الصفحة 318
بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما هذا الدم؟ قال: هذا دم الحسين، لم أزل التقطه منذ اليوم.

فوجد قد قتل في ذلك اليوم.

وفي البداية والنهاية لابن كثير قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد بن حسان، ثنا عمارة عن ثابت عن أنس قال: استأذن ملك المطر أن يأتي النبي صلى الله عليه وآله فأذن له، فقال لأم سلمة:

احفظي علينا الباب لا يدخل علينا أحد، فجاء الحسين بن علي، فوثب حتى دخل، فجعل يصعد على منكب النبي صلى الله عليه وآله فقال له الملك: أتحبه؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله نعم، قال: فإن أمتك تقتله، وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه، قال: فضرب بيده فأراه ترابا أحمر، فأخذت أم سلمة ذلك التراب فصرته في طرف ثوبها قال: فكنا نسمع يقتل بكربلاء.

وذكر البيهقي عن الحاكم إلى أن قال عن عبد الله بن وهب بن زمعة، أخبرتني أم سلمة، إن رسول الله صلى الله عليه وآله اضطجع ذات يوم فاستيقظ وهو حائر، ثم اضطجع فرقد، ثم استيقظ وهو حائر دون ما رأيت منه في المرة الأولى. ثم اضطجع واستيقظ وفي يده تربة حمراء وهو يقلبها، فقلت: ما هذه التربة يا رسول الله؟ فقال: أخبرني جبريل أن هذا مقتل بأرض العراق للحسين، قلت له:

يا جبريل أرني تربة الأرض التي يقتل بها، فهذه تربتها.

وقال صلى الله عليه وآله الحسن والحسين ريحانتي. وغيرهما مما أحصته الكتب الصحاح عن مناقبهم وفضائلهم بما لا يترك ريبا. ثم يأتي التاريخ. فيوقف الفضيلة كلها أمام الرذيلة كلها. بل ويجعلون الرذيلة تسطو وتبطش بالفضيلة!.

مع كل ذلك يأتي المؤرخة، فيرون في كل ذلك اجتهادا، وفي نظر بن خلدون يكون علي (ع) مثل معاوية.

والحسين كيزيد. كلهم عدول مؤمنون ومرضيون، وإنني لم أجد ما أعبر به عن ابن خلدون إلا ما قاله عنه (هاملتون جيب) بأنه لا يعدو أن يكون فقيها مالكيا،

الصفحة 319
يرمي إلى تبرير واقع الخلافة كما فعل قبله الماوردي والباقلاني والغزالي.

أنا هنا لا أريد أن أحط من قدر هؤلاء، ولست أقول إنهم ساذجون وأغبياء.

بل أقول إن السياسة والبلاط، قد أفقدهم الرؤية السليمة. والجو النفسي العام كان أقوى من إراداتهم.

كأن ميزان العدل الإلهي اختل - سبحانه وعلا - حتى يكون أغيلمة بني أمية على طرف المساواة مع أئمة أهل البيت (ع).

وأذكر مرة كنت أتحدث لدى العلامة السيد هادي المدرسي، فقلت له: من الطريف إن بعض العلماء من العامة يروون حديثا، هو رؤيا للإمام الحسن (ع) - مثل الغزالي في الإحياء، وكذلك زاد المعاد - إنه رأى وكأن عليا ومعاوية أوتي بهما، ثم أدخلا في بيت. فما كان أسرع من علي، إذ خرج يقول: قضي لي ورب الكعبة، ثم ما برح أن تبعه معاوية يقول: غفر لي ورب الكعبة.

قال السيد المدرسي: هذه الرواية متناقضة من الأساس، إذ كيف يكون من العدل أن يقضى لعلي ويغفر في نفس الوقت لمعاوية، فمن أي جهة قضى لعلي (ع) إذا. إذا كان يزيد والأمويين جميعا، قتلوا الحسين وآل البيت.

وشربوا الخمور، وحكموا بالباطل، وهم مؤمنون، فلماذا تقوم قائمة المسلمين اليوم، فيكفرون المجتمعات، وينتقدون السلطات، ولست أقل ثورية من أولئك (المتشددة) عندما أقول: إن يزيد بن معاوية وأباه وبني أمية جميعا أنكى وأمر، طغيانا من أي سلطة معاصرة، إن القمع والديكتاتورية في عالمنا العربي والإسلامي لها أرضيتها في تاريخنا، لماذا نحدث القطيعة، فنبرئ طغاة الماضي والرجوع إلى نموذج السلف. هي دعوة متعسفة، على هذا الافتراض.

وإذا كان الأمر كذلك، يلزم أن نتهم كل من تعامل معهم ومكن لهم. فبنو أمية لم تكن لتعود إليهم القوة لولا ما قدمه الخلفاء لهم من إمارات.

كنت أظن أن الإسلام قد أعطانا روحا قوية لطلب العدالة، ولم أكن أظن أن بعضنا سوف لا تدفعه مذبحة كربلاء، إلى معرفة القضية من أساسها، ومحاكمة

الصفحة 320
أشخاصها على مستوى الفكر الذي لا يزال يؤسس وعينا بالماضي والحاضر. غير أنني رأيتهم مكبلين بألف قيد، مثلما كنت مقيدا. وإن كنت قد استطعت كسر الأغلال عني، فإن غيري ضعف عن ذلك وبقي أسير الظلام. ثم أدركت أن الإسلام أعظم من أن يكبل أناسا لطلب العدالة في التاريخ وفي كل المستويات.

أدركت أن شيئا جديدا على روح الإسلام لوث صفاءه الروحي. أدركت أنه (المذهب). وفي ذلك الوقت عرفت أنني لا يمكنني أن أتعامل بتحرر وموضوعية مباشرة مع القرآن والنبي صلى الله عليه وآله فكان ضروريا أن أرفع القيود عني وأبدأ مسيرة جديدة في البحث عن الحقيقة جئت مرات ومرات عند أهل الخبرة من أهل السنة والجماعة، وكلما حدثتهم عن ذلك، امتعضوا وارتسم في وجوههم غضب، يسمونه الغضب لله! كانت وجهات نظرهم تنقسم إلى قسمين:

1 - بعضهم رد علي: ليس الحسين هو أول أو آخر من مات شهيدا مقتولا، فأنبياء الله قتلوا وصلبوا، فلماذا هذا التركيز والمبالغة في قتل الحسين؟.

2 - بعضهم قال: إننا إذا دخلنا في هذا الصراع، سوف ندخل في الفتنة، ونحن أمامنا مسؤوليات يجب أن نؤديها في واقعنا المعاصر، فلماذا أنت ترجع بنا إلى العهود القديمة؟.

وكنت أرى في كلا التبريرين روحا سطحية، وتخلفا حقيقيا في التعامل مع الإسلام والتاريخ.

أما بالنسبة للأولين، فكنت أردهم ردا عزيزا، ذلك أن مقتل الحسين (ع) له خصوصياته التي لا ينكرها أحد، وهي مأساة لم يشهد لها تاريخ الأنبياء مثيلا.

لأن الذين قتلوا الحسين وأهل بيته وقطعوا رأسه وسبوا نساءه كانوا ممن يدعي تمثيل الأمة، ويمثل الجماعة.

ثم إننا عندما نتحدث عن مقتل هؤلاء الأنبياء نجزم أتوماتيكيا بأن الذين قتلوهم ظالمون، ظالمون، كفار ملعونون. بينما عندما نتحدث عن الإمام الحسين (ع) لا نرى بينه وقاتليه فرقا يذكر، فنقول: إنه اجتهد، وقبح الله اجتهادا يوجه لسفك دماء أبناء النبي صلى الله عليه وآله

الصفحة 321
أما الفئة الثانية، وهي الفئة التي تحمل وعيا متهالكا، وثورية (الأرانب)، تقول:

لماذا ترجعون بنا إلى الخلف؟.

ومن دون أن نبرر أهمية التاريخ التي أصبحت ضرورة علمية وثورية، دون أن نحرجهم بسؤال عن أي ثورة في التاريخ لم تقم انطلاقا من التاريخ؟ دون كل ذلك، نريد أن نقول لهم. ماذا فعلتم، وأنتم تسيرون إلى الأمام دون التفات إلى الوراء؟.

أولا: ليس لكم في ماضيكم سوى الفضائح والصور الملفقة. فأي تاريخ يمكن أن يساعدكم في تحقيق مشروع النهضة في الحاضر والمستقبل، فأنتم تنطلقون من الفراغ أو من النصر (المشوه بالأيديولوجية التضليلية) من دون تجربة تاريخية.

ثانيا: إن الذين انطلقوا من ثورة الحسين، هم اليوم أكثر الفئات ثورية ونهوضا في العالم الإسلامي.

ومن مذبحة الحسين (ع) صنعوا حاضرهم الإسلامي، وخططوا المستقبل.

وهذا تحد تاريخي يعمي ضوؤه الأبصار.

وكان الإمام الحسين (ع) ضميرا ناهضا، و (جرس) إنذار للأمة، لاتخاذ المواقف الضرورية، لوقف الزحف التحريفي. ولذلك كانت مرحلة ما بعد الحسين (ع) مرحلة انقلابات وثورات مختلفة، بدءا بثورة (التوابين) لسليمان بن صرد الخزاعي بالكوفة، وثورة المختار الثقفي، وزيد بن علي.

أما ما عرفه التاريخ من حكم بني أمية وبني العباس، فذلك لا يتطلب منا كبير جهد. وهو في متناول كل القراء في مراجع التاريخ الشهيرة. وتلك نتائج لا تهمنا في التاريخ الإسلامي، بقدر ما تهمنا الأسباب، الأولى التي شكلت أرضية لكل فساد شهدته الأمة في تاريخها اللاحق!.


الصفحة 322

الصفحة 323

الفصل الخامس
مفاهيم كشف عنها الغطاء


الصفحة 324

الصفحة 325

مفهوم الصحابي

كان هدفي من هذه الاستراحة التاريخية، الكشف عن السلوك السياسي والأخلاقي، للجماعة التي سميت بالصحابة. ذلك أننا في مقام الحديث عن قيمة أئمة أهل البيت، تعترضنا إشكالية الصحابة وموقعهم من الإسلام.

ولعل الفرق الأصيل بين الشيعة والسنة، هو هذا، إن السنة يرون اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وآله وأخذها من أي وعاء خرجت، ويكفيهم في ذلك الصحبة، والصحبة عندهم تتحدد بمشاهدة الرسول صلى الله عليه وآله ومعايشته. بينما الشيعة، لا يرون للصحابة سوى قيمة أدبية، أما السنة والتشريع فإنهم يتلقونه عن النبي صلى الله عليه وآله عن طريق آل البيت (ع) المحددين في مذهبهم.

ويتساءل الإنسان من العامة، حول الأسباب التي جعلت الشيعة يرفضون أخذ السنة من الصحابي، واقتصارهم على آل البيت (ع) فيما يتسأل الإنسان من (الشيعة) حول الأسباب التي تجعل العامة يأخذون السنة من كل من رأي الرسول صلى الله عليه وآله من دون أن يحددوا شرطا قويا لذلك.

أولا: من هو الصحابي؟.

ثانيا: وهل يجوز أخذ السنة عنه؟.

مفهوم الصحابي عند السنة:

كل من رأى الرسول صلى الله عليه وآله من المسلمين فهو صحابي. وحسب ابن تيمية

الصفحة 326
ومن لف لفه: كلهم عدول وعلى هذا يكون الأخذ من علي (ع) وأبي هريرة سيان.

ولهم مرويات غريبة تقول: أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم.

ومن هنا، فإن الصحابة رغم ما وقع بينهم من فتن، يبقوا عدولا، يهتدى بهم.

ولذلك، كان معاوية صحابيا، يؤخذ منه، رغم قتاله عليا (ع) وكذلك عمرو بن العاص، وسمرة بن جندب وأبي هريرة.

والعقل يخطئ هذا الاطلاق. إذ كيف تؤخذ السنة ممن خالفها في حياته.

لقد روى السنة في صحاحهم أن الرسول صلى الله عليه وآله قال: (من مات وليس في عنقه بيعة لإمام زمانه، مات ميتتة جاهلية).

وعلى هذا الحكم، تكون عائشة جاهلية، لأنها خرجت عن إمام زمانها وهو علي (ع) فكيف يعقل أن تؤخذ منها السنة النبوية، وهي تخالفها.

ولما ثبت أن معاوية قاتل عليا (ع) والسنة يقولون إنهم كلهم عدول على الرغم من ذلك، فكيف يجور عقلا الأخذ بسنة صحابيين - حسب رأي السنة - على طرفي نقيض.

والسؤال: هل يجب أخذ السنة من الصحابي!.

في البدء ليس ثمة دليل على وجوب أخذ سنة الرسول صلى الله عليه وآله من الصحابي.

والسنة وهم يعتبرون إن كل من رأى الرسول صلى الله عليه وآله فهو صحابي، فمن يكون الرسول صلى الله عليه وآله قد أوصى باتباع الصحابة؟ فهل يعقل أن يأمر الصحابي باتباع الصحابي، إذا جاز أنهم كلهم صحابة.

ثم إن هؤلاء الصحابة كلهم اقتتلوا بعد الرسول صلى الله عليه وآله فكيف يعقل أن يكون كلم عدول وكلهم نجوم.

أما الصحابي كما يعرفه الشيعة وكما يستوعبه العقل. هو ذلك الذي عاش مع الرسول صلى الله عليه وآله وآمن به والتزم نهجه وأطاعه في حياته وجاهد معه بماله وروحه.


الصفحة 327
وبقي على سنته من بعده ولم يغير بعده شيئا، وما بدل تبديلا وسماه الرسول صاحبا أو ما يفيد معناه.

وأن يحترم الصحابي شئ وأن يلزم أخذ السنة عنه شئ أخر. إذ أن الأمر الثاني ليس من الاختصاصات التي وكل بها الصحابي. وليس ثمة دليل من العقل أو النقل يوجب على المسلم أخذ السنة من الصحابي. بخلاف ما ثبت عقلا ونقلا في حق آل البيت (ع) ذلك لأن سنة الرسول صلى الله عليه وآله لم تترك عبثا. بل لا بد لها من مؤهلين ومختصين في استيعابها وحفظها، لتبليغها بعد الرسول صلى الله عليه وآله ولتثبت بها الحجة على الناس. وغير آل البيت (ع) لم يكن مؤهلا ولا مختصا، ولم يدع وراثة الرسول صلى الله عليه وآله في العلم والإمامة سوى آل بيته. وإذا كان أبو بكر قد منع فاطمة الزهراء من إرثها بمبرر إن الأنبياء لا يورثون إلا علما. كان عليه إذ ذاك، الانقياد واتباع آل البيت في إرث العلم!!.

وخلاصة القول، إن الصحابي، مفهوم مطلق عند أهل السنة والجماعة، بينما هو مفهوم محدد ومضبوط عند الشيعة (1).

____________

(1) - حاول مرتضى العسكري أن يحقق في بعض من أطلق عليهم اسم صحابي، فوجد 150 منهم لا وجود لهم في حيز الصحبة فكان كتابه القيم (مئة وخمسون صحابيا مختلقا)!.

الصفحة 328

الصفحة 329

نماذج وباقات

عندما أتحدث عن الشخصيات التي انكشفت لي في التاريخ الإسلامي. فإنني لا أريد التحامل عليها. فهذا قد يفهمه من لا تهمه الحقيقة التاريخية، ويقنع نفسه ببضع سطور في التراجم، حيث يتحول الشخص التراثي إلى جزء من العقيدة في ذهن (العامي). وقد يهتم البعض منهم الشيعة، لما يجدهم يعرضون حقيقة شخصيات تاريخية في صورتها الحقيقة. بينما لا يهمني أن ينعق هذا البعض. وأنا أتعرض لسيرة بعضهم. ذلك أنني عامي النشأة، وكنت من الذين يسبحون بكرة وأصيلا بهذه الشخصيات. لقد كانت عندي شخصية عمر بن الخطاب أحسن شخصية على الاطلاق بعد الرسول صلى الله عليه وآله وأبو بكر يأتي بعده في المرتبة وهذا خلافا لمذهب الجماعة بل وغلوا في التسنن. ولم أكن أجهل شيئا في مذهب العامة. وربما قصرت عن احتواء الكثير، الكثير من مذهب الشيعة. بينما لم يكن مذهب العامة يصعب استيعابه بحذافيره. ولذلك وأنا أعرف نفسية العامي - تجاه هذه الشخصيات. لأنها نفسيتي التي كنتها فيما مضى - أعرف أنه سيمتعض من ذلك. غير أن التاريخ لا أم له.

ثم أريد أن أؤكد، أن ما قيل في أسفار العامة، حول أبي بكر، وعمر وغيرهما لا يعدو أن يكون تلفيقات. وكثيرة هي الأوصاف التي أوردوها حولهم كانت أضعف وأوهن من بيت العنكبوت.


الصفحة 330
فأبو بكر، وعمر، كما ذكرهما التاريخ السني، بتلك الأوصاف، هما بلا جدال، أفضل ما رأت البشرية، وهؤلاء جدير أن يرضى الله عنهما. ولكنني أدرك أن عمر وأبا بكر، كما هما في التاريخ الحقيقي، هما شئ آخر، وأنا أهتم بهما، كما هما في الواقع التاريخي.

كيف كانت تلك الشخصيات إذا، وما مقدار صحة ما حيك حولها من مناقب وفضائل مروية؟.


الصفحة 331

أبو بكر

أنا هنا لا أتحدث عن أبي بكر، ذلك الذي انزرع في وجداني من خلال التطعيم التاريخي المزيف. أنا هنا أتحدث عن أبي بكر الحقيقي غير ذلك الذي لا يزال في أذهان الناس. وسأركز على أمرين، الأول على مدى سلوكه المخالف للشرع، والثاني، على التحقيق واختبار ما نسج حوله من روايات مزيفة، صنعت منه أسطورة التاريخ الإسلامي كغيرة من الصحابة المختلقين.

أولا: خالف أبو بكر (النص) في أكثر من موقف:

- لقد عمد أبو بكر على حرمان فاطمة الزهراء إرث أبيها ظلما وعدوانا وخلافا للشرع (2).

- ويذكر ابن كثير في تاريخه (3) إن أبا بكر بعد أن أوتي (بالفجاءة)، أوقد له نارا في مصلى المدينة وجمعت يداه إلى قفاه وألقي في النار فحرقه وهو مقموط. مع أن (الفجاءة) مسلم ولا يزال يدعي ذلك.

- وأبى أبو بكر أن يقيم الحد على خالد في شأن مالك بن نويرة، وقد سبق أن عمر بنفسه أمره بذلك فأبى عليه أبو بكر.

____________

(2) - سنفرد لذلك بابا إن شاء الله.

(3) - وكذلك الطبري وابن الأثير وفي الإصابة.

الصفحة 332
هذا كله بالإضافة إلى قبوله بالخلافة علما أن البيعة في السقيفة كانت قائمة على الغصب والإجبار كما ثبت في الأثر.

ويذكر الطبري وابن الأثير وابن قتيبة وابن عبد ربه. إن أبا بكر في نهاية عمره قال: أجل إني لا آسي على شئ من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن ووددت أني تركتهن وثلاث تركتهن ووددت أني فعلتهن. وثلاث وددت أني سألت عنهن رسول الله صلى الله عليه وآله فأما الثلاث اللاتي وددت أن تركتهن: فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شئ وإن كانوا قد أغلقوه على الحرب. ووددت أني لم أكن حرقت الفجاءة السلمي وأني كنت قتلته سريحا أو خليته نجيحا، ووددت إني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين فكان أحدهما أميرا وكنت وزيرا.

وأما اللاتي تركتهن فوددت أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيرا كنت ضربت عنقه، فإنه تخيل إلي أنه لا يرى شرا إلا أعان عليه. ووددت أني حين سيرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة كنت أقمت بذي القصة فإن ظفر المسلمون ظفروا، وإن هزموا كنت بصد لقاء أو مدد.

ووددت أني إذ وجهت خالد بن الوليد إلى الشام كنت وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق، فكنت قد بسطت يدي كلتيهما في سبيل الله ومد يديه).

لقد ثبت في صحاح السنة أن الرسول صلى الله عليه وآله قال (فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها، ويغضبني ما أغضبها).

وكان أبو بكر قد أغضبها وماتت وهي غاضبة عليه. ولو كان الرسول صلى الله عليه وآله يعرف إن فاطمة قد تدعي ما ليس بحقها، فلا يطلق كلمة (أغضبها) ولقاء، أغضبها في حق. فيترتب على ذلك أن أبا بكر أغضبها في شئ يغضب رسول الله، ودل على ذلك ندم أبي بكر قبيل وفاته، غير أن الندم في ظلم الناس يحتاج إلى مغفرتهم لا إلى دموع الظالم!.

وقد أكثرت العامة في مدح أبي بكر، واختلفت فيه أقوالا هي أقرب إلى

الصفحة 333
الأساطير منها إلى الحقيقة، وهي وإن كثرت سنذكر بعضا منها، ونرى مدى صحتها وثبوتها.

لقد ذكروا أن قيمة أبي بكر، تنبع من الإشادة الإلهية بموقفه في الهجرة إذ يقول تعالى: ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا.

واعتبروا ذلك فضيلة لا يرقى إليها أحد آخر من صحابة الرسول صلى الله عليه وآله أقول: إن متن الآية، يدل على أن القرآن عرض حقيقة واقعية، لا يبدو منها إشادة فعلية، بل كل ما في الأمر، إن القرآن يتعرض للحالة التي عاشها الرسول صلى الله عليه وآله، لما كان في طريقه إلى المدينة، وكان ثاني اثنين وكان أبو بكر قد حزن لولا أن قال له النبي: لا تحزن إن الله معنا. وهذا توجيه وتربية تعكس عدم قدرة أبي بكر على الصبر والصمود، وروحه إلى اليأس والحزن أميل منها إلى رباطة الجأش وتحمل الصعاب.

هذا في الوقت الذي بقي فيه الإمام علي (ع) في فراش النبي صلى الله عليه وآله صامدا، ينتظر مقتله بإيمان لا يأس فيه ولا حزن. من دون أن يكون معه النبي صلى الله عليه وآله ليوجهه، ويعلمه أن الله معه. ثم يهاجر بعد ذلك لوحده. وهاجر المسلمون بقيادة جعفر إلى الحبشة، وما حزنوا وما كان معهم الرسول صلى الله عليه وآله، يوجههم فصبروا فهم بذلك أولى بالفضيلة ممن كان وجود الرسول صلى الله عليه وآله، إلى جانبه لا يصرفه عن الحزن وعدم الثقة في الله.

أما قوله: إذ يقول لصاحبه. فالصاحب لا تعني بالضرورة شيئا استثنائيا كما يرى البعض (4) فالصاحب تطلقها العرب على رفيق السفر حتى لو كان غريبا.

بل الصحبة لا تعني بالضرورة الانسجام الروحي والنفسي ووحدة الاتجاه. لقد جاء في القرآن:

(وقال لصاحبه وهو يحاوره، أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة

____________

(4) - والملفت للنظر إن الله لما تحدث في القرآن عن السكينة لم يقل وأنزل عليهما السكينة، بل تحدث بالمفرد، وأفرد رسوله بإنزال السكينة وفي ذلك لفتة تستحق التأمل!.

الصفحة 334
ثم سواك رجلا، لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا) (الكهف).

وإذا ما دققنا النظر وامعناه في الآية، سنجدها لا تحتوي ما يمكن حسبانه فضيلة وميزة تذكر، بقدر ما هي عرض لواقعة تاريخية، قد نفهم منها إن الذي صاحب الرسول صلى الله عليه وآله في السفر لم يكن على قدر كاف من الطمأنينة والثقة في الله.

هذا بالإضافة إلى ما حكوه حوله من أساطير، كأن قالوا إن الله استحيا من أبي بكر، وفي مورد آخر طلب منه الرضا، وإن جبريل يسجد له مهابة، وإنه خير من في السماوات والأرض. وغيرها من الأحاديث التي لا نريد أن نطيل فيها. ومن أراد ضبطها، فليراجع كتاب الغدير، ليحيط بكل ما قالته السنة في أبي بكر، والوقوف أيضا على زيف هذه الروايات سندا ومتنا، كما يطلع في ذلك على الأخطاء الفقهية التي كان يقوم بها أبو بكر، والمذكورة في مرويات السنة، فليراجع من شاء.

ولو كان ما روي عن أبي بكر صحيحا كله، إذن لكان أولى بعمر بن الخطاب أن يذكره في السقيفة، علما بأنهم لم يجدوا فضيلة أخرى غير الآية المشار إليها في الأعلى، والحال لو كان الصحابة يدركون كل هذه الفضائل لذكروها في السقيفة وما تمردوا عليه بعد ذلك.

ثم كان من أكبر الأخطاء التي تجاوز بها أبو بكر حدود الشرع، لما حرم فاطمة الزهراء (ع) إرث أبيها فدكا. وفدك هذه كانت منطقة بخيبر، ملكا للرسول صلى الله عليه وآله مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وكان الرسول صلى الله عليه وآله ينفق منها على أهل بيته (ع) فلما توفي، ردها أبو بكر إلى بيت المال. ولما تقدم إليه علي. وفاطمة، ادعى أن الرسول صلى الله عليه وآله.

قال: (الأنبياء لا يورثون ما تركوه صدقة) وفي رواية لا يورثون إلا علما. وفي تحقيق الحديث بما لا يتسع له المقام هنا، نرى أنه آحاد، انفرد به أبو بكر وحده ولم يروه غيره. وهب أننا صدقناه إن المال لا يورث من الأنبياء، فهلا اعترفوا بإرث العلم وما يترتب عليه من إمامة. كنا كما سبق أن قلنا ندرك إن أبا بكر كان يريد إضعاف آل البيت اقتصاديا حتى لا تقوى شوكتهم ضد الخلافة الغاصبة،

الصفحة 335
وإلا، فلماذا يرد عمر بن الخطاب فدك إلا أبناء فاطمة الزهراء، علما أنه كان مدافعا عن رأي أبي بكر إذا كان الأمر ورد فيه نص. وهل أبو بكر أعلم من علي وفاطمة، حتى يقنعهم بحرمة إرث الرسول صلى الله عليه وآله وكان أولى بالرسول صلى الله عليه وآله أن يخبر بهذا الحديث أهله حتى لا يطمعوا في إرثه، بينما التاريخ يثبت إن أبا بكر هو المنفرد بهذه الرواية. وقد قامت فاطمة الزهراء بتلقينه درسا في الشريعة، ترد عليه في خطبتها الشهيرة حيث قالت: (... ثم أنتم تزعمون أن لا إرث لنا أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون، ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.

أيها معشر المسلمين أأبتز إرث أبي يا ابن أبي قحافة أبى الله أن ترث أباك ولا أرث أبي، لقد جئت شيئا فريا، جرأة منكم على قطيعة الرحم ونكث العهد، فعلى عمد تركتم كتاب الله بين أظهركم ونبذتموه إذ يقول: (وورث سليمان داود) وفيما اقتص من خبر يحيى ابن زكريا إذ يقول: (ربي هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا) وقال عز وجل (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) وقال تعالى: (إن ترك خير الوصية للوالدين والأقربين).

وزعم أن لاحظ لي ولا إرث من أبي أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها! أم تقولون أهل ملتين لا يتوارثان؟ أو لست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟ أم أنتم بخصوص القرآن وعمومه أعلم ممن جاء به فدونكموها مرحولة مخطومة، تلقاكم يوم حشركم، فنعم حكم الله، ونعم الخصم (محمد) صلى عليه وآله، والموعد القيامة، وعما قليل تؤفكون وعند الساعة تخسرون، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم.

ثم التفتت إلى قبر أبيها وتمثلت بأبيات صفية بنت عبد المطلب (5):

قد كان بعدك أنباء وهنبثة * لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها * واجتث أهلك من غيبت واغتصبوا

____________

(5) - شرح النهج لابن أبي الحديد، الإحتجاج الطبرسي.

الصفحة 336

أبدت رجال لنا فحوى صدورهم * لما نأيت وحالت بيننا الكثب
تهجمتنا رجال واستخف بنا * دهر فقد أدركوا منا الذي طلبوا
وقد كنت للخلق نورا يستضاء به * عليك تنزل من ذي العزة الكتب
وكان جبريل بالآيات يؤنسنا * فغاب عنا فكل الخير محتجب

فكثر البكاء من الحاضرين.

وكان أبو بكر قد ندم على سلوكه هذا كما تقدم. ثم هو الذي أوصى - إن مات - أن يدفن إلى جوار رسول الله صلى الله عليه وآله واستأذن ابنته في أن يدفن فيما ورثته من أرض الحجرة، ولو كانت تركة النبي صلى الله عليه وآله للمسلمين جميعا، لكان أبو بكر استأذنهم جميعا (6).

وكما يذكر البخاري والبيهقي وابن كثير وغيرهم أن عمر بن الخطاب رد فدكا إلى ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله فيترتب على ذلك أن عمر بن الخطاب قد خالف الشرع وأعطى آل البيت (ع) ما ليس حقا لهم. غير أن الواقع هو السياسة، ثم جاء عثمان وأغتصبها منهم مجددا وأقطعها مروان، وبقيت كذلك حتى جاء عمر بن عبد العزيز ثم اغتصبت وهكذا دواليك.

وإذا ثبت أن أبا بكر هو المنفرد برواية (الإرث)، على أن الرسول صلى الله عليه وآله قد أسر له بذلك، فكيف يخفي الرسول صلى الله عليه وآله على بنته وأقربائه وهم المعنيون بذلك.

وعلى أثر هذا الأجراء، غضبت فاطمة الزهراء، ودعت على أبي بكر وعمر، وتوفيت وطلبت من بعلها علي (ع) أن يصلي عليها ويدفنها خفية ولا يجهر بجنازتها ويخفي قبرها وفعل، وكذلك راحت الصديقة الطاهرة، تحمل في قلبها كربا، لو كان أبوها حيا ما كان لأحد منهم أن يقترب من حقوقها.

ولكن الرسول صلى الله عليه وآله قد راح إلى رحاب الله، وترك أبناءه لأمة تسلط عليها شرارها. ولا حول ولا قوة إلا بالله!.

____________

(6) - فدك في التاريخ - محمد باقر الصدر.

الصفحة 337

عائشة بنت أبي بكر

أردت أن أقدم نموذجين لشخصيات إسلامية شربنا قداستها إلى حد الثمالة.

فلم نجدها كما أراد القرآن. ولم نكن نريد الإطالة في سرد أخبار كل الصحابة، واقتصرنا على أبي بكر وعائشة كشخصيتين يمكن قياس الباقي عليهما إذ أن حصول الانحراف في مثل هؤلاء يجعل حصوله في الباقين واردا، باعتبار هؤلاء، رموزا لا يعلى عليهم في التاريخ الإسلامي. لأن أبا بكر أول (خليفة)، أنتجته سقيفة بني ساعدة بتلك الملابسات التي سبق أن أوردناها. وعائشة لأنها ابنته التي تمردت على علي (ع) في حرب الجمل. أما الباقون، فلا يحتاجون إلا إلى نفضات يسيرة في التاريخ، لكي تسقط عنهم ورقة التوت المزيفة.

كانت عائشة من الناقمين الأوائل على عثمان، ومرارا صاحت: اقتلوا نعثلا فقد كفر، وهي التي لم تأبه بطلب مروان إياها، نصرة عثمان، يوم كان في الحصار، وهي تتأهب يومئذ للحج. ولكن من هي عائشة، وكيف تسنى لها أن تخرج على رجل هو أقرب الناس إلى زوجها، وأجدر بإمامة المسلمين؟.

جاءت عائشة تطالب بدم عثمان بعد أن كانت تتمنى أن يقطع إربا إربا. وذلك مستمسك تاريخي بأن عائشة كانت طائشة عابثة، لم تكن تهدف الحق من وراء تحريضها على عثمان. وليس عثمان أول من خالف النصوص. فأبوها فعل ذلك، وفاروقه أيضا. ولم تنبس يومها ببنت شفة. إنما القضية أوسع من ذلك. فعثمان

الصفحة 338
كان قد انشغل بأقربائه، فخفض لعائشة من العطاء (7) فترك ذلك في نفسها شيئا.

فحاربته حتى مقتله. غير أنها هابت خلافة علي (ع) إذ أنه لا يحابي فردا من أفراد المجتمع على آخر. وهو لن يحتاج فتوى من عائشة. فمركزيتها ستغيب مع وجود علي (ع) على سدة الخلافة. فهو أقرب الناس صحبة ونسبا للرسول صلى الله عليه وآله وأعلم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله بالإضافة إلى جوانب أخرى تضمرها عائشة عنه في نفسها.

____________

(7) - اليعقوبي.

الصفحة 339
عائشة في الميزان وما دامت قد خضعت لميزان الأحداث. نرى من الضروري وضعها قبل كل شئ في الميزان. عائشة زوج للنبي صلى الله عليه وآله أمر لا شك فيه ولا جدال - أم المؤمنين، وسام أعطي لها بشروط، لم تلتزم بها. هي مركز كبير في الأمة له قدسيته، وبسبب هذا المركز الكبير وتلك القدسية، كانت خطيئتها مضاعفة.

إنها ليست امرأة عادية تخطئ فيتقبل منها ذلك. إنها امرأة لها موقع في وجدان الكثير، حتى روى عنها العامة، أن (خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء).

وسواء أكانت هي موضوع الإفك أم غيرها، فإننا نبرءها ابتداء انطلاقا من التنزيه المعطى للرسول صلى الله عليه وآله لأن ذلك إن وقع - لا سمح الله - فإنه يخدش في مقام النبوة.

غير أن براءتها من الإفك - إن كانت هي موضوعا له - لا يعني براءتها المطلقة مما قامت به من فتن، ونحن تعلمنا من الإسلام ومن الرسول صلى الله عليه وآله أن الحق الذي جاء به القرآن، أغلى من النفس ومن الأزواج والأبناء.

محمد رسول الله صلى الله عليه وآله، وزوجته مذنبة، وهذا ليس عيبا، بل حقيقة وقعت، وإذا هي لم تناف مقام النبوة فلأن لها نظيرا في تاريخ النبوة. ومحمد رسول الله صلى الله عليه وآله لم يمن بزواج فاشل بناء على ذلك. فلقد حظي بخير النساء، أقمن أركان الذين بالتضحية، وهي خديجة الكبرى التي أنجبت منها أبناءه، وعلى

الصفحة 340
رأسهم الزهراء الطاهرة (ع) ولكي نعرف عائشة ونضعها في الميزان. يجب أن نتوخى الحقيقة، ونكسر في أذهاننا صنم عائشة من أجل الحقيقة الغالية فقط.

أعطى القرآن درسا لنساء النبي صلى الله عليه وآله حتى لا يغتررن، ويظنن أن الرسول صلى الله عليه وآله يخفي عنهن شيئا، فرسول الله صلى الله عليه وآله بعث للبشرية، وهو لم يبعث ليحتكره هوى امرأة. ولطالما حاولت عائشة ذلك. فالتأنيب القرآني، بين أن امرأة النبي صلى الله عليه وآله ليست هي التي تحدد عواطفه وسلوكه، وبأنهن معرضات للطلاق إذا لم يكففن عن أذى الرسول صلى الله عليه وآله وإشغاله بالسفاسف، مما يصرفه عن مهمته النبوية. يقول تعالى:

(يا أيها النبي، قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا. وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما. يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا. ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين واعتدنا لها رزقا كريما، يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا، وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) (8).

والآية تحتوي على مجموعة من الحقائق التي يجب الوقوف على دلالاتها:

1 - تخيير نساء النبي بين إرادة الدنيا وزينتها التي يترتب عليها الطلاق أو إرادة الله ورسوله والدار الآخرة.

وهي حقيقة تبين نوعية الزواج النبوي. أنه زواج يفترض أن يكون في خط الله، ومنقطعا إليه. فإما هذه الوجهة، وإما الطلاق، وهذا حق لهم لم يبخسه القرآن.

____________

(8) - الأحزاب آية، 28 - 29 - 30 - 31 - 32 - 33.

الصفحة 341
2 - إن الله أعد للمحسنات منهن أجرا عظيما. ولم يذكر مطلق نسائه.

فالمسألة مشروطة بالإحسان. أي العمل الصالح. وبالتالي يترتب عليه بمقتضى المفهوم بالمخالفة، إنه ليس ثمة أجر عظيم لغير المحسنات منهن.

3 - وإنه أنذر من تأت منهن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين.

وذلك على الله يسير. وفي هذا دلالات يجب الافصاح عنها. فالإنذار بمضاعفة العذاب، هو مقتضى العدل، لأن الضعف يتسع أيضا للإحسان. وذلك أيضا لمكانتهن من الرسول صلى الله عليه وآله ثم يتحدث القرآن عن الفاحشة. وهذا دليل على أن من بين زوجات النبي صلى الله عليه وآله من قد تأتي بالفاحشة. غير أن الفاحشة هنا لها مدلول خاص. فالفاحشة بالمعنى المسقط للسمعة، كالزنا - والعياذ بالله - غير وارد في حق زيجات النبي صلى الله عليه وآله بإجماع المسلمين شيعة وسنة.

وتشمل كلمة - فاحشة - بالتالي كل المعاني الأخرى التي لا تمس شخصية الرسول صلى الله عليه وآله.

4 - وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وهو أمر إلهي لنساء النبي صلى الله عليه وآله للزوم البيوت وحرمة الخروج. وضرب القرآن لهن مثلا، بزوجات الرسل والأنبياء السابقين:

(ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين) (9).

أما عائشة فماذا؟.

لقد كانت مصدر قلق وإزعاج للرسول صلى الله عليه وآله مزعجة مشاغبة كادت تشيبه قبل المشيب.

روى حمزة بن أبي أسيد الساعدي عن أبيه وكان بدريا قال:

____________

(9) - التحريم / آية: 10.

الصفحة 342
تزوج رسول الله أسماء بنت النعمان الجونية، فأرسلني فجئت بها، فقالت حفصة لعائشة: اخضبيها أنت! وأنا أمشطها! ففعلتا. ثم قالت لها أحداهما:

إن النبي صلى الله عليه وآله يعجبه من المرأة إذا دخلت عليه أن تقول:

أعوذ بالله منك! فلما دخلت عليه وأغلق الباب وأرخى الستر مد يده إليها فقالت: أعوذ بالله منك. فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وكمه على وجهه فاستتر به، وقال: عذت بمعاذ ثلاث مرات، ثم خرج إلى أبي أسيد فقال يا أبا أسيد ألحقها بأهلها ومتعها برازقيتين يعني كرباسين.

(وطلقها) فكانت تقول:

ادعوني الشقية. قال ابن عمر قال هشام بن محمد فحدثني زهير بن معاوية الجعفي: إنها ماتت كمدا) (10).

ومما ورد عنها، من إزعاج الرسول صلى الله عليه وآله ما أخرجه البخاري في تفسير سورة التحريم عن عائشة.

قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله يشرب عسلا عند زينب بنت جحش.

ويمكث عندها. فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له أكلت مغافير؟ قال: لا ولكن أشرب عسلا عند زينب بنت جحش، فلن أعود له لا تخبري بذلك أحدا " وفي ذلك أنزل الله في القرآن:

(يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك) (11).

فالله الذي بعث محمدا نبيا، لم يشأ له الشقاء (طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)، كيف لا يرفع الحرج والعسر على نبيه، وقد فرض على نفسه شيئا ابتغاء مرضات عائشة وتجنبا لإزعاجها.

____________

(10) - الحاكم في ترجمة أسماء بنت النعمان من الجزء 4 من المستدرك. وأورده ابن سعد في الطبقات ج 8 وكذا أخرجه بن جرير.

(11) - التحريم، آية 1.

الصفحة 343
وذكر صاحب الأحياء قولها للرسول صلى الله عليه وآله (أنت الذي تزعم أنك نبي الله) (12).

وخاصمت النبي صلى الله عليه وآله يوما إلى أبي بكر: فقالت: يا رسول الله اقصد - أي اعدل - فلطم أبو بكر خدها وقال: تقولين لرسول الله اقصد. وجعل الدم يسيل من أنفها (13).

وما إلى ذلك مما ورد فيها، ويضيق عنه المقام. ككسرها الأواني في بيت الرسول صلى الله عليه وآله أثناء غضبها وما إلى ذلك مما ورد في آثار السنة. وحسبنا ما روته هي عن نفسها قالت:

(كان رسول الله صلى الله عليه وآله لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها فذكرها يوما من الأيام فأدركتني الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوز فقد أبدلك الله خيرا منها، فغضب حتى أهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال:

لا والله ما أبدلني خيرا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني في مالها إذ حرمني الناس ورزقني الله منها أولادا إذ حرمني أولاد النساء " (14).

لقد نزل القرآن موبخا لها في هذا السلوك:

(إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه (أي على النبي صلى الله عليه وآله) فإن الله مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير، عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا) (التحريم 4 - 5).

ولم تكن هي أفضل زوجات الرسول صلى الله عليه وآله بنص ما سبق. فقد جاء في

____________

(12) - إحياء علوم الدين الغزالي، كتاب آداب النكاح.

(13) - بإسناد عن عائشة، أورده صاحب الكنز، والغزالي في آداب النكاح.

(14) - الإستيعاب لابن عبد البر المالكي، ومسند أحمد بن حنبل، أسد الغابة، الإصابة لابن حجر وكذلك ذكر البخاري بلفظ آخر ومسلم والترمذي.

الصفحة 344
الحديث، أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله أن يبشرها - أي خديجة - ببيت لها في الجنة من قصب " (15).

وقوله صلى الله عليه وآله خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد " (16).

كان الرسول صلى الله عليه وآله يتفرس فيها الفتنة، وعلم أنها ستحدث بعده فقال لهن مرة:

" ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب " (17).

ولقد نبحتها تلك الكلاب - شرف الله قدركم - يوم الجمل.

ولم يكتف الرسول صلى الله عليه وآله بذلك، بل أكد مرارا وتكرارا على خطورتها، وهو لا يزال على قيد الحياة. فلقد وقف صلى الله عليه وآله مرة خطيبا فأشار نحو مسكن عائشة فقال:

هاهنا الفتنة ثلاثا من حيث يطلع قرن الشيطان (18).

وفي لفظ مسلم " خرج رسول الله من بيت عائشة فقال: رأس الكفر من هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان ".

غير أن حجب كثيفة منعتنا من الكشف عن الحقيقة هو أن عائشة راوية حديث يكاد حديثها يسود كل أسفار العامة والواقع إن ذلك كله تضخيم للواقع، وقد عمد الأمويون على التكثير من أحاديث عملائهم ورموزهم وأتباعهم مثل أبي هريرة. وكانت عائشة ممن وقف معهم ونادى من بعد ذلك مطالبا بدم عثمان، وممن شاركهم في أذى البيت الهاشمي، ومنعت استجابة لمروان أن يدفن الحسن

____________

(15) - صحيح البخاري، صحيح مسلم، صحيح الترمذي، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزية.

(16) - الإستيعاب لابن عبد البر، أسد الغابة، الإصابة لابن حجر.

(17) - الحديث مشهور، ذكره صاحب العقد الفريد، والطبري في التاريخ والإستيعاب لابن عبد البر، وتذكرة الخواص للسبط بن الجوزي.

(18) - صحيح البخاري كتاب الجهاد والسير، باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وآله.

الصفحة 345
قرب جده في بيتها.

التكثير من ذكر عائشة وأخبارها، ليس إلا صناعة اعتادها المؤرخون، من الطريف ما ذكره صاحب شرح الملحمة التترية لأحمد بن منير الطرابلسي.

حيث فند كذبة، كون عائشة روت كل هذا الكم الهائل من الأحاديث، فيذكر أن ما اشتهر عند أهل السير هو أن عائشة بنى عليها الرسول صلى الله عليه وآله وهي " 9 سنوات، بينما بلغ حديثها " ألف حديث ويزيد فكيف تكون العملية؟.

لقد بنى عليها وهي بنت 9 سنوات ثم مات عنها وهي بنت 18 سنة.

فتكون حياتها مع النبي صلى الله عليه وآله 9 سنوات.

ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وآله كانت تحته 8 نساء وهي تاسعتهم، وبمقتضى العدل بين النساء يكون لها يوم كامل من كل 9 أيام و 9 سنوات من حياة عائشة مع النبي صلى الله عليه وآله موزعة على (9) من نسائه.

بالإضافة إلى أنه يقضي معظم نهاره في شؤون المسلمين بالمسجد الجامع وجزءا كبيرا من ليله في التهجد والعبادة، ثم لا بد له من الراحة (كبشر).

وعليه، فلا يمكن أن يتجاوز حديث الرسول صلى الله عليه وآله مع عائشة أكثر من 100 ساعة، وإذا افترض أنه حدثها خلال كل ساعة (10) أحاديث وهذا غير وارد، إذ أن الرسول صلى الله عليه وآله كان طويل الصمت، وصمته أكثر من كلامه، فيكون المجموع عندئذ (10000) وفي هذا مبالغة.

وإذا أضفنا (10000) حديث أخرى، بمقتضى إن السنة هي قول وعمل وتقرير، وهي إضافة مبالغة فسيكون المجموع (20000) في أقصى الحدود.

فأين هذا العدد من (41) ألف حديث لعائشة.

ويلخص صاحب الملحمة، عمليته كالتالي:

(لعائشة 9 سنوات في بيت الرسول ولها من هذا العدد سنة واحدة فقط) لأنها تعيش مع (8) ضرات والسنة تساوي 365 يوما واليوم يساوي أربعا وعشرين

الصفحة 346
ساعة) وحاصل ضرب (365 في 24 = 8760 ساعة) ينقص نصفها وهو النهار لوجوده في المسجد.

و (3 / 4 ثلاثة أرباع من الليل للعبادة والراحة) فألف ساعة نصيب وافر جدا قد فرضناه لحياتها معه - أي للتحدث معها " (19).

هذه هي عائشة أم المؤمنين، كيف نجمع بين النقيضين كيف دخلت المعركة مع يعسوب المؤمنين؟.

لدي وجهة نظر قوية الدلالة، فعائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله كانت مخطئة في حربها مع علي (ع) هذا ما لا يشك فيه أحد. لأنها لم تتمالك نفسها أمام فرصة تسنح لها، لتصفية حسابها - كامرأة غيورة - مع عدو لها لدود استبد بأوقاتها مع النبي (ص) الزوج - ودفعه المبدأ الصارم إلى حل مشكلة الإفك باقتراح الطلاق، وذلك من أجل قضية الرسول الرسالية فلم يراع في ذلك شعور عائشة - المرأة - الغيور، وما يمكن أن يتركه هذا التصرف في امرأة خاصمة وكسرت الأواني في البيت وساهمت في خداع نساء النبي صلى الله عليه وآله، ليعرض عنهن.

كل ذلك غيرة! والمؤرخون، هم الذين خلعوا عليها قداسة زائدة، ورأوا في نزوعها ذاك، اجتهادا دينيا أضافوه إلى شريعة محمد صلى الله عليه وآله.

واستمر الإمام علي (ع) في طريق نضاله العقيدي، لا تشغله سفاسف الصغار. في مثل هذه الفرص، تقدم عائشة دليلا على غيرتها الكبرى التي ليس بعدها مبرر أقوى لمحاربة كتلة من المسلمين على رأسهم علي بن أبي طالب (ع) فهذا الأخير إذا حكم، وعائشة موجودة إذا سينفذ النص وسيكون كالنبي صلى الله عليه وآله الذي لم تكن عائشة تقدر على تليينه، لأنه زوجها أولا، وثانيا لأنه مدعوم بالوحي مباشرة، ولأنه ثالثا زجرها بالوحي أكثر من مرة أرادت أن تتظاهر عليه.

____________

(19) - رؤوف جمال الدين: شرح الملحمة التترية لأحمد بن منير الطرابلسي؟ مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان ص. ب 7120. أقول: والمرأة التي تكذب على النبي صلى الله عليه وآله حسب ما أوردنا، ونزول القرآن فيها، أليست مستعدة للكذب على الناس الذين هم دونه بلا شك.

الصفحة 347
بينما علي (ع) هذا سوف يطبق أحكاما أشبه في صرامتها ب‍ (طلقها يا رسول الله).

وهذا يؤذي عائشة ويؤذيها أن يتألق نجم علي وبنيه، بشكل يخبو فيه وهجها أمام المسلمين، تريد أن تستبد وحدها بإرث الرسول صلى الله عليه وآله في الشرف، ويؤذيها أن يتولى أمر الناس أحد أعداء أبيها وفاروقه وقتال للعرب!.

مع كل ذلك أقول أن عائشة، رغم خطيئتها في حرب علي (ع) إلا أنها كانت ترى نفسها منطقية مع شعارها الذي هو (أن عليا قتل عثمان)!.

وكل عاقل يدرك أن عليا لا يمكن أن يتآمر بهذه الطريقة العصبانية على رجل ضعيف - وإن كان قويا بعشيرته - ولكن المؤامرة كانت استراتيجية واعتبارية، أي أن عليا (ع) نضج الأجواء الثورية لهذه العملية، فوجوده وسلوكه وتوجهاته تعكس ملامح (الرفض)! وتحول علي (ع) وأسرة بني هاشم على مدى سنوات من الاغتصاب الاستخلافي، إلى محطة لتزويد الجماهير بالرفض، نقطة استفهام انزرعت في قلب المجتمع الإسلامي يومها، كانت تلك هي بنو هاشم!.

فعائشة كانت ترى أنها تحمل شعارا فيه مبررات مقبولة عند العوام، فهي ترى أن رؤساء الوفود الذين جاءوا إلى عثمان، كانوا هم طليعة وخلص شيعة علي (ع) وأن الذين اقتحموا البيت على عثمان وتزعموا قتله، أصبحوا من عمال علي (ع) في البلدان، كمحمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة وأمثالهما.

وجدت عائشة في ذلك مبررا، لمعارضة علي (ع) بعد أن انعقدت له البيعة، وأشعلت فتنة في أمة الرسول صلى الله عليه وآله لم يطفئها إلا سيف علي (ع).

أمثل هذه المرأة، يستحق أخذ الدين عنها. وكيف نتقرب إلى الرسول صلى الله عليه وآله ونحترمه من خلالها وهي التي كانت لا تحترمه ولا توقره على خلاف بعض أزواجه الأخريات.

يقول الإمام علي في نهجه:

لا تعرف الحق بالرجال، ولكن اعرف الحق تعرف أهله.