أيديولوجيا المنطق السلفي
هناك في الفكر السلفي ما يقمع وما يوجه الأمة وثقافتها، القمع الذي تعززه ب (إذا ذكر صحابي فأمسكوا).
والتوجيه الذي تبرره ب: (أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم).
والمفهوم النهائي من ذلك كله هو أن تتبع محددات، دون معرفة.
وعندما نفهم الإسلام، بعيدا عن التوجيه الأيديولوجي السلفي. نفهم أن الهدف منه هو إثارة عقل الإنسان. لكي يمارس حياته بوعي، وليقوم بدوره الديني على يقين.
ولا أعتقد أن الإسلام الذي جاء ليعلم الناس الحكمة والعلم، أن يضع الأغلال على المسلمين، ويربطهم بأشخاص مجهولين، ثم يمنع هؤلاء الناس من البحث عن سيرتهم الحقيقية في التاريخ.
وليس في القرآن قدوة، غير الرسول صلى الله عليه وآله ومن نص عليهم. أما الصحابة، فقد كانوا هم موضوع الرسالة.
ونلاحظ أن في الأمر بالإمساك عن ذكر أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله - مهما أحدثوا - إيحاء بالعصمة لهم. وهذا خلاف لما جاء به الإسلام، فإذا لم يخضع هؤلاء إلى معادلة الجنة والنار. فمن يخضع لها إذا.
ثم ما حدث بين هؤلاء الصحابة دليل على أنهم ليسوا جميعا نجوما.
وهذا الخطاب، ليس خطابا لنا وحدنا، بل هو بالدرجة الأولى، خطاب موجه لهؤلاء المعاصرين له - الذين أطلق عليهم السنة جميعا، اسم الصحابة - وهذا دليل على أن الصحابة الذين يعنيهم النص - مع افتراض صحته - ليسوا إلا فئة معينة ضمن هذا القطيع الواسع من المعاصرين للرسول صلى الله عليه وآله.
وكنت ألاحظ تلك السطحية في عقلية العامة بخصوص تحديد مفهوم (الصحابي) وكل ما قالوا عنه مجرد تبريرات وهمية لا ترقى إلا سمو الإقناع. يقول (أنور الجندي) في رده على (عبد الرحمن الشرقاوي، في مسرحية الحسين شهيدا) (20): شهد الباحثون الذين راجعوا القصة (..) أن الأصابع الحمراء تشوه حقائق التاريخ الإسلامي وتشهر بالصحابة الأجلاء.
ثم لم يوضح كيف أساء إلى الصحابة. واقتصر على (وتشهر بالصحابة الأجلاء) لاستعطاف الوجدان العامي، من دون اللجوء إلى أساليب إقناع موضوعية. ثم قال:
تردد في المسرحية تشهير بجماعة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وهم قدوة لنا وقد نوه الرسول صلى الله عليه وآله بمكانة أصحابه في أكثر من حديث شريف ومن واجبنا أن نبرز مفاخرهم ونركز عليها ونهتم بها وألا نطيل الوقوف أمام ما نسب إليهم من خلاف أو أخطاء).
ولا زلنا ننتظر من مفكر العامة أن يفصح عن كيفية هذا التشهير ولم يبين للذين يكتب لهم، ماذا قال (الشرقاوي) وأين أخطأ بل اقتصر على وجوب إبراز مفاخر
____________
(20) - إعادة النظر في كتابات المصريين في ضوء الإسلام. دار الاعتصام.
- كما لو نركز على أن الرسول أخطأ وأصاب عمر - ولا نطيل الوقوف أمام ما نسب إليهم من خلاف أو أخطاء - كما لو لم نطل الوقوف أمام مقتل الحسين - لسواد عين يزيد والعامة.
واستمر كذلك (الجندي) في كلماته المطاطة التي لا تحتوي مضمونا عقلانيا يحمل مظهرا من مظاهر الإقناع. وهذه الضبابية في تحديد المفاهيم عند العامة، ليست من مسؤولية الجندي، بل هي كانت في صميم البنية المذهبية للعامة.
قصة طريفة:
من القصص التي حدثت لي يوما وعرفت من خلالها مدى تقديس الصحابة عند العامة تقديسا يفوق قدسية الرسول صلى الله عليه وآله نفسه من حيث لا يشعرون. جاءني واحد من المثقفين، والمتوجهين إلى دراسة الفكر السلفي. ورتب معي موعدا للحديث عن ملابسات السقيفة.
وعندما بدأنا حوارنا. كان يحاول أن يفتح لي في كل مرة بابا في النقاش، ليبرر به موقف عمر بن الخطاب، غير أنني كنت أعرف مسبقا - وبحكم التجربة - أي باب يريد أن يفتح، ثم أصده في وجهه. وكان هدفه أن يبرئ عمر من أي خطأ مهما كانت النتيجة. وكنت أحاول أن أوضح له موقف الرسول صلى الله عليه وآله من قضية الإمامة مهما كلفت نتيجة ذلك، ولو بخسران واحد من الصحابة. ولما رأى أن الأبواب كلها انغلقت عليه. وألفى (النص) لدى كل باب يريد فتحه.
قال بكل ابتذال: إذا لو كنت في ذلك الموقف، لاتبعت عمر وتركت الرسول صلى الله عليه وآله لأن عمر رأى المصلحة في ذلك، بدليل أن خلافته كانت كلها عادلة.
قلت له: أنا لا أريد أن استعرض أمامك حقيقة العهد العمري في الخلافة ونقاط الاستفهام المبهمة في فترة خلافته. غير أن الأساسي هنا، هل أنت مستعد
وهل الرسول يقارن بعمر. وهل (رأي) عمر أصوب من (وحي) محمد.
قال: المهم، إن الرسول صلى الله عليه وآله أمر في حديث له أن نتبع عمر.
هذا هو الموقف الذي يحسه كل عامي في نفسه. وكلما صدت في وجوههم الأبواب، كشفوا عن هذه الحقيقة، لأن الفكر الأساسي الذي يقوم عليه اعتقادهم، هو فكر مضبب.
، ليس عند أي (عامي) فكر متناسق عن كل القضايا التي تعرضنا لها، سوى ركام من التبريرات الأدبية، المطرزة بالحوقلات والتهليلات.
ليس كل الصحابة عدول
تحرم الشريعة الإسلامية (التقليد) في الاعتقاد. ذلك لأن العقيدة لا تورث بل تبحث فهي قناعة واستيعاب.
وإذا أردنا أن نبحث في قضية الاعتقاد نحتاج إلى التاريخ أي إلى الأرضية الزمنية التي تحرك فيها الاعتقاد الإسلامي ككل. وسنضطر حتما إلى بحث الموضوع (الصحابي) فيكون البحث عن الصحابي جزءا لا يتجزأ من بحث الاعتقاد. لأن لهذا وذاك علاقة تاريخية لا بد من فرزها.
وعندما نبحث في الصحابي، كضرورة لبحث الاعتقاد، سنصطدم بمجموعة العورات والانحرافات.
وهذا الانحراف لا يعني تعرضا للصحابي، بقدر ما يعني الوصول إلى الحقيقة، والذي يبحث عن الاعتقاد الصحيح غير الملفق، يلزمه عدم تغطية تلك الانحرافات وعدم تبريرها.
ذلك مثلا. يحاول البعض أن يغطي عن أبي هريرة، ويعتقد بأحاديثه الداعية إلى الجبر ولا يمكن فهم هذا الانحراف إلا بالكشف عن انحراف أبي هريرة).
كما أن وضع الصحابي تحت المجهر التاريخي، لا يعني بالضرورة (سبا) للصحابي.
أولا: لا تسبوا أصحابي، لا علاقة له بالبحث التاريخي الموضوعي عن الصحابي.
ثانيا: إن هذا الحديث كما ورد في مرويات السنة، جاء كتوبيخ لخالد بن الوليد لما تعرض لعمار بن ياسر وسبه. فقال الرسول صلى الله عليه وآله لخالد: لا تسبوا أصحابي.
فالكلام موجه لخالد، وهو دليل على أن خالدا ليس صحابيا بمفهوم الحديث.
وأن صحابة الرسول صلى الله عليه وآله ليسوا هم الذين عاصروه وصلوا وراءه. بل هم فئة خاصة.
وإذا تبين أن الصحابة، كانوا أكثر اختلافا في عهد رسول الله وأكثر تمردا عليه في بعض المواقف، سوف نفهم تبعا لذلك طبيعة انحراف بعضهم، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله.
بعض الصحابة، سيرتد بالنص
روى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند سهل بن سعد، والحديث الثامن والعشرين من المتفق عليه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول (أنا فرطكم على الحوض، من ورد شرب ومن شرب لم يظمأ، وليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم) (21).
وجاء في الصحيحين البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس، قال: ألا إنه سيجاء برجال من أمتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصحابي؟
فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت الرقيب عليهم، وأنت على كل شئ شهيد. إن تعذبهم فإنهم عبادك، قال: فيقال لي: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم.
وروى البغوي في المصابيح، كما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما:
قال الرسول صلى الله عليه وآله أنا فرطكم على الحوض، من مر علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا، وليردن على أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول:
____________
(21) - صحيح البخاري ومسند أحمد.
سحقا سحقا لمن غير بعدي.
وقد روي هذا الحديث بطرق مختلفة وأسانيد شتى، واكتظت به صحاح السنة، وهذا كلام صريح على بطلان مقولة (كلهم عدول) ما دام الكثير منهم بشاهدة النص، سيدخلون النار!.
أما القرآن الكريم وهو المصدر الأول للمعرفة الإسلامية، يعلمنا أن الصحابة ليسوا كلهم عدول بل فيهم من يستحق العذاب.
تحدث القرآن عن الصحابة يوم حنين وإعجابهم بكثرتهم ظانين أنها ستغني عنهم شيئا:
(ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت، ثم وليتم مدبرين) (التوبة: 25).
ويذكر صاحب التفسير الكبير والآلوسي وصاحب الدر المنثور. أن الكثير من الصحابة ولوا مدبرين، تاركين الرسول صلى الله عليه وآله وراءهم بين يدي العدو وكل ذلك طمعا في البقاء وهذه الآية ليس فيها (نظر) حتى يحاول العامة تحريفها أو نفيها مع وضوحها وقطعها في انكسار الكثير من الصحابة وفرارهم في الزحف.
وكان من الصحابة من يتهم الرسول صلى الله عليه وآله في الصدقات، كما جاء في صحيح البخاري والدر المنثور: أن أناسا من الأنصار قالوا يوم حنين، حيث أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء وطفق رسول الله صلى الله عليه وآله يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله، يعطي قريشا، ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم.
وقال تعالى: (ومنهم من يلمزك في الصدقات) (التوبة: 58).
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين وابن ماجة في سننه عن عائشة عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال:
هؤلاء هم الصحابة كما عرفهم العامة من دون محددات تضبط مفهوميتهم.
ولذا يجب أن نتحلى بروح الشجاعة، جريئة، أي بنفسية مهذبة سليمة غير متشنجة، تقتضي التضحية ببعض التقديسات التي هي في الأصل، عين الأزمة).
غابت الأزمة، وكان من المفروض أن لا تغيب عن المنقب ولكن السبب الرئيس لغيابها وتعسرها، أن المؤرخ المتشنج يبحث عنها بعيدا عن جذورها، في الوقت الذي تكمن المشكلة في ذات الأشخاص الذين تربطه بهم رابطة غيبية مقدسة لها مشروعيتها في نفوسهم أكثر مما هي في (النص)!!.
مفهوم الإمامة
سأنطلق هنا من نقطة لدي فيها وجهة نظر تاريخية، هي إن نظرية الإمامة والخلافة، تبلورت بشكل أكثر دقة عند الشيعة منه عند السنة. والسبب في ذلك راجع إلى، أن مواقف الخلفاء تناقضت في ممارسة (الإمامة) وتعاطت، بأشكال مختلفة ومتناقضة، مع مسألة الخلافة.
فالمفهوم الشوري الذي يتسع في المنظور السني إلى مسألة الخلافة، لم لكن ثابتا سواء في فكر السنة أو ممارساتهم.
ففي النص السني، تتوزع مسألة الخلافة بين البعد الشوري والبعد التنصيبي، بالقياس على نص (مروا أبا بكر فليصل بالناس) وكانت هذه الأخيرة هي شعار (السقيفة)!.
بينما ظلت المسألة ثابتة في الفكر الشيعي منذ البداية فهي الخلافة بواسطة (النص) وفي حدود - بني هاشم) وكان لهذا الثبات المفهومي، الفضل في انتصارات الشيعة، الكلامية، على خصومهم، مستفيدين من الشرخ الحاصل لدى العامة في نظرية الإمامة، والتنوع والتناقض الذي حكم قضية الخلافة في الفكر السني.
لقد تبلورت المواقف بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله بشكل سريع. بحيث لم تبق فرصة للهاشميين في إبداء رأيهم.
والهاشميين كانت لديهم منذ البداية نصوص قاطعة.
والسقيفة، مؤتمر قائم أساسا على مخالفة النص. لأنه لو أطيع أمر الرسول صلى الله عليه وآله في تجهيز. جيش أسامة. لما كانت لهم فرصة في إقامة مثل هذه المؤتمرات. وعندما يقول الرسول (لعن الله من تخلف عن جيش أسامة) يترتب عليه، أن اللعنة على ما قام على لعنة (التخلف عن جيش أسامة). بمعنى أن السقيفة قائمة على (اللعنة). وإذا أردنا أن نخضعها لأسلوب الأحكام. فإن كلمة الرسول صلى الله عليه وآله تثبت أن الأمر واجب، وأن التخلف عنه حرام. وما دامت السقيفة قائمة على حرمة التخلف عن جيش أسامة، ترتب عليه حرمة السقيفة، وذلك من باب أن المبنى على الحرام حرام!.
قلت إن الإمامة عند أهل السنة، خاضعة للمزاج والرأي، ولم تكن لهم فيها نظرية وحتى (قاعدة) الشورى التي تحدثوا عنها لم تكن (مؤسسة) يومها. بل كل ما في الأمر، وضعها اللاحقون. أما المسألة في واقعها التاريخي، كانت تتأرجح بين أشكال من (التنصيب) ونحن هنا سنعرض وجهة نظر كل من الشيعة والسنة في مسألة الخلافة. لنقف على الثغرات التي تحتوي عليها ووجهة النظر العامية حول المسألة:
أهل السنة، والخلافة:
مع أن الخلافة في واقعها التاريخي، لم تكن متبلورة في شكل نظرية عند أهل السنة، إلا أن المتأخرين منهم استطاعوا أن يضعوا لها مبررات فكرية بسيطة ومحدودة.
يعتقد أهل السنة، بأن الخلافة، شأن من شؤون الدنيا، يتحقق بالاتفاق.
وحيثما ورد الاتفاق تجب البيعة. ولم يعتبروها من أصول الذين، فهي إذن من فروعه، وشذت بعض مذاهبهم، إذ جعلتها غير واجبة، وبأن السقيفة كانت نموذجا للشورى. من دون أن يركزوا على ملابساتها. ويستندون إلى قوله تعالى:
ولم يشترط السنة العصمة في الإمام. بل وجوزوا إمامة الفاسقين. وأوجبوا الطاعة مع الفسق يقول الباقلاني في التمهيد: قال الجمهور من أهل الإثبات.
وأصحاب الحديث: لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه، بغصب الأموال، وضرب الأبشار، وتناول النفوس المحرمة، وتضييع الحقوق وتعطيل الحدود، ولا يجب الخروج عليه.
ولا يشترط السنة (الأفضلية) في الإمام. فقالوا بجواز تقديم المفضول على الأفضل. والواقع، هو أن المفهوم الذي (فبركه) أهل السنة عن الخلافة، إنما كان استقراء لوضع فاسد، هو (السقيفة). فمن الأمر الواقع الذي جرى فيها، استقرأوا مفهوم الشورى وعدم النص... ومن الفساد والفسق الذي أحصاه التاريخ على بعض الخلفاء، أن ارتأى الابقاء على الخليفة الفاسق! وأي عاقل، يملك وجدانا سليما، ووعيا بالدين عميقا. يمكنه هضم هذه المحددات التي وضعها السنة للخلافة.
مبعث الإمام عند الشيعة
لما كانت الإمامة ضرورة لتنظيم حياة المسلمين وفق أحكام الله، حيث بها يستقيم. أمر المسلمين، دنيا وآخرة. عدها الشيعة أصلا من أصول الدين. وعليه فإنها تعتبر من الأمور التوقيفية التي يحددها البارئ جل وعلا. تماما مثلما النبوة.
أمرا توقيفي منوط باختيار الله عز وجل لأنها تشكل ضرورة لهداية الناس. وما دامت الإمامة هي الامتداد الشرعي للنبوة فإنها تبقى خارج دائرة الشؤون التي يبت فيها الناس. والإمامة ليست شأنا من شؤون الدنيا فقط. بل شأن من شؤون الآخرة أيضا وعليه، فإن الإمامة تخضع لمجموعة شروط، تنسجم مع هذا الشأن.
وحيث إن الشأن الأخروي يتطلب الصفات الفاضلة والعليا. فإن البشر عاجزون عن اكتشاف الأجدر في هذا الشأن. أو قد تحول دونهم وذلك عوامل أخرى نفسية وسياسية، كما جرى في التاريخ الإسلامي. ولو كان الأجدر في هذا
وبسبب قصور المقاييس وضبابية المنظار الذي كان ينظر منه الإنسان إلى النبوة. كان من الطبيعي أن يستأثر الله باختيار أنبيائه. ونفس الشئ لما رأى بنو إسرائيل في اختيار الله للملك طالوت ما لا ينسجم مع مقاييسهم لمفهوم الملك فقالوا: (أنى يكون لنا الملك علينا ونحن أحق بالملك منه)، وهناك أسباب كثيرة، عقلية وشرعية، تجعل من هذا الاختيار أمرا مستحيلا:
1 - إن الدين شأن من شؤون الله. وإن الأجدر دينا، لا يمكن إن يكتشفه من هو دونه. ولذلك يلزم أن يختاره الله.
2 - إن الناس قد يرفضون الإمام لعدله وتقواه إذا أدركوا عدم ركونه إلى أهدافهم. وقد يختارون من يرون فيه لينا وانكسارا. وقد يميلون مع من يكسرهم إليه بالقوة. وتاريخ الخلافة كما سبق ذكره، كان دليلا قاطعا على ذلك.
3 - إن رسالة الرسول كما تركها، لا يمكنها حل مشكلات الناس في كل الأزمنة والعصور. وهي تحتاج إلى من يستخرج منها الأحكام، ويوفر لكل مشكلة حلا فقهيا حاسما. ولذلك يلزم أن يعين الله من هو أجدر بهذه المهمة حتى لا تبقى على الله حجة للذين لم يعايشوا الرسل. والمستوعب للأحكام الفقهية اليوم، يدرك أنها تكاد تخلو من الحسم، وليس من العقل، أن يترك الله دينه، لرأي من يختارهم الناس، على قصورهم. ولعل كل هذه التناقضات دليلا على الفراغ الذي تركته الإمامة في حياة المسلمين.
وحيث إن الإمام هو لطف من الله، يوجه الناس إلى طريق الطاعات، وينهاهم عن سلوك المعاصي ويقضي للمظلوم وينتصر من الظالم. ويقيم الحدود والفرائض، ويصدر الأحكام في المفسدين. فلو جاز أن يعصي - لكان هو
وإذا لم يكن الإمام معصوما، جاز له أن يضل الأمة في لحظة جهله وعصيانه، وكان أبو بكر يقول فيما اشتهر عنه: إن لي شيطانا يعتريني.
فإذا احتاجت الأمة إليه في اللحظة التي يعتريه فيها الشيطان. فمن المؤكد أن يضلها، ولم يبق الإمام عندئذ حجة لله على العباد. ولكان هو في تلك اللحظة في حاجة إلى من يحمله على الطاعة، أي إلى إمام آخر. وإذا جاز لهذا الأخير أن يخطأ أيضا، احتاج إلى إمام آخر. ويبقى هذا التسلل ساريا إلى لا نهاية. وهذا يناقض اللطف، لأن في التسلسل، تكرارا لنفس الثغرة، وهي جواز المعصية على الإمام وهذا يأباه البناء العقلائي، والعصمة هي أن يرتفع الإمام عن الدنايا، والامتناع عن إتيان كل القبائح عمدا وسهوا وعلى طول حياته.
لأنه لو جاز عليه أن يعصي الله في الصغيرة كيف يمتنع عن إتيان الكبيرة. وإذا كان يجهل صغيرة في الشريعة، فكيف يتسنى له الحكم في القضية التي تعرض عليه.
وإذا جاز عليه القصور في الأحكام والجهل ببعضها، علما أن الموضوعات والمسائل لا تتحدد بالعدد، ولا بالمكان والزمان. لم يكن بينه والجاهل الذي يعرض عليه المسألة، فرق في إدراك تلك المسألة. فتنتفي الحجة. وقد أورد لنا التاريخ نماذج من المسائل التي عجز الخلفاء عن حلها. واعترفوا بعجزهم. أو قالوا فيها بغير علم وخالفوا الشريعة.
وحيث إن الإمام هو أعلى مستوى في الأمة، من حيث المهمة الشرعية. كان ضروريا أن يكون هو الأفضل على كل المستويات. خلافا للسنة الذين رأوا جواز
غير أن ضرورة إمامة الأفضل تبقى هي النظرية الموضوعية المنسجمة مع العقل والشرع. فالعقل يستقبح انقياد الأعلم لمن هو دونه، والأشرف إلى من هو دونه ودواليك.
والشرع ينهى في غير موقع عن هذه الفكرة: (هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون، إنما يتذكر أولو الألباب) (الزمر 9).
وقال: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى، فما لكم كيف تحكمون) (يونس 35).
وإذا نظرنا في نظرية الإمامة عند الشيعة، وجدناها ترتكز على هذه الأسس الثلاث:.
1 - الإمامة نص.
2 - عصمة الإمام.
3 - الأفضلية.
وما دام الشيعة يرون الإمامة لأهل البيت. كان من الضروري البحث في الانسجام بين هذه الأسس الثلاثة للإمامة، وواقع الأئمة من آل البيت وما هو الدليل العقلي والنقلي، على إمامتهم.
1 - النص على الإمامة:
يرى الشيعة أن الإمامة تعينت بالنص. أسواء من الله تعالى أم من النبي صلى الله عليه وآله. ولهم إضافة إلى الأدلة العقلية، أدلة نقلية قوية بهذا الخصوص.
وأريد أن أشير في هذه الفقرة إلى لفتة تكاد تتجاوزها الكتابات التاريخية والعقائدية وهي أن الأساس الذي ركن إليه عمر في بيعة أبي بكر هو النص
1 - استند عمر على القياس. وهو قياس ناقص، لأنه لا يبين العلة من وراء الموضوع. فهو بناء على الظن والظن لا يغني عن الحق شيئا.
2 - طرح عمر إمامة أبي بكر على أساس أنها نص. مع العلم أن عمر أبى على الرسول صلى الله عليه وآله أن يكتب كتابه في أيام وفاته، واكتفى بالقرآن. فلو كان الرسول صلى الله عليه وآله يهجر، - أستغفر الله - فرضا، فأولى أن نأخذ بهجرانه حتى في تأمير أبي بكر للصلاة بالناس. علما أن إمامة الصلاة ليست مهمة أقرب إلى الله من مهمة تولي غسل الرسول والصلاة على جنازته كما فعل الإمام علي (ع) وعلما - أيضا - إن الرسول صلى الله عليه وآله، استخلف في الصلاة في البلدان من ليسوا بالأفضلين. هذا إذا أضفنا إن في رواية أمر الرسول صلى الله عليه وآله بالصلاة، اضطراب، وفساد في المتن والسند.
3 - عندما استند عمر بن الخطاب على فكرة القرابة. كان يستغل وضعا ليس له. وأوقع نفسه في تناقض كبير، ذلك أن قرابة المهاجرين من الرسول صلى الله عليه وآله يلزم أن يتساوى فيها كل المهاجرين، فكيف يكون استدلال عمر بن الخطاب بالقرابة والهجرة على المهاجرين الأول، مثل عمار، وأبي ذر و.. الذين عارضوا خلافته. ثم لماذا لا يتنازل. وفق هذا المنطق عن الخلافة لعلي بن أبي طالب، وهو جمع بين السابقية والقرابة. فهو سيد المهاجرين، وأقرب الناس إلى الرسول صلى الله عليه وآله وأول من أسلم. ولذلك لما قيل لعلي إن المهاجرين استدلوا بالشجرة، أي أنهم شجرة الرسول: قال: قالوا بالشجرة وتركوا الثمرة. ويعني بها آل البيت (22) ورد على منطق عمر بن الخطاب، في كلمته الشهيرة والتي جاءت على شكل أبيات:
____________
(22) و (23) - نهج البلاغة شرح محمد عبده.
ويذكر القرآن مجموعة آيات تدل على النص في الاتجاه الذي يؤكد معقولية النص على الإمامة جاء في القرآن: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن، قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال. لا ينال عهدي الظالمين) (البقرة).
والآية، تثبت أن الإمامة تثبت بعد اختبار، يسفر عن كفاءة الشخص، وأهليته للإمامة، ثم تأتي مسألة الاختيار اللدني، ثم لما أراد إبراهيم أن يقرب ذريته. قال تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) وهو يوحي بأن الاختيار ليس إلا لله لا محاباة فيه ولا مشورة ولو كان منطق الإمامية في الإمامة، غريبا عن الإسلام. فأولى بإمامة إبراهيم وغيره ممن اختار الله، أن تكون غريبة.
وجاء في القرآن اختيار الله لطالوت، وهو ملك وقال: (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا، قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال) (البقرة 247).
ولما اعترض عليه القوم قال: (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤته ملكه من يشاء والله واسع عليم).
وهذا إن دل فإنما يدل على أن مسألة النص والاختيار الإلهي للأوصياء، ليس بدعا في تاريخ العقيدة الإلهية.
هذا بالإضافة إلى ما فاض به الذكر الحكيم من نماذج قرآنية، تثبت هذا المفهوم وثبت أن الإمامة بالنص، لآل البيت. وللإمام علي (ع) بعد الرسول صلى الله عليه وآله وتقول الإمامية، أن الإمامة بالنص. اختصت بإثني عشر إماما كلهم من آل البيت (ع) أولهم الإمام علي بن أبي طالب وآخرهم المهدي بن الحسن العسكري (ع).
ورد في القرآن قوله تعالى: (إنما وليكم الله، ورسوله، والذين آمنوا،
جاء في الصحاح الستة: وتفاسير العامة إن الآية نزلت في حق علي (ع) وتفاصيل القصة، حسب ما رواه أبو ذر (رض) (24) قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله يوما صلاة الظهر، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد، فدفع السائل يده إلى السماء وقال:
اللهم اشهد أني سألت في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله، فما أعطاني أحد شيئا وعلي (ع) كان راكعا، فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان فيها خاتم، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم بمرأى النبي صلى الله عليه وآله فقال لهم إن أخي موسى سألك فقال: (رب اشرح لي صدري) إلى قوله (وأشركه في أمري) فأنزلت قرآنا ناطقا. (سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا)، اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أشدد به ظهري.
قال أبو ذر: فوالله ما أن قال رسول الله صلى الله عليه وآله هذه الكلمة حتى نزل جبريل فقال: يا محمد اقرأ (أنما وليكم الله ورسوله. الآية) وتواتر هذا الحديث، وذكره كبار المحدثين والمفسرين من أهل السنة أنفسهم (25).
وسنحاول القفز على حديث الدار والغدير الذي سبق أن أثرناه، لنستعرض بعض الروايات الأخرى التي تؤكد على إمامة علي.، وآل بيته.
قال تعالى: (إني جاعلك للناس إماما، قال ومن ذريتي) (البقرة 122).
روى الجمهور عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (ص): (انتهت الدعوة إلي وإلى علي، لم يسجد أحدنا قط لصنم، فاتخذني نبيا واتخذ عليا
____________
(24) - التفسير الكبير للفخر الرازي.
(25) - أنظر الخصائص للإمام النسائي، والدر المنثور للسيوطي والطبراني في الأوسط، وفي التفسير ذكره الطبري، والقرطبي والواجدي في أسباب النزول، وتذكرة الخواص للسبط بن الجوزي وأحكام القرآن للجصاص، وابن كثير في التفسير و..
ولدى قوله تعالى (وقفوهم إنهم مسؤولون) (27).
وذكر ابن عبد البر في قوله (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا) (الزخرف 945) قال: إن النبي صلى الله عليه وآله ليلة أسري به جمع الله بينه وبين الأنبياء، ثم قال، له: سلهم يا محمد، على ماذا بعثتم؟ قالوا: بعثنا على شهادة لا إله إلا الله. وعلى الاقرار بنبوتك، والولاية لعلي بن أبي طالب (28).
وذكر الجمهور عن أبي سعيد الخدري، إن النبي صلى الله عليه وآله دعا الناس إلى علي (ع) في يوم (غدير خم) وأمر بما تحت الشجرة - من الشوك فقام، فدعا عليا، فأخذ بصبعيه فرفعها، حتى نظر الناس إلى بياض إبطي رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي (ع) ثم لم يتفرقوا حتى نزلت هذه الآية: (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله (الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضي الرب برسالتي: والولاية لعلي بن أبي طالب من بعدي: ثم قال: من كنت مولاه، فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله) (29).
ويرى الشيعة أن الإمامة ثبتت بالنص في اثنا عشر إماما. أولهم علي وآخرهم المهدي، وأن طريقة تعيينهم تمت عن طريق النص، من الله، ثم نبيه فالإمام، أي أن الإمام علي (ع) بعد أن تسلمها سلمها ابنه الحسن (ع) استجابة للنص.
والواقع التاريخي يثبت أن الأئمة (ع)، كانوا يوصون إلى من بعدهم استنادا من أن نص منصوص والتجربة التاريخية، تفسر عن هذا الواقع، إن الإمام
____________
(26) - رواه ابن المغازلي في المناقب، والكشفي الترمذي في المناقب.
(27) - أخرجه الديلمي، وابن حجر في الصواعق المحرقة.
(28) - رواه الحاكم، والخوارزمي وذكر في كنز العمال.
(29) - الدر المنثور، تفسير ابن كثير، البداية والنهاية، تذكرة الخواص، ابن عساكر، شواهد التنزيل.
والإمام علي (ع) الذي عارض تداول الخلافة بين أبي بكر وعمر، وعثمان. لم يكن ليكرر نفس الإجراء فيما لو كان الأمر لا يستند إلى مسوغات عقلية ونقلية، تتحدد بالنص وذكرت النصوص، أن الولاية بعد الرسول صلى الله عليه وآله لأهل البيت (ع) ومن ذلك: ما جاء في المستدرك على الصحيحين للحاكم، عن زيد بن أرقم: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله من حجة الوداع ونزل غدير خم، أمر بدوحات فقممن فقال:
(كأني قد دعيت فأجبت أني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله تعالى وعترتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما. فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، ثم قال، إن الله عز وجل مولاي وأنا مولى كل مؤمن (ثم أخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فهذا وليه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه).
أما ما ورد في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم. فقد قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر ثم قال:
(أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم، ثقلين، أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا لكتاب الله واستمسكوا به) فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: (وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي).
وفي صحيح الترمذي ورد بهذه الصيغة، عن جابر بن عبد الله قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله في حجته يوم عرفه وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول:
(يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي).
وطبيعي أن يحتاج هذا الحديث إلى نص آخر يحدد عمومه. فحصر الشيعة الإمامة في اثني عشر إماما من آل البيت كما تقدم ذكره والأدلة على ذلك كثيرة بيد إننا نراها على قسمين.
الأولى أدلة اعتبارية سندها الواقع والتجربة. إذ لما ثبت الإمامة لعلي (ع) بالنص فإن وصيته إلى الحسن (ع) تبقى نصا صادرا عن الإمام. وكل إمام أوصى بالآخر، فيكون هذا التسلسل الاثني عشري دليلا على النص. وهذا هو الدليل العقلي على إمامة الاثني عشر.
كما ينضاف إلى تلك الأدلة، كون هؤلاء الاثنا عشر هم رموز آل البيت الكبار، الذين أحصى لهم التاريخ تفوقهم وكرامتهم، ولا تلقى وصية.
أما ما جاء في روايات الجمهور حول الاثني عشر إماما الموصى بهم. فقد ذكر الترمذي في صحيحه بسنده إلى جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
يكون بعدي اثنا عشر أميرا كلهم من قريش) وفي مستدرك الصحيحين للحاكم، عن عون ابن أبي جحيفة عن أبيه قال: كنت مع عمي عند النبي صلى الله عليه وآله فقال:
(لا يزال أمر أمتي صالحا حتى يمضي اثنا عشر خليفة) ثم قال كلمة وخفض بها صوته فقلت لعمي وكان أمامي: ما قال يا عم؟ قال يا بني: (كلهم من قريش).
وحاول بعض أهل السنة، أن يتصنعوا في تأويل هذه الأحاديث، وما شابهها: أنهم يكونون في مدة عزة الخلافة، وقوة الإسلام واستقامة أموره والاجتماع على من يقوم بالخلافة. وقد وجد هذا فيمن اجتمع عليه الناس إلى أن اضطرب أمر بني أمية، ووقعت بينهم الفتنة زمن وليد بن يزيد. وحاول بعضهم مثل ابن كثير وصاحب فتح الباري وصاحب الصواعق أن يؤولوها تأويلا إسقاطيا لا سند له من الموضوعية. فادعوا أن الأئمة الاثنا عشر هم الخلفاء الثلاثة ثم علي، وبعده معاوية فيزيد - ذلك أن الحسن لم يجتمعوا عليه - فعبد الملك وأولاده الأربعة الوليد، وسليمان، فيزيد، فهشام. والثاني عشر: الوليد بن يزيد بن
وطبيعي، إن هذا التأويل أكثر تعسفا مما سبق لأنه مجرد إسقاطات تتغذى بالوضع السياسي الجاهز ولا تركن إلى سند من العقل أو النص.
وجاء في الصواعق المحرقة بإخراج البغوي، بسند حسن، عن عبد الله بن عمر، قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (يكون خلفي اثنا عشر خليفة، أبو بكر لا يلبث إلا قليلا)، قال الأئمة: صدر هذا الحديث مجمع على صحته.
واعتراف ابن حجر، بالإجماع على صدر هذا الحديث، دليل على أن المحرفين تصرفوا في مؤخرته وهذا دليل على التزوير الذي شهدته مدرسة الجمهور. وترتفع البراءة التي تدعى.
ولهذا وردا على هذا المنطق يقول الحافظ سليمان القندوزي الحنفي في ينابيع المودة:
(قال بعض المحققين! إن الأحاديث الدالة على؟ كون الخلفاء بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) اثنا عشر قد اشتهر من طرق كثيرة فبشرح الزمان، وتعرف الكون والمكان: علم أن مراد رسول الله صلى الله عليه وآله من حديثه هذا: الأئمة الاثنا عشر من أهل بيته وعترته، إذ لا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه، لقلتهم عن اثني عشر (وهم أربعة) ولا يمكن أن يحمل على ملوك الأموية لزيادتهم على أثني عشر (وهم ثلاثة عشر)، ولظلمهم الفاحش، إلا عمر بن عبد العزيز، ولكونهم غير بني هاشم لأن النبي صلى الله عليه وآله قال: كلهم من بني هاشم في رواية عبد الملك عن جابر).
ولم يكن يدعي الاثني عشر، سوى أئمة أهل البيت. فإذا أضفنا إلى كون الاثنا عشر إماما كلهم ذوو كفاءة، وكلهم من قريش وكلهم يدعيها. ترتب أن يكونوا هم الاثنا عشر المشار إليهم بالنص. لأن الواقع لم يأت بما كذب ذلك.
وما دام عجز الجمهور عن تبرير هذا النص، وتقريبه من الواقع، فإن
فقيل: يا رسول الله كم الأئمة بعدك؟.
قال: اثنا عشر من أهل بيتي أو قال من عترتي.
وكذلك ذكر القندوزي الحنفي في الينابيع: عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله.
(أنا سيد النبيين وعلي سيد الوصيين، وإن أوصيائي بعدي أثنا عشر أولهم علي وآخرهم القائم المهدي).
وذكر الحمويني الشافعي في فرائد السمطين، عن أبو عباس قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن خلفائي وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي، اثنا عشر أولهم أخي وآخرهم ولدي.
ولم يدع الاثني عشر إماما إلا الشيعة الإمامية. فينتفي إذن ما يعارضها.
ويحتاج ردها إلى دليل قاطع نقلي وعقلي، مثلما أثبتوها لأئمتهم عقلا ونقلا.
3 - عصمة الإمام:
كذلك إذا بحثنا مدى انسجام هذه الطرحة، مع واقع الأئمة الاثني عشر، نجدها أكثر موضوعية فيما لو أسندت إلى الأئمة من آل البيت (ع) والأدلة العقلية والاعتبارية لا تقل عن النصوص المباشرة في هذا الموضوع.
إن غير الأئمة الاثني عشر، لم يدعها صراحة. والعصمة لتقتضي طيب المولد وعدم ارتكاب الفواحش قبل الإسلام أو بعده. وغير الأئمة لم يتوفر على ذلك.
والإمام علي (ع) هو الوحيد الذي لم يعبد الأصنام ولم يرتكب فاحشة في الجاهلية. ومهما كان الأمر والسبب فإن النتيجة واحدة، هي الطهارة والعصمة.
وكلهم كانوا مصدر علوم ولم يحتاجوا إلى غيرهم في شئ، وورثوا العلم والرئاسة والعصمة بشكل متراتب أبا عن جد، بخلاف من هم دونهم.
أما ما يثبت ذلك نقلا. فإن آل البيت وردت فيهم آيات قرآنية وروايات نبوية تدل دلالة نافذة على ذلك.
آية التطهير: قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) الأحزاب 23.
ثبت بإجماع الجمهور مفسرين ومحدثين إن الآية نزلت في علي والحسن والحسين وفاطمة - (ع).
ومن ذلك ما أخرج مسلم في صحيحه عن صفية بنت شيبة قالت: قالت عائشة:
خرج النبي (ع) غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدله، ثم قال:
(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا).
وفي صحيح الترمذي عن أم سلمة، لما نزلت الآية: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) في بيت أم سلمة، فدعا فاطمة وحسنا وحسينا وعليا خلف ظهره فجللهم بكساء ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله؟.
قال: (أنت على مكانك وأنت على خير).
وفي آية التطهير مجموعة دلالات، يستحسن الوقوف على مضامينها.
فالآية، في البدء منصرفة، حيث حددت (آل البيت) في الرسول صلى الله عليه وآله
ويصبح لآل البيت مفهوم خاص غير ذلك الذي يتحدد بالنسب، وإلا، فأولى بأزواج النبي صلى الله عليه وآله أن يكن من أهل بيته فيما لو كانت القضية خاضعة لمفهوم عام غير محدد، ولكان صلى الله عليه وآله أدخل في كسائه، أفرادا آخرين من آل البيت غير هؤلاء.
ثم الآية تفيد أن القضية محصورة في نطاق آل البيت، أو بالأحرى فإن الطهارة هي من خصائص آل البيت، يدل على ذلك أداة الحصر إنما في (يريد الله أن يذهب عنكم الرجس).
ثم تحدثت الآية عن قضيتين هما: الرجس ثم الطهارة.
والرجس في اللغة حسب ابن منظور وغيره، تعني الذنوب. وتعني أيضا الأقذار.
والعاقل لا يستطيع تقبل مفهوم الأقذار كتفسير للآية. إذ أن الطهارة من القاذورات، لا تحتاج إلى إرادة إلهية لدنية. وإنما المسألة تتعلق بالقاذورات المعنوية، وهي الذنوب والمعاصي.
أما الطهارة فتعني التنزيه من هذه المعاصي والذنوب.
وحاول البعض أن يتحايل على هذا النص، فيقول بالطهارة التشريعية التي تعتمد الأحكام المنزلة عليهم، أي إن آل البيت يتنزهون عن المعاصي بالأحكام التي نزلت في القرآن، وهذا تأويل ناقص لأن الطهارة التشريعية بهذا المفهوم تستبطن أمرين:
1 - إذا كان الله يريد أن ينزه الدنيا بتشريعه، آل البيت. فيكون هذا ظلما، ولا يجوز في حق الله تعالى، إذ كيف ينزه هؤلاء بإرادته ولا ينزه الناس الآخرين.
2 - إذا كان الله يقصد تطهيرهم بأحكام الشرع المنزلة عليهم في القرآن. فهذا لا يتطلب آية للحصر في آل البيت. يعم جميع الناس من دون استثناء.
وقد يرى البعض في ذلك نوعا من الظلم الذي لا يجوز على الله، إذ كيف يجبر البعض على العصمة ولا يجبر الآخرين.
ولا نريد هنا أن نتوسع عقليا ونقليا في هذا الموضوع الذي أرتأينا توفيره إلى مبحث العقائد الخاصة إلا أننا سنرد على ذلك، بأن الاعتراض على إرادة الله في عصمة آل البيت، يجوز الاعتراض على إرادته سبحانه في عصمة الأنبياء واختيارهم، إذ أن الموضوع واحد، ومضامينه واحدة.
ثم إن للعصمة التي نتحدث عنها هنا تفسيرا تقريبا، يختلف مع ما يراه البعض.
الإمامية ترى إن الإمام لا يفعل إلا الحسن، أما المكروهات فلا يفعلها، وإن كان قادرا على الإتيان بها.
فهناك مواقع نفسية وروحية تحول دونه وذلك، سببها التزكية، مصحوبة باللطف الإلهي.
أي إن هؤلاء تعبوا على أنفسهم في التزكية والسمو الروحي حتى اكتسبوا عصمة تحول دونهم والخطايا ولما علم الله أن هؤلاء على مقدرة كافية الاستقامة، عزز عصمتهم بلطفه. وإذا رأى إنسان في هذا ظلما، قلنا له إن علم الله بنزاهة هؤلاء هو الذي ترتب عليه هذا التدخل الإرادي في عصمتهم، والله يحاسب عباده على قدر إيمانهم، وقد وفر التوبة لغير الأئمة في الأمور التي لا يقوون على إتيانها. وإذا كانت صلاة الليل قد فرضت على الأنبياء والأولياء، فإنها لم تفرض على من هم دون ذلك. وقد يثبت في علم الله، إن غير هؤلاء لا يستطيعون عصمة أنفسهم بذلك القدر الذي يستحق التسديد الإلهي.
يرى السيد محمد تقي الحكيم (إن الله عز وجل لما علم أن إرادتهم عليهم
السلام تجري دائما على وفق ما شرعه لهم من أحكام، بحكم ما زودوا به من
إمكانات ذاتية ومواهب مكتسبة، نتيجة تربيتهم على وفق مبادئ الإسلام تربية