وساهمت حركة الترجمة في انتشار الفلسفة مما دفع التفكير الديني عند المسلمين لمحاولة التوفيق بين معطيات الفلسفة والمضامين الاعتقادية كما دفعهم للذب عن العقيدة ودفع شبهات المنكرين وإشكالات المعاندين فكان عصراً ذهبياً للكلام رغم كل ما شابه من صراعات خرجت عن حدّها المعقول من الجدال الفكري والمذهبي الصرف بل اتخذت أبعاداً سياسية خطيرة أضفت على الصراع حالة من التعصّب المقيت لا تتحمّل التعدد والتنوع وترنو لإقصاء الطرف الآخر ولو بقوة السلاح.
المرحلة الرابعة: مرحلة الجمود النسبي
بعد التطور والازدهار الذي شهده علم الكلام في العصر السابق حلّ دور الجمود مع حلول القرن الرابع للهجرة حيث جمد الناس على الأساليب الموروثة جموداً أخرجه عن كونه علماً. وانفصل بذلك علم الكلام عن التفكير العميق. وفي هذه الفترة مات الاعتزال ولكن ظهور أسماء لامعة في القرن السابع للهجرة أعاد لعلم الكلام تألقه واشعاعه فكان الخواجة نصير الدين الطوسي (ت 672هـ ) والعلامة الحسن بن يوسف بن المطهر (ت 726هـ ) اللذان أعادا التزواج بين الفلسفة وعلم الكلام بعدما انفصلا في فترة الجمود ممّا أثر على الاتجاه الكلامي في المذاهب الأخرى أيضاً، واضحت منهجية الطوسي في التجريد هي أساس البحوث الكلامية. حتى أن عضد الدين الايحي وتلميذه التفتزاني في كتابيهما المواقف والمقاصد نظراً إلى التجريد يقول الشهيد مطهري (وقد أبدع الخواجة نصير الدين الطوسي الحكيم والفيلسوف المتبحر بكتابه (تجريد الاعتقاد) النص الكلامي الاكثر إحكاماً وكل متكلم أتى بعده شيعياً
____________
1- محمد حسين الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، دار التعارف، ص127.
والفلاسفة الشيعة المتأخرون عن الخواجة طرحوا المسائل الكلامية الضرورية في الفلسفة وبحثوا فيها وحللوها بالاسلوب والمنهج الفلسفي فوقفوا أكثر من المتكلمين الذين اعتمدوا الأسلوب القديم فصدر المتألهين أو الحاج السبزواري مثلا ولو أنهما لم يعدّا في زمرة المتكلمين فإن لهما أثراً حضورياً يفوق أي أثر حضوري لأي متكلم)(1).
المرحلة الخامسة: مرحلة الجمود والتقليد
مع ضعف الأمة الإسلامية وتخليها عن روح البحث والإبداع إلى التقليد والاكتفاء بأتباع السلف واجترار تراثهم وإنشاء الشروح والحواشي على مؤلفات الأولين ومصنفاتهم كان لابدّ أن تتجمد الذهنية الإسلامية عموماً والكلامية خصوصاً رغم الرفض القرآني الحاسم لنزعة التقليد الأعمى والتحجّر على أمجاد الآباء.. (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون)(2). وقوله تعالى: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وانا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباؤكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون)(3).
لقد امتدت هذه الحقبة قروناً طويلة استمرت إلى نهاية القرن التاسع عشر ميلادي ومطلع القرن العشرين (لقد انقضت قرون عديدة قبل أن يظهر في الإسلام كتاب جديد في علم الكلام ذلك ان المؤلفات في هذا العلم ترجع إلى القرنين الثالث والرابع الهجري
____________
1- مرتضى مطهري، الكلام والعرفان، ص52.
2- البقرة: 170.
3- الزخرف: 23 ـ 24.
المرحلة السادسة: مرحلة الانبعاث وعودة الوعي
لقد اقترنت دعوات الإصلاح في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بنداء لإحياء الفكر الديني فزعماء الاصلاح أدركوا جيداً أن الجمود العقائدي والتقليد الفكري أحد الأسباب الأساسية لتخلي الأمة عن ريادتها الحضارية للعالم وتخلفها عن ركب الأمم الأخرى. ويمكن اعتبار الافغاني وعبده وأمثالهما من رواد هذه المرحلة لأنهم حاولوا نقد الفكر الديني من الداخل وتحليل أبعاد الأزمة. متجاوزين الأطر التقليدية الضيقة في التعاطي مع العقيدة.
وجمال الدين الافغاني في رسالته (الردّ على الدهريين) يقدم الدين في عقائده الأساسية والخصال التي كرّسها كسبيل وحيد لحياة اجتماعية تستند إلى بناء وأساس مدني محكم وأن إنكار الدين لا يقود المجتمع إلاّ إلى الانحلال والضعف ويستقرىء جملة من المجتمعات التي شهدت صعوداً في مرحلة من حياتها لكنها شهدت تقهقراً يرى الأفغاني أن سببه تأثر هذه المجتمعات بالأفكار الدهرية مما هدّ الأسس الاعتقادية التي يبثها الدين في المجتمع وهي الايمان بان (الانسان ملك على الأرض وأن الأمة التي ينتمي إليها أشرف الأمم، وثالثاً: الايمان بالآخرة وأن هذه الدنيا ليست إلاّ لاستحصال كمالات إلهية أرفع للروح إلى عالم أرفع وأوسع)(2).
وفي رسالة التوحيد أبرز محمد عبده أبعاداً جديدة للتوحيد سواء على مستوى تطهير العقول من الأوهام والخرافات أو ضمان حرية الانسان وتحريره من كل سلطة
____________
1- فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1979 ص197.
2- جمال الدين الأفغاني، الردّ على الدهرين، ترجمة الامام محمد عبده، إسلام العالمية، ص31.
من بين الأعمال التي اعتبرت رائدة في هذه المرحلة الأخيرة إحياء الفكر الديني لمحمد إقبال الذي رفع في مقدمته لواء التجديد حيث يقول (حاولت في هذه المحاضرات.. بناء الفلسفة الدينية الإسلامية بناء جديداً آخر يعني الاعتبار المأخوذ في فلسفة الإسلام إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة)(2).
لكن يبدو انه ركز على جانب واحد وهو ما يسميه بالتجربة الدينية والأبعاد النفسية للتدين. ويكون العنوان (احياء الفكر الديني) شعاراً يفتقد إلى مضمون وبرنامج حقيقي شامل للتجدد.
رغم عمق هذه المحاولات وغيرها في قراءة العقيدة الإسلامية في ضوء ثقافة العصر والمستوى الفكري للمرحلة ونتاجها العلمي والنفسي والفلسفي والخروج من طوق الجمود والتخلف الذي حاصر الفكر الإسلامي قروناً طويلة مكرساً فهم الآباء الذي اكتسب اطلاقاً زمانياً، إلاّ أن هذه المحاولات بقيت قاصرة عن إحداث نقلة حقيقة في
____________
1- محمد عبده، رسالة التوحيد، دار احياء التراث، بيروت.
2- محمد اقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود، لجنة التأليف والترجمة والنشر، مصر، 1955 ص2.
وبين هؤلاء الرواد يبرز محمد باقر الصدر الذي يلتقي معهم في هذا المضمار لكنه يمتاز بأنه أسس لنقلات منهجية خطيرة خاصة على مستوى نظرية المعرفة حيث أنّه بنى لنفسه نظرية خاصة في المعرفة (المذهب الذاتي) طبقها على العديد من المسائل في علم الكلام في بحوثه المتفرقة وهي مميزة يفتقدها غيره من المجددين.
إن باقر الصدر رغم عدم امتلاكه أثراً متكاملا لتجديد المنهج الكلامي وطرق مسائله وفق منظوره الجديد لكن ما تركه من نتاج عقائدي متناثر في مؤلفاته المختلفة ومحاضراته العديدة يشكل أرضية صلبة لنقد المنهج القديم وصياغة النهج الجديد وقراءة لاصول الدين من وجهة نظر مبتكرة بلحاظ ثقافة العصر وحاجاته وأسئلته واستفساراته.
لقد تحولت لوحة أصول الدين في منهج الصدر إلى نظريات متكاملة في الثورة والتغيير الاجتماعي والقيادة والخلافة والحياة..
ولكن ما هي أهم النقلات المنهجية التي أسسها باقر الصدر؟
وما هي المضامين الجديدة لأصول الدين في ضوء هذه المنهجية الجديدة؟
هذا ما سيحاول الفصل الثاني والثالث الاجابة عنه ان شاء الله تعالى.
الفصل الثاني
معالم التجديد الكلامي
بل إن هؤلاء المجددين يحدثون نقلات منهجية تحقق قفزة نوعية وربما تحدث تحولات معرفية كبرى تمكن الاجيال من النظر إلى المسألة من منظور جديد مختلف عن كل الاساليب التي سلكها الأولون.
إن كبار المجددين من العلماء والفلاسفة في كل ميدان هم الذين استطاعوا فعلا إحداث مناهج جديدة لا الذين أتوا بمعارف مبتكرة فقط.
ففي مجال الفلك ما كان (لكوبرنيك) أن يعرف هذه الشهرة لولا القطعية المعرفية التي أحدثها مع النظرية الفلكية القديمة وطرحه رؤية جديدة... و(ديكارت) في مجال الفلسفة ما كان ليصبح علماً بارزاً وعلامة لمرحلة جديدة في تاريخ التفكير الفلسفي لو لم يكن صاحب منهج جديد.. وكذلك (انشتاين) في الفيزياء لولا ثورته الكبرى على فيزياء نيوتن وتأسيسيه لنظريته النسبية التي قلبت الفيزياء رأساً على عقب...
وفي هذا السياق وفي مجال البحث العقائدي يتجلى إبداع (محمد باقر الصدر) في القدرة على الانتقال بعلم الكلام نقلات منهجية كبرى من شأنها ان تسهم في أرساء أسس جديدة لعلم عقائدي جديد.
لقد التفت إلى هذه القدرة الإبداعية للصدر (شبلي ملاط) في دراسته تجديد الفقه الإسلامي حيث يقول (لقد اكتشفنا في كتابات باقر الصدر وأقواله نظاماً يستمد قوته كما كل النظم لا من الاجابات المحددة القادرة على توفرها وانما من المجالات التي
وباستقراء الانتاج الكلامي والعقائدي للسيد محمد باقر الصدر المبثوث هنا وهناك في أكثر كتبه يمكن ان نستكشف: خمس نقلات منهجية أساسية:
أولا: من المنطق الأرسطي إلى المذهب الذاتي.
ثانياً: من الاتجاه التجزيئي إلى المنهج الترابطي الموضوعي.
ثالثاً: من النزعة الثبوتية إلى المنهج التكاملي.
رابعاً: من عقيدة الفرد إلى عقيدة المجتمع.
خامساً: من المذهبية الجدلية إلى الإنسانية اليقينية.
النقلة المنهجية الأولى:
من منطق أرسطو إلى المذهب الذاتي
في كتاب فلسفتنا تبنى باقر الصدر النظرية الارسطية في المعرفة حيث سلّم بالبديهيات الست وضرورة مبدأ العلية ومسألة: بداهة الواقع الخارجي لكنه لم يكن ليقف في حدود منطق أرسطو الذي حكم إلى حد ما تراثنا الفكري وخاصة الكلامي الذي تأثّر بالمباحث المنطقية والفلسفية إثر ترجمة التراث اليوناني. واتخذ طابعاً جدلياً وتطرف أحياناً كثيرة في ملاحقة إشكالات الفلسفة والمنطق الارسطي حتى سقط في التجريد المطلق والبحث عن شبهات افتراضية أكثر منها واقعية لا ثمرة عملية من ورائها.
لكن باقر الصدر لم يستسلم للهيبة التاريخية للمنطق الأرسطي رغم كل التعديلات التي أدخلها عليه المفكّرون الإسلاميون وقطع مع هذا التراث الطويل بأطروحته
____________
1- شبلي ملاط، تجديد الفقه الإسلامي: محمد باقر الصدر بين النجف وشيعة العالم، ص250.
ليس كتاب الأسس المنطقية للاستقراء، كما قد يوحي عنوانه دراسة لمشكلة الاستقراء فحسب وحل لقضية التعميم الاستقرائي وانما هو أطروحة لنظرية معرفية جديدة أسماها باقر الصدر: المذهب الذاتي في المعرفة: إنه مذهب ثالث مقابل المذهب التجريبي والمذهب العقلي ولمعرفة تمايز هذا المذهب لا بأس أن نقارن بين هذا الاتجاه الجديدة وبين هذين المذهبين الكبيرين. وسنحرّر هذه المقارنة في النقاط التالية:
أولا: تحديد مصدر المعرفة: فالمذهب الذاتي يتفق مع المذهب العقلي حول وجود قضايا وإدراكات قبلية التي تمثّل أساساً يقوم عليه البناء الفوقي للمعرفة.
ثانياً: يختلف مع المذهب العقلي في الأساس المنطقي للتعميم الاستقرائي. فالمذهب العقلي يستند في هذا التعميم إلى مبادىء ثلاثة: مبدأ السببية ومبدأ عدم تكرّر الصدفة باستمرار ومبدأ: ان الحالات المتشابهة من الطبيعة تؤدي إلى نتائج متماثلة ويعتقد هؤلاء أن هذا المبدأ مستقل عن التجربة ومستقل برهانياً عن مبدأ السببية ومن نقطة الخلاف هذه حول رجوع الاستقراء إلى القياس حسب المنطق العقلي ينطلق باقر الصدر ليشيد نظريته في المعرفة.
ثالثاً: إن المذهب العقلي يؤمن أساساً بالتوالد الموضوعي في المعرفة والقياس هو العمدة في الاستدلال وحتى الاستقراء يرجع في الأخير إلى قياس صغراه الملازمة بين ظاهرتين كما تعكسها ملاحظاتنا وكبراه ان الصدفة لا تتكرر باستمرار.
____________
1- محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول، المجمع العالمي للشهيد الصدر، مج4، ص140.
أما التوالد الذاتي الذي يعتقد المذهب الذاتي أنها الطريقة التي تحصل بها أكثر معارفنا فهي تؤمن بأنه يمكن أن تنشأ معرفة جديدة انطلاقاً من التلازم بين الجانبين الذاتيين للمقدمات والنتائج دون تلازم في الجانبين الموضوعيين والمقصود من الجانب الذاتي الادراك. في حين ان المنطق الأرسطي يعتبر أن هذا التلازم الذاتي دون تلازم في الجانب الموضوعي غير كاف للانتقال إلى النتيجة وهكذا حاول المنطق الأرسطي أن يفسّر كل معارفنا بأنها إما أن تكون أولية أو أنها مستنتجة على أساس التوالد الموضوعي. أما المذهب الذاتي فيؤمن: بوجود معارف أولية تمثل الجزء العقلي القبلي من المعرفة (مبدأ عدم التناقض). وأن هناك معارف ثانوية مستنتجة على طريقة التوالد الموضوعي (مثال ذلك نظريات الهندسة التقليدية والمستنتجة من بديهيات تلك الهندسة) وهناك معارف ثانوية مستنتجة من معارفنا السابقة بطريقة التوالد الذاتي (التعميمات الاستقرائية) وهي تهم أكثر معارفنا.
ولا يتوهم أن المذهب الذاتي يتفق كلياً مع المذهب الارسطي في المعارف القبلية.
____________
1- محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء، دار التعارف للمطبوعات، لبنان، 1981، ص135.
أ ـ طبيعة المعارف الأولية.
ب ـ ضرورة كونها يقينية.
في الجهة الأولى يناقش باقر الصدر في أطروحته الرائدة (الاسس المنطقية للاستقراء) البديهيات التي آمن بها المنطق الارسطي والتي أرجعها إلى ست: يقول الصدر (ان القضايا التجريبية والحدسية والمتواترة والمحسوسة كلها قضايا استقرائية تقوم على أساس تراكم القيم الاحتمالية في محور واحد وتبعاً للمرحلتين التي حددتهما للدليل الاستقرائي)(1) ولابدّ من الاشارة هنا أن باقر الصدر يفرق بين الحس الظاهر والحس الباطن ويرى أن قضايا القسم الأخير أولية وما نفى بداهته هو الحس الظاهر: (ولا شك في أن القضايا المطلوب اثباتها بالحس الباطن أولية لأن الإنسان في هذا القسم من الإدراك الحسي يتصل بصورة مؤكدة بمدلول القضية المطلوب إثباتها بهذا الحس مباشرة وأما القضايا المطلوب اثباتها بالحس الظاهر فهي تختلف عن قضايا الحس الباطن لأننا بالحس الظاهر نريد أن نثبت الواقع الموضوعي أي أن هناك حينما أرى البرق برقاً موضوعياً موجوداً بصورة مستقلة عن إدراكي وهذا لا يكفي فيه الاتصال المباشر بالمحسوس في حالات الحس الظاهر)(2).
أما القضايا الأولية والفطرية التي تمثّل البقية الباقية على لائحة البديهيات الارسطية التي يدركها العقل مستقلا عن الحس والتجربة. فإن باقر الصدر وإن كان لا ينكر قبليتها لكنه يثبت أنه بالامكان الاستدلال عليها بطريقة الاستقراء.
إن باقر الصدر لا يستثني في إمكان الاستدلال استقرائياً على (البديهيات) إلاّ مبدأ
____________
1- م. ن، ص470.
2- م. ن، ص452.
رابعاً: إن المذهب الذاتي لا يشترط أن تكون المعرفة الأولية يقينية: فهو يُرجع بداية المعرفة إلى قسمين: أحدهما: المعرفة التي تفرضها بديهيات نظرية الاحتمال. والآخر: نفس الخبرة الحسية بالموضوعات فنحن حين نشاهد سحاباً في السماء تعتبر مشاهدتنا خبرة حسية والسحاب في السماء هو موضوع هذه المشاهدة ومعرفتنا بالمشاهدة نفسها معرفة ابتدائية أولية وليست مستدلة وأما معرفتنا بوجود سحاب في السماء فهي معرفة مستدلة بطريقة استقرائية ومع تمسّك المذهب الذاتي بوجود بداية للمعرفة حتى لا يلزم التراجع إلى ما لا نهاية. لا يقر بأن تكون هذه البدايات ضرورية ويتصور المذهب الذاتي المعرفة الأولية احتمالية في مجالين: المجال الأول: مجال
____________
1- م. ن، ص472.
هذا تمام الكلام في تحديد الفوارق بين المذهب العقلي والمذهب الذاتي أما أهم الاختلافات بين الأخير والمذهب التجريبي فهي:
أولا: إن المذهب الذاتي كما رأينا يؤمن بمعارف عقلية قبلية في حين ينكر التجريبيون كل معرفة غير نابعة من الحس والتجربة فهم يعتقدون أن التجربة هي الأساس العام الوحيد الذي يمون الانسان أي معارف قبلية بصورة مستقلة عن التجربة وحتى ما يبدو في أعلى درجات التأصل في النفس البشرية قضايا الرياضة والمنطق نظير (1 + 1 = 2) يرجع في التحليل إلى التجربة التي عاشها الإنسان على مرّ الزمن)(2).
وفي ضوء تلك فان بدايات المعرفة عند التجريبيين جزئية فلا مجال لنلتقي بقضية كلية تتجاوز نطاق الخبرة الحسية المباشرة.
ويناقش الصدر المذهب التجريبي في قاعدته هذه مناقشة تفضح تهافتها: (يلاحظ إلى جانب ذلك تهافتاً منطقياً في ايمان التجريبيين بمذهبهم القائل إن التجربة هي المصدر الأساسي لكل المعارف البشرية لأن هذا القول نفسه قضية يعمم فيها الحكم على كل معرفة فهل هذه القضية مستمدة من مصدر قبلي بصورة مستقلة عن التجربة
____________
1- م. ن، ص504.
2- م. ن، ص480.
ولذلك فإن المذهب التجريبي يتحير في ضبط الفوارق بين قضايا العلوم الطبيعية وقضايا الرياضيات ففي النوع الأول لا يستطيع المذهب التجريبي أن يبرّر التعميم الاستقرائي لأنه كما بين الصدر هذا التعميم قائم على أساس مصادرات حساب الاحتمال وهذا ما لا يعترف به المذهب التجريبي. ومن جهة أخرى: إن أي موقف يتخذه المذهب التجريبي للتمييز بين قضايا الرياضيات والقضايا الطبيعية يكون محرجاً له: فإن أقر بأن هناك فوارق وأن قضايا الرياضة لها امتيازها الخاص وتعيينها فإن هذا لا يمكن التسليم به إلاّ على أساس أنها ليست استقرائية وأنها عقلية قبلية.
وإن أنكر التمايز بينها فإن هذا خلاف الوجدان وثبوت الاختلاف بين النوعين من القضايا إذ (أن اليقين بالحقيقة الرياضية يصل منذ اللحظة الأولى من إدراكها إلى درجة كبيرة لا يمكن تجاوزها بينما نجد اعتقادنا بالقضايا الطبيعية يزداد باستمرار كلما تظافرت التجارب وأكدت صدق القضية وموضوعيتها)(2).
ثانياً: هذا الفارق الأول وأما الفارق الثاني إن قضايا الرياضة والمنطق تبدو يقينية بدرجة لا يمكن أن نتصور إمكان الشك فيها بينما يمكن أن تشك في القضايا الطبيعية مهما كنا متأكدين من صدقها.
____________
1- م. ن، ص497.
2- م. ن، ص485.
ولكن القضايا الرياضية والمنطقية تتجاوز كل عالم نتصوره فـ 1 + 1 = 2 صحيحة في أي عالم نتصوره فالتعميم يتعدى العالم الذي نعيشه.
لما واجه المذهب التجريبي هذه المشكلة (التفريق بين القضايا الرياضية والقضايا الطبيعية) اضطر إلى قبول نفي الفوارق وصارت حينئذ المعارف الرياضية احتمالية وثبت بذلك فشل المذهب التجريبي في تفسير المعرفة البشرية. من هنا حاول المنطق الوضعي تفسير الفروق بين هذين النوعين من القضايا (الرياضية والطبيعية) على أساس التفريق بين القضايا الإخبارية والقضايا التكرارية، فالقضية الاخبارية كل قضية تمنحنا علماً جديداً ويكون وصف الموضوع بوصف ما غير مستبطن في الموضوع نفسه، أما القضية التكرارية فهي القضية التي لا تضيف علماً جديداً بل يكون المحمول تكرار لعناصر الموضوع بعضها أو كلها: وهكذا فالقضايا الرياضية ترجع إلى القضايا التكرارية والقضايا الطبيعية إخبارية. وإن كان الوضعيون ميزوا بين قضايا الرياضة البحتة والقضايا الرياضية التطبيقية من قبل هندسة اقليدس فالأخيرة إخبارية أما الرياضية البحتة فهي تكرارية وكذلك يقينية لانها خالية عن الإخبار.
وناقش (باقر الصدر) هذه المحاولة بأن افترض كون القضايا الرياضية البحتة تكرارية كلها لا يكفي لحل المشكلة ولانه يبقى السؤال قائماً: لماذا اليقين والضرورة في القضايا التكرارية؟ ويركّز الصدر على مبدأ عدم التناقض الذي هو أساس الضرورة واليقين في القضايا التكرارية فكيف يفسّر المذهب الوضعي الضرورة واليقين في نفس هذا المبدأ من الطبيعي انه لا يمكن تفسير المبدأ إنه قضية تكرارية لأن المبدأ لا يعبّر عن نفسه بقضية إخبارية فهو يحكم بالاستحالة: (اجتماع النقيضين مستحيل وهذه الاستحالة لا تستخرج من نفس مفهوم اجتماع النقيضين لانها ليست من عناصر هذا
ولم يكتف المذهب الوضعي بالقول بأن التجربة والحس هي المصدر الوحيد للمعرفة بل ذهب إلى أن القضية التي لا تخضع للخبرة الحسية ليست فقط غير ممكنة الاثبات بل هي ليست قضية من الناحية المنطقية فلا يمكن أن توصف بالصدق أو الكذب وعلى هذا الأساس رفض المنطق الوضعي مبدأ السببية وقدم مبرراً منطقياً لذلك باعتبار أنها قضية خاوية ولا معنى لها.
ولربط معنى القضية بالخبرة الحسية: أسس المذهب الوضعي ثلاثة مواقف:
الموقف الأول: أن كل مفردة لها مدلولا في خبرتنا الحسية ليس لها معنى.
الموقف الثاني: لابدَّ أن تكون القضية في صدقها تعطينا خبرة حسية مختلفة عن الخبرة الحسية التي تعطيه كذب القضية.
الموقف الثالث: القضية التي لها معنى هي التي يمكن التحقق من صدقها. فالقضية التي لا يمكن أن نتحقق ونتأكد من صدقها وكذبها ليس لها معنى.
ولقد ناقش باقر الصدر الموقف الثاني والثالث بينما تعود مناقشة الموقف الأول إلى نفس مناقشة النظرية التجريبية العامة(2).
هذه أهم المقارنات بين المذهب الذاتي من جهة والمذهب العقلي والتجريبي بما فيها الإتجاه الوضعي.
ومن المهم ونحن نتحدث عن نظرية المذهب الذاتي كنقلة منهجية في المبحث الكلامي أن نشرح بأكثر عمق طريقة التوالد الذاتي للمعرفة.
ذكرنا سابقاً أن المذهب الذاتي يرى أن أكثر معارفنا تتوالد بطريقة ذاتية لا موضوعية وهذا التوالد يمرّ بمرحلتين مرحلة موضوعية ومرحلة ذاتية: (إن كل معرفة
____________
1- م. ن، ص490.
2- م. ن، من ص495 إلى ص499.