. كما كان دافعا لهم للكيد بالإسلام. لقد ورد عن ابن الأثير، إن أبي بن شريف التقى مع أبي جهل فقال له: (أترى محمدا يكذب؟ فقال أبو جهل: كيف يكذب على الله وقد كنا نسميه الأمين لأنه ما كذب قط. ولكن إذا اجتمعت في بني عبد مناف السقاية والرفادة والمشورة ثم تكون فيهم النبوة فأي شئ يبقى لنا. (وكان أبو سفيان يقول: كنا وبني هاشم كفرسي رهان، كلما جاؤوا بشئ جئنا بشئ مقابل، حتى جاء منهم من يدعي بخبر السماء، فأنا نأتيهم بذلك)!!.

إنه المنطق الذي يحكم حياة العرب قبل الإسلام، وبقي مسيطرا على أغلبية النفوس بعد الرسول صلى الله عليه وآله ولما عرض دعوته على بني عامر بن صعصعة، قال رجل منهم: (والله لو أنني أخذت هذا الفتى من قريش، لأكلت به العرب) (3).

وشيئا فشيئا، بدأ عمود الدين يقوى، وباتت شوكة الكفر تضعف. وقامت الحروب الضارية بين المسلمين والمشركين.

وحيث إن الأغلبية الساحقة في النهاية لم تدخل طوعا في الدين، ولا اعتقادا به. وإنما كرها وغلبة، فإنها انطوت على النفاق وبيتت الشر لبني هاشم.

لمحمد صلى الله عليه وآله الذي جاءهم بالإسلام. ولعلي (ع) الذي قتل آباءهم وأجدادهم.

والفترة التي فصلت بين (الفتح) ووفاة النبي صلى الله عليه وآله لم تكن كافية لنرع الطبائع القبلية من هؤلاء الوافدين على الدين.

ونلاحظ أن المؤامرة على الرسول صلى الله عليه وآله قد بدأت بعد الفتح. حيث حاول المنافقون الذين كانوا يشكلون جزءا من المجتمع الإسلامي. أن يغتالوا الرسول صلى الله عليه وآله في اللحظات التي توفرت لديهم فيها الفرصة. وقد ذكر أبو بكر

____________

(3) ابن هشام السيرة النبوية.

الصفحة 107
البيهقي في (دلائل النبوة) عن عدوة قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله قافلا من تبوك إلى المدينة، حتى إذا كان ببعض الطريق مكر به ناس من أصحابه فتآمروا أن يطرحوا من عقبه في الطريق وأرادوا أن يسلكوها معه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله خبرهم فقال، من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنه أوسع لكم فأخذ النبي صلى الله عليه وآله العقبة وأخذ الناس بطن الوادي إلا النفر أرادوا المكر به استعدوا وتلثموا وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر، فمشيا وأمر عمارا أن يأخذ بزمام الناقة وأمر حذيفة بسوقها بينما هم يسيرون إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم قد غشوه، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وأمر حذيفة أن يراهم، فرجع ومعه محجن فاستقبل وجوه رواحلهم وضربها ضربا بالمجن وأبصر القوم وهم متلثمون فأرعبهم الله حين أبصروا حذيفة وظنوا أن مكرهم قد ظهر فأسرعوا حتى خالطوا الناس وأقبل حذيفة، حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وآله فقال اضرب الراحلة يا حذيفة وامش أنت يا عمار، فاسرعوا وخرجوا من العقبة ينتظرون الناس فقال النبي صلى الله عليه وآله يا حذيفة هل عرفت من هؤلاء الرهط أحدا، فقال حذيفة عرفت راحلة. فلان وفلان، وكانت ظلمة الليل قد غشيتهم وهم متلثمون، فقال عليه السلام، هل علمتم شأن الركب وما أرادوا. قالوا لا يا رسول الله، قال: فإنهم مكروا ليسيروا معي حتى إذا اظلمت لي العقبة طرحوني منها، قالوا أفلا تأمر بهم يا رسول الله إذا جاءك الناس تضرب أعناقهم، قال أكره أن تتحدث الناس وتقول إن محمدا قد وضع يده في أصحابه فسماهم لهما ثم قال اكتماهم).

هكذا، إذن كان واقع المجتمع الإسلامي، بعيد الفتح. حيث تبنت طبقة المشركين، خيار (النفاق) والعمل في الظل. وتأسيس كيانها القوي داخل مجتمع الرسول صلى الله عليه وآله والتخطيط للمستقبل على المدى البعيد. وكان بنو أمية بزعامة (أبي سفيان) هم المناوئين الأوائل لحركة (النبوة) وعند الفتح، كانوا من الذين عفى عنهم الرسول صلى الله عليه وآله فسموا بالطلقاء حيث ذكر اليعقوبي: (ثم قال: ما تظنون وما أنتم قائلون؟ قال سهيل: نظن خيرا ونقول خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. وقد ظفرت. قال: فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، ثم قال: ألا لبئس جيران كنتم فاذهبوا، فاذهبوا فأنتم

الصفحة 108
الطلقاء) (4).

وعبارة (أنتم الطلقاء) تفيد معنى آخر، يناقض مفهوم الإيمان والإسلام.

فهم دخلوا الإسلام كرها، وخوفا من زحف الرسول صلى الله عليه وآله وما زال الأمويون يضمرون حقدهم وانتقامهم وتربصهم بمحمد ولذا أذاقوا آل البيت النبوي، كؤوس المنايا!.

وحالة الانتقام بقيت ساكنة، تتطور مع تطور الزمن، لتخرج إلى دنيا الافصاح، فتصنع أبشع جرائم التاريخ.

لقد جاء اليوم الذي تسلم فيه (يزيد بن معاوية) مسؤولية أمة محمة صلى الله عليه وآله وكان، حتى، كان، رأس بن بنت رسول الله، وحفيده الأكرم، والإمام الحسين (ع) بين يديه ينكث ثناياه بقضيب.

روى ابن أعثم والخوارزمي وابن كثير وآخرون، أن يزيد بن معاوية تمثل يومها بهذه الأبيات:

ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا واستهلوا فرحا * ثم قالوا يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القرم من ساداتهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل
لست من عقبة إن لم أنتقم * من بني أحمد ما كان فعل
لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل

وستبدأ تجليات الروح القبلية، والانتقامية، تظهر، فور رحيل النبي صلى الله عليه وآله لتتحرك النفوس صوب المطامع والمنافسة الخسيسة، وبذلك تسهل على الفئة المنافقة فرصة، لتقوية نفوذها، وقد وقع ذلك، وبدأ من السقيفة!

ولا بد ونحن ندرس (السقيفة) كحدث. يجب أن ندرك الجذور التاريخية التي تربطها بسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وأن لها أي السقيفة أبعادها فينا إلى الآن، وستبقى. ودون أن ننسى استحضار تلك المحطات التي أوجزناها سريعا، أي

____________

(4) تاريخ اليعقوبي (المجلد الثاني ص 60) دار صادر.

الصفحة 109
عن واقع الجزيرة العربية القبلية، واليهود والمنافقين. وغيرهما مما أشرنا إليه من محطات.

وفي تلك الأثناء لم تغب قضية الوصاية والخلافة. وهي أمر يدرك بالوجدان.

في مجتمع يهتم بالقيادة، وبخلافتها المرشحة. ذلك لأن المشروع الرسالي في عصر النبي صلى الله عليه وآله يقتضي الاهتمام، ولفت الأنظار إلى لذلك الامتداد القيادي لرسالة الإسلام. حتى لا يطرأ على التصور المناوئ أن المشروع النبوي مشروع وقتي ينتهي، بانتهاء صاحبه.

ولم يكن من منطق الرسالات السابقة - كما هو ليس من دأب نظم الحكم والقيادة في المجتمع النبيل الذي يملك نظرية أخلاقية حول الحاكم أن تغيب هذه المسألة المتصلة بواقع الرسالة الإسلامية ومستقبلها المصيري. ومن خلال (المسعودي) (5) نثبت أن فكرة الوصية، من القضايا التي شهدتها كل رسالات السماء. بل إن الرسالة التي أتت إلى قوم معينين، وفي إطار زمني محدود، لم تغب فيها، قضية الوصية، فكيف يمكن تصور (إلغائها) بخصوص رسالة عالمية، وفي إطار زمني ممتد، وساحة الإنسان أينما كان وحيث حل. فأجدر بهكذا رسالة أن تحدد قضية الخلافة (6) وحيث إن الخلاف حول الخلافة، نشأ فور وفاة الرسول صلى الله عليه وآله فهذا يعني أن المسألة ليست بذلك المستوى من (التفاهة) حتى لا يوفر لها الرسول صلى الله عليه وآله صيغة شرعية، تحول دون مضاعفاتها. أو لعله لم يحط بذلك علما، وبما سيحدث بعده من خلاف بسبب الصراع على أمر الخلافة، وهذا ينافي عصمته، وعصمة الوحي الذي كان يوجه الرسول صلى الله عليه وآله.

ثم إن الأصل في القيادة، هي الوصية. ولم تكن الشورى، سوى تبرير تاريخي لما وقع في (سقيفة) بني ساعدة. إذ أن التاريخ يفضح حقيقة الشورى التي اعتمدوها في السقيفة. بل إنها أي الشورى أثبتت (بؤسها) في انتخاب

____________

(5) - المسعودي في (إثبات الوصية).

(6) إذا كان البعض يرى أن الخلافة في أمر الدنيا هي المقصود، فنحن نتحدث عن الخلافة في الدين.

والخلافة في الدين هي نفسها الخلافة في أمور الدنيا، لأن هذه الأخيرة مرتبطة بالتشريع الإلهي.

الصفحة 110
صيغة الحكم. وفي خلق الممانعة الشرعية والمطامع النفسية والقبلية التي كانت سائدة يومها وليس من السهولة التغاضي، عما وقع حول الخلافة من خلاف وتضارب! (وما استل سيف في الإسلام، مثل ما استل على الإمامة) كما يؤكد المؤرخون (7).

إن الأخذ بشرعية الإمامة، كمسألة خاضعة لأمر الشارع، ستسقطنا في مأزق اتهام الكثير ممن حسبوا على الصحابة في تاريخ الإسلام. سيكون الخارج عنها يشكل الأغلبية. ولن يبقى إلا آل البيت وكبار الصحابة غير أننا لو سمعنا بشرعية الخلافة، كمسألة اختيارية خاضعة لاختيار. أهل الحل والعقد. أولا ككل، يلزم التقيد والالتزام بهذه الصيغة، لأنها تشكل في حد ذاتها (أمرا شرعيا) أي أن الخارج عن قرار السقيفة، سيكون مخالفا لتكليف شرعي. وهنا أيضا، سنسقط في نفس المأزق، هو مأزق اتهام الأغلبية الساحقة التي رفضت الشورى، وقيدت إليها بالعنف، ولن يبقى أمامنا من الملتزمين بالشرع إلا أبو بكر، وعمر، من الصحابة. وهذا مخالف للواقع. إذ أن التاريخ أحصى لهذين الرجلين مخالفات كثيرة لأمر النبي صلى الله عليه وآله، مما لا ينطبق على سيرة علي (ع) والصحابة الذين تعسكروا في بيته كسلمان الفارسي، وعمار، وأبي ذر، والمقداد.. وإذا كان علي (ع) والذين معه، لم يسجل عليهم التاريخ تلك المخالفات المفضوحة، فكيف يخالفون الرسول صلى الله عليه وآله بعد موته. وكيف لا يخالف الرسول صلى الله عليه وآله بعد موته أولئك الذين كفروا بالإمامة، إذا كانوا ممن تعود على مخالفة النبي صلى الله عليه وآله في حياته، بل ومجادلته بسوء الأدب. إننا سواء أخذنا (بالوصية) أو (الشورى) نضطر إلى اتهام قافلة ممن سموا بالصحابة، بمخالفة الشرع. فتأمل!.

إن هذه الأهمية التي تلابس (قضية الإمامة) كما تؤكد ذلك النتائج والوقائع التي أسفر عنها غياب الرسول: تبين مدى أهميتها في عهد الرسول صلى الله عليه وآله والقرآن الذي فيه تبيان لكل شئ. والرسالة الإسلامية بشكل عام. حيث فيها كل حلول المجتمع بما فيها سفاسف الأمور. فلا بد أن يكون فيها حل لقضية الخلافة

____________

(7) الشهرستاني في الملل والنحل.

الصفحة 111
التي هي أعظم قضية في التصور الإسلامي.

إن الأمر لو كان شورى مع افتراض أنها (شورى) لما كان من المنطقي، عقلا وشرعا. أن يتمرد عليها جيل من السابقين في الإسلام، ما كانوا يريدونها لأنفسهم بقدر ما أرادوها للإمام علي (ع). الانقسام يدلنا على أن القضية فيها إما (غصب) أو (ادعاء). فإما أن يكون علي (ع) ومن معه (يدعون) أمرا ليس لهم، أو أن الآخرين (اغتصبوا) حقا ليسوا من أهله. ومن هنا سننطلق في معالجة المشكلة في نطاقها التاريخي الحقيقي!.

قلت بأن أثبات الوصية لازم حياة الرسول صلى الله عليه وآله فكان يحمل همها ضمن همه النبوي الأول. إذ فرض نفسه مع الإمام علي (ع) بشكل ملفت للنظر. فرض نفسه كنبي رسول. ونصب الإمام عليا كوصي وخليفة. وهذا منطق لا يمجه طبع له إدراك، بفلسفة الحكم، وتاريخه البشري. بل حتى في طبيعة الحكم الديمقراطي الراقي. لم يكن الإنسان يستغرب إذا أعلن عن رئيس أمريكي ومعه نائبه. ومنذ ترشيح (ريغان) عرف نائبه (بوش) وكذا (كلينتون) كان نائبه معه (غور) قبل أن يستلم الرئاسة من (بوش). إنها تقاليد في الحكم الديمقراطي لا ترفضها روح القوانين. وكما لا تناقض أنماط السلطة والحكم الوضعي، فهي أيضا لا تناقض مسار النبوة والرسالة (8) إذا سلمنا بأن موسى (ع) نبي الله وهارون (ع) خليفته، عاشا معا. وقضى كلاهما في مجتمع بني إسرائيل، من دون أن يكون ذلك معربا عن تناقض.

فرض الرسول صلى الله عليه وآله نفسه، كواسطة رسالية، لنقل الوحي من الله سبحانه، إلى الناس، وأقام عليا (ع) كمؤازر ووزير ووصي. ولست أدري هل في سنن الأولين والآخرين، أن يعهد بالأمر إلى غير الوزير والوصي. علما أن اختيارات الرسول صلى الله عليه وآله كلها حكيمة، ومعصوم بوساطة الوحي. وليس شئ

____________

(8) وهنا يثبت المسعودي في (إثبات الوصية) وصايا الأنبياء من آدم إلى محمد صلى الله عليه وآله وعد أوصياءهم جميعا حيث جعل لآدم، شيث، ولإبراهيم إسماعيل، وليعقوب يوسف، ولموسى يوشع بن نون، ولعيسى شمعون ولمحمد علي (ع) والأحد عشر من ولده!.

الصفحة 112
يستوجب مدخلية (الوصي) كمسألة (مصير الأمة) كيف أوجد الرسول صلى الله عليه وآله خلافة علي (ع) في بداية الدعوة؟.

ثم كيف نستطيع رصد تميزات الدور (الإمامي) أو (الوصائي) في زمن الرسول صلى الله عليه وآله والخصوصيات الرسالية التي انفرد بها الإمام علي (ع) في زمن الرسالة؟.

سنحاول استنطاق التاريخ، والكشف عن أعماقه، ليتبين لنا ما إذا كان الأمر كذلك.

ذكر المؤرخون (9) إنه لما نزلت الآية (وأنذر عشيرتك الأقربين) (10).

قام الرسول صلى الله عليه وآله يدعو أقرباءه، وفيهم عمه أبو لهب فقال صلى الله عليه وآله:

(يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة. وقد أمرني الله عز وجل أن أدعوكم إليه فأيكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصي وخليفتي فيكم)؟.

فسكت القوم ولم يجيبوا إلا علي (ع) قال: (أنا يا رسول الله أكون وزيرك على ما بعثك الله) وبعد أن كرر الرسول صلى الله عليه وآله دعوته لقومه ثلاث مرات، التفت إليهم صلى الله عليه وآله وقال:

(أن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم (أو عليكم) فاسمعوا له، وأطيعوا) فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب (قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع وجعله عليك أميرا).

أولا: وفي رؤيتنا للحديث، لا بد أن نعلم بأنه بلغ قدرا من التواتر واعتبر صحيحا، لدى جميع المفسرين (11) إلى درجة جعلت الطبري وهو أحد رواته،

____________

(9) تاريخ الطبري، مسند أحمد بن أبي الحديد في شرح النهج، تاريخ الكامل.

(10) الحجر (94 95).

الصفحة 113
يتصرف في صيغة الحديث. فيروي بهذا الشكل:

(فأيكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون كذا وكذا) وبعدها قال للإمام علي (ع) إن هذا أخي وكذا وكذا) (12).

إن هذه ال‍ (كذا وكذا) هي قمة التمويه والتلبيس (المبتذل) لأنها دليل في حد ذاتها على أهمية ما تخفيه عبارة ال‍ (كذا وكذا).

وكيف أن الطبري الذي لم ينس صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها في تاريخه. كيف ينسى كلمتين فقط ظهرتا في نصوص الراوين الآخرين.

هناك بلا شك، منطق يحكم فكر المؤرخ. هو منطق التضليل والتعتيم اللذين يقلبان التاريخ على وجهه.

ومثل ذلك اضطرب ابن كثير في تفسيره للآية الواردة في سورة (الشعراء).

إذ أتى مرة برواية، صيغتها: (فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي) وأورد رواية أخرى بصيغة (أيكم يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي) (13).

وفي الرواية الثانية يبدو الخلط والتشويه معا. إذ أن موضوع إنذار العشيرة، لا ينسجم مع (من يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي) والتي في الظاهر إن صحت تبقى منسجمة مع ظروف الهجرة.

ولولا هذا التلبيس، لما اضطر (الطبري) إلى إخفائه ب‍ (كذا وكذا).

وقبل الشروع في تشريح الحديث، يجب أن نقضي على هذه (الشطحة) الروائية التي أحاطت بحديث (الدار) فالطبري في تفسيره تعمد أسلوب التمويه والتظليل. والدليل على ذلك أن الحديث وجدت صيغته (الواضحة) والصريحة في أماكن أخرى.

____________

(11) إلا واحد أراد أن يخالف الجمهور، لينقص من فضائل الإمام علي (ع) كما هي عادته القبيحة في النصب وهو ابن تيمية.

(12) تفسير الطبري: (ج 19 ص 74).

(13) تفسير بن كثير (ص 301 - 302) الجزء الثالث (دار القلم بيروت).

الصفحة 114
ثانيا: لأنه أورده في تاريخه بصيغته الحقيقية بعبارة (حدثنا بن حميد حدثنا سلمة حدثنا محمد بن إسحاق عن عبد الغفار بن القاسم عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب عن عبد الله بن عباس عن علي بن أبي طالب قال الحديث والغريب أنه أورده في (تفسيره) بنفس الصيغة والمتن غير ذلك التحوير في كلمة (أخي ووصي وخليفتي) (14) حيث استبدلها بما هو أبلغ وأبين (كذا وكذا) إذ تبين لنا مدى حقيقة التزوير التاريخي الذي احتكرته نخبة من رجال التحريف، والذي انقلب عليهم (سحرهم) ليكون تضليلهم وثيقة ضدهم لا لهم.

لقد أورد الطبري في تفسيره الحديث بهذا السند والمتن (15): حدثنا سلمة قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الغفار بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن عباس عن علي بن أبي طالب) لما نزلت هذه الآية (إلى أن قال) فأيكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي وكذا وكذا؟ قال فأحجم القوم عنها جميعا وقلت: وإني لأحدثهم سنا، وأرمصهم عينا، وأعظمهم بطنا، وأخمشهم ساقا، أنا يا نبي الله، أكون وزيرك، فأخذ برقبتي ثم وقال..

الحديث).

وبنفس الطريقة رواه في تاريخه حيث قال: حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق عن عبد الغفار بن القاسم عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب عن عبد الله بن عباس عن علي بن أبي طالب لما نزلت هذه الآية (وأنذر عشيرتك الأقربين) (إلى أن قال)

____________

(14) إن نفس الحديث رواه مشاهير السنة أنفسهم، بمتنه الواضح، ومنهم النسائي في الخصائص، والثعلبي في تفسيره والحلبي في سيرته.

(15) (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) أبي جعفر بن جرير الطبري (الجزء 19 ص 121 - 122) الأجزاء (19 20 21) دار الفكر.

الصفحة 115
فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم، قال فأحجم القوم عنها جميعا وقلت وإني لأحدثهم سنا وأرمصهم عينا. الحديث).

إذا تبين مدى التلبيس والتدليس، آن لنا إذ ذاك شرح الحديث، لنقف على الحقيقة التي يفيض بها متنه.

هناك أربع كلمات يمكن الوقوف عندها بتدبر وإمعان عميق:

1 أخي 2 وصيي 3 خليفتي 4 المؤازرة!.

وكل هذه الخصال، تحققت في حياة علي (ع) إلا واحدة لم تتحقق وهي عبارة (وصيي) ذلك لأن الوصية، تشير إلى حالة الاستخلاف بعد الموت. وكلمة (وصية) تفيد هذا المعنى (16). ولو كان يريد بها خلافته في الحياة لما قرنها بعبارة (وخليفتي) لأننا لو سلمنا بأنها تفيد الخلافة في الحياة أثناء غياب الرسول صلى الله عليه وآله كما ذهب البعض إذا لكانت عبارة (خليفة) لغوا وهذا لا يجوز على من أوتي جوامع الكلم!.

ووجود عبارة (وصي) إلى جانب (خليفة) تعني أن المعنيين مختلفان.

ونعود إلى أغوار السيرة، لنرى أن كل الخصال تحققت - باستثناء (الوصية) في نظر البعض وبعدم تحققها كان ما كان في تاريخ ما بعد السقيفة، وكان المنعطف الكبير في حياة الأمة.

1 المؤاخاة: -

كان (التآخي) في الإسلام منهجا لرص صفوف المسلمين. ونظم الرسول بنفسه عملية (التآخي) فيما بين المهاجرين والأنصار. وكان صلى الله عليه وآله يراعي كل متطلبات التآخي. فأن التقريب بين شخصين لم يكن ليجري اعتباطا، بقدر ما كانت تراعي فيه شروط الانسجام النفسي والروحي. وفي الوقت الذي آخى

____________

(16) ومن رأى أنها تعني الخلافة في حياته أثناء غيبته بمعنى (الوكالة) فإنه يحتاج إلى عودة لقراءة اللغة العربية!.

الصفحة 116
الرسول صلى الله عليه وآله بين المسلمين، اختار له الإمام علي (ع) أخا. وفي ذلك أورد أهل السيرة أخبارا كثيرة، كما جاء في السيرة الحلبية إن الرسول صلى الله عليه وآله آخى بعد الهجرة بين أبي بكر وخارجة بن زيد وبين عمر وعتبان بن مالك وبين أبي رويم الخشعي وبلال، وبين أسيد بن خضير وزيد بن حارثة (.) قال ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب وقال هذا أخي. فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي أخوين).

ولم يكن الرسول صلى الله عليه وآله اعتباطيا في هذا الاختيار حاشاه وإنما هي عصمة الوحي السديد، الذي كان الرسول صلى الله عليه وآله يتحرك في خطه لا يحيد! (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى).

2 الخلافة:

والمراد بها هنا، الاستخلاف. وهي جامعة لمعنيين. الاستخلاف في الغيبة، والاستخلاف بعد الموت. ووجودها في نفس المقام مع (الوصاية) يجعلها تأخذ (المعنى الأول:) وهو القيام بأعمال بالوكالة عن الرسول صلى الله عليه وآله وهذا النوع من الاستخلاف كان واضحا في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله لما كان يختار الإمام عليا (ع) لخلافته في أمور جسام. ويتجسد ذلك في:

1 - استخلاف الرسول صلى الله عليه وآله إياه في مكة لقضاء ديونه عند الهجرة. حيث أدى عنه الديون، ورعى آل البيت (ع) بعده صلى الله عليه وآله.

2 - وفي تبوك حيث لم يكن من عادة الرسول صلى الله عليه وآله أن يستخلف عليا (ع) وراءه لما تقوم الغزوات. وهو أنفع للإسلام في المعركة يومها، منه في حراسة المدينة. وهو بهذا الجهاد أقام أركان الدين، وقد قال فيه الرسول صلى الله عليه وآله (لولا سيف علي ومال خديجة، لما قام للإسلام قائمة)!. غير أن غزوة (تبوك) على إثر اتساع الرقعة الإسلامية المجتمعية. فقد دخل في الإسلام (الغث والسمين) واندس المنافقون وكثروا. وأغلبهم كان من المؤلفة قلوبهم الذين أسلموا مقابل جعل مالي مخصص لتأليف قلوبهم.

وخروج الرسول صلى الله عليه وآله في هكذا ظروف، حيث تحيط بالمدينة جموع من المنافقين الذين يخشى انقلابهم على أهله، استغلالا للظروف. فكان يومها

الصفحة 117
علي (ع) أصلح للبقاء في المدينة. والأجواء المحيطة بها تتطلب خلافة محكمة.

فكان الرسول صلى الله عليه وآله يخلف وراءه الإمام عليا (ع) لأنه الأكفأ لخلافته.

ولست أدري كيف يظن البعض، إن هذا مجرد اختيار اعتباطي. كيف يمكن للرسول أن يزهد في حضور الإمام علي (ع) المعركة، وهو مفتاح النصر، في كل معارك الرسول صلى الله عليه وآله اللهم إذا كان ثمة سر موضوعي، يقتضي أن تكون الخلافة لعلي (ع) على أهله في المدينة أيام تبوك. وفي ذلك يروي الطبري عن ابن إسحاق: خلف رسول الله: علي بن أبي طالب على أهله وأمره بالإقامة فيهم.

وذكر ابن هشام: استعمل صلى الله عليه وآله على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري وخلف علي بن أبي طالب على أهله وأمره بالإقامة فيهم فأرجف به المنافقون وقالوا ما خلفه إلا استثقالا له، وتخففا منه، فلما قالوا ذلك أخذ علي سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وآله: وهو نازل في الجرف فقال يا نبي الله زعم المنافقون أنك إنما خلفتني لأنك استثقلتني وتخففت مني فقال كذبوا ولكن خلفتك لما تركت ورائي فارجع فأخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى أن تكون مني بمنزلة (هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، فرجع علي (ع) إلى المدينة.

3 - وبخصوص (سورة براءة) يروي النسائي في خصائصه، عن سعد قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله أبا بكر ببراءة حتى إذا كان ببعض الطريق أرسل عليا فأخذها منه ثم سار بها فوجد أبو بكر في نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني (17).

وهذه الرواية التي أجمع على صحتها نقلة الأخبار من كلا المذهبين، تشير إلى واقع تحقق (الخلافة) للإمام علي (ع) في زمن الوحي. وهذه لفتة تاريخية كافية، كدليل على الخصوصية التي تميز بها الإمام علي (ع) وإذا كان الإمام علي (ع) بالتبليغ الإلهي أهلا أن يبلغ عن الرسول صلى الله عليه وآله فكيف لا يكون أهلا لخلافة الأمة من بعده! وهناك أكثر من مثال في السيرة على هذه الميزات التي

____________

(17) روى الحديث بأسانيد مختلفة عن النسائي في الخصائص، وكذلك روى الحديث الطبري في تفسيره والحاكم في مستدركه.

الصفحة 118
اختص بها الإمام علي (ع) دون غيره فيما يرتبط بخاصية الخلافة.

3 - المؤازرة:

وثبتت مؤازرته للنبي صلى الله عليه وآله ولم يأل جهدا إلا وأنفقه في سبيل مؤازرة النبي صلى الله عليه وآله ونصرته. والإمام علي (ع) هو من وقف مع الرسول صلى الله عليه وآله يوم لم يقف معه الناس. ونصره يوم خذلوه والأمثلة على ذلك في السيرة لا تكاد تحصى، ويمكن إيراد بعض منها على سبيل المثال لا الحصر.

1 - ليلة المبيت أول ليلة فداء)

لولا ما تم ليلة المبيت لما ترتبت هجرة الرسول صلى الله عليه وآله على تلك الشاكلة. لقد عزم المشركون على قتل النبي صلى الله عليه وآله وأعدوا لذلك خطة. وتوجب ساعتئذ عليه صلى الله عليه وآله أن يهاجر. علانية، إذ أن القوم وزعوا عيونهم، وهم يتربصون به. ولكي يموه عليهم الرسول صلى الله عليه وآله رتب أمر مبيت علي (ع) في فراشه.

وذلك المبيت يعكس خطورة الموقف. فلو كان الرسول صلى الله عليه وآله في خيار، لما ضحى بالإمام علي (ع). وليس إلا علي يقدر على هذه التضحية.

نام الإمام علي (ع) في فراش الرسول صلى الله عليه وآله وهو ينتظر الحراب كي تتوالى عليه ليستقبلها بروح استشهادية إيمانية. غير أن الخالق لم يرد بذلك سوى الاختيار، وتغذية التاريخ بالمثل العليا في التضحية والفداء فنجا الإمام علي (ع) ويومها نزل قوله تعالى (18) (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، والله رؤوف بالعباد) (البقرة: 207).

2 - في أحد:

واجه الإسلام مصيرا مأساويا يوم أحد. وزاد من تلك الخطورة، إن تفرق المسلمون، وشردوا من سيوف الكفار. ولم يبقى في المعركة سوى الرسول صلى الله عليه وآله وعلي (ع) وبقية قليلة من الصحابة الذين قر الإيمان في صدورهم. وكان أبو بكر

____________

(18) أجمع على ذلك المفسرون.

الصفحة 119
وعمر من أولئك الفارين في المعركة. وتمسك عمر، بمقتل الرسول صلى الله عليه وآله كورقة لتبرير فراره من الزحف. في هذا الأثناء كان سيف علي (ع) يمخر الأعناق ببسالة أسطورية.

ذكر الطبري: (لما قتل علي بن أبي طالب أصحاب الألوية. أبصر رسول الله صلى الله عليه وآله جماعة من المشركين فقال لعلي: إحمل عليهم فحمل عليهم، ففرق جمعهم وقتل عمر بن عبد الله الجمصي (..) فقال جبريل: يا رسول الله إن هذه للمواساة، فقال رسول الله: (إنه مني وأنا منه)، فقال جبرائيل: وأنا منكما فسمعوا صوتا:

لا فتى إلا علي * ولا سيف إلا ذو الفقار (19).

3 - في وقعة الخندق:

كانت هذه المعركة التي لم يشترك فيها المسلمون وجها لوجه مع الكفار، إحدى المعارك الاستراتيجية في تاريخ الإسلام. وخفف عن ذلك ما اقترحه سلمان الفارسي (رض) من حفر الخندق لغاية الدفاع. غير أن تجرأ عمرو بن ود العامري، واقتحامه الخندق طلبا للمبارزة، قد أوقع الإسلام كله أمام تهديد مصيري. وفيها كان عمرو بن ود يطلب المبارزة ويقول:

ولقد بححت من النداء بجمعهم هل من مبارز * ووقفت إذ جبن الشجاع موقف العز المناجز

ولم يستجب أحد لهذا الصوت، وفي الصحابة أبو بكر، وعمر.. لم يستجب إلا علي بن أبي طالب، فلقد كان يقف ويطلب من الرسول صلى الله عليه وآله الخروج إليه، حتى أذن ودعا له. وبعد أن نصر الله المسلمين في الأحزاب بعلي (ع) قال الرسول صلى الله عليه وآله كلمته الشهيرة: (لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ود أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة) (20).

____________

(19) ذكره الطبري (ج 2 ص 514).

الصفحة 120

4 - يوم خيبر: -

كانت هذه المعركة ضد يهود خيبر. وكانت حصونهم مانعتهم من المحاربين.

وكان الرسول صلى الله عليه وآله قد أعطى الراية لرجلين. الأول أبي بكر والثاني عمر..

فالأول انهزم وولى منكسرا إلى الرسول صلى الله عليه وآله وبلا نتيجة. والثاني: انهزم أيضا، ورجع يجبن الذين معه، ويجبنونه وساعتئذ قال صلى الله عليه وآله لأعطين الراية رجلا يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله. فاشرأبت أعناق الناس إليها. وفي الغد دعا عليا (ع) وكان به رمد. فمسح على عينيه فبرئ، وحمل الراية، وفتح حصن خيبر وسجل فيها أروع نماذج البطولة وقتل بطل الأبطال (مرحب).

أن يوصي الرسول صلى الله عليه وآله بمن يخلفه في أمته فذلك هو الأقرب إلى منطق العقل والشريعة. إذ كيف يعقل أن يترك الرسول صلى الله عليه وآله أمر الأمة للشورى في الوقت الذي لا يزال المجتمع فيه، غارقا في البداوة والجهل. فإذا لم يكن من الضروري - افتراضا أن يوصي بالخلافة في الحكم الدنيوي. فهل يعني هذا أنه ليس من من الضروري أن يوصي بمن يخلفه في مسؤولية (الدعوة والتوجيه) علما أن شعوبا أخرى - مات الرسول صلى الله عليه وآله وهي لم تفتح بعد، ولها مشاكل تختلف عن تلك التي واجهها عرب الجزيرة العربية في تعقدها وعمقها. وكانوا يحتاجون لفتوى من الشريعة. وهذا الفراغ الذي ظهر فيما بعد، كان سببه تغييب دور الأئمة عليهم السلام. ولذلك اضطرا المناوئون إلى خلق نمط من التفكير، لفهم الأحكام وتأصيلها. استلهموا روحه من الفكر الإغريقي، كما هو شأن (القياس) والمفهوم بالمخالفة، وما أشبه. وفي زمن الخلفاء، تبين هذا الفراغ وكان الإمام علي (ع) هو الوحيد بعد الرسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال: (اسألوني قبل أن تفقدوني) والوحيد الذي لم يستفت الآخرين في القضايا التي تواجهه. ورجوع

____________

(20) لقد كبر هذا الحديث على بعض النواصب من أمثال ابن تيمية. محاولا النيل منه لأن فيه فضيلة لعلي (ع) لا يشاركه فيها غيره. وابن تيمية يجهل المأزق الذي انوجد فيه الإسلام يوم الخندق. وكان على ابن تيمية أن يبحث في تبرير لأبي بكر وعمر. وعدم استجابتهما لدعوى المبارزة ودعوى الرسول صلى الله عليه وآله.. إنه اللهو بالحقائق وسوف يلقون غيا!.