واشرأب الملك بنفسه
كان موت وثيقة الصلح بالنسبة لمعاوية أمرا ضروريا، لذلك كان قتل الحسن!.
وأهم شرط ظل معاوية يدرس إمكانية نقضه، هو إرجاء الخلافة إلى الحسن أو إلا الحسين في حالة موت الحسن، لقد انتهى الحسن، وانتهت معه الوثيقة، فدبر معاوية أمر المستقبل فرأى أن يأخذ البيعة لابنه يزيد. ليتحول أمر الخلافة إلى ملك عضوض، ولتبدأ رحلة المسخ في الأمة، وسار معاوية يفرض على كل البلاد، البيعة لابنه يزيد، ويأمر عماله بممارسة القمع والبطش لإرغام المسلمين على قبول بيعة يزيد وكان أهل المدينة ممن رفض، وكان عليها سعيد بن العاص (232) وكانت بنو هاشم في مقدمة الرافضين للبيعة.
أبعد هذا كله، كيف يأتي مؤرخة البلاط، ليجدوا الأعذار لمعاوية بن أبي سفيان، وأي عذر بعد قتله للمسلمين، وتحريفه لمسيرة الحكم في الإسلام، لقد وجدوا الأعذار لمعاوية في إراقة دماء آل البيت وفي تخريب الأمة وتفريغ الإسلام من محتواه، ولم يجدوا عذرا واحدا للمختار الثقفي إذ يخرج على بني أمية طلبا للتغيير!.
____________
(232) - مروج الذهب.
(يا أهل الكوفة! أتراني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج، وقد علمت أنكم تصلون، وتزكون، وتحجون؟ ولكنني قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم وقد أتاني الله ذلك، وأنتم كارهون، ألا إن كل مال أو دم أصيب في هذه الفتنة فمطلول، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين (233).
ثم بايع ليزيد بالشام، عقب وفاة الحسن (ع) وبعث لعماله يطلب منهم تهيئة الناس لبيعة يزيد، فتمردت الأغلبية، غير أن قوة السلطان قد أجبرتهم على الاذعان فما بقي إلا مجموعة من المتمردين، اعتصموا بالحسين (ع).
فقام معاوية خطيبا في الناس بخطبته الشهيرة:
فإني قد أحببت أن أتقدم إليكم إنه قد أعذر من أنذر، إني كنت أخطب فيكم فيقوم إلى القائم منكم فيكذبني على رؤوس الناس، فأحمل ذلك وأصفح وإني قائم بمقالة فأقسم بالله لئن رد علي أحدكم في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه فلا يبقين رجل إلا على نفسه (235).
ودعا صاحب حرسه بحضرتهم فقال له: أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين ومع كل واحد سيفه فإن ذهب رجل منهم يرد علي كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفهما ثم خرج وخرجوا معه حتى رقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال:
إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم لا يبرم أمر دونهم ولا يقضي إلا عن مشورتهم وإنهم قد رضوا وبايعوا ليزيد فبايعوا على اسم الله.
____________
(233) - المصدر نفسه انظر أيضا: العدالة الاجتماعية: سيد قطب.
(234) - ابن قتيبة.
(235) - ابن الأثير.
واتفق أن أخذت المنية معاوية بعد أن وغل في السبعين. وبعد أن ترك مقاليد السلطة لمجموعة من الغلمان على رأسهم ابنه الفاسق، يزيد، حيث أذلت بيعته المؤمنين.
وملك يزيد
دخل يزيد معمعة السلطة في بداية رجب من سنة 60 حسب اليعقوبي، وكان لا بد أن يرسي عرشه على كل الرؤوس، لتذل له، حتى لو كانت رؤوسا هاشمية، فبادر بالكتابة إلى عامله بالمدينة، والوليد بن عتبة بن أبي سفيان وقال له: إذا أتاك كتابي هذا، فأحضر الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، فخذهما بالبيعة لي، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما، وابعث لي برؤسهما، وخذ الناس بالبيعة، فمن امتنع فأنفذ فيه الحكم، وفي الحسين وعبد الله بن الزبير، والسلام (236).
لقد اقتصر يزيد الطريق متذ البداية، إذ رام قتل الحسين (ع) بمجرد الامتناع عن البيعة. كان القدر حليف القضية الحسينية، لم يدعها تغتال في جنح الظلام، بل أراد أن يهئ لها أسباب الانفجار الفاضح، كان بود الوليد أن يقتله إذ جاءه وابن الزبير، فقالا:
نصبح ونأتيك مع الناس، وأشار مروان على الوليد بعدم السماح لهما بالخروج، غير أن الأقدار أعمت بصيرة الوليد فتركهما يخرجان، فخرج بذلك الحسين إلى مكة، فلبث فيها بضعة أيام وكاتب منها أهل العراق، فكان ردهم بزعامة ابن أبي هانئ وسعيد بن عبد الله:
____________
(236) - نفس المصدر.
وبعث إليهم بعد ذلك رسوله (مسلم بن عقيل) فأخذ منهم البيعة للإمام الحسين (ع).
فكان ذلك الخيار الصعب والوحيد للحسين، لينطلق إلى العراق. إلا أن عيون يزيد قد أخبرته بمسير الحسين (ع) إلى العراق، فوكل به عبيد الله بن زياد، لقتاله.
كان عبيد الله بن زياد قد قتل مسلم بن عقيل، رسول الإمام الحسين إلى أهل الكوفة، ووصل الخبر إلى الحسين (ع) وقد بلغ إلى (القطقطانه)، فبعث عبيد الله بن زياد بالحر بن يزيد الرياحي في مجموعة لمنع الحسين (ع) من أن يعدل، فبعث بعمر بن سعد في جيش جرار، يهدفون إلى قتل الإمام الحسين (ع) فكان ميدان القتال بكربلاء حيث كان الإمام الحسين (ع) في مقدمة اثنين وسبعين رجلا من أهل بيته وشيعته الخلص. بينما جيش يزيد بلغ أربعة آلاف جندي.
حاول يزيد منذ البداية قتل الحسين (ع) إذا استعصى عن مبايعته، وما كان الإمام الحسين يرى أن يبايع رجلا من أكبر فساق بني أمية، فكان الخيار الوحيد أمام الإمام الحسين، أن يستقبل الموت مع آل بيته الذين أبوا إلى الخروج معه، إنه التاريخ يعود من جديد، ليشهد معركة الحق كله ضد الباطل كله إذ ليس الآن أمام جيش بني أمية سوى الحسين (ع) وآل البيت وشيعته القلائل، وهم بقية الرسول صلى الله عليه وآله.
ملحمة كربلاء
إنني أتجنب أن أكون أديبا في قضايا التاريخ، إلا في هذا الموقف، إنها الجدبة التي لا أتمالك فيها أحاسيسي مهما كان الأمر، لأن الحدث بلغ من الدراماتيكية ما يفقد الإنسان تقنياته المعرفية.
إنه أمام الأمة، وإنه جدي، وإنه الإنسان. كل هذا لا يسمح لي أن أقوم بمجرد سرد وإحصاءات و (فبركات) في مثل هذا المشهد. فلا يلومنني القارئ إذا أخذت بي هذه الجدبة التي لا أملك فيها نفسي أمام مذبحة أبي عبد الله الحسين (ع).
لكم التاريخ، ولكم الوثائق، ولكم كل شئ، ولي أن أبكي، وأحزن و (أشقشق) فمن هنا دخلت حرم آل البيت (ع) وفيه ولدت من جديد.
ما زلت أذكر اليوم الذي عشت فيه مأساة كربلاء بتفاصيلها، حيث ما تزال ظلالها الحزينة ترافق ظلي إلى اليوم. وتفاصيلها لا يتسع لها هذا الكتاب، فهي تطلب في غيره، والآثار النفسية التي تركتها في أعماقي، وما زلت أجرعها كالسموم، ولا أملك أن أنقلها كما أحسها وأستشعرها في كياني، لقد وجدت نفسي فجأة في هيئة أخرى، وفي شرياني جرى دم، هو مثل تلك الدماء التي أريقت على رمال الطفوف، ولا عجب من ذلك، فأنا الحسيني وجدي هو الحسين (ع) وأن العرق دساس، ومنذ ذلك اليوم، كان كل يوم عندي
كان الإمام الحسين (ع) يريد أن ينتشل الأمة من جمودها، يحركها للثورة ضد الكيان الأموي الجاثم على السلطة. ولا بد له من تضحية، ولا بد من دم شريف يراق، ليحدث الانقلاب في نفوس القوم الذين خذلوا قضيته وما زالوا يخذلون!.
لقد سمع الرسول صلى الله عليه وآله يقول لأم سلمة، بعد أن أعطاها تربة في قارورة:
إذا أصبح هذا التراب أحمر فاعلمي أن ابني الحسين قد مات (237). كان يعلم منذ البداية كما أبيه، أنه سيموت لا محالة مقتولا، لذلك لما وصل إلى كربلاء وسأل عنها القوم، قال:
هذا كرب وبلا. لقد حاصره الجنود في هذه المنطقة النائية حتى ينفذوا فيه الجريمة.
فالقضية قبل كل شئ، قضية إنسانية، إذ أن أهله معه وأبناءه، ولا بد أن يراعي الأعداء حقه في حماية هؤلاء، نزلوا يلتمسون ماء، فمنعهم القوم.
منعوهم وهم لا يأبهون. ولعمري أي ملة وأي دين كان يجيز لهم منع الماء عن الأطفال والنساء. وهب إننا عذرناهم في منع الحسين (ع) فما بال الأمهات ورضعهن، قال شهر بن حوشب وكان من عملاء يزيد: لا تشربوا منه حتى تشربوا من الحميم.
طرح عليهم الإمام الحسين (ع) خيارات كثيرة، فإما يدعوه يرجع وأما يدعوه يلتقي بيزيد. غير أن القوم المجرمين، علموا أن وجود الحسين أمام يزيد قد يقلب المعادلة. وقد يثير عليهم لوم الناس وأحقادهم، فأبوا إلا أن يقتلوه في هذه الصحراء النائية، وليمتص رمل الصحراء دمه ولا يعلم به أحد. فالناس ليس أمامهم رقابة تمنعهم. أجل، ليس أمامهم إلا الله.
وكانوا به لا يأبهون!.
____________
(237) - ابن الأثير / راجع عقيلة بني هاشم بنت الشاطئ.
طرح عليهم اختياراته فأبوا إلا أن ينزل على حكم ابن زياد. فقال لهم الحسين:
أنزل على حكم ابن زانية؟ لا والله لا أفعل، الموت دون ذلك أحلى.
لقد خرج الحسين في مهمة رسالية، فرضتها عليه ظروف المرحلة، مرحلة السيطرة الكاملة والسافرة للمجرمين وأعداء الشعوب على أمة، إنما وجدت لتخاطب البشرية بالفضيلة والسلام والحرية وكل المعاني التي اندكت في عهد بني أمية، كان هذا منهج الإمام الحسين (ع) وهو خارج إلى الكوفة. حيث قال، إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي. أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا، أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين) (238).
ثم راح (ع) يطوف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، وأنهى عمرته (239).
لقد حاولوا تجبين الإمام، وهو في الطريق إلى الكوفة، غير أنه لم ينتبه إليهم.
مضى في طريقه إلى الموت وهو يهتف: سأمضي وما بالموت عار على الفتى. إذا نوى حقا وجاهد مسلما.
فهو لم ينهض من بعد أخيه، إلا لما نقض معاوية الوثيقة، ونصب ابنه على الأمة. وكيف يسكت الإمام الحسين (ع) على هذا الأمر. فلا بد لصوت أن ينطلق، ولا بد لضمير أن يهتز:
(إنا أهل بيت النبوة، بنا فتح الله، وبنا يختم، ويزيد شارب الخمور وراكب الفجور، وقاتل النفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله).
____________
(238) - تاريخ الخلفاء - ابن قتيبة.
(239) - تاريخ الطبري.
غير أن الحسين، هو أمين الله في الأرض، لا يحيد عن مصلحة الأمة، ولو أدى به الأمر إلى خسران حياته، إذ لا قيمة للحياة في ظل ذل وفساد، ولا قيمة لحياة، لا تستثمر في إقامة أركان الدين ونصرة الإسلام. لقد قالها للتاريخ، واستلهمتها منه الأجيال في مسيرات كفاحها:
لقد صمم الإمام على مغادرة مكة، ليتجه إلى الكوفة، حيث الأنصار الذين يميلون بين نصرته وخذلانه، وقد اعترضه الفرزدق وقال له: إن القوم قلوبهم معك وسيوفهم عليك.
غير أن الإمام، كان يرسم خريطة مرسومة سلفا في اللوح المحفوظ، كان يعلم بما سيجري له ولآل بيته. وقام خطيبا:
الحمد لله وما شاء الله، ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على رسوله. خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن مني أكراشا جوفا، وأجربة سغبا، لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس، تقربهم عينه، وينجز بهم وعده، ألا ومن كان فينا باذلا مهجته، موطنا على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا فإني راحل مصبحا إن شاء الله تعالى).
لقد تآمرت الأمة كلها على الحسين (ع) وآل البيت بعضهم بالتقتيل والآخرون بالخذلان. لم يكن الإمام يريد شق الصفوف وتفريق الشعث. لكن حركة الأجرام كانت تتجه صوب قمع كل صوت، وهدم كل فضيلة، فالأمة ابتليت بخليفة، يشرب الخمور، ولا يرتاح من اللهو. ولا يفهم معاني الورع، كان لاهيا عابثا في الصحراء لما فرض أبوه بيعته على المسلمين. وجاء متأخرا يلهو
وليتهم تركوه، إذن لما قاتلهم والظروف لا يسمح. لكنهم أرادوا أن يذلوه ببيعة يزيد، فما كان إلا أن قال (ع) هيهات منا الذلة!.
حاول أن يقنع الجيش، غير أنهم منعوه من الماء وأبوا إلا قتله، فدخل إلى الخيمة التي كانت بها أخته زينب (ع) حيث كان علي بن الحسين مريضا، وهو يقول:
وفي يوم الغد، حاول مع القوم أن يخلوا سبيله للرجوع أو ملاقاة يزيد، أو يفتحوا له الطريق إلى إحدى ثغور الأمة، ليقاتل كباقي المجاهدين، فأبوا إلا قتله.
فرجع إلى قومه يكلمهم: إن القوم ليسوا يقصدون غيري، وقد قضيتم ما عليكم فانصرفوا، فأنتم في حل، فقالوا: لا والله، يا ابن رسول الله، حتى تكون أنفسنا قبل نفسك.
ثم يذكر اليعقوبي، أن زهير بن القين خرج على فرس له فنادى:
يا أهل الكوفة! نذار لكم من عذاب الله، نذار عباد الله! ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ولد سمية، فإن لم تنصروهم، فلا تقاتلوهم، أيها الناس! إنه ما أصبح على ظهر الأرض ابن بنت نبي إلا الحسين، فلا يعين أحد على قتله ولو بكلمة إلا نغصه الله الدنيا، وعذبه أشد عذاب الآخرة.
وانطلق الرعاع، يحرقون خيام الإمام الحسين، وقتلوا كل من كان معه، وتشرد حريم الحسين، وتفرق الصبية هاربين من الهجمة البربرية.
لقد عرفوا أنهم يقتلون ابن رسول الله. فلقد عرفهم بمنزلته من
ألست ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين بالله والمصدق لرسوله بما جاء من عند ربه؟.
أو ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي.
أو ليس جعفر الطيار عمي.
أولم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة؟ فإن صدقتموني بما أقوله، وهو الحق والله وما تعمدت الكذب منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله ويضرب من اختلقه، وإن كذبتموني فإن فيكم من أن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري وأبا سعيد الخدري وسهل بن سعد الساعدي وزيد بن أرقم وأنس بن مالك يخبروكم عن سفك دمي)؟.
فقال، شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول!.
فقال ابن مظاهر: والله إني أراك تعبد الله على سبعين حرفا، وأنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول، قد طبع الله على قلبك!.
قال الحسين: فإن كنتم في شك من هذا القول أفتشكون أني ابن بنت نبيكم؟
فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم.
(ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته! أو مال لكم استهلكته أو بقصاص جرامة، ثم نادى: يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن ابجر ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث ألم تكتبوا إلي أن أقدم قد أينعت الثمار واخضر الجناب وإنما تقدم على جند لك مجندة؟.
فقالوا: لم نفعل.
فقال: أيها الناس إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمن من الأرض. فقال له قيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم بني عمك؟ فإنهم لن يروك إلا ما تحب ولن يصل إليك منهم مكروه!. فقال الحسين:
أنت أخو أخيك؟ أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟
لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد.
كان الإمام الحسين (ع) يحرص على كرامة الأمة ومصلحتها. ويحول دون يزيد وإذلالها: ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة.
وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام.
لقد خذل الحسين (ع) وهو في أمس الحاجة إلى من ينصره. فما كان إلا أن يتوكل على الله. ودعا على القوم: اللهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سنين كسني يوسف وسلط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصبره فإنهم كذبونا وخذلونا وأنت ربنا عليك توكلنا وإليك المصير.
كانت لكلمة الإمام الحسين (ع) صدى، أدركت معناها قلوب القوم، غير أنها لم تستجب.
فدنيا يزيد أنفس لديهم من ظلم الحسين (ع) فهي الفرصة التي لا يضيعها لئيم. غير أن الكلمة كان لها وقع ثقيل، ولطيف. على رجل من كبار الفرسان، وهو الذي دفع بالإمام الحسين (ع) إلى كربلاء ومنعه عن دخول الكوفة. سمع الكلمة فوعاها. وكان هنالك خلف لكل إغراءات يزيد، رقة إيمان تسكن قلب الحر. فأقبل إلى عمر بن سعد وقال له: أمقاتل أنت هذا الرجل؟.
قال: إي والله قتالا أيسره أن تسقط فيه الرؤس وتطيح الأيدي.
قال: ما لكم فيما عرضه عليكم من الخصال؟.
فطن قرة من ذاك أنه يريد الاعتزال. فأخذ الحر يدنو من الحسين. فقال له المهاجر بن أوس: أتريد أن تحمل؟ فسكت، فارتاب المهاجر من هذا الحال، وقال له، لو قيل لي من إشجع أهل الكوفة لما عدوتك، فما هذا الذي أراه منك؟
فقال الحر. إني أخير نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة شيئا ولو أحرقت.
ثم اتجه نحو الحسين (ع) منكسرا معتذرا يلتمس الغفران. فقال للإمام:
اللهم إليك أنيب فتب علي، أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيك! يا أبا عبد الله، إني تائب فهل لي من توبة؟.
قال له: أبو عبد الله: نعم يتوب الله عليك.
فأستأذن الحسين في أن يخاطب القوم ثم قال:
(يا أهل الكوفة لأمكم الهبل والعبر، أدعوتم هذا العبد الصالح، حتى إذا جاءكم أسلمتموه وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه، ثم عدوتم عليه لتقتلوه وأمسكتم بنفسه وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كل جانب فمنعتموه التوجه إلى بلاد الله العريضة حتى يأمن وأهل بيته، وأصبح كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وحلأتموه ونساءه وصبيته وصحبه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهود والنصارى والمجوس، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه! وهاهم قد صرعهم العطش بئسما خلفتم محمدا في ذريته لا سقاكم الله يوم الظمأ).
انطلق الحر، معربا عن ورعه وإخلاصه لقضية الحسين، وهو يقول:
ثم راح يقاتل ببسالة يقل لها نظير، حتى قتل. وكانت تلك شهادة على توبته
وقال: والله ما أخطأت أمك لما سمتك حرا، فأنت الحر في الدنيا والآخرة!
كان شعار الإمام الحسين (ع) بكربلاء (الحرية) ولذلك معنى عميق، يدرك باستيعاب الحدث وفلسفته. انطلق الإمام وهو ينادي القوم (إن كنتم لا تؤمنون بالله ولا تخافون الميعاد، فكونوا أحرارا في دنياكم إن كنتم عربا كما تزعمون) وقضية الحسين، هي بالإضافة إلى كونها قضية إسلام وجاهلية، تبقى قضيته حرية. إذ أن الذين طلبوه ثم خذلوه، كانوا يفتقدون للحس التحريري. التحرر من كل ما يفقد الضمير يقظته، ويعكر المعاني والقيم في النفوس. لقد فقدوا حريتهم أمام (دنيا) يزيد. واستعبدهم بطشه. فافتقدوا الإرادة، وافتقدوا معها (الحرية). ولم تكن هذه المعركة تعبر حتى عن الذهنية العربية. فمعارك العرب أسمى من أن تجمع بين جيش جرار وفئة قليلة من الناس. وهي أسمى من أن تجمع بين لقطاء وبين عصبة تنتمي لبيت الشرف. وقد كان الحس القبلي طاغيا على الحس الغنيمي عند العرب، والفضيلة غالبة على كل الاعتبارات الأخرى فهذا القدر من الحرية، افتقده جيش يزيد، وبالتالي كانوا يحتاجون إلى أكثر من قفزة للوصول إلى مستوى الخطاب الإسلامي. فهم في حاجة إلى (حرية) ولو في صبغتها العربية، كان الحر بن يزيد هو ذلك النموذج الذي أثرت عليه كلمات الحسين (ع) والإحساس بالتحرر كان لا يزال حيا في أعماقه. وكل من كان هناك كان يعرف إنه مسلوب الحرية باختيار منه ليس إلا. فالحر بن يزيد أدرك إنه أكثر تحررا من أن يمنعه القوم المجرمون عن نصرة الحسين (ع) ومهما بطش يزيد وتجبر، فإنه لا يملك أن يسلب الحرية ممن وطن نفسه على الكفاح واستقبل الموت بصدر وسيع. كان يزيد أقل قدرا وأخس من أن يجبر مسلما على الخضوع لو أن المسلمين استجابوا للجهاد. فما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا. وكان نموذج أهل الكوفة نموذج القوم الذين افتقدوا حس التحرر. وتلك هي أهم القضايا التي واجهها
والقوم الذين ضاع حسهم التحرري في منعرجات النزوع الدنيوي، لم يكونوا في حاجة إلى ضمير ثوري، يزعجهم، ويضعهم أمام المسؤولية وفي مواجهة الخيار الصعب. فكان ضروريا أن يهاجموا معسكر الأحرار، ويدكوا بفرسانهم جسد الحسين (ع) انتقاما، من صلابته التي تعتبر، انتصارا على مستوياتهم النفسية.
لقد ظهرت لهم نفوسهم أخس وأخس مئات المرات من (جون) ذلك العبد الذي تنفس حريته. ووجد في معسكر الحسين، ميدانا واسعا للتعبير عن تحرره المكبوت خلال سنين مد يده. إنهم يرون في تحرر الحسين وشيعته، قبح وجوههم وذمامتها، وخسة نفوسهم وانحطاطها. فلذلك ازداد انتقامهم وتضاعف.
فراحوا يتنافسون على تدمير معسكر الإمام الحسين (ع).
اشتد القتال، وشيعة الحسين (ع) يتساقطون كأوراق الخريف الواحد تلو الآخر، وكلهم يقدم أروع أدوار البطولة والفداء. حتى لم يبق إلا الحسين وأهل بيته ليس معهم إلا الله.
كان علي بن الحسين (ع) مريضا. وقد شاءت الأقدار أن يكون كذلك للدور التاريخي المنوط به بعد الحسين (ع) غير أن عليا الأكبر، وهو أخوه، كان في تمام الاستعداد، لالتماس (الشهادة) ليكتب بها وثيقة عار في تاريخ الجريمة التي شهدها آل البيت المحمدي. انطلق يطلب القوم نصرة أبيه، وللحق الذي جاء من أجله ونشد في القوم:
كان المشهد يدور بعين الحسين (ع) يرى ببصيرة المعصوم، انحطاط النفوس، وتشوه القلوب. يرى كيف صار الأمر في أمة، طالما ربى فيها جده وأبوه النفوس التعبى.
ما لك؟ (يقصد عمر بن سعد) قطع الله رحمك كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلط عليك من يذبحك على فراشك. ثم رفع يديه الكريمتين نحو السماء وتمثل قائلا:
اللهم اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم أشبه الناس برسولك محمدا خلقا وخلقا ومنطقا وكنا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيك نظرنا إليه اللهم، فامنعهم بركات الأرض وفرقهم تفريقا، ومزقهم تمزيقا واجعلهم طرائق قددا ولا ترضي الولاة عنهم أبدا، فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلونا.
قاتل علي الأكبر القوم، وأبوه يرى بلاءه فيهم. واشتد العطش عليه، فعاد إلى أبيه يستسقيه، ليستجمع قواه، ويكر من جديد على جيش الأعداء. غير أن الحسين (ع) أدرك أنه ليس بينه وبين مفارقة الحياة إلا فترة قصيرة. ففضل أن يبقى على عطشه حتى يلقى الله تعالى فأعطى بذلك لابنه روحا جديدة، فقال له: (ما أسرع الملتقى بجدك فيسقيك بكأسه شربة لا تظمأ بعدها أبدا). ثم راح يقاتل الأعداء، فحملوا عليه وطعنوه بالرماح وضربوه بالسيف على رأسه، وقطعوه بالسيوف قطعا. وفارقت نفسه الحياة، وجاء أبوه يودعه، فما وجده إلا جثة هامدة مضرجة بدماء العزة الإيمان. فقال: على الدنيا بعدك العفا ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول يعز على جدك وأبيك أن تدعوهم فلا يجيبونك وتستغيث بهم فلا يغيثونك.
إنهم يدركون أن نسل الرسول صلى الله عليه وآله مهدد بالانقراض. وهم يمعنون في ذلك. فبنو أمية أنفع لهم من بني هاشم التي أخذتهم بالعزائم ونغصت عليهم حياتهم بالورع والفضيلة.
كان معسكر الحسين (ع) مكتضا بالأطفال والنساء. اشتد عليهم العطش، ولا يزال الحسين (ع) وآل بيته يستسقون القوم، فلم يجيبوهم. كان (العباس) حاضرا ذلك المشهد، وضاق صدره وطلب من الحسين (ع) أن يخرج إلى القوم الظالمين. فنادى في القوم.
فصاح شمر: يا ابن أبي تراب - يقصد الإمام علي (ع) - لو كان وجه الأرض كله ماء وهو تحت أيدينا لا سقيناكم منه قطرة، إلا أن تدخلوا في بيعة يزيد.
لقد جعلوها شرطا لحياتهم وحياة عيالهم. والحسين (ع) ليس مجنون حرب حتى يضحي بأهله وعياله في سبيل موت هو عنه في خيار. إلا أن المسألة تخضع لمعايير الإسلام. والإسلام مهدد فيما لو بايع الحسين (ع) رجع العباس، والأطفال يبكون من شدة الظمأ. فرق قلب العباس، واستنفر عزيمته، وانطلق في القوم، يقاوم يمينا وشمالا حتى أتى الفرات واغترف منه ماء، ورجع يقاوم جيش النفاق، فنصبوا له كمينا، وضربه بعضهم فقطع يمينه. واستمر في مسيره قاصدا الحسين، يريد إيصال قربة الماء، لسقي عطاشى آل البيت وهو يقول:
وانطلق بعيدا حتى باغته حكيم بن الطفيل من وراء نخلة فضربه على شماله، وقطع يده الأخرى.
وانهالت عليه السهام من كل جانب، وأصابت صدره وضرب رأسه فانفلق، وسقط صريعا وهو يقول: عليك مني السلام أبا عبد الله.
رآه الإمام الحسين (ع) فأي عبره تعكس حقيقة المأساة، وأي كلمة تعكس حقيقة الحزن الذي اعترى سيد الشهداء. لقد رؤي وهو يكفكف الدمع ويقول:
أما من مغيث يغيثنا؟ أما من مجير يجيرنا؟ أما من طالب حق ينصرنا، أما من خائف من النار فيذب عنا.
واعتل الصياح في الخيام، واشتد النواح، واختلطت أصوات النساء بأصوات الأطفال في مشهد تراجيدي تخرس عن وصفه ألسن الشعراء.
فكان الإمام هو آخر من يتقدم للميدان، انطلق إلى القوم مصلتا سيفه، فقاتلهم قتالا شديدا وهو يقول:
هنالك صاح عمر بن سعد: هذا ابن الأنزع البطين (يقصدون الإمام علي (ع)) هذا ابن قتال العرب احملوا عليه من كل جانب.
فصاح فيهم الحسين (ع) يردهم بكلامه النافذ في أعماق الضمير، غير أن القوم لا ضير لهم، فقال شمر بن ذي الجوشن: ما تقول يا ابن فاطمة؟.
قال: أنا الذي أقاتلكم والنساء ليس عليهن جناح فامنعوا عتاتكم عن التعرض لحرمي ما دمت حيا.
واستمر القتال بين جيش عمر بن سعد، والإمام الحسين (ع)، وقد بدأت الدماء تغطي جسده وهو يقول: هكذا أكون حتى ألقى الله وجدي رسول الله صلى الله عليه وآله وأنا مخضب بدمي وأقول: يا جدي قتلني فلان وفلان.
لقد أصابته السهام في جسده ورأسه فسقط، ولم يبقى قادرا على الحراك، يقول
لا تزال الحياة تدب في جسده الشريف، ولا يزال به رمق. فلا بد أن يتقدم إليه القوم ليحتزوا رأسه.
فبادر زرعة بن شريك بضرب كتفه الأيسر، ثم رماه الحصين في حلقه وطعنه سنان بن أنس في ترقوته، ورماه بسهم في نحره وطعنه آخرون على عاتقه وجنبه.
وارتفعت الأصوات، ونادت أم كلثوم وأخته زينب:
وامحمداه وا أبتاه واعلياه واجعفراه واحمزتاه هذا الحسين بالعراء صريع بكربلاء ثم نادت زينب:
ليت السماء أطبقت على الأرض وليت الجبال تدكدكت على السهل!.
ولا يزال الصياح يهز الميدان، والنوح تولول على الحسين (ع) والدنيا قد اظلمت، فالحسين صريع! ويقف عمر بن سعد، انزلوا إليه وأريحوه.
فانطلق شمر، فضربه برجله وأمسكه من لحيته وما زال يضربه بالسيف ثم احتز رأسه.
يقول اليعقوبي: (وانتهبوا مضاربه، وابتزوا حرمه، وحملوهن إلى الكوفة).
لقد أطمعهم في الحسين (ع) سيفه وملابسه. فراح كل واحد يلتمس له قطعة من لباسه ينهبها، فأخذ الأسود بن حنظلة سيفه، والأسود بن خالد، نعليه وإسحاق ابن حوية قميصه.
وقطعوا إصبعه الذي به الخاتم لما رأوا الدم قد تجمد والتصق به.
يقول صاحب أسد الغابة: إن سنان بن أنس لما قتله قال له الناس، قتلت الحسين بن علي، وهو ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله أعظم العرب خطرا، أراد أن يزيل ملك هؤلاء، فلو أعطوك بيوت أموالهم لكان قليلا، فأقبل على فرسه، وكان شجاعا به لوثة، فوقف على باب فسطاط عمر بن سعد، وأنشده الأبيات:
قال اليعقوبي: (وأخرج عيال الحسين وولده إلى الشام، ونصب رأسه على رمح، وكان مقتله لعشر ليال خلون من المحرم سنة 61.
ثم جاءوا بالرأس ووضعوه بين يدي يزيد (لعنه الله)، فأخذ ينكثه بقضيب وهو ينشد:
____________
(240) - القصة مذكورة بصيغ مختلفة في كتب التاريخ الشهيرة: تاريخ الطبري، ابن الأثير، مروج الذهب الإمامة والسياسة، مقاتل الطالبيين، أسد الغابة، البداية والنهاية، الأغاني، أنظر (عقيلة بني هاشم لبنت الشاطئ، علي وبنوه) طه حسين وغيرهم.
لقد شيعني الحسين
هذه مجرد عموميات مختصرة حول المشهد الدراماتيكي لملحمة كربلاء كما اتفقت عليها تواريخ المسلمين. ولعمري، إنه المشهد الذي لا يزال صداه يتحرك في أقدس قداساتي، يمنيني بالأحزان في كل حركة أتحركها.
ما إن خلصت من قراءة (مذبحة) كربلاء، بتفاصيلها المأساوية، حتى قامت كربلاء في نفسي وفكري ومن هنا بدأت نقطة الثورة، الثورة على كل مفاهيمي ومسلماتي الموروثة، ثورة الحسين داخل روحي وعقلي.
أجل، ليس من وظيفة هذا الكتاب التعرض لتلك التفاصيل، وإنما نريد أن نعطي مجرد إشعاعات متفرقة عن تلك المذبحة، لفضح التاريخ الرسمي الملفق!.
الأوراق، كل الأوراق مع هذا التاريخ الجريح، القابع خلف اللاشعور التاريخي المكتوب بريشة (أهل الزلفى) المقربين.
لقد جاء أهل الشام والكوفة بالسيف، وجاء الحسين بالدم، وانتصر الدم على السيف، بل وانتصر على التاريخ (البلاطوي) فكان الحسين نورا لم تغطه ظلم التحريف!.
ونحن ننعى هذه المأساة، ونعلم أن الإمام الحسين (ع) قد مضى على الحق.
وأن قطرة من نعيمه قد أنستهم كل معاناته. إلا أننا نبكي أولئك المغفلين، الذين
الذين قتلوا الحسين (ع) وهم يعلمون أنه خير من أميرهم، وسيد العرب والمسلمين، وما قتلوه إلا طمعا في الحطام الذي أمناهم به يزيد، أليسوا قادرين على تحريف الإسلام، واختلاق الأحاديث، بحثا عن نفس الحطام؟! لقد شيعني الحسين (ع) من خلال المأساة التي شاهدها هو وأهل البيت (ع) شيعني بدمائه العبيطة وهي تنساب على الرمل الأصفر بأرض الطفوف، وبصراخ الأطفال ونواح النساء. يومها ناديت، وقد انسكبت من عيني دمعة حزينة، حزينة ورقيقة، قلت والقلب تتمزقه الأحزان:
وأي شئ صنع الأعداء بموته، سوى إن حفروا قبورهم، ودقوا نعوشهم بالمسامير، ليدخلوا مقبرة التاريخ صاغرين، وما زلت أراه - أبا عبد الله - كبيرا في
وما إن أقرأ عن تفاصيل كربلاء حتى تأخذني الجذبة بعيدا، ثم تعود أنفاسي إلى أنفاسي، والحسين ألفاه لديها، قد تربع بدمائه الطاهرة. فيا ليتني كنت معه، فأفوز فوزا عظيما، وفي تلك الجذبة هناك من يفهمني، وقد لا يفهمني من لا يرى للجريمة التأريخية وقعا في نفسه وفي مجريات الأحداث التي تلحقها.
فكربلاء مدخلي إلى التاريخ، إلى الحقيقة، إلى الإسلام، فكيف لا أجذب إليها، جدبة صوفي رقيق القلب، أو جدبة أديب مرهف الشعور، وتلك هي المحطة التي أردت أن أنهي بها كلامي عن مجمل معاناة آل البيت (ع) وظروف الجريمة التأريخية ضد نسل النبي صلى الله عليه وآله والسؤال الذي يفرض نفسه هنا، هو من قتل الحسين؟ أو بتعبير أدق، من قتل من؟.
نحن لا نشك في أن مقتل الحسين، هو نتيجة وضع يمتد بجذوره إلى السقيفة، إلى أخطر قرار صدر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وكان ضحيته الأولى:
آل البيت (ع) ونلاحظ من خلال حركة التاريخ الإسلامي، إن محاولة تهميش آل البيت، وقمع رموزهم بدأ منذ السقيفة، ورأيي لو جازف الإمام علي (ع) وفاطمة الزهراء (ع) لكان فعلا أحرقوا عليهم الدار، ولكان شيئ أشبه بعاشوراء وكربلاء الحسين. وأن بداية النشوء - أو بالأحرى إعادة النشوء - لحزب بني أمية، كان منذ الخلافة الأولى، ذلك أن معاوية وأخاه يزيد كانا عاملين على
المعادلة المقلوبة، وميزان القوى اللامتكافئ بين الحزب الأموي وبني هاشم بدأ منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وما ضرب ولأقمع واستضعف بعد الرسول صلى الله عليه وآله رجل أو عشيرة مثل ما ظلم آل البيت (ع).
لقد دخل بنو أمية الإسلام، وهم صاغرون. وكان الرسول صلى الله عليه وآله قد أراد قتلهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة، غير أنه عفا عنهم، وقال (اذهبوا فأنتم الطلقاء) وطلقاء لا تعني الإسلام، ثم ما برح صلى الله عليه وآله يحذر من خطرهم، الذي كان يدركه من خلال طبيعة الصراع الذي دار بين الإسلام وبني أمية.
ويدرك بمنظار النبوة مخترقا بذلك حجب المستقبل، ليحدثنا عن مصير الأمة على يد بني أمية.
روى الإمام أحمد عن عفان وعبد الصمد عن حماد بن سلمة عن علي بن يزيد (241): حدثني من سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:
لينعقن - وفي رواية ليزعقن - جبار من جبابرة بني أمية على منبري هذا، زاد عبد الصمد حتى يسيل رعافه، ثم قال: فحدثني من رأى عمرو بن سعيد بن العاص: يرعف على منبر النبي صلى الله عليه وآله حتى سال رعافه.
وذكر ابن كثير قال، قال يعقوب بن سفيان، ثنا أحمد بن محمد أبو محمد الزرقي، ثنا الزنجي - يعني مسلم بن خالد - عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة إن الرسول صلى الله عليه وآله قال رؤي في المنام بني الحكم - أو بني أبي العاص - ينزون على منبري كما تنزو القردة، قال: فما رآني رسول الله صلى الله عليه وآله مستجمعا ضاحكا حتى توفي. ثم قال ابن كثير، وقال الثوري: عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وآله بني أمية على منبره فساءه ذلك، فأوحى إليه: إنما هي دنيا أعطوها فقرت به عينه صاحب أسد الغابة
____________
(241) - ماذا في التاريخ
كنا مع النبي صلى الله عليه وآله فمر الحكم بن أبي العاص، فقال النبي صلى الله عليه وآله: ويل لأمتي مما في صلب هذا، وهو طريد رسول الله صلى الله عليه وآله نفاه من المدينة إلى الطائف.
وقال الحسن البصري: أربع خصال في معاوية لو لم يكن فيه إلا واحدة منها لكانت موبقة:
انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غيره مشورة وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة واستخلافه بعده سكيرا وخميرا يلبس الحرير ويضرب بالطنابير.
هؤلاء الذين لم يحص لهم التاريخ فضيلة - اللهم إلا في مصنفات البلاطيون فهم الذين وطؤوا بأقدامهم آل البيت المحمدي هؤلاء بهذه الصفة، قتلوا أئمة أهل البيت (ع) وهم في غنى عن التعريف. لقد قتل يزيد الحسين (ع) وهذا الأخير لم يحص له التاريخ سوى الفضائل العظام.
ولقد علم الرسول صلى الله عليه وآله إن ابنه هذا سوف يقتل مظلوما، وحديث (التربة) تواتر في التواريخ الإسلامية.
ذكر ابن الأثير في (أسد الغابة): أخبرنا إبراهيم بن محمد الفقيه وغير واحد، قالوا بإسنادهم إلى الترمذي، قال: حدثنا أبو خالد الأحمر قال: حدثنا رزين، حدثني سلمى قال: دخلت على أم سلمة، وهي تبكي، فقلت: ما يبكيك؟
قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله في المنام، وعلى رأسه ولحيته التراب، فقلت:
ما لك يا رسول الله؟ قال: شهدت قتل الحسين آنفا.
وذكر أيضا عن حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، قال:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله فيما يرى النائم نصف النهار، وهو قائم أشعث أغبر، بيده قارورة فيها دم، فقلت: