أما ابن ملجم، فإنه اتجه صوب الكوفة، وكان قد التقى بامرأة اسمها (قطام) وأحبها، وكان علي (ع) قتل أباها وأخاها يوم النهروان، وافتقد بجمالها ابن ملجم توازنه، فخطبها، فرفضت ذلك إلا بشرط قتل علي (ع) وقيل اشترطت عليه (ثلاثة آلاف وعبد وقينة وقتل علي!).
فقال لها هو لك، ووالله ما وردت إلا لقتل علي.
فذهب وجلس مقابل الشدة التي يخرج منها علي للصلاة، وتمت العملية وقتل ابن ملجم عليا.
وتصايح الناس، فقبض عليه، وجيئ به إلى علي (ع) فقال له:
- أي عدو الله، ألم أحسن إليك.
- قال: بلى.
- قال: فما حملك على هذا.
قال: شحذته أربعين صباحا، فسألت الله أن يقتل به شر خلقه.
فقال علي (ع) لا أرك إلا مقتولا به، ولا أراك إلى شر خلق الله.
ومات علي (ع) في جو دراماتيكي، معكسه تفاصيل المشهد، مات سلام الله عليه بشهر رمضان سنة أربعين.
وأقيم الحد على ابن ملجم، طبقا لوصية الإمام علي (ع) الذي منع أن يقتل إلا إذا مات، خضوعا لحكم الشريعة في القتل. مات (ع) فارتاحت القلوب الحاقدة، ويومها وصل الخبر إلى عائشة (198) فقالت:
____________
(198) - مسكويه: تجارب الأمم / ج 1 - ص 383.
وسألت عمن قتله؟ فقيل: رجل من مراد، قالت:
وشاء القدر أن يموت يعسوب المؤمنين، وقائد الغر المحجلين، بتلك الطريقة النكراء، لينجو منها الأنذال، وتمنح لهم الحياة.
شاء الله أن يبقى علي (ع) - علما بشهادته، ويبقى مناوئاه خبرا في التاريخ غيبته الأحداث. بقيت النجف الأشرف تستمد نورها من جثمانه الطاهر، على مدى الأجيال، وبقي قبر معاوية، كوخا، وضيعا، أشبه بمزبلة، في أحد أزقة دمشق، والتاريخ يأبى الاحتفال بالأنذال، ولا يبخس العظماء حقهم وإن كره المؤرخون!.
وبموت علي (ع) سوف تنسل تلك البنة الأساس، في بناء الأمة، ستدفع هذه الأخيرة الثمن غاليا، لأنها تهاونت في الحفاظ عليها.
كان على (ع) قد اشتاقت إليه السماء. فأهل الأرض ضاقوا به. والملأ الأعلى ينظر إلى هذه المعارك التي قدر لعلي (ع) أن يخوضها، ولعل ذلك يعز عليهم، لكن الله، قضى أن يضحي علي (ع) بنفسه، ليعلم الله المؤمنين من الكافرين، وليمحص به أمر الأمة.
(ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) (199)، وعلي هو أمير هذه الآية، وموضوعها. ولكن عليا (ع) لم يشأ أن يبرح الدنيا، حتى يطمئن على أمة محمد صلى الله عليه وآله فأرسى بعده ابنه الحسن (ع) وهذا لم يكن سنة بسنة الخلفاء، ولا رأيا تلقائيا له مبرراته في هوى جامح ورأي خداج. إنه الرأي الحصيف؟، والنص المحكم البواح.
____________
(199) - ذكر المفسرون إنها نزلت في علي (ع) يوم نام في فراش الرسول صلى الله عليه وآله عندما عزم على الهجرة، تمويها على المشركين.
وبايعه قيس بن سعد. وهو مقدمة أهل العراق في جمع مؤلف من أربعين ألفا، كان قد بايعوا عليا على الموت.
هذا هو المنعطف الآخر، الذي ينفتح فيه التاريخ على أخطر المآسي. ليكسب بذلك آل البيت النبوي (ع) دنيا العذابات الدامية الشنيعة.
ما حدث في خلافة الحسن (ع)
ذكر المسعودي في إثبات الوصية، إن الإمام عليا (ع) لم يبرح حتى قال:
اخلوني وأهل بيتي أعهد إليهم فقام الناس إلا اليسير، فجمع أهل بيته وهم اثنا عشر ذكرا وبقي قوم من شيعته، حتى قال: وأوصي إلى ابني الحسن (200).
وبذلك تسلم الإمام الحسن (ع) مسؤولية الخلافة، في شوطها الأخطر. لقد كان عليه أن يضطلع بأمر، كان سببا في قتل أبيه. وأي إنسان يتصور ذلك.
فهذا ابن الأنبياء وورعه يحول دونه وتلذذ الملك. كيف يلهث وراء خلافة أبيه والخطب خطر، والمصاب جلل. لقد انشغل بدفن جده وهو صغير، ورأى أن القوم قد تسابقوا إلى السقيفة (يتناهشون) الخلافة. وشهد المؤامرة منذ نشأتها، ورأى بيت أمه يهدد بالحرق، واستضعفوا حتى كادت الجبال تندك لهول المأساة، ورأى أمه وهي تموت بالآلام التي تركتها التحرشات، وهي تبكي أباها، وتتلقى التهديد من ابن الخطاب، وتحرم إرث أبيها، وتندك أضلاعها من خلف الباب، يوم اقتحموا عليها البيت، وهي حبلى بمحسن. لقد شاهد كل هذا.
شاهد أباه، وهو يعاني الأمرين من عصيان أصحابه. ورأى كل ذلك، فقبل رغم اليأس، بخلافة أبيه لأنها المسؤولية، فالإسلام يواجه خطر (الأموية) وهي
____________
(200) - المسعودي إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب، ص 164 - 165 دار الأضواء - بيروت. الطبعة الثانية.
كان من الطبيعي للإمام الحسن (ع) فيما لو كان كباقي الرعية، أن يستكين للراحة، ويخلد لها، فمثله يحتاج للاستقرار النفسي والسكينة والسكن. فيكفي بنو هاشم ما تجرعته من خطوب ومحن. ويكفي بنو هاشم ما نالته من الطغمة الأموية على مر السنين. ولكن الإمام الحسن (ع) هو إمام وليس رجلا كباقي الرجال. إنه روح الأمة التي ستتولى مسيرة التصحيح وسواء أزيح عن الخلافة الإدارية أم لا، فأن إمامته لا تنفيها المصادرة والاغتصاب. فالحسن والحسين، إمامان بشهادة الرسول صلى الله عليه وآله قاما أو قعدا. مارسا الخلافة أو لم يمارساها، فهما إماما هذه الأمة. لذلك استجاب للوصية نزولا عند النص (201).
وكان من أوائل المبايعين قيس بن سعد.
كان المشكل الأول الذي واجهه الإمام الحسن (ع) هو (الطاعة) إذ علم أن لا رأي لمن لا يطاع وأي سماء كان سيرفعهم إليها الإمام علي (ع) من قبل، لو أنهم أطاعوه. ولكن بعصيانهم، عفروا وجوههم تحت جيوش الطلقاء، فكانت بيعته واضحة ومشروطة بإشارة إلى الطاعة:
(تبايعون لي على السمع والطاعة، وتحاربون من حاربت وتسالمون من سالمت) (202).
كان الإمام (ع) يدرك أن الواقع يعج بالمتناقضات، وأن جيشه ليس
____________
(201) - هناك من العامة من رفض أن يكون علي (ع) قد أوصى إلى الحسن (ع) وما هي إلا بلبلات أموية والمعروف عن علي (ع) تاريخيا إنه أوصى. واعتمد بعضهم حديث شعيب بن ميمون الواسطي، أن عليا قيل له إلا تتخاوف فقال: إن يرد الله بالأمة خيرا يجمعهم على خيرهم. أقول إن هذه الرواية فضلا عن أنها من الموضوعات فهي تحتوي على نزعة (جبرية تخالف منطق الإسلام، وذكر ابن حجدر في تهذيب التهذيب إن من مناكيد عن حصين عن الشعبي عن أبي وائل قال: قيل لعلي ألا تستخلف الحديث وشعيب هذا قال عنه البخاري: فيه نظر. وذكر ابن حيان أنه يروي المناكيد. أما أبو حاتم فقال عنه: مجهول (202) - ابن قتيبة.
ولما سمع القوم منه ذلك، أحجموا عن البيعة، وراحوا إلى أخيه الحسين (ع) قائلين له:
(ابسط يدك نبايعك على ما بايعنا عليه أباك، وعلى حرب المحلين الضالين أهل الشام).
فردهم الحسين (ع) قائلا: معاذ الله أن أبايعكم ما كان الحسن حيا.
ولما أبى الحسين، عادوا إلى الحسن، فبايعوه وهم مكرهون (203).
وكانت وراء هذا الحدث أسباب جديرة باستلفات النظر. فالحسين لا يقبل الخلافة، ما دام أخوه الحسن أمامه. ذلك أن الوصية الشرعية لأخيه من قبله.
وكان من المفروض أن يستجيب الإمام الحسين (ع) للبيعة فيما لو لم يكن حائل شرعي.
ولما عادوا للإمام الحسن (ع) كان من الضروري أن يستجيب لاكتمال النصرة. بايعهم الإمام الحسن (ع) وقلبه زاهد فيهم، لولا حرصه على مستقبل الأمة.
كان أصحابه مصرين على قتال أهل الشام. فهم يريدون إماما يسير على هواهم وهذا ما جعل الإمام الحسن (ع) لا يغامر بعيدا.
والجيش العراقي الذي كان يتكئ عليه الإمام الحسن (ع) لم يكن منسجما
____________
(203) - نفس المصدر.
وما أن شرع الإمام الحسن في ممارسة دوره كإمام، حتى بدأت تحرشات الأمويين تتحرك ضده من كل الأطراف. وقام معاوية بتطويق الخلافة الحسنية، بسلوك أنماط من الأساليب الديماغوجية وكذا الدعائية. فبثوا عيونهم بالبصرة والكوفة وباقي البلدان التي انقادت لإمامة الحسن ونشروا عناصرهم وعمالهم الجواسيس لنشر البلبلة، وخلط الأوراق، وتجميع المعلومات. وكان الرجلان اللذان بعثهما معاوية هما: رجل من حمير بعثه إلى الكوفة، والآخر من بني القين بعثه إلى البصرة، وما أن وصلا إلى البلدين، حتى انتشر أمرهما وألقي القبض عليهما. وقدم الحميري إلى الإمام الحسن فقضى بقتله. وقدم القيني إلى عبد الله بن عباس، وكان عاملا للإمام على البصرة، فقتله كانت هنالك إذا، تحرشات بين الحسن ومعاوية. ومناوشات قد تسفر عن معركة حقيقة. ولذلك كتب الإمام الحسن إلى معاوية كتابا، يحذره فيه من مغبة مغامراته وينذره من خطر المواجهة قائلا: أما بعد: فإنك دسست إلى الرجال، كأنك تحب اللقاء، لا شك في ذلك فتوقعه إن شاء الله، وبلغني إنك شمت بما لم يشمت به ذوو الحجى وإنما مثلك في ذلك كما قال الأول:
وحاول معاوية أن يجيبه بنفس منضبطة تصنع فيها الهدوء وسعة الصدر، يريد من خلالها استمالة الإمام الحسن، فهو لا يزال يضرب له حسابا، لأنه بقية أبيه ووارث بصيرته وشجاعته فقال له:
أما بعد: فقد وصل كتابك وفهمت ما ذكرت فيه، ولقد علمت بما حدث، فلم أفرح، ولم أحزن، ولم أشمت، ولم آس وإن عليا أباك لكما قال أعشى بني
ثم يذكر صاحب الأغاني وشرح النهج، إن ابن عباس بعث بكتاب إلى معاوية، يحذره من الأعمال التي يقوم بها وبث الجواسيس في البصرة:
أما بعد: فإنك ودسك أخا بني القين إلى البصرة تلتمس من غفلات قريش بمثل ما ظفرت به من يماينتك لكما قال أمية بن أبي الصلت:
غير أن معاوية كان يروم إلى بث الانكسار والتهدئة في صفوف الإمام الحسن. فراح يسبك أجوبته بشكل منسجم. قائلا في رده على رسالة ابن عباس:
أما بعد: فإن الحسن كتب إلينا بنحو الذي كتبت به، أنبني بما لم يحقق سوء ظن ورأي في، وإنك لم تصب مثلي ومثلكم، وإنما مثلنا كما قال طارق الخزاعي يجيب أمية:
أدرك ابن عباس، أن معاوية، صاحب خدعة ومكيدة. وأن الحرب عليه،
فبعث له ابن عباس رسالة جاء فيها: -
(أما بعد: فإن المسلمين ولوك أمرهم بعد علي (ع) فشمر للحرب وجاهد عدوك وقارب أصحابك، واشنر من الظنين دينه بما لا يثلم لك دنياه. ولا تخرجن من حق أنت أولى به حتى يحول الموت دون ذلك والسلام) (204).
____________
(204) - ابن أبي الحديد: شرح النهج، رسائل جمهرة العرب.
الإمام الحسن والواقع الصعب
نحن نريد فهم الأحداث في مجملها، لا القعود في سرد تفاصيلها الدقيقة، بما ينافي فلسفة التاريخ. ولكي نفهم الأسباب التي فرضت الصلح على الإمام الحسن، لا بد من إجراء جرد وتحقيق في الشروط التاريخية التي توافرت للإمام الحسن (ع) هذا الإمام الذي أظهره التاريخ (الفولكلوري) كرجل مسالم، يهوى الراحة، ويتقي الشدائد لقد رأينا كيف أن الإمام الحسن (ع) كان تواقا لردم الواقع على بني أمية، لو توفرت له الشروط الضرورية. غير أن محترفي التاريخ السطحي، يرون عكس ذلك. يقول (روايت م رونلدس): (فإن الأخبار تدل على أن الحسن كانت تنقصه القوة المعنوية والقابلية العقلية لقيادة شعبه بنجاح) (205).
ويذكر (فيليب حتى) في (تاريخ العرب) إن الحسن كان أميل إلى البذخ والترف منه إلى الحكم والإدارة. ولعل هذا التصور الساذج المبني على الوعي بالقشور، ونقل الأخبار من دون الحفر فيها. هو الذي يترك كثيرا من المؤرخين عربا ومستشرقين، يقعون في مثل هذه المآزق. ولشد ما ظلم هذا الإمام. فلا أبوه امتدحوه لما قام بقتل رؤرس النفاق ولا ابنه عذروه لما قبل الصلح وهو له كاره.
____________
(205) - عقيدة الشيعة.
كيف يتوقع أهل الغباء التاريخي، أن يقوم الإمام الحسن (ع) ويغامر بالحرب بجيش منهار. فالحرب مع معاوية. هي حرب مع نفوذ أوسع من نفوذ الحسن (ع) وهي حرب مع الدنيا كل (الدنيا) بأيديولوجيتها القبلية والاقتصادية. لقد دخل الدين المحض مع الدنيا المحضة في صراع الاستحقاق.
الجيش العراقي كما سبق ذكره كان يعاني الأزمات الآتية:
1 - حدث اغتيال الإمام، ترك آثاره السلبية في نفوس الأغلبية، لأن ذلك الحدث قد تحول بفعل التشكيك الأموي، إلى هزيمة في جيش العراق. أي بمثابة انهيار نفسي. مقابل معنويات الشاميين. فكان الإمام الحسن حائرا بين قلة معدودة من المتحمسين، وهنالك من كان على غير يقين في اختياره. مثل عبيد الله بن عباس.
2 - وجود اليأس في صفوف الجيش العراقي، مضافا إليه التكثيف المضاعف للإعلام المضلل الأموي، أوجد حالة التدابر والانشطار في المواقف، كما استطاع الإعلام أن يستميل بعض عناصر هذا الجيش إلى الصف الأموي. كان الإمام الحسن (ع) قد جعل عبيد الله بن عباس على رأس الجيش الذي جهزه لقتال معاوية وأهل الشام. وعندما انطلق معاوية بجيش إلى جسر (منبج) انتشر الذعر في العراقيين، ووصلت قلوبهم الحناجر، فكان لا بد للإمام الحسن (ع) أن يزرع الأمل في نفوسهم، ويعيد إليهم العزيمة في القتال فقال: (أما بعد: فإن الله كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها، ثم قال لأهل الجهاد: اصبروا إن الله مع الصابرين، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون، إنه بلغني أن معاوية بلغه أن كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك، اخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم في النخيل حتى ننظر وتنظرون، ونرى وترون) (206) ولم يجد
(أنا عدي بن حاتم، سبحان الله ما أقبح هذا المقام!!! ألا تجيبون إمامكم، وابن بنت نبيكم؟ أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة، فإذا جد الجد راوغوا كالثعالب، أما تخافون مقت الله، ولاعيبها وعارها) ثم دعا القوم:
وهذا وجهي إلى معسكرنا، فمن أحب أن يوافي فليواف (فركب دابته وانطلق وحيدا وعسكر في النخيل) (207).
ولما رأى ذلك قيس بن سعد بن عبادة، وزياد بن صعصعه التميمي ومعقل بن قيس الرياحي وكان ممن أدرك النبي صلى الله عليه وآله قاموا يلومون أصحابهم على عدم استجابتهم لأمر الجهاد، وعلى تخاذلهم في نصرة الإمام الحسن (ع) فأثنى عليهم. فانطلق الإمام بجيشه يريد القتال، وكان قد أعطى القيادة العامة.
لعبيد الله بن العباس. ورشح للقيادة من بعد عبيد الله كل من قيس بن سعد.
وسعيد بن قيس وكان عدد الجيش، أربعين ألفا حسب الطبري، وذكر ابن أبي الحديد إنه (اثنى عشر الفا) (208) وعلى أية حال، فإن هذه الإحصائيات تدل على أن جيش الإمام جرارا عرمرما. بيد أنه ضعيف البنيان، متهاك الروح، متضارب الأهواء. ينصرك اليوم ويخذلك غدا، ليس له قرار. وذكر ابن الأثير، إن أربعين ألفا من جيش العراق كان قد بايع الإمام الحسن (ع) على الموت. وهذا ما دعا الإمام أن ينطلق من الكوفة لرد العدوان الأموي. والملاحظ من خلال الاستعدادات التي أبداها الحسن (ع) للحرب، والتدابير التي اتخذها، لسحق
____________
(206) - شرح النهج لابن أبي الحديد.
(207) - نفس المصدر.
(208) - اختلفوا في تحديد جيش الحسن (ع) ذكر ابن قتيبة: مائة ألف، واليعقوبي: تسعين ألف، أما في البداية والنهاية: فسبعون ألف.
فالقضية واحدة، والروح العلوية واحدة، ولكن الظروف تغيرت، وبتغيرها تختلف المواقف. فقد كان الإمام الحسين (ع) الذي فجر أكبر ثورة في التاريخ، سامعا مطيعا في عهد أخيه، ولم ينبس ببنت شفة. لقد علم أن الظرف ليس ظرف قتال.
هذا الجيش بهذه المواصفات. لم يكن مؤهلا للقيام بالدور الرسالي الحقيقي.
ومهيأ للأنهيار في كل لحظة. وأدرك معاوية نقطة الضعف هذه في جيش الإمام الحسن (ع) واستغلها لصالح نفوذه فراح يبث الإشاعات في صفوف الجيش ويبعث لهم الرسائل الميئسة ويغري بعضهم البعض الآخر. ولم يستخدم طريقة واحدة في التعامل مع عناصر الجيش العراقي، بل سلك كل تلكم السبل، لأنه يعرف مدى التنوع في أهواء ذلك الجيش فطورا بالترهيب وطورا بالترغيب.
وبث داخل الجيش مجموعة دعايات، مثل (إن الحسن يكاتب معاوية على الصلح فلم تقتلون أنفسكم) (209) وبعث إلى عبيد الله بن عباس رسالة استطاع استمالته بها:
(إن الحسن قد راسلني في الصلح، وهو مسلم الأمر إلي فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعا، وإلا دخلت وأنت تابع، ولك إن أجبتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم، أعجل لك في هذا الوقت نصفها، وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر) (210).
واستطاع معاوية أن يضم إليه عبيد الله بن عباس بهذه الكلمة. وخان هذا الأخير إمامه الحسن. وكان هو المحرض الأول لقتال معاوية. فهي حالة كان يدركها الإمام الحسن، وأدركها معاوية، لذلك عزف له على وتر الاغراء والرشا. ورأينا كيف أن الجيش العراقي لم يعزم على الخروج إلا للوم هؤلاء
____________
(209) - ابن أبي الحديد.
(210) - ابن أبي الحديد.
فقد عرف أن سبب اضطراب الجيش، كان بسبب ما تركته خيانة عبيد الله بن عباس، فقام خطيبا فيهم، يكشف لهم عن حقيقة الأوصاف التي يعرفونها عنه، حيث تبين أمره وأميط اللثام عن حقيقته، فقال:
(إن هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خير قط، إن أباه عم رسول الله (ص) خرج يقاتله ببدر فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري فآتى به رسول الله صلى الله عليه وآله فأخذ فداءه، فقسمه بين المسلمين وإن أخاه ولاه علي على البصرة فسرق ماله ومال المسلمين فاشترى به الجواري، وزعم أن ذلك له حلال، وأن هذا ولاه علي على اليمن فهرب من بسر بن أبي أرطأة، وترك ولده حتى قتلوا، وصنع الآن هذا الذي صنع (211). وسرعان ما أعادت هذه الكلمة، التوازن إلى الجيش، وأدركوا أن الخيانة كان طبيعية من عبيد الله بن العباس، وما برحوا أن
____________
(211) - مقاتل الطالبين.
وتولى بعد ذلك قيس مهمة القيادة في جيش الحسن (ع) وبعث برسالة إليه، يخبره بما وقع من أمر عبيد الله بن عباس. وكان ذلك بمثابة دليل ملموس على مدى اهتزاز جيشه. فازداد يقينا، وخف اعتماده على هذا الجيش. أما معاوية، فدامت عملياته الدعائية داخل الجيش، بحثا عن العناصر الأخرى، ذات الأطماع الرخيصة. فزاد في نشر العيون، وإشاعة البلبلة. خصوصا لما رأى مخططه قد نجح، وكان مما أذاعه في (المدائن) إن قيس بن سعد قد صالح معاوية، ودخل صفه، كما أذاع - حسب اليعقوبي خبر مقتل (قيس بن سعد).
وسار على ذلك النهج، ينشر الرعب والذعر في العراقيين، ويغريهم بالمال والمناصب أحيانا.
وكانت كل إشاعة تنشر تجد لها من يصدقها، فليس مستحيلا أن يغدر قيس جيشه ويخونه، ما دام عبيد الله قد فعلها وهو من هو في ولائه وقربه من الإمام الحسن (ع) بل وقد صدق بعضهم إشاعة أن الحسن قد صالح معاوية، فكل شئ وارد، لقد اختلطت الأوراق، والكل بات متهما حتى تثبت له البراءة! وقد عانى الإمام الحسن (ع) الأمرين من جيشه أكثر من معاوية، فماذا يفعل الإمام الحسن (ع) بجيش مريض. لقد أغدق معاوية أمواله ورشاويه، ولم يغرهم الإمام الحسن (ع) إلا بالجهاد والجنة، فكان إن هرب عبيد الله مع ثمانية آلاف إلى معاوية، وهرب الكندي إليه مع مائتي رجل بعد أن أغراه معاوية بخمسمائة ألف درهم، وكان الإمام الحسن قد وجهه قائدا على أربعة آلاف ليعسكر بالأنبار (213).
وعمت السرقة في صفوف الجيش، فراح ينهب بعضهم بعضا، لما سمعوا أن
____________
(212) - نفس المصدر السابق.
(213) - البداية والنهاية.
وتعرض الإمام الحسن (ع) إلى عمليات اغتيال من قبل عناصر جيشه، فجاءه مرة واحد من بني أسد - الحراح بن سنان - وأخذ بلجام بغلته، وطعن الإمام في فخذه فاعتنقه الإمام وخرا إلى الأرض. حتى انبرى له عبد الله بن حنظل الطائي، فأخذ منه (المغول) وطعنه به. وطعن مرة أخرى في أثناء الصلاة (215).
ماذا يفعل الإمام بعد كل هذا، إنه رغم الإشاعات وما فعلته في جيش الإمام، رأى أن ينبه جيشه إلى مضاعفات السلام مع معاوية، لعلهم يفهمون.
إن معاوية يواجه الإمام الحسن (ع) بنفوذ قوي، له عناصره داخل جيشه نفسه، فلا بد من قبول الصلح، حفاظا على الحد الأدنى من مصلحة الأمة، التي كانت يومها في حقن الدماء. وما دام إن الإمام الحسن (ع) يرى أن معاوية بلغ من العمر ما يكفيه، فإنه فضل الانتظار، بأن تكون الخلافة لبني هاشم من بعد معاوية.
فبدأ يهئ أصحابه للقبول بالصلح، قائلا: (إني خشيت أن يجتث المسلمون عن وجه الأرض فأردت أن يكون للدين ناع). ثم قال: أيها الناس: إن الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إنما هو حق أتركه لإصلاح أمر الأمة، وحقن دمائها (216).
عرف إن قتال معاوية قد يؤدي إلى سفك الدماء، ومحو الصلحاء، وإذلال
____________
(214) - اليعقوبي.
(215) - ينابيع المودة.
(216) - الأعيان، للسيد الأمين.
(والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلما، والله لئن أسالمه وأنا عزيز، أحب إلى من أن يقتلني وأنا أسير أو يمن علي فتكون سبة على بني هاشم إلى آخر الدهر ولمعاوية لا يزال يمن بها هو وعقبه على الحي منا والميت) (217).
لقد تمثل الإمام، مشهد الحديبية، يوم قبل الرسول صلى الله عليه وآله بالصلح مع المشركين، فرأى أن ذلك أمر ضروري أيضا مع أبنائهم اليوم، لأن ميزان القوى غير متكافئ، وما كان للإمام الحسن أن يرضخ للصلح إلا بعد أن نادى به معاوية ونشر في الناس من يشيعه.
وكان معاوية قد بعث إلى الحسن سرا، ليصالحه فأبى الحسن (ع) حتى أجابه بعد ذلك (218).
ألفى الإمام نفسه لدى معضلة تستلزم شجاعة في الاختيار والقرار، فإما أن ينازع معاوية في السلطان، ليكون له، أو يتركه على أن يكون له من بعده، فالإمام الحسن، لم يكن يعدو خلف الملك والحطام، ولا أحد من أئمة أهل البيت (ع) كان كذلك، ولو كان الأمر كذلك، لنازع معاوية الملك وزج بالجيش في معركة شاملة، أو طلب اللجوء إلى معاوية، ليوليه على أحد البلدان أو ينظر في أمره.
إن الأمر كان يختلف تماما، تماما. فهو نظر إلى المستقبل. فليربح القدر القليل من مصلحة المسلمين، ويعود الأمر إلى أهله. فلو دخل في حرب مع معاوية، فربما سيبقى الأمر كذلك، وربما خلف معاوية من يسير أكثر منه في طلب الملك والفتنة في أمة الإسلام.
فما كان له (ع) إلا أن يستجيب للصلح وهو يدرك أهداف الأمويين، مثلما
____________
(217) - الإمام الحسن بن علي: باقر شريف القرشي / ج 2 - ص 133 مؤسسة الوفاء، بيروت - لبنان.
(218) - تذكرة الخواص سبط بن الجوزية.
وذكر ابن عبد البر، في الإستيعاب، بأن وثيقة الإمام في الصلح كانت تتضمن شروطا معينة، قال:
(إن الإمام كتب إلى معاوية يخبره أنه يصير الأمر إليه على أن يشترط عليه أن لا يطلب أحدا من أهل المدينة والحجاز ولا أهل العراق بشئ كان في أيام أبيه، فأجابه معاوية وكاد يطير فرحا إلا أنه قال: أما عشرة أنفس فلا أؤمنهم، فراجعه الحسن فيهم فكتب إليه يقول: إني قد آليت متى ظفرت بقيس بن سعد أن أقطع لسانه ويده، فراجعه الحسن إني لا أبايعك أبدا وأنت تطلب قيسا أو غيره بتبعة، قلت أو كثرت! فبعث إليه معاوية حينئذ برقا أبيض وقال: أكتب ما شئت فيه وأنا ألتزمه، فاصطلحا على ذلك، واشترط عليه الحسن أن يكون له الأمر من بعده، فالتزم ذلك كله معاوية).
ويذكر أبو الفداء في تاريخه إن الإمام الحسن اشترط على معاوية هذه الشروط:
(وكتب الحسن إلى معاوية واشترط عليه شروطا وقال: إن أجبت إليها فأنا سامع مطيع، فأجاب معاوية إليها، وكان الذي طلبه الحسن أن يعطيه ما في بيت مال الكوفة، وخراج دار ابجرد من فارس، وأن لا يسب عليا، فلم يجبه إلى الكف عن سب علي فطلب الحسن أن لا يشتم عليا وهو يسمع فأجابه إلى ذلك، ثم لم يف له به).
ويؤكد على ذلك أيضا، كل من ابن الأثير، والطبري، إذ قال الحسن: وأنا قد اشترطت حين جاء كتابك وأعطيتني العهد على الوفاء بما فيه، فاختلفا في ذلك، فلم ينفذ للحسن من الشروط شيئا).
ثم كان الشئ المركزي في شروط الصلح، أن ترجع الخلافة بعده للحسن (219)، فإذا لم يكن الحسن ترجع إلى الحسين (ع).
____________
(219) - تهذيب التهذيب، الإمامة والسياسة، الإصابة، الطبقات الكبرى، الشعراني.
كما أن الحسن يعرف أن أصحابه وشيعته المقربين قد تطالهم يد معاوية، للانتقام، فكان لا بد أن يشترط عدم إلحاق أي أذى بهم.
واشترط عدم سب الإمام علي (ع) لأن ذلك يحرف فضائل الصالحين ورموز الأمة في عين الناس. ولأن ذلك مخالف للإسلام، وكيف لا يخالفه والإمام علي (ع) أحد الأركان الذين قام الإسلام على أكتافهم.
هذه باختصار، هي خلفيات الصلح، التي يمكن تلخيصها في الآتي:
1 - تماسك كامل في جيش معاوية، يقابله انشطار في جيش الإمام الحسن (ع).
2 - دعم مالي قوي وهائل لعناصر الجيش الأموي، مقابل الفقر والحاجة في صفوف الجيش العراقي.
3 - جهل مطبق في جيش الشام، يقابله وعي أعرج ومبتور في أغلبية الجيش العراقي، الجهل الشامي الذي يؤدي إلى التمحور المضاعف حول معاوية، والوعي المبتور الذي يؤدي إلى هروب الجيش العراقي وعدم استجابته للإمام الحسن (ع) (220).
____________
(220) الإمامة والسياسة، تاريخ ابن عساكر.
كل هذا وأكثر منه، جعل معنويات الجيش العراقي تنهار، وتلتمس الاستقرار، وحطام الدنيا.
أدرك معاوية أن الإمام الحسن بقي وحده في الميدان، وأن جيشه لا يعدو كونه نمور من ورق، يعشعش الرعب والتمزق في أعماقها. وأدرك أن صلح الحسن إنما كان لأن هذا الأخير لم يجد عليه عونا (221)، فهو صلح من موقف ضعف، ضعف في الأمة! لذلك مزق معاوية الوثيقة، ونقض العهد، وتلاعب بالأوراق. استمر معاوية في سب الإمام علي (ع) ولعنه على المنابر، وصارت سنة لأهل الشام يرددونها بعد كل صلاة، وكأن الصلاة لا تقبل إلا بسب علي (ع). هذا الذي قام الإسلام به، وبه كان الصحابة يميزون بين منافق مبغض له ومؤمن محب له، حتى قال الشاعر:
وذكر صاحب العقد الفريد - إن أبا عبد الله الجدلي قال: دخلت على أم سلمة - زوجة الرسول صلى الله عليه وآله فقالت لي: أيسب رسول الله صلى الله عليه وآله فيكم؟ فقلت:
معاذ الله، أو سبحان الله، أو كلمة نحوها فقالت:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: من سب عليا فقد سبني.
وقال يومها مروان بن الحكم: لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك - أي بسب علي (ع) (223).
ثم رفض معاوية أن يسلم للحسن، خراج دار ابجرد، لدعم الفقراء من
____________
(221) - يذكر ابن مسكويه في تجاربه إن الإمام الحسن قال: يا أهل العراق، إنه سخي بنفسي عنكم ثلاث: قتلتم أبي، وطعنكم إياي، وانتهابكم متاعي.
(222) - كما في مستدرك الصحيحين: عن أبي عبد الله الجدلي.
(223) - الصواعق المحرقة ص 33.
(يا أهل الكوفة، أتشجون بيد، وتأسون بأخرى، أبدانكم علي وأهواءكم مع حجر الهجهاجة، الأحمق المذبوب، أنتم معي وإخوانكم وأبناؤكم وعشائركم مع حجر، هذا والله من دحسكم (أي: افسادكم) وغشكم والله لتظهرن لي براءتكم أو لأتينكم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم) (224).
ثم ما فتئ أن سلمه الكوفيون إلى الشرطة الأموية، لينفذوا فيه جريمة الإعدام.
ولم يكن دافع حجر، سوى إيمانه، ومن هو حجر (ع) حتى لا يخونه أهل الكوفة، ولا يقتله معاوية صبرا. لقد خان الكوفيون الإمام عليا (ع) وبنيه، وقتل الأمويون خيرة آل البيت (ع) فدعا ربه:
(اللهم إنا نستعديك على أمتنا فإن أهل الكوفة شهدوا علينا وإن أهل الشام يقتلوننا، أما والله لئن قتلتموني بها فإني لأول فارس من المسلمين هلك في واديها
____________
(224) - الإمام الحسن / باقر شريف القريشي.
ثم قال: لا تطلقوا عني حديدا، ولا تغسلوا عني دما، فإني ملاق معاوية على الجادة (الإستيعاب 1 / 256).
وكان من المنكرين لذلك عائشة إذ قالت لمعاوية: أما خشيت الله في قتل حجر وأصحابه (225).
وقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: سيقتل بعذراء أناس يغضب الله لهم وأهل السماء (226)
____________
(225) - الطبري.
(226) - مروج الذهب - أقول إن قاتلة الحسن، أغراها ترف الأمويين، فلو صدق (حي) فيما ذهب إليه من أن الحسن كان يميل إلى الترف والبذخ، إذن لما اضطروا (جعدة) إلى قتله لقاء مائة ألف درهم.
قتل الحسن .. المؤامرة الكبرى
لقد قويت شوكة الأمويين، وركعت الجزيرة تحت أقدامهم، فأرهبوا أهلها، وقتلوا خيرتها، فما قام لهم قائم يردهم، ولا ممانع يزجرهم. ونظروا في وثيقة الصلح فوجدوها مثقلة بشروط لا تتفق ومشروعهم التخريبي. وأي دين، وأي ضمير، يمنعهم من مخالفة العهد ونقض الميثاق، وقد قتلوا خيرة المسلمين وأفسدوا في الأرض فسادا عريضا. إلا أن معاوية أدهى من أن يتسرع في اتخاذ القرار.
وفضل أن يتخلص من الحسن، لأن في التخلص منه تخلص من الوثيقة.
ولكن يجب أن يتم القتل في ظروف غامضة، فنظر إلى أقرب الناس إلى الإمام الحسن (ع) وأكثرهم عداء له، فوقع نظره على (جعدة بنت الأشعث) إحدى أزواج الحسن (ع) وكان لهذا الاختيار أسبابه التي أدركها معاوية بدهائه البشع، وهي:
1 - إن أباها (الأشعث بن القيس) وهو الذي فرض على الإمام علي (ع) التحكيم، ورفض عليه انتداب ابن عباس والأشتر.
2 - كانت تعاني عقدة النقص، لأنها لم تنجب من الحسن أبناء، بخلاف نسائه الأخريات.
3 - هي من عائلة مهيأة للتآمر على آل البيت، فقد كان أبوها قد شرك في دم الإمام علي (ع) وابنه شرك في دم الحسين - فيما بعد -.
إنه يزيد القصور والدنيا. فهل المرأة من هذا النوع الذي يسمو على الدنيا.
راح الإمام الحسن ضحية زهده، وورعه، فليس له من الدنيا إلا التهجد والعبادة وإحقاق الحق. وهذا زاد لا يستهوي النساء، فقبلت الصفقة، وكان مروان بن الحكم، هو عراب المخطط بينها ومعاوية.
وفيما كان الإمام الحسن (ع) صائما، إذا بها تقدم له إفطارا وقد دست فيه السم الذي أرسله إليها معاوية عبر مروان بن الحكم، فتناوله (ع) فتقطعت أمعاؤه، واشتد عليه الألم، واستبشر بالجنة ولقاء الأحبة ونظر إليها وقال:
(يا عدوة الله، قتلتيني قتلك الله، والله لا تصيبين مني خلفا، ولقد غرك معاوية، وسخر منك يخزيك الله ويخزيه) (227).
ونفذت الخطة، وانتهى أمر الحسن، وكان على مسممة الأزواج (228) أن تلتمس الأجر.
وخسرت زوجها، ورفض معاوية تزويجها بيزيد، إذ كيف يزوج من قد خانت أشرف زوج تمنته النساء. ومعاوية يدرك كل ذلك فهو يعرف إن الناس إنما انقادوا له لماله وسلطانه.
فقال لها: إنا نحب حياة يزيد، ولولا ذلك لوفينا لك بتزويجه) (229).
____________
(227) - تحف العقول.
(228) - هذا هو الاسم الذي كان يطلق عليها - أعيان الشيعة -.
(229) - مروج الذهب.
(وما ينقل من أن معاوية قد دس السم إلى الإمام الحسن على يد زوجته جعدة بنت الأشعث فهو من أحاديث الشيعة، وحاشا لمعاوية ذلك) (230).
ابن خلدون كغيره، كان يؤرخ لعصبيته، وللبلاط، وإلا كيف يرفض حدثا وهو الذي أخذ (فكرة السبئية) على علتها من تاريخ الطبري. أما عن أن الشيعة هم الذين وضعوا الرواية، فإن الرواية تثبت عند أهل السنة، وذكرت في تذكرة الخواص، والإستيعاب وتأريخ أبي الفداء والنصائح الكافية ومروج الذهب وابن أبي الحديد.
وكيف يستبعد ابن خلدون أن يأتي معاوية بذلك، وهذا التاريخ يعلن الأخبار مجلجلة، حول جرائم معاوية. وماذا يمنع معاوية من الحسن، وقد رام قتل أبيه، وخيرة الصحابة. لقد دافع ابن خلدون عن طواغيت التاريخ، وحرف الكثير من الحقائق تزلفا للبلاط. ثم ما أن التحق الإمام الحسن (ع) بالرفيق الأعلى، حتى جاء الخبر إلى معاوية، ففرح وسر، ثم سجد وسجد من كان معه (231).
ورفض بنو أمية أن يدفن الإمام الحسن بجوار النبي صلى الله عليه وآله، واتصل كل من مروان بن الحكم، وسعيد بن العاص بعائشة وحرضاها على ذلك، فمنعت أن يدفن بجوار جده وقالت: لا تدخلوا بيتي من لا أحب، إن دفن الحسن في بيتي
____________
(230) - تاريخ ابن خلدون.