تقديم

الحمد لله حمداً يليق بجلاله وجماله، والصّلاة والسلام على أفضل خلقه المبعوث لإتمام دينه وإكماله، وعلى الطاهرين المعصومين من آله والصالحين المخلصين من أصحابه.

(وبعد) فهذه الكرّاسة عبارة عن محاضرة ألقيتها في شبكة الانترنيت في غرفة (الصراط المستقيم) ليلة الجمعة اليوم الأوّل من شهر ربيع الثاني سنة ألف وأربعمائة وثلاث وعشرين من الهجرة النبوية، المصادف لليوم [ 13 ] من شهر [June ] سنة [ 2002 ] الملادية. وكنت قد وعدت المستمعين أن أنشر متن المحاضرة في الشبكة.

ولا شكّ أنّ أهميّة هذه المحاضرة تستدعي أن يلاحظها المحققون بدّقة،

الصفحة 6
ويعتنوا بها بصورة جديّة، وذلك لأنّها تعالج أهمّ المسائل من مشاكل الأمّة الإسلاميّة، حيث أشرت فيها إلى المنشأ الأصليّ لاختلاف المسلمين والفرقة بينهم، وقمت فيها ببيان الحلّ الأساسي لهذه المشكلة. وبحلّها نكون قد فتحنا أمامنا الباب الأصليّ لحلّ المشاكل الاُخرى.

فإليكم نصّ المحاضرة مع تغييرات وزيادات مفيدة.


الصفحة 7

الفرقة الناجية واحدة

قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: (هُوَ الَّذِي اَرْسَلَ رَسُولَهُ بِاْلهُدى وَدِينِ اْلحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(1).

وقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): " ستفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة، الناجية منهم واحدة، والباقون هلكى "(2).

____________

1 - سورة التوبة: 33، وسورة الصفّ: 9.

2 - سنن الترمذي: 4 / 291 ح: 2649، 2650، سنن أبي داود: 4 / 197 - 198 ح: 4596، 4597، سنن ابن ماجة: 2 / 1321 - 1322، السنّة لابن أبي عاصم: 1 / 32 - 36 ح: 63 - 71، المستدرك للحاكم: 1 / 128 - 129 و 4 / 430، مجمع الزوائد: 7 / 258 - 260، كنز العمّال: 1 / 209 - 211، 376 - 381 ح: 1052 - 1061، 1637 - 1659 و 11 114، 115، 304 ح: 30834 - 30838.


الصفحة 8
وقد ورد هذا الحديث عن جماعة كبيرة من الصحابة، منهم:

1 - أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام).

2 - عبد الله بن مسعود.

3 - سعد بن أبي وقاص.

4 - عوف بن مالك.

5 - أنس بن مالك.

6 - أبو أمامة الباهلي.

7 - واثلة بن الأسقع.

8 - أبو الدرداء.

9 - عمرو بن عوف.

10 - عبد الله بن عمرو وغيرهم.

وصحّح هذا الحديث كلٌّ من الترمذي وابن حبّان والحاكم والذهبي والبوصيري وغيرهم، وهو نصّ صريح في أنّ الناجية من بين تلك الفرق هي فرقة واحدة لا أكثر، فلا يمكن أن يُدّعى بأنّها فرقتان، أوثلاثُ فرق، أو أربعُ.

فنحن نعلم بأنّه قد توجد بين الفرق الإسلامية فرقة واحدة، وهي على الحقّ لا غير، أما مَنْ هي هذه الفرقة؟ وما هي علاماتها؟ فهل هي فرقة كامنة بين الفرق العقائدية؛ كالشيعة والمعتزلة وأصحاب الحديث والأشعرية والماتردية؟ أو هي

الصفحة 9
كامنة فيما بين الفرق الفقهية؛ كالجعفرية والزيدية والحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة؟ أو هي فرقة من هذه الفرق الفقهية المعتنقة لإحدى العقائد المذكورة؟

وكلّ فرقة تدّعي أنّها هي الفرقة الناجية، وأنّ جميع مَنْ خالفها مِن الفرق الأخرى هالكة. ومع اتّفاق الجميع على أنّ خبر الآحاد لا يفيد إلاّ الظنّ، وأنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً، نرى كلّ فرقة يتمسّك بأخبار من هذا القبيل، ويحكم على مَنْ خالفها بالضلالة، من دون أن يفكّر في أنّه يمكن أن يوجد عند غيرها ما يماثل تلك الأخبار أو أقوى منها سنداً وأوضح دلالة. فكلّ فرقة تدّعي أنّ طريقها هو الطريق الصحيح، وأنّ الطريق السقيم هو ما خالفه.

ولا يخفى أنّه قد كان للسلطات الحاكمة الدور الفعّال في إيجاد الفرقة بين المسلمين، وتغطية وجه الحقّ، ولبسه بالباطل، خاصّة السلطة الأموية. وكذلك كان للمنافقين من أعداء الاسلام الدور الخطير في هدم الإسلام، ووضع الأحاديث على لسان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ ممّا كان سبباً

الصفحة 10
لتشويش أفكار المسلمين ووقوعهم في اللبس والحيرة.

وقد كان للاغبياء من أبناء هذه الأمّة دور مهمّ في مواراة الحقّ أيضاً. والمقصود من هؤلاء هم الّذين خدعهم الشيطان؛ فزيّن لهم سوء أعمالهم، فيرون أنّ ما ذهبوا اليه هو الحقّ، وأنّ كلّ ما خالفه هو الباطل، وأنّ جميع أنواع الخدمة في سبيله خدمة للحقّ، وكلّ عمل لهدم ما خالفه عمل لهدم الباطل. فهذه الوسوسة الشيطانية حملت هؤلاء البُله على القيام بوضع الأحاديث وحذف ضعفاء الرجال من أسانيد الروايات والتحريف في الألفاظ والتغيير في المتون لذلك الغرض.

ومن المؤسف أنّ تعداد هذا الصنف من الناس كثير في كلّ عصر. وعلامة هؤلاء هو أنّهم يتأثّرون بالقضايا والحوادث أكثر من سائر الناس؛ فيحكمون في الأمور والمسائل وفق إحساساتهم ومشاعرهم، فكان عقل هذا الصنف من محجوباً وراء حواسهم. ومن علاماتهم - أيضاً - العجب، والتظاهر بالورع، وإظهار الحماسة في العقيدة.


الصفحة 11
فكانت العصبية المذهبية عقبة أساسية في طريق الوصول إلى الحقّ والوحدة الاسلامية. فاذا لاحظت التاريخ فستواجه كثيراً من أهل العلم ممّن ليس لهم همٌّ سوى الدفاع عن مذهب معين، الّذى أقرّوا في أنفسهم بأنّه هو الحقّ، لا غير. وقد ساعدتهم الوسوسة الشيطانية في صدورهم؛ بأنّكم إذا أبديتم احتمال الحقيّة في غير مذهبكم أو احتمال وجود شيء من الباطل في مذهبكم فيكون ذلك دليلاً على عدم كونكم مطمئنّين بمذهبكم ومستقرّين في عقيدتكم، فيقوم هؤلاء المساكين بالدفاع عن كلّ مسألة من مسائل المذهب الّذي اختاروه، ويصدّون على أنفسهم جميع المنافذ التّي يمكن أن يصلوا من خلالها إلى الحقيقة، ويقيّدون مشاعرهم دون سماع جميع الأصوات الآتية من قِبَل أرباب المذاهب الأخرى.

ولا يخفى أنّ حبّ الجاه والشهرة والاتّصاف بألقاب التفخيم والتبجيل، وكذا التهنيئات والتبريكات المتكررة من قبل أتباع مذهبٍ للشخصِ عند غلبته على مخالفيه يكون مانعاً

الصفحة 12
قويّاً وسدّاً محكماً بين ذلك الشخص وبين الوصول إلى الحقيقة. ويصير ذلك سبباً لأن لا يبقى لدى هذا الشخص هدف سوى الدفاع عن ذلك المذهب، كي يُتّصف بأنّه هو الحامي للمذهب الفلاني والمدافع عنه. وفي هذا العصر قد ارتفع بعض الموانع عن طريق الحقّ - بحمد الله - وإن كان البعض الآخر لم يزل باقياً.

ثم إنّ علاج هذه المشكلة بحاجة إلى الانطلاق من نقطة متّفق عليها بين الجميع، حتى نستطيع من خلالها أن نصل إلى النتيجة المطلوبة. ولأجل هذا الهدف ألفت كتابي [ عليّ ميزان الحقّ ]، وتوصّلت إلى أنّنا إذا أردنا أن نصل إلى الحقيقة يلزمنا أن نجتنب في المسائل الّتي اختلفت فيها الأمّة عن مرويات ستّة أصناف من الناس، وهم:

1 - مبغضو عليّ (عليه السلام) وأعدائه؛ من الفسقة والمنافقين.

2 - الموالون لأعداء أهل البيت (عليه السلام) من الّذين يتظاهرون محبتهم.

3 - الغلاة الّذين يدّعون محبة علي (عليه السلام).

4 - المدلّسون من رجال الحديث.


الصفحة 13
5 - المنفردون برواية الأحاديث المنكرة.

6 - المجهولون الّذين وُثّقوا بأحاديثهم؛ من الّذين ليست لهم ترجمة مبيّنة لأحوالهم.


الصفحة 14

الغلاة من محبّي عليّ (عليه السلام)

أما لماذا يلزم أن نجتنب من أحاديث الغلاة من الّذين يدّعون محبّة عليّ (عليه السلام)؛ فذلك لاتّفاق الأمّة على هلاك هذه الطائفة وغوايتها، فلزم أن نطرح روايات هذه الطائفة، وبالخصوص ما رووها في المسائل الخلافية بين الأمّة وما تفوح منه رائحة الغلو.

ويعتبر للحكم على الشخص بكونه من أهل الغلو الشروط التالية:

1 - أن ينفرد بروايات في مناقب أهل البيت (عليه السلام) تكون مخالفة لنصّ القرآن.

2- أو تكون مخالفة لصريح السنّة القطعيّة المتّفق عليها بين الأمّة.

3- أو تكون مخالفة للقضايا العقلية المسلّمة عند الجميع.


الصفحة 15
وأما ما يصنعه بعض النواصب؛ من الحكم بالغلوّ على كلّ من روى فضيلة لأهل البيت (عليهم السلام) فوق تصوّرهم فهو حكم خال عن الانصاف، ولا يمكن قبوله أصلاً.


الصفحة 16

رواة المناكير

وأما رواة المناكير؛ فعند بعض أئمّة الحديث هم الذّين انفردوا بما كان مخالفاً لما رواه الآخرون من أئمة الحديث. قال مسلم فى مقدمة صحيحه: { وعلامة المنكر في حديث المحدّث إذا عرضَتْ روايتُه للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا خالفتْ روايتُه روايتَهم، أو لم تكد توافقها }.

ثم قام بعض المتأخرين كابن الجوزى والذهبي فحكموا على كلّ من روى ما يخالف المذهب الحاكم بكونه منكر الحديث. وهذا الحكم غير موافق للعدالة وغير ملائم للموازين العلمية، بل ينبغي في الحكم على الشخص بأنّه منكر الحديث مراعاة الأمور التالية:

1- أن يكون حديثه مخالفاً لصريح القرآن تمام المخالفة.


الصفحة 17
2- أو يكون مخالفاً لما اتّفقت عليه الأمّة من السنّة النبوية.

3- أو يكون مخالفاً للمسلّمات العقلية القطعيّة عند الجميع.

4- أن يتكرر ذلك من شخص معين.


الصفحة 18

المدلّسون من الرواة

وأما المدلّسون من رجال الحديث فكان علينا أن نجتنب من أحاديثهم في المسائل الخلافية بين الأمّة أيضاً، ونردّ شهادتهم، حتى لو حكم أكثر أئمّة الحديث أو كلّهم بوثاقتهم، وحتى لوصرّحوا بالتحديث.

وذلك لأنّ من حذف اسم الضعفاء من الأسانيد بزعم نصرة الحقّ لا يستبعد منه أن يكذب لنفس العلّة. وما أكثر أصحاب هذا العمل الشنيع بين المحدّثين! حتى قال شعبة: { ما رأيت أحداً من أصحاب الحديث إلاّ يدلّس، إلاّ ابن عون وعمرو بن مرّة }(1).

ولأجل توضيح خطورة هذه الظاهرة بشكل أوسع لا بأس بأن نتعرّض لشرح شيء من أحوال أحد المدلّسين، فلاحظ:

____________

1 - هكذا حكى عنه الحافظ العسقلاني في آخر كتاب [ طبقات المدلّسين ].


الصفحة 19
فهذا محمّد بن مسلم أبو الزبير المكيّ الّذي كان مشهوراً بالتدليس، ومع ذلك وثّقه أئمّة الحديث ورووا عنه فى مدوّناتهم، وحكموا بالاتصال على كلّ ما صرّح بالتحديث من روايته، وكذا على كلّ ما رواه عن جابر بن عبد الله، إذا ورد ذلك من طريق الليث بن سعد.

أما سبب حكمهم الأوّل؛ فهو أنّ الثقة عندهم إذا قال (حدّثنا) فلا يحتملون منه أن يكذب فيه. وأما سبب حكمهم الثاني؛ فذلك أنّ الليث زعم أنّه طلب من أبي الزبير أن يعلّم له على كلّ ما رواه عن جابر مباشرة، ففعل(1).

ولا يخفى أنّ المدلّس يمكن أنّ يقول: (حدثني فلان)، من دون أن يسقط بينه وبين ذلك الشيخ أحداً، إلاّ أنّه ليست هناك وثيقة على أنّه لا يحذف مَنْ فوق شيخه. وسيتضح صدق هذا الكلام عن قريب ان شاء الله تعالى.

____________

1 - ميزان الاعتدال: 4 / 37 - 40 م: 8169، تهذيب التهذيب: 9 / 390 م: 729.


الصفحة 20
وأما الحكم باتّصال كلّ ما رواه الليث عن أبي الزبير؛ فهو من العجائب، فطلبه من أبي الزبير بأن يُعلّم له على كلّ ما رواه عن جابر مباشرة هل يكون وثيقة قطعية على أنّ أبا الزبير لا يخونه في ذلك أيضاً؟ ولأجل توضيح الأمر لاحظ الرواية التالية:

أخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم؛ من طريق الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة "(1).

وأخرج أحمد ومسلم والنسائي والطبراني وغيرهم؛ من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، عن أم مبشر، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب

____________

1 - مسند أحمد: 3 / 350، صحيح ابن حبان: 11 / 127 ح: 4802، سنن أبي داود: 2 / 624 ح: 4653، سنن الترمذي: 6 / 168 ح: 3860، السنن الكبرى للنسائي: 6 / 464 ح: 11508.


الصفحة 21
الشجرة أحد؛ الّذين بايعوا تحتها "(1).

وأخرج ابن راهويه وأحمد وأبو يعلى والطبراني؛ من طريق الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن أم مبشر، عن حفصة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إنّي لأرجوا أن لا يدخل النار أحد ان شاء الله ممّن شهد بدراً والحديبية "(2).

فلاحظ كيف حذف أبو الزبير اسم أم مبشر وحفصة من الإسناد، ونسب الحديث إلى جابر الّذى كان مقبول الحديث عند جميع الأمة. وإذا لاحظت رواية الليث عن أبي الزبير ترى أنّ

____________

1 - مسند أحمد: 6 / 420، صحيح مسلم: 2 / 490 ح: 2496، السنن الكبرى للنسائي: 6 / 395 ح: 11321، المعجم الكبير: 25 / 103 ح: 269، الآحاد والمثاني: 6 / 102 ح: 3317.

2 - مسند أحمد: 6 / 285، مسند ابن راهوية: 1 / 189 - 190، مسند أبي يعلى: 12 / 472 ح: 7044، المعجم الكبير: 23 / 206، 208 ح: 358، 363، الآحاد والمثاني: 6 / 102 ح: 3317.


الصفحة 22
الإسقاط منها كان أكثر من رواية ابن جريج عنه.

ثم إنّ خيانة أبي الزبير لم ينحصر بإسقاط الرواة من الإسناد، بل إنّك تلاحظ كيف قام بقصّ الحديث وتحريف متنه، ممّا كان سبباً لتبديل معناه وتغييره بصورة كاملة؛ فحذف قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) " إني لأرجو "، الّذي كان يدلّ على أمله ورجاءه في أن لا يدخل النار أحد ممّن شهد بدراً والحديبية. ولم يكتف أبو الزبير بذلك، بل لما رأى أنّ جملة " ان شاء الله " في الحديث تدلّ على التعليق قام بحذفها أيضاً، فصار مضمون كلام النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نصّاّ قطعياً بعد أن كان رجاء تعليقياً!!

وبهذا يتّضح ما حلّ بالإسلام من المصيبة والبلاء؛ فاعتمد علماء الحديث على كلّ مَنْ تظاهر بالورع والعبادة، من دون أن يعتبروا من خياناتهم المتكررة في مزاولة حرفة التدليس وحذف الضعفاء من الأسانيد، فقبلوا جميع ما جاء به هؤلاء بعنوان أنّه وحي نطق به النبيّ الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحكموا في الأمور والحوادث من

الصفحة 23
زاوية ذلك، فوقع ما وقع، وحدث ما حدث.


الصفحة 24

الصفحة 25

معرفة الأشخاص برواياتهم

وأما الّذين كانت مروياتهم هي المنشأ الوحيد لتوثيقهم فتعدادهم كثير جداً، فكثير من الأشخاص المجهولين وُثقوا من قِبَل علماء الحديث من دون أن تكون لهم أيّة ترجمة مبيّنة لأحوالهم و مفسرّة لأعمالهم، حيث إنّهم لاحظوا أحاديثهم، فلمّا لم يجدوا فيها ما يخالف مذهبهم - بل وجدوا فيها ما كان مخالفاً لمذهب غيرهم - حكموا بوثاقتهم، وأحيانا يكون بينهم وبين هؤلاء فاصلا زمانياً أكثر من ثلاثمائة سنة.

ولتوضيح هذا الكلام لا بأس بأن نذكر مثالاً على ذلك.

فهذا سالم بن عبد الله النصري، أو سالم مولى شداد، أو سالم مولى المهري، أو سالم بن

الصفحة 26
عبد الله الدوسي أو سالم مولى شداد بن الهاد، أو أبو سالم مولى المهري، أو سالم أبو عبد الله الدوسي، أو سالم بن عبد الله مولى الدوس، أو مولى مالك بن أوس بن الحدثان، أو سالم سبلان، إلى غير ذلك ممّا اُطلق على هذا الشخص، وذكر الحافظ المزّي وغيره أنّ جميع ذلك يطلق على شخص واحد(1).

وقد تخيّل العجلي أنّ تلك الألفاظ تُطْلَق على عدّة أشخاص، فذكره في ثلاثة مواضع من ثقاته، وحكم بتوثيق هؤلاء الثلاث الّذين لا يعلم بوحدتهم، ولا يعرف هويّة هؤلاء الّذين وثّقهم؛ فقال في موضع: سالم سبلان، مدني، تابعي، ثقة.

وقال في موضع آخر: سالم المهري، مدني، تابعي، ثقة.

وقال في موضع ثالث: سالم مولى النصريين، مدني، تابعي، ثقة(2).

وكذلك فعل ابن حبان؛ حيث توهم التعدد، فذكره في موضعين من ثقاته(3).

____________

1 - تهذيب الكمال: 10 / 154 م: 2150، سير أعلام النبلاء: 4 / 595 م: 234.

2 - راجع تاريخ الثقات للعجلي: م 498 و 501 و 502.

3 - راجع الثقات لأبن حبان: 4 / 307 - 308.


الصفحة 27
ولا شكّ أنّنا إذا أردنا أن نصل إلى الحقيقة يلزمنا أن نجتنب في المسائل الخلافية من أحاديث مَنْ كان من هذا القبيل؛ من المجهولين الّذين وُثقوا بأحادثهم.

ثم إنّه قد تقدّم أنّنا أبدينا إمكان اكتشاف عدم الوثاقة في الشخص من زاوية أحاديثه، وأما هل يمكن إكتشاف العدالة في الشخص من تلك الزاوية، أم لا؟ ولا شكّ أن هذا مشكل جدّاً، فكما أنّ وجود عدّة الفضائل في الشخص لا يكون دليلاً على انتفاء ما تنقض به العدالة، فكذلك - بل بطريق أولى - لا يمكن إكتشاف ذلك بواسطة أحاديثه، بخلاف ما إذا كان في الشخص بعض الرذائل، فإنه قد تكون رذيلة واحدة سبباً لسقوطه عن العدالة.

ولو تنزلنا وقلنا بإمكان ذلك لكان علينا - على أقلّ التقادير - الإجتناب عن أحاديث مَنْ كان من هذا القبيل في المسائل الخلافية بين الأمّة.


الصفحة 28
وأما ترك الأشخاص بسبب روايتهم لما يخالف مذهباً معيناً فهو مخالف للعدل والإنصاف، وقد كانت هذه الظاهرةُ رائجةً في التاريخ بصورة وسيعة؛ فكثيراً ما تركوا أشخاصاً بسبب روايتهم لما كان مخالفاً للمذهب الحاكم، وبالتالي ختموا على جميع أحاديثهم وطرحوها. وكذا لمّا رأوا أنّ بعض الأشخاص رووا فضائل أهل البيت (عليه السلام) رموهم بتهمة التشيّع، وطرحوا أحاديثهم تحت ذريعة كونهم من أهل البدعة. ولتوضيح الأمر لا بأس بذكر أمثلة على ذلك، فلاحظ:

(1) - عمر بن إسماعيل بن مجالد، شيخ أبي زرعة، استحقّ الترك بسبب روايته لقول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا مدينة العلم، وعليّ بابها ".

قال أبو زرعة: أتينا شيخنا ببغداد يقال له (عمر بن إسماعيل بن مجالد) فأخرج لنا كراسة لأبيه، فيها أحادث جياد؛ عن مجالد وبيان والناس، فكنّا نكتب إلى العصر، فيقرأ علينا، فلمّا أردنا أن نقوم قال: حدّثنا أبو معاوية، عن

الصفحة 29
الأعمش بهذا الحديث، فقلت له: ولا كلّ هذا بمرّة. وقال أبو زرعة: كم خلق افتضحوا فيه(1).

وعندما يقف المرأ على أمثال هذه القضايا يتعجّب من شدّة العصبية كيف وصلت إلى حد؛ ممّا كان سبباً لأن يترك العلماء من أجلها مشائخهم، ويتعجّب من مظلومية عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بين المسلمين كيف وصلت إلى درجة؛ مما كان نقل فضائله سبباً لافتضاح الرواة. وقد يتعجّب كلّ من كان عالماً بمنزلته عند الله من صنيع الأمّة تجاهه؛ كيف حسدوه في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسبّوه، ونقموا منه، وقاموا بوضع الأحاديث في ذمّه بعد وفاته. ولم يكتفوا بذلك، بل لما واجهوا كلام النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في فضله أعرضوا عنه، وتركوا رواته واتّهموهم.

وإذا وصلت النوبة إلى مخالفي عليّ (عليه السلام) تراهم يعملون بعكس ما قد عملوا في حقّه تماماً؛ فيقومون بتعظيمهم وترويج ما روي في فضلهم ونشره، من دون أن يفكروا في احتمال كذبه ووضعه، ويتركون مَنْ روى مثالبهم

____________

1 - تاريخ بغداد: 11 / 205 م: 5908.


الصفحة 30
ويتّهمونه، ثم يقومون بطرح أحاديثه تحت ذريعة كونه منكر الحديث.

(2) - عبد الله بن لهيعة الّذي قال الذهبي فى حقّه: { الإمام العلامة، محدّث ديار مصر... وكان من بحور العلم... لما مات ابن لهيعة قال الليث: ما خلّف مثله..} إلى آخر كلماته في حقّه(1).

وهذا الّذي كان من بحور العلم استحق الترك بسبب روايته فضائل أهل البيت (عليه السلام)، فبعد أن ذكر الذهبي حديث ابن لهيعة من رواية عليّ (عليه السلام) أنّه قال: " علّمني - يعني النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) - ألفَ باب، يفتح كلُّ باب ألفَ باب "، قال: بهذا وشبهه استحق ابن لهيعة الترك(2).

(3) - وليد بن جميع الّذي كان من رجال صحيح مسلم وغيره، ووثّقه كلّ من ابن سعد و ابن معين والعجلي

____________

1 - سير اعلام النبلاء: 8 / 11 - 31 م: 4.

2 - تلخيص العلل المتناهية: 75 - 76 ح: 169.


الصفحة 31
وابن حبان، ونفي عنه البأس كلّ من أحمد وأبي داود وأبي زرعة(1).

ومع كلّ ذلك كان بعض أحاديثه سبباً لنقمة ابن حزم عليه، فحكم عليه بالهلاك والسقوط، مصرّحاً بعلّة ذلك؛ قائلاّ: { فإنّه قد روى أخباراً؛ فيها أنّ أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة وسعد ابن أبي وقاص أرادوا قتل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإلقاءه من العقبة في تبوك. وهذا هو الكذب الموضوع، الّذي يطعن الله واضعه، فسقط التعلّق به، والحمد لله ربّ العالمين }(2).

(4) - الحسين بن الحسن الأشقر، فقد حكى العقيلي عن الأثرم أنّه قال: قلت لأبي عبد الله - يعني أحمد بن حنبل -: حسين الأشقر تحدّث عنه؟ قال: لم يكن عندي ممن يكذب في الحديث، وذكر عنه التشيّع. فقال له العبّاس بن عبد العظيم: حدّث في

____________

1 - تهذيب التهذيب: 11 / 121 م: 7307.

2 - المحلّى: 11 / 224، 250 م 2199 وفي طبع: 13 / 88 - 89 م: 2203.


الصفحة 32
أبي بكر وعمر! فقلت له: يا أبا عبد الله صنّف باباً فيه معايب أبي بكر وعمر! فقال: ما هذا بأهل أن يُحَدَّث عنه، فقال له العبّاس: حدّث بحديث فيه ذكر الجوالقين - يعني أبا بكر وعمر - فقال: ما هو بأهل أن يُحدّث عنه(1).

والأمثلة من هذا القبيل كثيرة جدّا، ونكتفي بذكر هذه، وهي كافية لتوضيح الأمر. وبذلك تفهم مدى خطورة الوضع، لا من قِبَل السلطات الحاكمة فحسب، بل وأمرّ من ذلك الموقف المتشدد من قِبَل بعض أئمّة الحديث تجاه كلّ مَنْ روى ما يخالف مذهبهم؛ فيجعلون ذلك فضيحة له، وبأنّبونه عليه، ممّا يكون سبباً لفقدان مكانته في المجتمع. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل لما رأوا أنّ بعض الثقات من أصحابهم روى تلك الأحادث بادروا إلى محوها وإحراقها.

روى الخلال عن عبد الله بن أحمد بن حنبل: أنّه قال: قال أبي: كان أبو عوانة وضع كتاباً فيه معايب

____________

1 - الضعفاء الكبير: 1 / 249 م: 297.